إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صراع القيم بين الحق والباطل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • صراع القيم بين الحق والباطل

    أن للقيم دور بالغ الأهمية في حياة الإنسان، فالإنسان يحتاج إلى قيم مادية كالهواء والماء والغذاء، ويحتاج إلى قيم معنوية كالعدل والحرية والصدق والمروءة والإحسان والأمن والرحمة ، وإلى المشاركة والإنتماء الذاتي الحر، أن كل القيم أيا كانت طبيعتها تؤول في النهاية إلى قيمة كلية واحدة هي الحق، بينما نقائض القيم ـ تؤول إلى نقيض كلى هو الباطل وأن الصراع بين الحق والباطل دائم ـ وأن هذا الصراع هو الدافع إلى الحركة والنشاط في الكون.





    وإن كل شيء في الوجود نسق حاجة وقيمة يحتاج إلى غيره للحصول على القيم التي تحقق الوفاء بحاجاته وينتج من القيم ما يسهم في الوفاء بحاجات غيره...



    النبات مثلا يحتاج إلى البيئة الطبيعية للحصول على الضوء والماء والنيتروجين. وينتج النبات قيما يحتاج إليها الإنسان والحيوان كالزرع والثمار، والحيوان يحتاج إلى الماء والكلأ يحصل عليها من البيئة الطبيعية وينتج قيما يحتاج إليها الإنسان كالمواد الغذائية من بروتينات وكربو هيدرات وإملاح....



    والإنسان ذاته يحتاج إلى البيئة الطبيعية يحصل منها على مقومات الحياة وعوامل البقاء كالضوء والحرارة والأوكسجين والماء، ويحتاج إلى البيئة الإجتماعية يحصل منها على قيم العدل والأمن والتكافل والرحمة، وهذه القيم الإجتماعية ينتجها الأفراد في إطار عملية التسخير التبادلي، الذي عناه الله بقوله{ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (32) سورة الزخرف.



    إذا كل شيئ في الوجود ـ حتى النجوم والكواكب ـ نسق حاجة وقيمة بمعنى أنه لا يقوم ـ أي لا يتوازن ـ بذاته وإنما يتوازن بغيره ـ فالقيم إذن قوام الوجود ـ وهكذا خلق الله النظام الكوني بكل مافيه من أشياء ـ بما في ذلك الإنسان.



    والقيم هي: خاصية جوهرية كامنة في ذات الأشياء تجعلها قادرة على الوفاء بالحاجة فتسهم بذلك في التوازن.



    فالقيمة من القوام، والقوام هو الإعتدال وهو الإستقامة وهو التوازن، وقام الشئ ساوي موازية واستقام الشعر اتزن وتوازن والقيمة أيضا ما يعاش به ويقوم بالحاجة الضرورية.



    وهنا ندرك بأن هناك علاقة بين القيمة والحاجة من ناحية وبين القيمة والتوازن من ناحية أخرى، مثلا: إن الحاجة إلى الماء شئ كامن في الإنسان أي كامن في كيانه العضوى، وهذه الحاجة كامنة أي أنها في حالة خمول أو سكون، ولكن بمرور الوقت أو عندما يبذل الإنسان جهدا شاقا ـ تتحول الحاجة إلى الماء من مرحلة السكون والخمول إلى مرحلة الحركة والفعالية ويصحب ذلك نوع من الإضطراب أو التوتر يدفع النفس إلى توليد الرغبة في الحصول على الماء.



    وعندما يحصل الإنسان على الماء أي عندما تتلاقي القيمة الكامنة في الماء مع الحاجة إليه يزول التوتر ويستعيد الإنسان توازنه، فالقيمة هي ذلك الشيء الذي يتعادل مع الحاجة كي يتحقق التوازن.



    ولكن إذا كانت الأشياء تتجسد بقيم تسهم في تحقيق التوازن ـ فإنها تتجسد أيضا في نقائض للقيم تحدث الإختلال للا توازن، مثلا، بالأوكسجين له خاصية الإسهام في توازن الإنسان الذي يستنشقه في عملية الشهيق وهي عملية حيوية لإستمرار الحياة، ولكن الأوكسجين غاز يساعد على الإشتغال وقد يسبب في اشتعال الحرائق المدمرة، وهكذا كما يتجسد الأوكسجين قيمة تسهم في التوازن فإنه يتجسد أيضا نقيض القيمة التي تحدث الأختلال وهذا صحيح بالنسبة لكافة الأشياء ـ أي المخلوقات فالإنسان قد ينتج قيمة العدل وقد ينتج الظلم وهو نقيض العدل....الخ.



