مهمة إنقاذ الجيش// خالد بن الوليد بقلم الشيخ/ عبد الله الشامي
وقع جيش المسلمين الذي أرسله رسول الله e إلى بلاد الروم، باتجاه مؤتة في السنة الثامنة للهجرة، وقع في مأزق كبير، بعد أن استشهد قواده الثلاثة، الذين عينهم رسول الله e بالترتيب وهم: زيد بن حارثة وقال إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب، فعبد الله بن رواحة على الناس. وكاد الجيش أن يتفرق بعد استشهاد قادته الثلاثة ويحدث مالا يحمد عقباه، خصوصاً أن جيش الروم كان يفوقهم عدداً بفارق كبير جداً، حيث كان يزيد عددهم عن مئتي ألف جندي، في حين أن عدد جيش المسلمين يفارق الثلاثة آلاف مقاتل، يضاف إلى ذلك أن جيش الروم تمكن من سبر قوة المسلمين في الأيام الأولى للقتال، والتي استشهد فيها قادة الجيش الثلاث، بما يعني كسر حاجز الخوف وامتلاك زمام المبادرة من قبل جيش الروم..
وبعد استشهاد آخر القادة عبد الله بن رواحة t، وقبل أن يسقط اللواء، اندفع الصحابي الجليل ثابت بن أقرم t فحمله ورفعه عالياً، ليكون واضحاً يتجمع حوله المسلمين، ورغم أنه ممن شهدوا بدرا، إلا أنه لم يطلبها لنفسه، وإنما اندفع باللواء إلى خالد بن الوليد t، وكان حديث عهد بالإسلام حيث أسلم بعد صلح الحديبية.
فقال له: خذ اللواء أبا سليمان.. ويتضح أنه t يعرف معادن الرجال وقدراتهم ويؤثر المصلحة العليا على المصلحة الشخصية.. حيث يعرف قدرة خالد العسكرية، ودرايته الكبيرة بالأعمال الحربية.
فرد عليه خالد t: لا ... لا آخذ اللواء، أنت أحق به، ولك سن، وقد شهدت بدرا.. يا للتواضع والأدب وتقدير الأسبقية في الإسلام واحترام كبر السن.
فأجابه ثابت t: خذه أنت أدرى بالقتال مني، ووالله ما أخذته إلا لك.. ثم نادى في المسلمين.. أترضون إمرة خلد؟ فأجابوا: نعم...
إنها مهمة صعبة وصعبة جداً يا أبا سليمان، ولكنك أهل لها بكل تأكيد.. وسط هذا الجو المرعب، ووسط هذا الفارق الكبير في العدد والعدة، ووسط أن انتصار الروم بات واضحاً للعيان.. تلقى هذه المهمة على كاهل خالد بن الوليد حديث العهد بالإسلام، لكنها الأمانة تلقى على كاهل أهلها وقت الشدائد، وأهلها لا يتخلون عنها حينما توضع على أكتافهم، ومن للمهمة؟ إن لم يكن لها أبا سليمان.. فقبلها خالد t.. ليقول النبي e بعد أن أخبر أصحابه باستشهاد القادة الثلاث.. "أخذ الراية سيف من سيوف الله، ففتح الله على يديه" فما طبيعة هذا الفتح؟.. أعتقد أنها تتمثل في الخروج بجيش المسلمين من هذا المأزق الكبير بأقل الخسائر الممكنة، لأنه بإمكان جيش الروم أن يحيط بجيش المسلمين إحاطة السوار بالمعصم، ولا يترك أحداً منهم يخرج حياً للفارق الكبير في العدد..
هنا برزت عبقرية خالد t، بعد أن تفحص المكان جيداً، وأجرى التغيرات المناسبة على أماكن تمركز قواته بأن بدل الميمنة بالميسرة والمقدمة بالمؤخرة، وأرسل كوكبة من المسلمين لإثارة الغبار في المؤخرة ليوهم الأعداء بأن مدداً قد جاء للمسلمين، هذه الإجراءات كان لها أثرها على جيش الروم، ومن ناحية أخرى قرر خالد t الانسحاب بالجيش من أرض المعركة، لعدم وجود أي إمكانية لهزيمة جيش الروم بهذا العدد القليل من المسلمين، لكن العدو إذا ما استشعر هذه الرغبة لدى المسلمين، فهذا سيغريه أكثر بتشديد هجومه، لكن خالد t عمل على خداعه بالإجراءات التي اتخذها، ثم عمد إلى مهاجمة جيش الروم بأحد أجنحة الجيش والانسحاب بالباقي إلى الخلف، حتى تمكن من الانسحاب من أرض المعركة والعودة بالجيش إلى المدينة، ورغم هذا الفعل البطولي من فبل خالد t، إلا أنه قوبل هو وجيش المسلمين باللوم والاتهام بالفرار من أرض المعركة، وأخذ الناس يحثون في وجوههم التراب، ويقولون يا فرار، فررتم من ارض المعركة.. لأنهم تربوا على الثبات والتضحية، وغرست في وجدانهم ثقافة عدم التولي، وما عند الله خير وأبقى.. لكن الرسول المعلم، والقائد الفذ، أدرك ببصيرته الثاقبة أبعاد الفعل البطولي الذي قام به خالد والمسلمون معه، فنفى عنهم تهمة الفرار، وأثبت لهم الصفة المعاكسة للفرار، وهي الكر، كما قال e: "ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله". وهكذا نجد أن المهمات الصعبة تلقى على أصحابها من غير أن يكون لهم رغبة فيها، حيث على قدر أهل العزم تأتي العزائم، وإذا ما ألقيت إليهم يقومون بها على أكمل وجه، وذكرنا لهذه المهمة لا يعني أنها الوحيدة في حياة خالد t، فحياته العامرة بالجهاد مليئة بمثل هذه المهام، نذكر منه على وجه السرعة، سرعة تحوله من بلاد الفرس حيث الانتصارات المذهلة عليهم، إلى بلاد الشام بأمر من الخليفة أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، ليشد أزر إخوانه هناك في مواجهة الروم، الذي تجمع ليخوض حرباً فاصلة مع المسلمين في اليرموك، وجمع لها ما يقارب الربع مليون مقاتل، ورغم طول المسافة، ووعرة الطريق، وقلة موارد المياه فيها، يضاف إلى ذلك ضيق الوقت، إلا أن خالداً رضوان الله عليه بعبقريته الفذة، تمكن من اجتياز المسافة بالسرعة الكافية وبفعل عبقري مبدع، ليصل إلى أرض المعركة قبل نشوبها، ويعمد إلى ترتيب جيش المسلمين وتوزيع المهام، واقترح توزيع مهام القيادة بين قادة الجند المجتمعين في أرض المعركة، كل منهم يقود الجيش يوما، حتى يقضي على وساوس النفس ويسد الطرق على مسارب الشيطان، وكانت المعركة وكان الانتصار المدوي للمسلمين رغم قلة العدد والعدة ولكنها إرادة الله وفعله وجرأة المسلمين وثباتهم ورغبتهم في فتح السبل أمام نشر دين الله في الأرض..
فأين أنتم يا رجالات الإسلام، لتعيدوا لنا أمجاد خالد بن الوليد من جديد، فوالله إن الإسلام اليوم لفي حاجة ماسة لمثل هؤلاء الرجال ليقوموا بالمهمات الصعبة، بلا تردد، ولا خوف..
تعليق