[ ( الخلود ) .. بين العلم والإيمان ]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..أما بعد :
قال تعالى : {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيرًا}(15) سورة الفرقان
{ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ }(28) سورة فصلت
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} (122) سورة النساء
{وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} (128) سورة الأنعام
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}(58) سورة العنكبوت
والخلد هنا وكما ورد في المنجد في اللغة والإعلام، يعني أنه ( الدوام والبقاء ) .. أي عدم الفناء والنفاذ والانتهاء، فلا نهاية للخلود، الذي يعني الحياة الأبدية التي لا تعترف بإصطلاح الموت والفناء .. والخلود هنا في هذا المقام الذي نتناوله من باب العلم والإيمان، يستوجب منا وضع هذا الاصطلاح المعبر عن حالة لم يعهدها الأنام من إنس وجان في الحياة الدنيا على الإطلاق، على ميزان القرآن الكريم وما ينسجم معه من علوم الكوزمولوجيا ( الكون ) والطبيعة والفيزياء والفلك، لنقف على حقيقة ( الخلد ) المقصود في القرآن الكريم، ونعطيه تعريفا واضحا معبرا سليما خاليا من أي اقتباس أو تقدير، وإنما تعريفا علميا إيمانيا يقينيا ثابتا . فإذا نظرنا للخلود من باب القرآن الكريم وما اتفق معه من العلم الحديث فهو يعني .. البقاء والدوام والاستمرار وعدم الانتهاء أو الفناء أو التوقف ... وبعبارة أخرى يعني الحياة الأبدية، التي لا تعترف بناموس الموت والانتهاء .. فالخلود الأبدي هنا ( الخاص بعالم البشر )، هو الذي كان له بداية ولم و لن تكن له نهاية، على خلاف الأزل الذي لم يكن له بداية، فما بين الأزل والأبد تكمن قصتنا نحن الأنام من إنس وجان، فالله ربنا الواحد الديان الخالق هو ربا أزليا كان من حيث لا بداية وسيبقى الى ما لا نهاية ... أما هذا الكون وما به من مخلوقات عاقلة أو جامدة، فإنها من ذوات البداية لأنها ناتجة عن خالق ( الله ) فهي لن تكون أزلية وإنما ستكون أبدية حسب أعراف الحياة الآخرة، فهذه الأفلاك والأجرام الكونية وما بها أبعادها وإحصاءاتها ... فلكل كون ومجرة وجرم حساباته الخاصة من حيث السباحة في الفضاء والفلك، فلكل منها ليله ونهاره وعامه حسب موقعه وحجمه وسرعته .. ولهذا تجد علوم الفلك والفضاء الخارجي أوضحت ماهية هذا التباين في الأزمان والأيام والشهور والسنون واختلافها من مكان كوني إلى آخر .... فهذا كوكبنا الأرضي الأزرق والذي يبلغ قطره ( 12736 ) كم . يحتاج إلى 365 يوميا ليكمل دورته حول الشمس، وهذه المدة هي ما يعرف لدينا بالعام أو السنة الأرضية، وكوكبنا هذا هو واحد من 9 أو 10 كواكب أخرى تدور حول النجم الشمسي البالغ قطره (1.360.000) كم والذي يبعد عن أرضنا حوالي 150 مليون كم، مع أن كوكبنا يعتبر الكوكب الثالث من حيث البعد عن النجم الشمسي بعد عطارد والزهرة ثم يليه المريخ والمشتري وزحل وأورانوس ونبتون وبلوتو .. وبلوتو هذا يعتبر التاسع في النظام الشمسي والأبعد تقريبا بحيث أنه يحتاج إلى 248 سنة أرضية من سنيننا ليكمل دورته حول الشمس، وهي المدة التي تعرف بالسنة البلوتية .. وهذه المجموعة الشمسية تعتبر نقطة صغيرة في مجرتنا ( مجرة درب التبانة ) والتي تحتوي على أكثر من 200 بليون نجم وجرم سماوي، وهي تبدو عبارة عن قرص يتوسطه انتفاخ دخاني متراكم ( نواة المجرة ومركزها ) الذي تدور حوله كل نجوم ومجموعات وكواكب المجرة، ومن هذه النواة يتفرع ذراعان لولبيان كبيران يلفان نواة المجرة التي نستطيع رؤيتها بوضوح في فصل الصيف أثناء صفاء السماء على شكل خط دخاني ممتد من الشمال إلى الجنوب، وعلى هذا المركز تدور مجموعتنا الشمسية في حركة مركبه، بحيث يدور كوكبنا على نفسه وحول الشمس كما الشمس ومجموعتها معها تدور على نفسها وحول مركز المجرة لتنهي دورتها حول المركز كل 250 مليون سنه أرضية، وهو ما يعرف بالسنة المجرية . ومما يذكر أن هذه المجرة تمتد طولا قدره