    أن القيم هي التي يحتاج إليها لإنسان (وسائر المخلوقات الأخرى)، لأن الإنسان يحتاج إلى التوازن ولا يحتاج إلى الأختلال.



    ولكن لماذا تحتاج المخلوقات إلى التوازن؟ لأن التوازن قيم وهي الدافع إلى الحركة في الكون وإلى استمرار الوجود، فالنبات يحتاج إلى الضوء، وهذه الحاجة تدفعه إلى الحركة نحو الضوء، وكذلك يتحرك الحيوان بحثا عن العشب ويتحرك الإنسان سعيا في طلب الرزق والتماس الأمن ، بل إن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس كي تتوازن، وهذا التوازن شرط للحركة واستمرار الحياة، فالتوازن هو القيمة المحصلة لكل القيم ـ اقتصادية كانت أو إجتماعية أو أخلاقية، ولولا الحاجة إلى التوازن ما كانت الحركة ولتجمدت الحياة ولفقدت المخلوقات سبب وجودها فإذا علمنا أن الحق هو وجود الشئ على طبيعته كي يؤدي دوره نسقا للحاجة والقيمة الغاية من خلقه ـ وعرفنا أيضا أن ذلك لا يتأتي إلا بالتوازن، فإننا نستنتج من ذلك أن التوازن ينطوي على الحق، وهكذا تؤول كل القيم إلى الحق، أما إذا خرج الشئ عن طبيعته ـ فلم يؤد دوره كنسق حاجة وقيمة بمعنى أنه بدلا من إنتاج القيم أنتج نقائض القيم ـ فذلك هو الباطل الذي يسفر عن الأختلال.



    وهنا نفيهم بأن الصراع الحقيقي هو صراع بين الحق والباطل أو هو صراع بين فعالية إيجابية تستهدف إنتاج القيم التي تسهم في التوازن وفعاليات سلبية تستهدف إنتاج نقائض القيم التي تسفر عن الأختلال.



    مثلا عندما يستخدم الإنسان الأوكسجين في عملية التنفس أو في عمليات صناعية بعد إسالة الأوكسجين ـ تكون فعاليته إيجابية لأنه توخى إنتاج القيم الكامنة في هذا الغاز، أما إذا استخدم الأوكسجين في إشعال الحرائق المدمرة للحرث والنسل ـ فهنا تكون فعالية الإنسان سلبية ـ ومن هنا يقع الصراع بين قيم ونقائض قيم ـ بين فعالية إيجابية وفعالية سلبية ـ بين حق وباطل.



    ولقد أثبت العلماء أن كل شئ في العالم اللا إرادي غير المكلف أي عالم الظواهر الفلكية والفيزيقية والعضوية يقوم على ـ أو ينزع نحو ـ التوازن، هذا على مستوى الشئ أي الجزء، ويؤيد القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله:{وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} (19) سورة الحجر.



    وهذا التوازن ـ على مستوى الجزء ـ يتحقق أيضا على مستوى الكل، ويؤيد ذلك قوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِير)(3،4) سورة الملك.



    ٌوالتوازن ينطوي على الحق، وهذه الحقيقة يبينها قوله ـ جلت قدرته: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} (27) سورة ص.



    هذا في عالم اللا إرادة غير المكلف ـ وهو صحيح أيضا بالنسبة للعالم المكلف أي عالم الإنسان في حركته الإرادية، فهذا العالم محكوم بالقيم مثل عالم اللا إرادة، وتفسير ذلك في وحدة النظام الكوني الذي يقوم على مبدأ التوازن ويتكون من عالمي اللا إرادة والإرادة، ومن ثم ينبغي أن يتوازن عالم الإرادة لأن التوازن يشمل النظام الكوني في مجموعة، وما لم يتحقق ذلك يتصدع النظام الكوني برمته.



    ويؤكد الإسلام أن العالم المكلف (الإنسان في حركته الإرادية )، ولا بد أن يكون محكوما بالقيم قائما بالحق فيتوازن لأن الله تعالى خلق العالم غير المكلف محكوما بالقيم قائم ا بالحق متوازنا ـ فإذا أختل العالم المكلف ـ أي أختلت حركة الإنسان تهدد النظام الكوني كله بالإنهيار، يقول سبحانه وتعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولاتتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) (26) سورة ص.



