أمة في خطر
د. أكرم حجازي
صحف - 31/5/2008
كل الكتاب والمفكرين الأمريكيين خاصة والغربيين عامة وحتى الزعماء الذين تحدثوا عن حرب صليبية ضد الإسلام وأهله لم يكذبوا أو يهولوا أو يبالغوا حتى لو تراجع بعضهم عن كتاباته أو تصريحاته لضرورات تمليها ظروف العداء. بل أن المعادلة الصريحة الوحيدة المعمول بها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي إلى يومنا هذا والمعروضة على العالم هي معادلة شريرة وذات طابع رقمي بامتياز إما معنا أو ضدنا، ولم يعد خافيا على أحد حقيقة هذه المعادلة التي أدركها حتى العرب وهم في أوهن حالاتهم، ومن العبث أن نخدع أنفسنا ونبرئ كتابات فوكوياما وهنتنغتون أو دانييل بايبس والقس جيري فالويل وجيري فاينز وبات روبرتسون وفرانكلين جراهام وأمثالهم فضلا عن تصريحات بابا الفاتيكان بينديكت السادس عشر وزعامات العالم الكبرى أمثال مارغريت تاتشر وبيرلوسكوني وجورج بوش عن التمهيد لهذا الصدام القادم وهو مُحصّن بأبشع أدوات الفتك والدمار والحقد والضغائن المتراكمة منذ قرون ضد الإسلام والمسلمين، بل من البلاهة والجبن أن نعايش كل أشكال العداء ابتداء من وسائل الإعلام والضغوط الدبلوماسية والاقتصادية وانتهاء بالآلة العسكرية الأمريكية التي تضرب في أمة الإسلام حيث تواجدت ناهيك عن الترسانة الأمنية والاستخبارية التي تعمل في شتى أنحاء العالم على مدار الساعة ثم نقول أن ما يجري هي زلات لسان أو دواعي الحرية أو ضرورات أمنية! فما هي مبررات هذا الصدام وغاياته؟ وما هي آلياته وتحالفاته؟ وما هي تداعياته؟ وما هي خيارات الأمة ودفاعاتها في مواجهته؟ وهل أن المشروع الأمريكي – الغربي – الصهيوني منفصلا عما يسمى بالمشروع الإيراني الصفوي؟
وحدة المشروع الأمريكي – الغربي – الصهيوني
(1)
وحشية العلم وتوحش البشرية
بدا واضحا منذ البواكير الأولى للرأسمالية وولادة عصر الآلة في مطلع القرن التاسع عشر أن البشرية مقدمة على توحش ضد بعضها، فمن يمتلك العلم والمعرفة سيمارس الغزو والقتل والنهب ضد من لا يمتلكها، منذ ذلك الحين ثبتت معادلة لم تتغير إلى يومنا هذا مفادها أن البشرية تزداد توحشا كلما تقدمت علميا، بل أن الحضارة الراهنة لم تسبقها أو تجاريها أيا من الحضارات الإنسانية وحشية ضد كل الكائنات الحية حتى ضد طوبوغرافيا الطبيعة وجيولوجيتها التي لم تسلم من التدمير والتخريب المتعمد. لا شك أنها مفارقة عجيبة حين يتحول العلم من منقذ إلى مدمر ومن بشير إلى نذير كلما خطا خطوة إلى الأمام. فما أن اخترعت الآلة حتى بشرنا العلم بعهد استعماري مباشر، وما أن تََقدَّم قليلا حتى انهارت أسلحة الدمار الشامل على البشر لتفتك بعشرات الملايين منهم، وها هو العلم، مع نهاية العقد الأخير من القرن العشرين، ينفجر في سلسلة من الثورات المعرفية أبرزها:
1- ثورة العولمة، والتي انفجرت بعد انهيار الحرب الباردة محيلة الاقتصاد العالمي فقط إلى معايير السوق صاحب السلطة الوحيدة والمطلقة في تحديد سعر السلعة. ولأن القرن الراهن هو قرن الخدمات والتجارة الحرة فعلينا القبول بتوسيع مفهوم السلعة ليشمل سائر العلوم الوضعية وسائر قطاعات الأمن والعسكر وسائر المنظومات الأخلاقية والعقائد والأديان وسائر الحضارات والثقافات وسائر السلوك الإنساني وكل ما يخطر على البال. ويكفي إسقاط العولمة على أي فعل إنساني أو آلي لنكتشف بالنهاية أنه لم يعد أكثر من مجرد سلعة يجري تداولها بين البشر. ويكفي أن نلاحظ أن العولمة نظام اقتصادي جائر يخلو من أية عدالة أو احترام لخصوصية الآخرين مثلما أنها لا تحفظ حقا لأحد طالما أنها بالمحصلة صناعة رأسمالية متوحشة ليست الطبقة الوسطى حتى في قلب الدول الرأسمالية إلا أحد أشد ضحاياها ناهيك عن الفقراء في شتى أنحاء الأرض والذين ستطحنهم العولمة طحنا.
2- الثورة المعلوماتية (الرقمية)، وهي الثورة التي سيهاجر فيها العالم الاجتماعي إلى الفضاء الافتراضي أو الحيز الذي ولدته العلوم الرقمية مولدا قارة سادسة تنضاف إلى القارات الخمس. وهي تمثل أضخم مشروع سرقة عرفه التاريخ الإنساني منذ ولد آدم وإلى يومنا هذا، وأضخم مشروع أمني جعل من التجسس على البشر أفرادا وجماعات ودول موضة العصر، فلا خصوصية ولا حرمة ولا حصانة لأي كائن حي طالما قبل بأن يكون جزء من منظومة الاتصال والتواصل مع هذه العلوم وإلا فما عليه إلا اعتزالها. أما ما تقدمه الصناعات الرقمية من عروض على منتجاتها ففيها من الإغراء والحاجة ما يصعب على الفرد تجاهله بالنظر إلى سرعة تقدمها وسرعة شيخوختها، فما يصلح اليوم ليس بذي فائدة بعد بضعة أسابيع أو أشهر.
3- الثورة الجينية، أو الهندسة الوراثية، وقد لدت في أعقاب الإعلان العالمي عن اكتشاف 90% من خريطة الحياة ( DNA ) أو أسرار الجينوم في شهر أيار / مايو 2002. وهي ثورة تمكن من الاطلاع على أسرار الحياة والتحكم الفسيولوجي والبيولوجي في الكائن الحي.
