استعراض أدلة طاعة الحاكم
يحتج بعض المدافعين عن شرعية الأنظمة بما يصفونه بأنه أدلّة شرعية في طاعة الإمام، ولكن ليس من منهج أهل السنة بتر الأدلّة أو الاحتجاج ببعضها دون بعض، بل منهجهم إعمال الأدلة جميعاً، والجمع ما بين كل ما صحّ في الكتاب والسنة ثبوتاً ودلالة، لدفع التعارض المُتوهّم بين الأدلة ولتجنّب إهمال أي لفظ في القرآن والسنة، فكل ما جاء في القرآن والسنة نحن ملزمون باتباعه والعمل به مع ملاحظة الاستثناءات المتفق عليها بين الأصوليين كالنسخ والتخصيص والتقييد، والذين يحتجون بنصف حديث أو بحديث مع وجود ما يخصّصه أو يقيّده، فهم من جنس الذين يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه والذين يكتمون ما أنزل الله، والذين يحرّفون الكلم عن مواضعه إذا تعمّدوا ذلك، وإذا لم يتعمّدوا فهم جهلة لا يعرفون كيف يعمل بالدليل الشرعي، ولا يجوز الأخذ بأقوالهم ولا بفتاويهم، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: (... ومدار الغلط إنما هوعلى حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت ...) وأضاف قائلا:ً (... فشأن الراسخين في العلم تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضاً كأعضاء الإنسان إذا صور صورة مثمرة ...) ثم قال: (... وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما ـ أي دليل كان ـ عفواً أو أخذاً أولياً ، وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي، فكان العضو الواحد (أي الدليل الواحد) لا يعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكماً حقيقياً فمتبعه متبع المتشابه، ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ ...)، ثم قال: (... من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها، وبالعمومات من غير تأمل هل لها مخصصات أم لا؟ وكذلك العكس بأن يكون النص مقيداً فيطلق، أو خاصاً فيعمّ بالرأي من غير دليل سواه، فإن هذه المسالك رمي في عماية واتباع الهوى في الدليل ...)(2).
وعملاً بهذا المنهج يمكن استعراض الأدلـــــة الــــواردة في تلك المسألــة والقواعد الشرعية المرتبطة بها:
ففي القرآن يقول تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، ثم يقول سبحانه في العبارة التي تليها "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" (النساء، 59).
وأما الأحاديث فقد جاءت في ثلاث مجموعات، الأولى يفهم من ظاهرها الطاعة المطلقة للحاكم وتحمّل ظلمه وغشمه، والثانية يفهم منها نزع طاعة الحاكم إذا عصى الله، كما يفهم منها الحث على جهاد الأمراء العصاة باليد، والمجموعة الثالثة فيها الأمر بالطاعة بشرط معيّن حدّدته تلك الأحاديث.
المجموعة الاولى والتي يفهم من ظاهرها الطاعة المطلقة للحاكم وتحمّل ظلمه وغشمه
فمن المجموعة الأولى ما روي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"(3)، والحديث المروي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع"(4).
المجموعة الثانية والتي يفهم منها نزع طاعة الحاكم إذا عصى الله،
ومن المجموعة الثانية الحديث المروي عن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبيّ بعثه الله قبلي إلا كان له من أمّته حواريون وأصحاب يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"(5)، قال ابن رجب الحنبلي: (... وهذا يدل على جهاد الأمراء باليد)(6)، ومنها الحديث المروي عن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، قلت يا رسول الله: إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: تسألني يا ابن أم عبد كيف تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله"(7)، وثبت في الحديث أن عبدالله بن عمرو لبس سلاحه وتهيأ لقتال عامل معاوية الذي أرسله معاوية لأخذ أرضه في الطائف، واحتج عبدالله بن عمرو رضي الله عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قُتل من دون ماله مظلوماً فهو شهيد"(8)، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون أمراء من بعدي يأمرون بما تعرفون ويعملون ما تنكرون فليس أولئك عليكم بأئمة"(9).