العلماء بما يقرب من 100000 سنة ضوئية و سمكها 20000 سنة ضوئية وتقع شمسنا على بعد 25000 سنه ضوئية عن المركز . ومما يعرف أن السنة الضوئية تساوي 9461 بليون كيلو متر .. وهي تعني ما يقطعه الضوء في سنة .. وسرعة الضوء كما هو معلوم يساوي 300000 كيلو في الثانية .. وهذه مجرتنا تعتبر أيضا نقطة صغيرة في ما يعرف بالمجموعة المحلية، أو العائلة المحلية المجرية .. وهي عبارة عن عدد من المجرات المتقاربة من بعضها أطلق عليها علماء الفلك بالعائلة المحلية، أقرب مجرة منها لمجرتنا هي مجرة ( اندرو ميدا ) والتي تبعد عن مجرتنا 2 مليون سنه ضوئية، ويمكن رؤيتها بالعين المجردة في المشرق مساء عند ابتداء الخريف، وفرق الرأس تقريبا عندما يحل الشتاء، ويبلغ قطرها 120 ألف سنه ضوئية إلا أنها تبدو للناظر وكأنها قمرا بدرا باهتا . فمجرتنا مع الاندروميدا نقطتان في العائلة المحلية كما أسلفنا، وهذه العائلة تدور على مركز لها أيضا يسمى مركز العائلة، حيث أنها تشكل كرة فراغية من الفضاء الكوني يقدر ب 3 مليون سنه ضوئية . كما أن هذه العائلة هي جزء من حشد مكون من عدد كبير من العائلات، يسمى بالحشد الأصغر و يشتمل على أكثر من 3 آلاف مجرة تمت مشاهدتها حتى الآن بالمراصد الفلكية، وهي تشكل كرة فراغيه قطرها ما بين 200 إلى 300 مليون سنه ضوئية ومركزها ( مركز الحشد ) يبعد عنا ما يقرب من 78 مليون سنه ضوئية . و مما هو جدير بالذكر أن هذا الحشد الأصغر هو نقطة صغيرة في الحشد الأوسط والأوسط نقطة في الحشد الأكبر والأكبر نقطة في الأعظم وهكذا نجد أن الكون في اتساع من حيث المكان وتاليا في الزمان ..
{وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (47) سورة الذاريات
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (53) سورة فصلت
{لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}(40) سورة يــس
ومما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما السموات السبع في جنب الكرسي إلا كحلقة في أرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة " وبهذا ندرك مدى كبر وعظمة هذا الكون الذي صنعه وأوجده من هو أعظم منه وأكبر ( الله ) الذي أخبرنا سبحانه أنه سيطلعنا نحن البشر على قدرته باستمرار ما دامت الحياة الدنيا قائمة، ولقد تحدى سبحانه الإنس والجن في إدراك كنه وماهية هذا الكون الفسيح فقال عز من قائل :
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} (33) سورة الرحمن
كما أكد العلماء على أن هناك نجوما وأجراما سماوية لم يصل نورها وضوءها الوضاح الناتج عن الإنفجارات النووية والهيدروجينية الضخمة الهائلة، إلينا إلا قريبا ومنها من يموت نجمه قبل أن يتم وصول الضوء إلينا ونتمكن من رؤيته أو تحديد موقعه على الأقل على الخارطة الفلكية، بالرغم من السرعة الفائقة للضوء كما أسلفنا، وفي هذا يقول الله تعالى في أبعاد هذه النجوم والأجرام من حيث المكان والزمان أيضا :
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَم ٌلَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}(75- 76) الواقعة
وبهذا يتضح لنا علميا وإيمانيا مدى عظم هذا الكون من حيث المادة والحياة والمكان والزمان، فإذا وجدنا أن عام الأرض يساوي 365 يوما، وعام بلوتو 248 سنه أرضية، وعام المجرة 250 مليون و العائلة والحشد وما يليه .. نجد أننا كلما تمدد الكون كلما تغيرت صيغة الزمان من حيث الطول والقصر، فيومنا ليس كيوم أبعد كوكب عنا في هذا الكون الفسيح وفي هذا يقول الله تعالى :
{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (5) سورة السجدة
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (47) سورة الحـج
{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (4) سورة المعارج
ومن هنا يتضح التفسير العلمي المتواضع لما ورد في القرآن الكريم من مقدار أيام الله وأيام الحساب والقيامة وما واكبها، وما سيتلوها من أيام الجنة والنار التي لن تكون كأعوام أرضنا المعرفة .