4- ولا شك أنها المقدمة التمهيدية لأكثر الثورات العلمية صدمة للبشر وهي ثورة تكنولوجيا النانو Nanotechnology التي تقود مشروعها شركة IBM الأمريكية، وسيباشر العمل بها بعد عشر سنوات من الآن. فما الذي نفهمه من هذه التكنولوجيا التي يساوي النانو الواحد فيها 1/ مليار من المتر؟
إذا كانت العولمة تنطلق من مفهوم السلعة في السيطرة على العالم فـ Nanotechnology تنطلق من الجزيء وليس من المادة، فالبشرية سبق لها وأن طوّعت المادة في مرحلة اكتشاف الآلة (ق19)، ومع ذلك فقد احتاجت لأكثر من مائة عام حتى انفجرت الثورة الصناعية في منتصف القرن العشرين، ثم عشر سنوات لتدشن بدايات العصر الرقمي وثلاثين عاما لتصبح بعض منتجاته في متناول العامة من الناس، لكننا الآن على أبواب تطويع الجزيء نفسه بحيث يمكن التلاعب به وإعادة صياغته وابتكاره في بضع سنين والاستفادة من منتجاته بمواصفات فائقة الدقة. وكي نتحسس بعض الأهمية فيما يجري على الصعيد العلمي يكفي ملاحظة أن تطويع المادة قد نجح في نقل البشرية من طور إلى طور بحيث لم يعد ممكنا ولا بأي منطق العودة إلى الوراء. فهذا ما يتوقع حصوله في السنوات القادمة، فالتكنولوجيا المنتظرة وهي تركز على صناعة الأجهزة الدقيقة من جزيئات مجهرية سيكون بمقدورها التدخل في شتى صنوف الحياة وإحداث قطيعة مادية وابتسمولوجية (= معرفية) مع الماضي، وستنقلب سائر العلوم الوضعية خاصة الصحيحة رأسا على عقب، فلن يكون الطب الذي نعرفه هو الطب القادم ولا الفيزياء التي نتعلمها ولا الأحياء ولا الكيمياء ولا الهندسة بشتى فروعها بما فيها هندسة الجزيء ذاته ولا الزراعة ولا الطاقة ولا المواصلات والاتصالات ستشابه مثيلاتها مما مضى، وتبعا لذلك ستتغير منظومات العلاقات الإنسانية وأنماط الاجتماع الإنساني والاقتصادي، وستتغير معها حكما منظومة العلاقات الدولية وقوانينها وتقسيماتها وأنماط الصراع والسيطرة والتحالفات والعداوات.
هكذا إذن، وبحدود مائتي عام، استطاعت البشرية أن تحقق قطيعة مع الماضي وهي تبدأ من الصفر، لكنها الآن في قمة التطور والتقدم العلمي، وتحقيق القطيعة الثانية لن يستغرق سوى بضع سنين وهو ما يثير الهلع والرعب من هكذا علوم، إذ أن السيطرة على المادة لتحقيق سعادة البشرية ورفاهيتها خلّف آلاما لم تشهدها البشرية فيما مضى من حروب فتاكة وسحق للكائن الحي وتدمير للبيئة بصورة وحشية وظواهر مقيتة كالاستعمار والاستعلاء والعنصرية والإلحاد والفقر والجوع والجهل وتكدس للثروة واستغلال للشعوب ونهب للثروات وتدمير للحضارات والثقافات وحروب إثنية وطائفية ودينية لا حدود لها، فهل سيكون التحكم بالجزيء وهو يختصر على البشرية من الوقت مئات السنين أقل وحشية وأكثر رحمة بالبشر؟
آن وقت الحصاد
الأرجح أن الثورات الجديدة التي من المفترض أن تضع حدا لمعاناة القرنين الماضيين ستكون وبالا على البشرية، وستجعل من الشعوب المتخلفة وجغرافيتها وبيئتها أكبر مخبر للتجارب ومخلفات العلوم الجديدة، فمعادلة التوحش لم تستنفذ أغراضها بعد وهي محملة بأحقاد وضغائن وثقافة الكراهية، وعلى العكس من ذلك فإن كل ما نراه هو إرهاصات لاستعمار جديد. باختصار فإن أقوى الحروب القادمة ستكون مع العلم، فالعلم هو المفجر للحروب على جبهة الغرب فيما الجهل هو المتلقي لها على الجانب الآخر. ويبدو أن الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة باتوا على قناعة بأن الوقت قد حان لقطف الثمار عبر:
· السيطرة على مصادر الطاقة التي تحتاجها الثورات القادمة، فهي السبب الرئيس في استهداف المناطق الحاوية لها كالخليج العربي والسودان وآسيا الوسطى، إذ أن الثورات الكبرى تتسارع بشكل جنوني والسكان يتضاعفون بمعدل متوالية هندسية تستدعي معها الحاجة إلى متوالية مماثلة في الطاقة، ولأن هذا مستحيل فلنتصور حجم الصراع الدولي على الطاقة في العالم.
· تصفية ما يعتبرونه ثارات قديمة ليس مع العرب بل مع الإسلام والمسلمين بحيث تبدأ من خيبر لتنتهي بتدمير العقيدة الإسلامية وتنصير أهلها. وعليه فالنظرة إلى الدعوات المتكررة عن تقارب الأديان أو حوار الحضارات أو تعميم ثقافة التسامح ليس سوى خضوع لشروط الخصم ومفاهيمه ليست من فراغ، فمن جهة لا نجد في مضمون الدعوات إلا إنكارا للإسلام ولنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فضلا عن الإساءة إليه وطعنا في العقيدة وضرورة إصلاحها بما يتلاءم ومعتقدات الكتاب المقدس بعهدَيه القديم والجديد وتعديل في كتب الله والتخلي عن التراث الديني من كتب الأولين وتقديم تفسيرات جديدة للكثير من الآيات مع الالتزام بالتخلي عن بعضها إن لزم الأمر، فضلا عن استخدام وسائل الإعلام للتشهير بالإسلام والمسلمين على نطاق واسع. ومن جهة أخرى يشعر الغرب أن لديه من القوة الآن ما يكفيه وزيادة، قبل تفكيك دولهم، لإجبار المسلمين على الاعتذار عما يسمونه جرائم المسلمين في التاريخ ضد المسيحيين واليهود ابتداء من الدعوة النبوية وإخراجهم من المدينة خاصة والجزيرة العربية عامة وإلى يومنا هذا، بل سيذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك في المطالبة باستعادة ما يعتبرونه ممتلكات القياصرة وعروشهم التي استولى عليها المسلمين في فتوحاتهم أو غزواتهم، وبالتأكيد فقائمة المطالب طويلة لمن رغب في تتبعها وقائمة التصريحات العدائية ذات المحتوى الصليبي أوسع، ولما يقولون بأنها حرب صليبية فهم يدركون ما يقولون ويعملون على ذلك. لذا ليس غريبا أن تنقلب الأمور رأسا على عقب حين يغدو المطلوب من العرب هو الاستجابة للشروط الإسرائيلية للسلام وليس العكس كما كان شائعا قبل عقدين حين كان اليهود يتذمرون من رفض العرب لهم ووضعهم شروطا تعجيزية! للتفاوض مع إسرائيل.