المجموعة الثالثة والتي فيها الأمر بالطاعة بشرط معيّن حدّدته تلك الأحاديث
المجموعة الثالثة من الأحاديث تجمع بين الأمرين فهي تحثّ على الطاعة وتستثني بحد معين، ومنها ما روي عن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أنه قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان"، وفي رواية: "وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم"(10). والحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله"(11)، ومنها حديث أم الحصين الأحمسية رضي الله تعالى عنها قالت: "حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع .. إلى أن قالت: ثم سمعته يقول: إن أُمّر عليكم عبد مجدع ـ حسبتها قالت أسود ـ يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا"(12)، وفي رواية الترمذي والنسائي سمعته يقول: "يا أيها الناس اتقوا الله وإن أُمّر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله"، والحديث المروي عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين يبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قال: قلنا يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة ... الحديث"(13)
فهذه المجموعة حثّت بشكل شديد على الطاعة، ولكن اشترطت لذلك شروطاً لابدّ من تحقيقها جميعاً حتى تكون الطاعة ديناً يُدان الله به، وإذا تأملت طريقة احتجاج المدافعين عن شرعية النظام رأيت فيها المخالفات الشرعية التالية:
أولاً: احتجاجهم بقوله تعالى: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" (النساء، 59) دون ذكرللعبارة التي تليها، وهذا فيه تجاهل للأمر بالرد لله والرسول عند التنازع والاختلاف، وعن أبي حازم (من أئمة التابعين) أن سليمان بن عبدالملك قال له: ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله "وأولي الأمر منكم" قال أبو حازم: (أليس قد نزعت منكم إذ خالفتم الحق بقوله: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول")(14) (النساء، 59).
ثانياً: الاحتجاج بالمجموعة الأولى من الأحاديث التي تحث على الطاعة المطلقة للحاكم، ومن المعلوم بالضرورة أن طاعة الحاكم لا يمكن أن تكون مطلقة لا من جهة الأمر المطلوب تنفيذه ولا من جهة المطاع، فقد جاءت الأدلة القطعية من الكتاب والسنة وأجمع المسلمون على أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما أجمعوا على أن لا طاعة للحاكم الكافر، فلا يجوز الاحتجاج بهذه الأحاديث مع إهمال المجموعة الثانية التي تقيّدها، والتي تدعو إلى نبذ طاعة من عصى الله بل تدعو إلى جهاده باليد كما قال ابن رجب رحمه الله(15).
ثالثاً: الاحتجاج بالمجموعة الثالثة من الأحاديث بشكل مبتور فتراهم يستدلون بحديث عبادة ويتوقفون عند قوله "وألا ننازع الأمر أهله"، ويتجاهلون قوله: "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان"، ومن المقطوع به أن تبديل الشرائع وسن القوانين المضاهية لشرع الله ومظاهرة المشركين على المسلمين واستحلال الحرام وتحريم الحلال هو من الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، وأما حديث أنس وحديث أم الحصين فقد ورد فيه الاستثناء الصريح بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أقاموا فيكم كتاب الله"، وإقامة كتاب الله تعني كل ما تقدم من الحكم بما أنزل الله ورفع شعائر الإسلام والتمكين لدين الله وهذا هو شرط القبول بالإمامة، وأما حديث عوف بن مالك فقد ورد فيه الاستثناء بقوله صلى الله عليه وسلم "ما أقاموا فيكم الصلاة"، وإذا أُعملت الأدلة مع بعضها البعض يتبين أن المقصود بقوله "ما أقاموا فيكم الصلاة" يعني ما أقاموا فيكم الدين لأن الصلاة عمود الدين، ولأن الأحاديث الأخرى تفسر ذلك الحديث، وهو الأليق بكلام سيد الفصحاء صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مثل قوله: "الحج عرفة"، مع علمنا بالاضطرار من دين الإسلام ببطلان حج من حضر عرفة ثم انصرف من غير أداء بقية الأركان كطواف الإفاضة مثلاً.
بناء على ذلك تسقط شرعية النظام الذي يظهر فيه الكفر البواح، وكذلك النظام الذي لا يمكّن من إقامة الصلاة، كما تسقط شرعية الحاكم الذي لا يصلي. هذا من جهة إعمال الأدلة جميعاً، أما من جهة استحضار قواعد ومقاصد الشريعة فلا يُعقل أبداً أن يدعو الإسلام لإقامة الإمامة الشرعيــة ويجعــل الحــكم بمــا أنــزل الله ورفع شعائــــر الإســـلام وتمكيــن دين الله في الأرض من أركان الإمامة في الإسلام ثم يعتبر بعد ذلك الـــذي أخـــل بتلك الأركان من أساسها أو عطّلها إماماً شرعياً.