ومما أورده العلماء وكما ورد في ( كتاب الإنسان بين العلم والإيمان.. لشوقي أبو خليل ) في هذا المضمار من تباطؤ وتسارع الزمن وإمكانية ذلك علميا ( تناقض التوائم .. ويروي هذا المثال) الن هانيك ) قائلا : إذا كان هناك توأمان، وركب أحدهما صاروخا يسير بسرعة الضوء وظل مسافرا بهذه السرعة سنين عديدة، طبقا لقياسات شقيقه التوأم على الأرض، فإنه عند عودته للأرض سوف يبدو أكبر سنا منه عند بدء الرحلة ببضعة أعوام فقط، في حين أن شقيقه التوأم الذي بقي على الأرض، سوف يكون قد أصبح شيخا عجوزا والتناقض هنا هو حدوث ذلك لأحد التوأمين دون الآخر، لماذا ؟ لأن الأول أبطا الزمن عنده الزمن 70000 مرة أما الآخر بقي الزمن عنده عاديا . وفي هذا المثال في النسبية يثبت لنا فكرة الخلود، لأن الإنسان إن سار بسرعة الضوء تماما توقف الزمن عنده وإذا توقف الزمن وتلاشت فكرة مروره تحقق الخلود !!
{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (117) سورة البقرة
، وبالرغم من هذا التباعد والاتساع في الزمان والمكان للكون السحيق البعيد الذي أعجز عقول البشر عن إدراك أبعاده يتحدى رب العزة كبراء الأرض من إنس وجان ويؤكد لهم أن للكون هذا نهاية لا يعرفون كنهها ولا ماهيتها، إنها سدرة المنتهى التي أراها الله لنبيه ورسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ليلة الإسراء والمعراج عام 621 م في 27 رجب ..
﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾
سورة النجم من آية 7 إلى آية 15.
وفوق هذا كله العرش ومن فوقه مشتملا عليه الكرسي كما ورد في قوله تعالى : {اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (255) سورة البقرة
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) (22) سورة القمر
أخوكم / أبو خالد السياف
بيت المقدس
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..أما بعد :
قال تعالى : {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيرًا}(15) سورة الفرقان
{ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ }(28) سورة فصلت
{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} (122) سورة النساء
{وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} (128) سورة الأنعام
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}(58) سورة العنكبوت
والخلد هنا وكما ورد في المنجد في اللغة والإعلام، يعني أنه ( الدوام والبقاء ) .. أي عدم الفناء والنفاذ والانتهاء، فلا نهاية للخلود، الذي يعني الحياة الأبدية التي لا تعترف بإصطلاح الموت والفناء .. والخلود هنا في هذا المقام الذي نتناوله من باب العلم والإيمان، يستوجب منا وضع هذا الاصطلاح المعبر عن حالة لم يعهدها الأنام من إنس وجان في الحياة الدنيا على الإطلاق، على ميزان القرآن الكريم وما ينسجم معه من علوم الكوزمولوجيا ( الكون ) والطبيعة والفيزياء والفلك، لنقف على حقيقة ( الخلد ) المقصود في القرآن الكريم، ونعطيه تعريفا واضحا معبرا سليما خاليا من أي اقتباس أو تقدير، وإنما تعريفا علميا إيمانيا يقينيا ثابتا . فإذا نظرنا للخلود من باب القرآن الكريم وما اتفق معه من العلم الحديث فهو يعني .. البقاء والدوام والاستمرار وعدم الانتهاء أو الفناء أو التوقف ... وبعبارة أخرى يعني الحياة الأبدية، التي لا تعترف بناموس الموت والانتهاء .. فالخلود الأبدي هنا ( الخاص بعالم البشر )، هو الذي كان له بداية ولم و لن تكن له نهاية، على خلاف الأزل الذي لم يكن له بداية، فما بين الأزل والأبد تكمن قصتنا نحن الأنام من إنس وجان، فالله ربنا الواحد الديان الخالق هو ربا أزليا كان من حيث لا بداية وسيبقى الى ما لا نهاية ... أما