والأهم من كل هذا أن ما يجري هو مشروع أمريكي – غربي – صهيوني، وبالتالي فمن العبث القول باختلاف الموقف الأوروبي أو تميزه عن الموقفين الأمريكي والصهيوني، وليس صعبا على العامة وليس الخاصة فحسب ملاحظة وحدة المشروع في ضوء تقاسم العمل والمهام، فالأمريكيون وبعض الدول الأوروبية تكفلوا مباشرة في شن الحروب على ديار المسلمين في أفغانستان والعراق والصومال وغيرها من البلدان، واليهود في فلسطين عمدوا إلى تصفية كافة القيادات الفلسطينية وأفقدوا الفلسطينيين من أي رمز حتى ولو كان وطنيا سواء داخل فلسطين أو خارجها، وأحكموا حصارا خانقا ومهينا عليهم بفعل أدائهم السياسي والأيديولوجي هيأ لتواطؤ عربي إما صمتا وتجاهلا أو قولا وفعلا، أما الأوروبيون، ابتداء من بابا الفاتيكان ومستشاروه وانتهاء بالصحف الدنماركية والأوروبية، فهم من دشن حملات الكراهية والحقد للمسلمين والإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم والعقيدة وتحدوا المسلمين في عقر ديارهم عبر حملات التنصير المحمومة التي وصلت إلى بلدان الخليج العربي عبر افتتاح الكنائس والدعوة إلى حرية الاعتقاد في السعودية معتبرين أن المشكلة مع المسلمين في كونهم يعتبرون القرآن كلام الله!
عقبات في الطريق
لا ريب أنه من الأهمية وجوب مراقبة التصريحات الأمريكية خاصة حول العراق وأفغانستان فيما يتعلق بسحب جزئي للقوات من البلدين أو استخدام تكنولوجيا الحروب على نحو متزايد أو الإيهام بأن الأمريكيين على وشك الهزيمة، نعم، فإن كل ما يجري الحديث عنه فيما يخص الصعوبات التي تواجه الأمريكيين في العراق وأفغانستان صحيح، لكن بحدود، فالصراع سيتواصل وسنة التدافع ماضية لا محالة، لكن لا بد من ملاحظة أن الأمريكيين خاصة والغرب عامة يجهدون في التكيف مع ما يستجد من ظروف، فالفشل في هذين البلدين ظاهر جلي لا يخفى على مراقب، والملاحَظ أن الأمريكيين يحاولون تعديل استراتيجياتهم بسرعة بعد الخبرة التي اكتسبوها في السنوات القليلة الماضية حيث لم يكن متوقعا أبدا أن يواجهوا حربا طاحنة كادت أن تتسبب بكارثة محققة في العراق أسوأ من كارثة فيتنام لولا أن وجدت الولايات المتحدة من ينقذها ويسهل عليها الأمر من بعض أهل السنة سواء داخل العراق أو خارجه، وهذا باعتراف الأمريكيين وفي مقدمتهم الرئيس جورج بوش بنفسه. لذا فهم يتحدثون الآن عن القوة الذكية كمصطلح جديد مهمته الدمج بين القوة المسلحة والعمل الدبلوماسي وعدم تقديم قوة الآلة على ذكاء العقل في خوضه للحروب أو إدارتها، وفيما بعد سيتبين لنا ماهية هذه الإستراتيجية القادمة ومدى خطورتها خاصة فيما يتعلق بصياغة التحالفات.
المهم أن الأمريكيين اكتشفوا، في ضوء تجربتي العراق وأفغانستان، أن تعريض أعداد ضخمة من السكان لاحتلال مباشر وسط تطور حضري معقد أثبت فشله الذريع، فالشعوب المستهدفة اليوم ليست شعوب الأمس البسيطة والمسالمة والغارقة في الجهل والتذمر. واستعمال ذات السياسات القديمة وأدواتها في مجتمعات اليوم لن يحقق أهدافهم لا هم ولا الغرب عموما، ويبدو أن الشيخ أسامة بن لادن كان محقا لما قال في رسالته للأمريكيين بأن قادتهم يفكرون بعقلية العصور الوسطى، فالعربة الاستعمارية الأوروبية لما انطلقت في القرن التاسع عشر حرصت بداية، فيما عدا الهند، على تفكيك الدول الكبرى إلى تجمعات صغيرة حظيت فيما بعد بامتياز الدولة المستقلة على بضعة ملايين أو أقل من السكان بحيث يمكن تحقيق احتلال مريح وهيمنة مستقبلية ممكنة لبضعة عشرات من السنين، لكن هذه الدول خرج سكانها على الأقل من طور الأمية وحصلوا على قدر من التعليم يمكِّنهم من التمييز وبناء المواقف، كما أنها الآن ذات كثافة سكانية ليست بالقليلة، فالدولة التي كانت تعد نحو 2 – 5 مليون باتت اليوم تؤوي ما بين 20 – 30 مليون، ومن الجدير أن نتذكر تصريحات وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد بعد احتلال العراق بعام وهو يكرر القول في كل مناسبة ردا على إخفاقات جيشه أمام هجمات المجاهدين: أن العراق دولة كبيرة سكانا ومساحة، ويصعب علينا السيطرة بسهولة عليه! فكيف سيكون الأمر سهلا مع دول أخرى ذات كثافة سكانية أعظم في مناطق شديدة التوتر عالميا وذات تراث حضاري عريق ومنبع ديانة حية كالإسلام؟ كيف يمكن إيقاع الاحتلال مثلا على دول بحجم مصر والسعودية وسوريا فضلا عن الجزائر والمغرب؟
لهذا ينبغي ألا يُنظر إلى الحديث الطويل والمتكرر منذ أوائل تسعينات القرن العشرين عن تفيكيك المفكك وتجزئة المجزأ والمرور على هكذا عبارات مرور الكرام، بل ينبغي أن يوضع في الاعتبار أنه ما من دولة عربية أو إسلامية بمنأى عن التفكيك والتجزئة ابتداء من أندونيسيا وانتهاء بالمغرب، أما متى فتلك مسألة أخرى. المهم أن الولايات المتحدة بصدد تغيير استراتيجياتها كي تتمكن من تفكيك الكتل السكانية أو إضعافها أو اختراقها للقبول بعروض الانفصال أو الاستقلال:
· إما عبر إصابتها بفيروس الفتن الطائفية أو القومية والإثنية كاستخدامها للعنصر الشيعي مثلا في العراق؛
· وإما عبر العولمة كآلية ملائمة في ضرب القدرة الشرائية للسكان وإفقارهم وتجويعهم وتهيئتهم لاستقبال القهر والألم الشديدين تمهيدا لزرع فكرة ضرورة التغيير حتى لو كان التفكيك والترحيب بالاستعمار هو الثمن المطلوب تماما كما كان الحال بعد الحرب العالمية الأولى كنتيجة للظلم العثماني من جهة والتحريض الأوروبي للمجتمعات والنخب العربية على ضرورة التخلص من الإمبراطورية المتخلفة من جهة ثانية.