والذين يجادلون في شرعية النظام ويصرون على ذلك رغم كل هذه الأدلة الشرعية والواقعية، فإن كانوا يعتبرون عملهم هذا اجتهاداً شرعياً فأقل ما يطالبون به أن يعتبروا من خالفهم قد اجتهد اجتهاداً شرعياً وليسعهم ما وسع إمام أهل السنة أحمد بن حنبل حيث وقف تجاه الشيخ أحمد بن نصر الخزاعي موقف الرجال فلم ينتقده ولم يشنّع عليه، رغم اختلافه معه في الخروج على الإمام بل أثنى عليه بقوله: (رحمه الله ما أسخاه لقد جاد بنفسه)(16)، هذا مع أن أحمد بن نصر خرج خروجاً مسلحاً ولم يتوقّف فقط عند القول بعدم الشرعية، ومع أن مخالفات الحاكم في ذلك الزمان لم تبلغ عشر معشار نظام الحكام في هذا الزمان.
الهوامش
1)ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، 2/288.
2) الشاطبي، الاعتصام، 1/244-246.
3) رواه مسلم
4) متفق عليه.
5) رواه مسلم .
6) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، ص304.
7) رواه ابن ماجه، وأخرجه أحمد والطبراني، والبيهقي بألفاظ متقاربة وصحح الحديث كلاً من أحمد شاكر والألباني.
8) رواه مسلم .
9) أخرجه الطبراني بإسناد جيد .
10)الحديث متفق عليه .
11) رواه البخاري .
12) رواه مسلم والترمذي والنسائي.
13) رواه مسلم .
14) انظر البحر المحيط، 39/278.
15) انظر ابن رجب ، جامع العلوم والحكم ، 304.
16) ابن كثير، البداية والنهاية، 10/304.
يحتج بعض المدافعين عن شرعية الأنظمة بما يصفونه بأنه أدلّة شرعية في طاعة الإمام، ولكن ليس من منهج أهل السنة بتر الأدلّة أو الاحتجاج ببعضها دون بعض، بل منهجهم إعمال الأدلة جميعاً، والجمع ما بين كل ما صحّ في الكتاب والسنة ثبوتاً ودلالة، لدفع التعارض المُتوهّم بين الأدلة ولتجنّب إهمال أي لفظ في القرآن والسنة، فكل ما جاء في القرآن والسنة نحن ملزمون باتباعه والعمل به مع ملاحظة الاستثناءات المتفق عليها بين الأصوليين كالنسخ والتخصيص والتقييد، والذين يحتجون بنصف حديث أو بحديث مع وجود ما يخصّصه أو يقيّده، فهم من جنس الذين يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه والذين يكتمون ما أنزل الله، والذين يحرّفون الكلم عن مواضعه إذا تعمّدوا ذلك، وإذا لم يتعمّدوا فهم جهلة لا يعرفون كيف يعمل بالدليل الشرعي، ولا يجوز الأخذ بأقوالهم ولا بفتاويهم، قال الإمام الشاطبي رحمه الله: (... ومدار الغلط إنما هوعلى حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت ...) وأضاف قائلا:ً (... فشأن الراسخين في العلم تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضاً كأعضاء الإنسان إذا صور صورة مثمرة ...) ثم قال: (... وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما ـ أي دليل كان ـ عفواً أو أخذاً أولياً ، وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي، فكان العضو الواحد (أي الدليل الواحد) لا يعطي في مفهوم أحكام الشريعة حكماً حقيقياً فمتبعه متبع المتشابه، ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ ...)، ثم قال: (... من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها، وبالعمومات من غير تأمل هل لها مخصصات أم لا؟ وكذلك العكس بأن يكون النص مقيداً فيطلق، أو خاصاً فيعمّ بالرأي من غير دليل سواه، فإن هذه المسالك رمي في عماية واتباع الهوى في الدليل ...)(2).