هذا الكون وما به من مخلوقات عاقلة أو جامدة، فإنها من ذوات البداية لأنها ناتجة عن خالق ( الله ) فهي لن تكون أزلية وإنما ستكون أبدية حسب أعراف الحياة الآخرة، فهذه الأفلاك والأجرام الكونية وما بها أبعادها وإحصاءاتها ... فلكل كون ومجرة وجرم حساباته الخاصة من حيث السباحة في الفضاء والفلك، فلكل منها ليله ونهاره وعامه حسب موقعه وحجمه وسرعته .. ولهذا تجد علوم الفلك والفضاء الخارجي أوضحت ماهية هذا التباين في الأزمان والأيام والشهور والسنون واختلافها من مكان كوني إلى آخر .... فهذا كوكبنا الأرضي الأزرق والذي يبلغ قطره ( 12736 ) كم . يحتاج إلى 365 يوميا ليكمل دورته حول الشمس، وهذه المدة هي ما يعرف لدينا بالعام أو السنة الأرضية، وكوكبنا هذا هو واحد من 9 أو 10 كواكب أخرى تدور حول النجم الشمسي البالغ قطره (1.360.000) كم والذي يبعد عن أرضنا حوالي 150 مليون كم، مع أن كوكبنا يعتبر الكوكب الثالث من حيث البعد عن النجم الشمسي بعد عطارد والزهرة ثم يليه المريخ والمشتري وزحل وأورانوس ونبتون وبلوتو .. وبلوتو هذا يعتبر التاسع في النظام الشمسي والأبعد تقريبا بحيث أنه يحتاج إلى 248 سنة أرضية من سنيننا ليكمل دورته حول الشمس، وهي المدة التي تعرف بالسنة البلوتية .. وهذه المجموعة الشمسية تعتبر نقطة صغيرة في مجرتنا ( مجرة درب التبانة ) والتي تحتوي على أكثر من 200 بليون نجم وجرم سماوي، وهي تبدو عبارة عن قرص يتوسطه انتفاخ دخاني متراكم ( نواة المجرة ومركزها ) الذي تدور حوله كل نجوم ومجموعات وكواكب المجرة، ومن هذه النواة يتفرع ذراعان لولبيان كبيران يلفان نواة المجرة التي نستطيع رؤيتها بوضوح في فصل الصيف أثناء صفاء السماء على شكل خط دخاني ممتد من الشمال إلى الجنوب، وعلى هذا المركز تدور مجموعتنا الشمسية في حركة مركبه، بحيث يدور كوكبنا على نفسه وحول الشمس كما الشمس ومجموعتها معها تدور على نفسها وحول مركز المجرة لتنهي دورتها حول المركز كل 250 مليون سنه أرضية، وهو ما يعرف بالسنة المجرية . ومما يذكر أن هذه المجرة تمتد طولا قدره العلماء بما يقرب من 100000 سنة ضوئية و سمكها 20000 سنة ضوئية وتقع شمسنا على بعد 25000 سنه ضوئية عن المركز . ومما يعرف أن السنة الضوئية تساوي 9461 بليون كيلو متر .. وهي تعني ما يقطعه الضوء في سنة .. وسرعة الضوء كما هو معلوم يساوي 300000 كيلو في الثانية .. وهذه مجرتنا تعتبر أيضا نقطة صغيرة في ما يعرف بالمجموعة المحلية، أو العائلة المحلية المجرية .. وهي عبارة عن عدد من المجرات المتقاربة من بعضها أطلق عليها علماء الفلك بالعائلة المحلية، أقرب مجرة منها لمجرتنا هي مجرة ( اندرو ميدا ) والتي تبعد عن مجرتنا 2 مليون سنه ضوئية، ويمكن رؤيتها بالعين المجردة في المشرق مساء عند ابتداء الخريف، وفرق الرأس تقريبا عندما يحل الشتاء، ويبلغ قطرها 120 ألف سنه ضوئية إلا أنها تبدو للناظر وكأنها قمرا بدرا باهتا . فمجرتنا مع الاندروميدا نقطتان في العائلة المحلية كما أسلفنا، وهذه العائلة تدور على مركز لها أيضا يسمى مركز العائلة، حيث أنها تشكل كرة فراغية من الفضاء الكوني يقدر ب 3 مليون سنه ضوئية . كما أن هذه العائلة هي جزء من حشد مكون من عدد كبير من العائلات، يسمى بالحشد الأصغر و يشتمل على أكثر من 3 آلاف مجرة تمت مشاهدتها حتى الآن بالمراصد الفلكية، وهي تشكل كرة فراغيه قطرها ما بين 200 إلى 300 مليون سنه ضوئية ومركزها ( مركز الحشد ) يبعد عنا ما يقرب من 78 مليون سنه ضوئية . و مما هو جدير بالذكر أن هذا الحشد الأصغر هو نقطة صغيرة في الحشد الأوسط والأوسط نقطة في الحشد الأكبر والأكبر نقطة في الأعظم وهكذا نجد أن الكون في اتساع من حيث المكان وتاليا في الزمان ..
{وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (47) سورة الذاريات
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (53) سورة فصلت
{لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}(40) سورة يــس
ومما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما السموات السبع في جنب الكرسي إلا كحلقة في أرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة " وبهذا ندرك مدى كبر وعظمة هذا الكون الذي صنعه وأوجده من هو أعظم منه وأكبر ( الله ) الذي أخبرنا سبحانه أنه سيطلعنا نحن البشر على قدرته باستمرار ما دامت الحياة الدنيا قائمة، ولقد تحدى سبحانه الإنس والجن في إدراك كنه وماهية هذا الكون الفسيح فقال عز من قائل :
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} (33) سورة الرحمن
كما أكد العلماء على أن هناك نجوما وأجراما سماوية لم يصل نورها وضوءها الوضاح الناتج عن الإنفجارات النووية والهيدروجينية الضخمة الهائلة، إلينا إلا قريبا ومنها من يموت نجمه قبل أن يتم وصول الضوء إلينا ونتمكن من رؤيته أو تحديد موقعه على الأقل على الخارطة الفلكية، بالرغم من السرعة الفائقة للضوء كما أسلفنا، وفي هذا يقول الله تعالى في أبعاد هذه النجوم والأجرام من حيث المكان والزمان أيضا :
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَم ٌلَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}(75- 76) الواقعة
وبهذا يتضح لنا علميا وإيمانيا مدى عظم هذا الكون من حيث المادة والحياة والمكان والزمان، فإذا وجدنا أن عام الأرض يساوي 365 يوما، وعام بلوتو 248 سنه أرضية، وعام المجرة 250 مليون و العائلة والحشد وما يليه .. نجد أننا كلما تمدد الكون كلما تغيرت صيغة الزمان من حيث الطول والقصر، فيومنا ليس كيوم أبعد كوكب عنا في هذا الكون الفسيح وفي هذا يقول الله تعالى :
{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (5) سورة السجدة
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (47) سورة الحـج
{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (4) سورة المعارج
ومن هنا يتضح التفسير العلمي المتواضع لما ورد في القرآن الكريم من مقدار أيام الله وأيام الحساب والقيامة وما واكبها، وما سيتلوها من أيام الجنة والنار التي لن تكون كأعوام أرضنا المعرفة .
ومما أورده العلماء وكما ورد في ( كتاب الإنسان بين العلم والإيمان.. لشوقي أبو خليل ) في هذا المضمار من تباطؤ وتسارع الزمن وإمكانية ذلك علميا ( تناقض التوائم .. ويروي هذا المثال) الن هانيك ) قائلا : إذا كان هناك توأمان، وركب أحدهما صاروخا يسير بسرعة الضوء وظل مسافرا بهذه السرعة سنين عديدة، طبقا لقياسات شقيقه التوأم على الأرض، فإنه عند عودته للأرض سوف يبدو أكبر سنا منه عند بدء الرحلة ببضعة أعوام فقط، في حين أن شقيقه التوأم الذي بقي على الأرض، سوف يكون قد أصبح شيخا عجوزا والتناقض هنا هو حدوث ذلك لأحد التوأمين دون الآخر، لماذا ؟ لأن الأول أبطا الزمن عنده الزمن 70000 مرة أما الآخر بقي الزمن عنده عاديا . وفي هذا المثال في النسبية يثبت لنا فكرة الخلود، لأن الإنسان إن سار بسرعة الضوء تماما توقف الزمن عنده وإذا توقف الزمن وتلاشت فكرة مروره تحقق الخلود !!
{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (117) سورة البقرة
، وبالرغم من هذا التباعد والاتساع في الزمان والمكان للكون السحيق البعيد الذي أعجز عقول البشر عن إدراك أبعاده يتحدى رب العزة كبراء الأرض من إنس وجان ويؤكد لهم أن للكون هذا نهاية لا يعرفون كنهها ولا ماهيتها، إنها سدرة المنتهى التي أراها الله لنبيه ورسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ليلة الإسراء والمعراج عام 621 م في 27 رجب ..
﴿وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾
سورة النجم من آية 7 إلى آية 15.
وفوق هذا كله العرش ومن فوقه مشتملا عليه الكرسي كما ورد في قوله تعالى : {اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (255) سورة البقرة
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) (22) سورة القمر
أخوكم / أبو خالد السياف
بيت المقدس
تعليق