بطبيعة الحال فإن استخدام العولمة كإحدى آليات التفكيك سيعني توقع انخفاض خطير في سقف الحريات في البلدان العربية والإسلامية خاصة وأن السلطة ستشعر أنها مستهدفة وبالتالي ستضطر إلى الدفاع عن نفسها بشراسة عبر المزيد من تغولها على المجتمع أمنيا، وهذا من شأنه ترقية الوضع المتأزم ليصل إلى حالة من الانفجار في صورة صدامات بين الدولة والمجتمع باعتبار الدولة مسؤولة عن تردي الأوضاع وسوء المعيشة، فكيف ستواجه الدولة مثلا تصريحات لمدير البنك الدولي وهو يهمس في أذن الحكام محذرا بأن موجات الغلاء ستواصل ارتفاعها حتى سنة 2015؟
لكن احتمالات التفكك ومعاداة الأنظمة العربية مستبعد بنظر البعض بما أن أغلب الأنظمة السياسية العربية على وفاق مع الولايات المتحدة، فلماذا تغامر أمريكا بحلفاء أوفياء لن تجد أفضل منهم في تمرير السياسة الأمريكية ابتداء من التعاون الأمني في مجال مكافحة الإرهاب وانتهاء بقبول الأطروحة الأمريكية فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي وشروط السلام مع إسرائيل بل والمساهمة في حمايتها أمنيا والبحث عن مخارج عقدية تُشرِّع وتؤسس لعلاقات واسعة النطاق معها؟ لا شك أنه اعتراض وجيه لو أن العرب شركاء في المشروع الأمريكي ولو بنسبة مراقب، لكن الحقيقة أنهم ليسوا كذلك، فهم في أحسن الأحوال جسر عبور، ولم يعد بيدهم سوى ورقة يتيمة يمكن أن يلعبوها إذا ما شعروا أنهم مهددون بالاقتلاع من أية جهة كانت كأن يحتموا بشعوبهم مثلا، لكنها مع ذلك ورقة يصعب التنبؤ بحسن استخدامها في الوقت المناسب أو بمدى فاعليتها. فكلما اشتد الجوع والقهر كلما قلت فرص المصالحة وانعدمت الثقة.
استدراك
ذكر تقرير واشنطن (العدد 160، 24 مايو 2008) أنه: بسبب غياب الرؤية الإستراتيجية لكيفية مواجهة التحديات الآنية والمستقبلية التي تواجها الولايات المتحدة فقد دشن مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) وبدعم من مؤسسة (Starr foundation) مشروع القوة الذكية (Smart Power) القائم على الدمج بين مفهومي القوة الناعمة (Soft Power) والقوة الصلبة (Hard power)، ويرأس المشروع كل من ريتشارد أرميتاج (Richard L. Armitage) أحد أعمدة السياسة والأمن والدفاع في الولايات المتحدة وجوزيف ناي (Joseph S. Nye) الأستاذ بجامعة هارفارد، والعميد السابق لكلية كيندي للعلوم الحكومية في الجامعة.
ويقول التقرير أن المركز: دعا إلى اجتماعات ومناقشات ضمت أعضاء من الإدارة الأمريكية الحالية من بينهم: أعضاء من المكتب الانتخابي، الجيش، المنظمات غير الحكومية، وسائل الإعلام، أكاديميين، وكذلك أفراد من القطاع الخاص. وقد اجتمعت اللجنة ثلاثة مرات خلال عام 2007؛ لتطوير مخطط تفصيلي لإنعاش القيادة الأمريكية الإلهامية على أساس مجموعة من الأبحاث والدراسات أعدها خبراء بالمركز، والتي تمخض عنها توصيات لتقوية مكانة وتأثير الولايات المتحدة عالميا.
ويضيف بأن: ]اللجنة أصدرت تقريرها عن التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة بعنوان التوقع العالمي لتحديات الأمن العليا لعام 2008 Global Forecast the top security challenges of 2008، وتقرير أخر عن القوة الذكية كسياسة لاستعادة مكانة الولايات المتحدة عالميا بعنوان القوة الذكية، أمن أكثر لأمريكا Smarter, More Secure America[.
بطبيعة الحال حضرت القاعدة وإيران في التقرير الذي يتحدث عن التحديات، وفيما يتعلق بمحور إيران يشير التقرير إلى اتجاهين في الولايات المتحدة حول هذه المسألة، ينادي أحدهما بضرورة تصعيد لهجة الخطاب ضد إيران عبر تحرك تقوم به الشعوب المحافظة، لكن ثمة وجهة نظر أخرى لا تقل قوة عن الأولى ترى أن الكثير من هذه الشعوب تخشى من تكرار نموذج العراق 2003، وفي المحصلة تبدو الولايات المتحدة، بحسب التقرير، عاجزة عن مهاجمة إيران خلال السنة القادمة إلا في حالة تعرضها لحدث لا يمكن السيطرة عليه أو استفزاز عسكري، وعليه فإن أقصى ما تتمناه لا يتعدى الحراك الدبلوماسي ومحاولة فرض عقوبات اقتصادية لا تحظى بأي دعم أوروبي خاصة وأن معظم الدول تفضل تجاهل الوضع في إيران.
والحقيقة أن قيمة التقرير لا تكمن فيما احتواه بل في تثبيته لتوجهات سبق وأن أقرّ بها دبلوماسيون وعسكريون أمريكيون تقضي بضرورة التفاهم مع إيران حول ملف العراق، خاصة وأن مسؤولي الشعوب المحافظة خيبوا أمل نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني ورفضوا الدخول فيما أسماه أحدهم بـ حرب المائة عام، بل أنهم استدعوا إيران كعضو مراقب في قمة مجلس التعاون الخليجي، أما الأمريكيين فقد عقدوا جولات من المفاوضات المشتركة حول أمن العراق ومستقبله وما يمكن أن تقدمه إيران في سبيل هذه الغاية! وفي هذا السياق بالذات من الصعب فهم زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى العراق واستضافته في قلب المنطقة الخضراء ببغداد بعيدا عن التفاهمات الأمنية الأمريكية الإيرانية.
إذن القوة الذكية قد تفصح عن المزيد من التحالفات والسياسات في المنطقة والعالم، أما أنها ذكية فلأن السياسة الأمريكية لم تكن تؤمن بغير فرض إرادتها السياسية على العالم بمن فيهم حلفائها، ولم تكن ترى غير الآلة العسكرية أداة في تحقيق أهدافها، ولما فشلت اضطرت إلى التراجع خطوة كي تعيد ترتيب أوراقها من جديد. ولمزيد من الفهم لا بد من الانتباه إلى أن مشروع القوة الذكية برمته هو مشروع آني، بمعنى أنه لا تغير في الاستراتيجيات والمشروع الأمريكي بقدر ما هو احتواء للإخفاقات فرضتها ظروف وعقبات تستدعي التعامل معها بحذر وذكاء! ولا شك أن الولايات المتحدة تعلمت من حربي العراق وأفغانستان الكثير، ولعلها اقتنعت أخيرا أن الأشجار الباسقة يمكن أن تنحني ريثما تمر العاصفة، فإن فعلت فهي ثقافة جديدة في السياسة الأمريكية ستكون أخطر على المنطقة من ذي قبل، لكن إذا كابرت وانحنت واقفة فستكون أشبه بالنعامة التي تضع رأسها في التراب لتحمي جسدها، وحينها ستواجه المزيد من العقبات.