وعملاً بهذا المنهج يمكن استعراض الأدلـــــة الــــواردة في تلك المسألــة والقواعد الشرعية المرتبطة بها:
ففي القرآن يقول تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، ثم يقول سبحانه في العبارة التي تليها "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" (النساء، 59).
وأما الأحاديث فقد جاءت في ثلاث مجموعات، الأولى يفهم من ظاهرها الطاعة المطلقة للحاكم وتحمّل ظلمه وغشمه، والثانية يفهم منها نزع طاعة الحاكم إذا عصى الله، كما يفهم منها الحث على جهاد الأمراء العصاة باليد، والمجموعة الثالثة فيها الأمر بالطاعة بشرط معيّن حدّدته تلك الأحاديث.
المجموعة الاولى والتي يفهم من ظاهرها الطاعة المطلقة للحاكم وتحمّل ظلمه وغشمه
فمن المجموعة الأولى ما روي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"(3)، والحديث المروي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع"(4).
المجموعة الثانية والتي يفهم منها نزع طاعة الحاكم إذا عصى الله،
ومن المجموعة الثانية الحديث المروي عن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبيّ بعثه الله قبلي إلا كان له من أمّته حواريون وأصحاب يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"(5)، قال ابن رجب الحنبلي: (... وهذا يدل على جهاد الأمراء باليد)(6)، ومنها الحديث المروي عن عبدالله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، قلت يا رسول الله: إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: تسألني يا ابن أم عبد كيف تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله"(7)، وثبت في الحديث أن عبدالله بن عمرو لبس سلاحه وتهيأ لقتال عامل معاوية الذي أرسله معاوية لأخذ أرضه في الطائف، واحتج عبدالله بن عمرو رضي الله عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قُتل من دون ماله مظلوماً فهو شهيد"(8)، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون أمراء من بعدي يأمرون بما تعرفون ويعملون ما تنكرون فليس أولئك عليكم بأئمة"(9).
المجموعة الثالثة والتي فيها الأمر بالطاعة بشرط معيّن حدّدته تلك الأحاديث
المجموعة الثالثة من الأحاديث تجمع بين الأمرين فهي تحثّ على الطاعة وتستثني بحد معين، ومنها ما روي عن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أنه قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان"، وفي رواية: "وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم"(10). والحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله"(11)، ومنها حديث أم الحصين الأحمسية رضي الله تعالى عنها قالت: "حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع .. إلى أن قالت: ثم سمعته يقول: إن أُمّر عليكم عبد مجدع ـ حسبتها قالت أسود ـ يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا"(12)، وفي رواية الترمذي والنسائي سمعته يقول: "يا أيها الناس اتقوا الله وإن أُمّر عليكم عبد حبشي مجدع فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله"، والحديث المروي عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين يبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قال: قلنا يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة ... الحديث"(13)
فهذه المجموعة حثّت بشكل شديد على الطاعة، ولكن اشترطت لذلك شروطاً لابدّ من تحقيقها جميعاً حتى تكون الطاعة ديناً يُدان الله به، وإذا تأملت طريقة احتجاج المدافعين عن شرعية النظام رأيت فيها المخالفات الشرعية التالية:
أولاً: احتجاجهم بقوله تعالى: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" (النساء، 59) دون ذكرللعبارة التي تليها، وهذا فيه تجاهل للأمر بالرد لله والرسول عند التنازع والاختلاف، وعن أبي حازم (من أئمة التابعين) أن سليمان بن عبدالملك قال له: ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله "وأولي الأمر منكم" قال أبو حازم: (أليس قد نزعت منكم إذ خالفتم الحق بقوله: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول")(14) (النساء، 59).
ثانياً: الاحتجاج بالمجموعة الأولى من الأحاديث التي تحث على الطاعة المطلقة للحاكم، ومن المعلوم بالضرورة أن طاعة الحاكم لا يمكن أن تكون مطلقة لا من جهة الأمر المطلوب تنفيذه ولا من جهة المطاع، فقد جاءت الأدلة القطعية من الكتاب والسنة وأجمع المسلمون على أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، كما أجمعوا على أن لا طاعة للحاكم الكافر، فلا يجوز الاحتجاج بهذه الأحاديث مع إهمال المجموعة الثانية التي تقيّدها، والتي تدعو إلى نبذ طاعة من عصى الله بل تدعو إلى جهاده باليد كما قال ابن رجب رحمه الله(15).
ثالثاً: الاحتجاج بالمجموعة الثالثة من الأحاديث بشكل مبتور فتراهم يستدلون بحديث عبادة ويتوقفون عند قوله "وألا ننازع الأمر أهله"، ويتجاهلون قوله: "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان"، ومن المقطوع به أن تبديل الشرائع وسن القوانين المضاهية لشرع الله ومظاهرة المشركين على المسلمين واستحلال الحرام وتحريم الحلال هو من الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، وأما حديث أنس وحديث أم الحصين فقد ورد فيه الاستثناء الصريح بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أقاموا فيكم كتاب الله"، وإقامة كتاب الله تعني كل ما تقدم من الحكم بما أنزل الله ورفع شعائر الإسلام والتمكين لدين الله وهذا هو شرط القبول بالإمامة، وأما حديث عوف بن مالك فقد ورد فيه الاستثناء بقوله صلى الله عليه وسلم "ما أقاموا فيكم الصلاة"، وإذا أُعملت الأدلة مع بعضها البعض يتبين أن المقصود بقوله "ما أقاموا فيكم الصلاة" يعني ما أقاموا فيكم الدين لأن الصلاة عمود الدين، ولأن الأحاديث الأخرى تفسر ذلك الحديث، وهو الأليق بكلام سيد الفصحاء صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مثل قوله: "الحج عرفة"، مع علمنا بالاضطرار من دين الإسلام ببطلان حج من حضر عرفة ثم انصرف من غير أداء بقية الأركان كطواف الإفاضة مثلاً.
بناء على ذلك تسقط شرعية النظام الذي يظهر فيه الكفر البواح، وكذلك النظام الذي لا يمكّن من إقامة الصلاة، كما تسقط شرعية الحاكم الذي لا يصلي. هذا من جهة إعمال الأدلة جميعاً، أما من جهة استحضار قواعد ومقاصد الشريعة فلا يُعقل أبداً أن يدعو الإسلام لإقامة الإمامة الشرعيــة ويجعــل الحــكم بمــا أنــزل الله ورفع شعائــــر الإســـلام وتمكيــن دين الله في الأرض من أركان الإمامة في الإسلام ثم يعتبر بعد ذلك الـــذي أخـــل بتلك الأركان من أساسها أو عطّلها إماماً شرعياً.
والذين يجادلون في شرعية النظام ويصرون على ذلك رغم كل هذه الأدلة الشرعية والواقعية، فإن كانوا يعتبرون عملهم هذا اجتهاداً شرعياً فأقل ما يطالبون به أن يعتبروا من خالفهم قد اجتهد اجتهاداً شرعياً وليسعهم ما وسع إمام أهل السنة أحمد بن حنبل حيث وقف تجاه الشيخ أحمد بن نصر الخزاعي موقف الرجال فلم ينتقده ولم يشنّع عليه، رغم اختلافه معه في الخروج على الإمام بل أثنى عليه بقوله: (رحمه الله ما أسخاه لقد جاد بنفسه)(16)، هذا مع أن أحمد بن نصر خرج خروجاً مسلحاً ولم يتوقّف فقط عند القول بعدم الشرعية، ومع أن مخالفات الحاكم في ذلك الزمان لم تبلغ عشر معشار نظام الحكام في هذا الزمان.
الهوامش
1)ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، 2/288.
2) الشاطبي، الاعتصام، 1/244-246.
3) رواه مسلم
4) متفق عليه.
5) رواه مسلم .
6) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، ص304.
7) رواه ابن ماجه، وأخرجه أحمد والطبراني، والبيهقي بألفاظ متقاربة وصحح الحديث كلاً من أحمد شاكر والألباني.
8) رواه مسلم .
9) أخرجه الطبراني بإسناد جيد .
10)الحديث متفق عليه .
11) رواه البخاري .
12) رواه مسلم والترمذي والنسائي.
13) رواه مسلم .
14) انظر البحر المحيط، 39/278.
15) انظر ابن رجب ، جامع العلوم والحكم ، 304.
16) ابن كثير، البداية والنهاية، 10/304.
تعليق