يتبع …
د. أكرم حجازي
صحف - 31/5/2008
كل الكتاب والمفكرين الأمريكيين خاصة والغربيين عامة وحتى الزعماء الذين تحدثوا عن حرب صليبية ضد الإسلام وأهله لم يكذبوا أو يهولوا أو يبالغوا حتى لو تراجع بعضهم عن كتاباته أو تصريحاته لضرورات تمليها ظروف العداء. بل أن المعادلة الصريحة الوحيدة المعمول بها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي إلى يومنا هذا والمعروضة على العالم هي معادلة شريرة وذات طابع رقمي بامتياز إما معنا أو ضدنا، ولم يعد خافيا على أحد حقيقة هذه المعادلة التي أدركها حتى العرب وهم في أوهن حالاتهم، ومن العبث أن نخدع أنفسنا ونبرئ كتابات فوكوياما وهنتنغتون أو دانييل بايبس والقس جيري فالويل وجيري فاينز وبات روبرتسون وفرانكلين جراهام وأمثالهم فضلا عن تصريحات بابا الفاتيكان بينديكت السادس عشر وزعامات العالم الكبرى أمثال مارغريت تاتشر وبيرلوسكوني وجورج بوش عن التمهيد لهذا الصدام القادم وهو مُحصّن بأبشع أدوات الفتك والدمار والحقد والضغائن المتراكمة منذ قرون ضد الإسلام والمسلمين، بل من البلاهة والجبن أن نعايش كل أشكال العداء ابتداء من وسائل الإعلام والضغوط الدبلوماسية والاقتصادية وانتهاء بالآلة العسكرية الأمريكية التي تضرب في أمة الإسلام حيث تواجدت ناهيك عن الترسانة الأمنية والاستخبارية التي تعمل في شتى أنحاء العالم على مدار الساعة ثم نقول أن ما يجري هي زلات لسان أو دواعي الحرية أو ضرورات أمنية! فما هي مبررات هذا الصدام وغاياته؟ وما هي آلياته وتحالفاته؟ وما هي تداعياته؟ وما هي خيارات الأمة ودفاعاتها في مواجهته؟ وهل أن المشروع الأمريكي – الغربي – الصهيوني منفصلا عما يسمى بالمشروع الإيراني الصفوي؟
وحدة المشروع الأمريكي – الغربي – الصهيوني
(1)
وحشية العلم وتوحش البشرية
بدا واضحا منذ البواكير الأولى للرأسمالية وولادة عصر الآلة في مطلع القرن التاسع عشر أن البشرية مقدمة على توحش ضد بعضها، فمن يمتلك العلم والمعرفة سيمارس الغزو والقتل والنهب ضد من لا يمتلكها، منذ ذلك الحين ثبتت معادلة لم تتغير إلى يومنا هذا مفادها أن البشرية تزداد توحشا كلما تقدمت علميا، بل أن الحضارة الراهنة لم تسبقها أو تجاريها أيا من الحضارات الإنسانية وحشية ضد كل الكائنات الحية حتى ضد طوبوغرافيا الطبيعة وجيولوجيتها التي لم تسلم من التدمير والتخريب المتعمد. لا شك أنها مفارقة عجيبة حين يتحول العلم من منقذ إلى مدمر ومن بشير إلى نذير كلما خطا خطوة إلى الأمام. فما أن اخترعت الآلة حتى بشرنا العلم بعهد استعماري مباشر، وما أن تََقدَّم قليلا حتى انهارت أسلحة الدمار الشامل على البشر لتفتك بعشرات الملايين منهم، وها هو العلم، مع نهاية العقد الأخير من القرن العشرين، ينفجر في سلسلة من الثورات المعرفية أبرزها:
1- ثورة العولمة، والتي انفجرت بعد انهيار الحرب الباردة محيلة الاقتصاد العالمي فقط إلى معايير السوق صاحب السلطة الوحيدة والمطلقة في تحديد سعر السلعة. ولأن القرن الراهن هو قرن الخدمات والتجارة الحرة فعلينا القبول بتوسيع مفهوم السلعة ليشمل سائر العلوم الوضعية وسائر قطاعات الأمن والعسكر وسائر المنظومات الأخلاقية والعقائد والأديان وسائر الحضارات والثقافات وسائر السلوك الإنساني وكل ما يخطر على البال. ويكفي إسقاط العولمة على أي فعل إنساني أو آلي لنكتشف بالنهاية أنه لم يعد أكثر من مجرد سلعة يجري تداولها بين البشر. ويكفي أن نلاحظ أن العولمة نظام اقتصادي جائر يخلو من أية عدالة أو احترام لخصوصية الآخرين مثلما أنها لا تحفظ حقا لأحد طالما أنها بالمحصلة صناعة رأسمالية متوحشة ليست الطبقة الوسطى حتى في قلب الدول الرأسمالية إلا أحد أشد ضحاياها ناهيك عن الفقراء في شتى أنحاء الأرض والذين ستطحنهم العولمة طحنا.
2- الثورة المعلوماتية (الرقمية)، وهي الثورة التي سيهاجر فيها العالم الاجتماعي إلى الفضاء الافتراضي أو الحيز الذي ولدته العلوم الرقمية مولدا قارة سادسة تنضاف إلى القارات الخمس. وهي تمثل أضخم مشروع سرقة عرفه التاريخ الإنساني منذ ولد آدم وإلى يومنا هذا، وأضخم مشروع أمني جعل من التجسس على البشر أفرادا وجماعات ودول موضة العصر، فلا خصوصية ولا حرمة ولا حصانة لأي كائن حي طالما قبل بأن يكون جزء من منظومة الاتصال والتواصل مع هذه العلوم وإلا فما عليه إلا اعتزالها. أما ما تقدمه الصناعات الرقمية من عروض على منتجاتها ففيها من الإغراء والحاجة ما يصعب على الفرد تجاهله بالنظر إلى سرعة تقدمها وسرعة شيخوختها، فما يصلح اليوم ليس بذي فائدة بعد بضعة أسابيع أو أشهر.
3- الثورة الجينية، أو الهندسة الوراثية، وقد لدت في أعقاب الإعلان العالمي عن اكتشاف 90% من خريطة الحياة ( DNA ) أو أسرار الجينوم في شهر أيار / مايو 2002. وهي ثورة تمكن من الاطلاع على أسرار الحياة والتحكم الفسيولوجي والبيولوجي في الكائن الحي.
4- ولا شك أنها المقدمة التمهيدية لأكثر الثورات العلمية صدمة للبشر وهي ثورة تكنولوجيا النانو Nanotechnology التي تقود مشروعها شركة IBM الأمريكية، وسيباشر العمل بها بعد عشر سنوات من الآن. فما الذي نفهمه من هذه التكنولوجيا التي يساوي النانو الواحد فيها 1/ مليار من المتر؟
إذا كانت العولمة تنطلق من مفهوم السلعة في السيطرة على العالم فـ Nanotechnology تنطلق من الجزيء وليس من المادة، فالبشرية سبق لها وأن طوّعت المادة في مرحلة اكتشاف الآلة (ق19)، ومع ذلك فقد احتاجت لأكثر من مائة عام حتى انفجرت الثورة الصناعية في منتصف القرن العشرين، ثم عشر سنوات لتدشن بدايات العصر الرقمي وثلاثين عاما لتصبح بعض منتجاته في متناول العامة من الناس، لكننا الآن على أبواب تطويع الجزيء نفسه بحيث يمكن التلاعب به وإعادة صياغته وابتكاره في بضع سنين والاستفادة من منتجاته بمواصفات فائقة الدقة. وكي نتحسس بعض الأهمية فيما يجري على الصعيد العلمي يكفي ملاحظة أن تطويع المادة قد نجح في نقل البشرية من طور إلى طور بحيث لم يعد ممكنا ولا بأي منطق العودة إلى الوراء. فهذا ما يتوقع حصوله في السنوات القادمة، فالتكنولوجيا المنتظرة وهي تركز على صناعة الأجهزة الدقيقة من جزيئات مجهرية سيكون بمقدورها التدخل في شتى صنوف الحياة وإحداث قطيعة مادية وابتسمولوجية (= معرفية) مع الماضي، وستنقلب سائر العلوم الوضعية خاصة الصحيحة رأسا على عقب، فلن يكون الطب الذي نعرفه هو الطب القادم ولا الفيزياء التي نتعلمها ولا الأحياء ولا الكيمياء ولا الهندسة بشتى فروعها بما فيها هندسة الجزيء ذاته ولا الزراعة ولا الطاقة ولا المواصلات والاتصالات ستشابه مثيلاتها مما مضى، وتبعا لذلك ستتغير منظومات العلاقات الإنسانية وأنماط الاجتماع الإنساني والاقتصادي، وستتغير معها حكما منظومة العلاقات الدولية وقوانينها وتقسيماتها وأنماط الصراع والسيطرة والتحالفات والعداوات.
هكذا إذن، وبحدود مائتي عام، استطاعت البشرية أن تحقق قطيعة مع الماضي وهي تبدأ من الصفر، لكنها الآن في قمة التطور والتقدم العلمي، وتحقيق القطيعة الثانية لن يستغرق سوى بضع سنين وهو ما يثير الهلع والرعب من هكذا علوم، إذ أن السيطرة على المادة لتحقيق سعادة البشرية ورفاهيتها خلّف آلاما لم تشهدها البشرية فيما مضى من حروب فتاكة وسحق للكائن الحي وتدمير للبيئة بصورة وحشية وظواهر مقيتة كالاستعمار والاستعلاء والعنصرية والإلحاد والفقر والجوع والجهل وتكدس للثروة واستغلال للشعوب ونهب للثروات وتدمير للحضارات والثقافات وحروب إثنية وطائفية ودينية لا حدود لها، فهل سيكون التحكم بالجزيء وهو يختصر على البشرية من الوقت مئات السنين أقل وحشية وأكثر رحمة بالبشر؟
آن وقت الحصاد
الأرجح أن الثورات الجديدة التي من المفترض أن تضع حدا لمعاناة القرنين الماضيين ستكون وبالا على البشرية، وستجعل من الشعوب المتخلفة وجغرافيتها وبيئتها أكبر مخبر للتجارب ومخلفات العلوم الجديدة، فمعادلة التوحش لم تستنفذ أغراضها بعد وهي محملة بأحقاد وضغائن وثقافة الكراهية، وعلى العكس من ذلك فإن كل ما نراه هو إرهاصات لاستعمار جديد. باختصار فإن أقوى الحروب القادمة ستكون مع العلم، فالعلم هو المفجر للحروب على جبهة الغرب فيما الجهل هو المتلقي لها على الجانب الآخر. ويبدو أن الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة باتوا على قناعة بأن الوقت قد حان لقطف الثمار عبر:
· السيطرة على مصادر الطاقة التي تحتاجها الثورات القادمة، فهي السبب الرئيس في استهداف المناطق الحاوية لها كالخليج العربي والسودان وآسيا الوسطى، إذ أن الثورات الكبرى تتسارع بشكل جنوني والسكان يتضاعفون بمعدل متوالية هندسية تستدعي معها الحاجة إلى متوالية مماثلة في الطاقة، ولأن هذا مستحيل فلنتصور حجم الصراع الدولي على الطاقة في العالم.
· تصفية ما يعتبرونه ثارات قديمة ليس مع العرب بل مع الإسلام والمسلمين بحيث تبدأ من خيبر لتنتهي بتدمير العقيدة الإسلامية وتنصير أهلها. وعليه فالنظرة إلى الدعوات المتكررة عن تقارب الأديان أو حوار الحضارات أو تعميم ثقافة التسامح ليس سوى خضوع لشروط الخصم ومفاهيمه ليست من فراغ، فمن جهة لا نجد في مضمون الدعوات إلا إنكارا للإسلام ولنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فضلا عن الإساءة إليه وطعنا في العقيدة وضرورة إصلاحها بما يتلاءم ومعتقدات الكتاب المقدس بعهدَيه القديم والجديد وتعديل في كتب الله والتخلي عن التراث الديني من كتب الأولين وتقديم تفسيرات جديدة للكثير من الآيات مع الالتزام بالتخلي عن بعضها إن لزم الأمر، فضلا عن استخدام وسائل الإعلام للتشهير بالإسلام والمسلمين على نطاق واسع. ومن جهة أخرى يشعر الغرب أن لديه من القوة الآن ما يكفيه وزيادة، قبل تفكيك دولهم، لإجبار المسلمين على الاعتذار عما يسمونه جرائم المسلمين في التاريخ ضد المسيحيين واليهود ابتداء من الدعوة النبوية وإخراجهم من المدينة خاصة والجزيرة العربية عامة وإلى يومنا هذا، بل سيذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك في المطالبة باستعادة ما يعتبرونه ممتلكات القياصرة وعروشهم التي استولى عليها المسلمين في فتوحاتهم أو غزواتهم، وبالتأكيد فقائمة المطالب طويلة لمن رغب في تتبعها وقائمة التصريحات العدائية ذات المحتوى الصليبي أوسع، ولما يقولون بأنها حرب صليبية فهم يدركون ما يقولون ويعملون على ذلك. لذا ليس غريبا أن تنقلب الأمور رأسا على عقب حين يغدو المطلوب من العرب هو الاستجابة للشروط الإسرائيلية للسلام وليس العكس كما كان شائعا قبل عقدين حين كان اليهود يتذمرون من رفض العرب لهم ووضعهم شروطا تعجيزية! للتفاوض مع إسرائيل.
والأهم من كل هذا أن ما يجري هو مشروع أمريكي – غربي – صهيوني، وبالتالي فمن العبث القول باختلاف الموقف الأوروبي أو تميزه عن الموقفين الأمريكي والصهيوني، وليس صعبا على العامة وليس الخاصة فحسب ملاحظة وحدة المشروع في ضوء تقاسم العمل والمهام، فالأمريكيون وبعض الدول الأوروبية تكفلوا مباشرة في شن الحروب على ديار المسلمين في أفغانستان والعراق والصومال وغيرها من البلدان، واليهود في فلسطين عمدوا إلى تصفية كافة القيادات الفلسطينية وأفقدوا الفلسطينيين من أي رمز حتى ولو كان وطنيا سواء داخل فلسطين أو خارجها، وأحكموا حصارا خانقا ومهينا عليهم بفعل أدائهم السياسي والأيديولوجي هيأ لتواطؤ عربي إما صمتا وتجاهلا أو قولا وفعلا، أما الأوروبيون، ابتداء من بابا الفاتيكان ومستشاروه وانتهاء بالصحف الدنماركية والأوروبية، فهم من دشن حملات الكراهية والحقد للمسلمين والإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم والعقيدة وتحدوا المسلمين في عقر ديارهم عبر حملات التنصير المحمومة التي وصلت إلى بلدان الخليج العربي عبر افتتاح الكنائس والدعوة إلى حرية الاعتقاد في السعودية معتبرين أن المشكلة مع المسلمين في كونهم يعتبرون القرآن كلام الله!
عقبات في الطريق
لا ريب أنه من الأهمية وجوب مراقبة التصريحات الأمريكية خاصة حول العراق وأفغانستان فيما يتعلق بسحب جزئي للقوات من البلدين أو استخدام تكنولوجيا الحروب على نحو متزايد أو الإيهام بأن الأمريكيين على وشك الهزيمة، نعم، فإن كل ما يجري الحديث عنه فيما يخص الصعوبات التي تواجه الأمريكيين في العراق وأفغانستان صحيح، لكن بحدود، فالصراع سيتواصل وسنة التدافع ماضية لا محالة، لكن لا بد من ملاحظة أن الأمريكيين خاصة والغرب عامة يجهدون في التكيف مع ما يستجد من ظروف، فالفشل في هذين البلدين ظاهر جلي لا يخفى على مراقب، والملاحَظ أن الأمريكيين يحاولون تعديل استراتيجياتهم بسرعة بعد الخبرة التي اكتسبوها في السنوات القليلة الماضية حيث لم يكن متوقعا أبدا أن يواجهوا حربا طاحنة كادت أن تتسبب بكارثة محققة في العراق أسوأ من كارثة فيتنام لولا أن وجدت الولايات المتحدة من ينقذها ويسهل عليها الأمر من بعض أهل السنة سواء داخل العراق أو خارجه، وهذا باعتراف الأمريكيين وفي مقدمتهم الرئيس جورج بوش بنفسه. لذا فهم يتحدثون الآن عن القوة الذكية كمصطلح جديد مهمته الدمج بين القوة المسلحة والعمل الدبلوماسي وعدم تقديم قوة الآلة على ذكاء العقل في خوضه للحروب أو إدارتها، وفيما بعد سيتبين لنا ماهية هذه الإستراتيجية القادمة ومدى خطورتها خاصة فيما يتعلق بصياغة التحالفات.
المهم أن الأمريكيين اكتشفوا، في ضوء تجربتي العراق وأفغانستان، أن تعريض أعداد ضخمة من السكان لاحتلال مباشر وسط تطور حضري معقد أثبت فشله الذريع، فالشعوب المستهدفة اليوم ليست شعوب الأمس البسيطة والمسالمة والغارقة في الجهل والتذمر. واستعمال ذات السياسات القديمة وأدواتها في مجتمعات اليوم لن يحقق أهدافهم لا هم ولا الغرب عموما، ويبدو أن الشيخ أسامة بن لادن كان محقا لما قال في رسالته للأمريكيين بأن قادتهم يفكرون بعقلية العصور الوسطى، فالعربة الاستعمارية الأوروبية لما انطلقت في القرن التاسع عشر حرصت بداية، فيما عدا الهند، على تفكيك الدول الكبرى إلى تجمعات صغيرة حظيت فيما بعد بامتياز الدولة المستقلة على بضعة ملايين أو أقل من السكان بحيث يمكن تحقيق احتلال مريح وهيمنة مستقبلية ممكنة لبضعة عشرات من السنين، لكن هذه الدول خرج سكانها على الأقل من طور الأمية وحصلوا على قدر من التعليم يمكِّنهم من التمييز وبناء المواقف، كما أنها الآن ذات كثافة سكانية ليست بالقليلة، فالدولة التي كانت تعد نحو 2 – 5 مليون باتت اليوم تؤوي ما بين 20 – 30 مليون، ومن الجدير أن نتذكر تصريحات وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد بعد احتلال العراق بعام وهو يكرر القول في كل مناسبة ردا على إخفاقات جيشه أمام هجمات المجاهدين: أن العراق دولة كبيرة سكانا ومساحة، ويصعب علينا السيطرة بسهولة عليه! فكيف سيكون الأمر سهلا مع دول أخرى ذات كثافة سكانية أعظم في مناطق شديدة التوتر عالميا وذات تراث حضاري عريق ومنبع ديانة حية كالإسلام؟ كيف يمكن إيقاع الاحتلال مثلا على دول بحجم مصر والسعودية وسوريا فضلا عن الجزائر والمغرب؟
لهذا ينبغي ألا يُنظر إلى الحديث الطويل والمتكرر منذ أوائل تسعينات القرن العشرين عن تفيكيك المفكك وتجزئة المجزأ والمرور على هكذا عبارات مرور الكرام، بل ينبغي أن يوضع في الاعتبار أنه ما من دولة عربية أو إسلامية بمنأى عن التفكيك والتجزئة ابتداء من أندونيسيا وانتهاء بالمغرب، أما متى فتلك مسألة أخرى. المهم أن الولايات المتحدة بصدد تغيير استراتيجياتها كي تتمكن من تفكيك الكتل السكانية أو إضعافها أو اختراقها للقبول بعروض الانفصال أو الاستقلال:
· إما عبر إصابتها بفيروس الفتن الطائفية أو القومية والإثنية كاستخدامها للعنصر الشيعي مثلا في العراق؛
· وإما عبر العولمة كآلية ملائمة في ضرب القدرة الشرائية للسكان وإفقارهم وتجويعهم وتهيئتهم لاستقبال القهر والألم الشديدين تمهيدا لزرع فكرة ضرورة التغيير حتى لو كان التفكيك والترحيب بالاستعمار هو الثمن المطلوب تماما كما كان الحال بعد الحرب العالمية الأولى كنتيجة للظلم العثماني من جهة والتحريض الأوروبي للمجتمعات والنخب العربية على ضرورة التخلص من الإمبراطورية المتخلفة من جهة ثانية.
بطبيعة الحال فإن استخدام العولمة كإحدى آليات التفكيك سيعني توقع انخفاض خطير في سقف الحريات في البلدان العربية والإسلامية خاصة وأن السلطة ستشعر أنها مستهدفة وبالتالي ستضطر إلى الدفاع عن نفسها بشراسة عبر المزيد من تغولها على المجتمع أمنيا، وهذا من شأنه ترقية الوضع المتأزم ليصل إلى حالة من الانفجار في صورة صدامات بين الدولة والمجتمع باعتبار الدولة مسؤولة عن تردي الأوضاع وسوء المعيشة، فكيف ستواجه الدولة مثلا تصريحات لمدير البنك الدولي وهو يهمس في أذن الحكام محذرا بأن موجات الغلاء ستواصل ارتفاعها حتى سنة 2015؟
لكن احتمالات التفكك ومعاداة الأنظمة العربية مستبعد بنظر البعض بما أن أغلب الأنظمة السياسية العربية على وفاق مع الولايات المتحدة، فلماذا تغامر أمريكا بحلفاء أوفياء لن تجد أفضل منهم في تمرير السياسة الأمريكية ابتداء من التعاون الأمني في مجال مكافحة الإرهاب وانتهاء بقبول الأطروحة الأمريكية فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي وشروط السلام مع إسرائيل بل والمساهمة في حمايتها أمنيا والبحث عن مخارج عقدية تُشرِّع وتؤسس لعلاقات واسعة النطاق معها؟ لا شك أنه اعتراض وجيه لو أن العرب شركاء في المشروع الأمريكي ولو بنسبة مراقب، لكن الحقيقة أنهم ليسوا كذلك، فهم في أحسن الأحوال جسر عبور، ولم يعد بيدهم سوى ورقة يتيمة يمكن أن يلعبوها إذا ما شعروا أنهم مهددون بالاقتلاع من أية جهة كانت كأن يحتموا بشعوبهم مثلا، لكنها مع ذلك ورقة يصعب التنبؤ بحسن استخدامها في الوقت المناسب أو بمدى فاعليتها. فكلما اشتد الجوع والقهر كلما قلت فرص المصالحة وانعدمت الثقة.
استدراك
ذكر تقرير واشنطن (العدد 160، 24 مايو 2008) أنه: بسبب غياب الرؤية الإستراتيجية لكيفية مواجهة التحديات الآنية والمستقبلية التي تواجها الولايات المتحدة فقد دشن مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) وبدعم من مؤسسة (Starr foundation) مشروع القوة الذكية (Smart Power) القائم على الدمج بين مفهومي القوة الناعمة (Soft Power) والقوة الصلبة (Hard power)، ويرأس المشروع كل من ريتشارد أرميتاج (Richard L. Armitage) أحد أعمدة السياسة والأمن والدفاع في الولايات المتحدة وجوزيف ناي (Joseph S. Nye) الأستاذ بجامعة هارفارد، والعميد السابق لكلية كيندي للعلوم الحكومية في الجامعة.
ويقول التقرير أن المركز: دعا إلى اجتماعات ومناقشات ضمت أعضاء من الإدارة الأمريكية الحالية من بينهم: أعضاء من المكتب الانتخابي، الجيش، المنظمات غير الحكومية، وسائل الإعلام، أكاديميين، وكذلك أفراد من القطاع الخاص. وقد اجتمعت اللجنة ثلاثة مرات خلال عام 2007؛ لتطوير مخطط تفصيلي لإنعاش القيادة الأمريكية الإلهامية على أساس مجموعة من الأبحاث والدراسات أعدها خبراء بالمركز، والتي تمخض عنها توصيات لتقوية مكانة وتأثير الولايات المتحدة عالميا.
ويضيف بأن: ]اللجنة أصدرت تقريرها عن التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة بعنوان التوقع العالمي لتحديات الأمن العليا لعام 2008 Global Forecast the top security challenges of 2008، وتقرير أخر عن القوة الذكية كسياسة لاستعادة مكانة الولايات المتحدة عالميا بعنوان القوة الذكية، أمن أكثر لأمريكا Smarter, More Secure America[.
بطبيعة الحال حضرت القاعدة وإيران في التقرير الذي يتحدث عن التحديات، وفيما يتعلق بمحور إيران يشير التقرير إلى اتجاهين في الولايات المتحدة حول هذه المسألة، ينادي أحدهما بضرورة تصعيد لهجة الخطاب ضد إيران عبر تحرك تقوم به الشعوب المحافظة، لكن ثمة وجهة نظر أخرى لا تقل قوة عن الأولى ترى أن الكثير من هذه الشعوب تخشى من تكرار نموذج العراق 2003، وفي المحصلة تبدو الولايات المتحدة، بحسب التقرير، عاجزة عن مهاجمة إيران خلال السنة القادمة إلا في حالة تعرضها لحدث لا يمكن السيطرة عليه أو استفزاز عسكري، وعليه فإن أقصى ما تتمناه لا يتعدى الحراك الدبلوماسي ومحاولة فرض عقوبات اقتصادية لا تحظى بأي دعم أوروبي خاصة وأن معظم الدول تفضل تجاهل الوضع في إيران.
والحقيقة أن قيمة التقرير لا تكمن فيما احتواه بل في تثبيته لتوجهات سبق وأن أقرّ بها دبلوماسيون وعسكريون أمريكيون تقضي بضرورة التفاهم مع إيران حول ملف العراق، خاصة وأن مسؤولي الشعوب المحافظة خيبوا أمل نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني ورفضوا الدخول فيما أسماه أحدهم بـ حرب المائة عام، بل أنهم استدعوا إيران كعضو مراقب في قمة مجلس التعاون الخليجي، أما الأمريكيين فقد عقدوا جولات من المفاوضات المشتركة حول أمن العراق ومستقبله وما يمكن أن تقدمه إيران في سبيل هذه الغاية! وفي هذا السياق بالذات من الصعب فهم زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى العراق واستضافته في قلب المنطقة الخضراء ببغداد بعيدا عن التفاهمات الأمنية الأمريكية الإيرانية.
إذن القوة الذكية قد تفصح عن المزيد من التحالفات والسياسات في المنطقة والعالم، أما أنها ذكية فلأن السياسة الأمريكية لم تكن تؤمن بغير فرض إرادتها السياسية على العالم بمن فيهم حلفائها، ولم تكن ترى غير الآلة العسكرية أداة في تحقيق أهدافها، ولما فشلت اضطرت إلى التراجع خطوة كي تعيد ترتيب أوراقها من جديد. ولمزيد من الفهم لا بد من الانتباه إلى أن مشروع القوة الذكية برمته هو مشروع آني، بمعنى أنه لا تغير في الاستراتيجيات والمشروع الأمريكي بقدر ما هو احتواء للإخفاقات فرضتها ظروف وعقبات تستدعي التعامل معها بحذر وذكاء! ولا شك أن الولايات المتحدة تعلمت من حربي العراق وأفغانستان الكثير، ولعلها اقتنعت أخيرا أن الأشجار الباسقة يمكن أن تنحني ريثما تمر العاصفة، فإن فعلت فهي ثقافة جديدة في السياسة الأمريكية ستكون أخطر على المنطقة من ذي قبل، لكن إذا كابرت وانحنت واقفة فستكون أشبه بالنعامة التي تضع رأسها في التراب لتحمي جسدها، وحينها ستواجه المزيد من العقبات.
يتبع …
تعليق