    وفي الآية التالية مباشرة يؤكد القرآن الكريم التكامل بين علام اللا إرادة غير المكلف وعالم الإرادة فيقول جلت قدرته: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} (27) سورة ص.



    إذا ينبغي أن يقوم عالم الإرادة على الحق كما يقوم عالم اللا إرادة بالحق لأن العالمين متكاملين تكاملا تاما بسبب وحدة النظام الكوني ـ وهذا يؤكده قول الله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} (71) سورة المؤمنون.



    فأهواء الشر لا تفسد الأرض بمن فيها وإنما تفسد السماوات أيضا.



    دور القيـــــــــم



    نعلم أن كل الأشياء في الوجود أنساق حاجة وقيمة، فإذا قام كل شئ بإنتاج القيم التي يحتاج إليها غيره وقام غيره بانتاج القيم التي يحتاج إليها ذلك الشئ ـ وهذا هو شرط توازن النظام الكوني واستمرار وجوده ـ فإن معنى ذلك أن القيم تسرى في جنبات النظام كما يسرى الدم في جسم الإنسان ـ ويتحقق ذلك ـ .



    ولكي تستقيم دورة القيم لا بد أن تسرى في عالمي اللا إرادة والإرادة معا نظرا لأن العالمين يتكاملان في وحدة كلية هي النظام الكوني ، والقيم تسري في عالم اللا إرادة بفعل القوانين الكونية التي وضعها الله وهي:(قوانين القيمة) على نحو جبري أو طبيعي، أما في عالم الإرادة فمن الضروري أن يلتزم الإنسان بقوانينه (قوانين القيمة ـ شريعة الإسلام ـ )، بإرادته وإختياره، وما لم يتحقق ذلك تختل الدورة في عالم الإرادة وتختل الدورة بالتالي في عالم اللا إرادة الأمر الذي يهدد النظام الكوني بالانهيار، وهنا يمكن فهم معنى قوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} (71) سورة المؤمنون.



    متى تختل دورة القيم في عالم الإرادة؟ عندما يعمد الإنسان إلى إنتاج نقائض القيم ـ أي عندما تكون فعالياته سلبية مثلا ـ عندما يستخدم الإنسان غاز الأوكسجين في إشعال الحرائق المدمرة، أو عندما ينتج أسلحة الدمار العدوانية باستخدام موارد الطبيعة التي خلقها الله لخير الإنسان، أو عندما يرهق الإنسان التربة الزراعية ويتوسع في استخدام المواد الكيماوية السامة لزيادة إنتاج الأرض أو عندما يلقى نفايات الصناعة في المجاري المائية ـ فذلك يحدث تلوثا وأختلالا في البيئة الطبيعية.



    وتختل دورة القيم في عالم الإرادة عندما يستخدم الإنسان أشياء مصنعة في مجالات ضارة وكذلك ـ عندما يستخدم سيارة في تهريب المجرمين أو المخدرات.



    وفي كل هذه الحالات تسفر فعاليات الإنسان السلبية عن الاختلال الذي ينطوي على الباطل وهو نقيض قيمة الحق التي كان يمكن تتحقق إذا اتجه الإنسان إلى انتاج القيم ـ أي إذا كانت فعالياته إيجابية فتسفر عن التوازن الذي ينطوي على الحق.



    وكذلك تختل دورة القيم في عالم الإرادة عندما يعمد الإنسان إلى إنتاج الباطل مباشرة... كما لو ظلم أو طغى أو استعلى وتكبر فهذه كلها نقائض للقيم تؤول إلى الباطل.



    لقد خلق الله عالم اللا إرادة بالحق ـ وسخر كل مافيه للإنسان كي يمارس نشاطه في إطار مهمته وهي استعمار الأرض وتحقيق الغاية من خلقه وهي عبادة الله تعالى، فما يحصل عليه الإنسان من ضوء وحرارة وهواء وماء وغذاء تزوده به البيئة الطبيعية لا يعدو أن يكون وسيلة تعين الإنسان على ممارسته مهمته الإصلاحية في الأرض، يقول جل شأنه: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (60) سورة البقرة.



    نحن نلمح هنا علاقة عضوية ووظيفة بين الطعام والشراب من جانب والنهى عن الإفساد في الأرض، من جانب آخر إن قيم الطعام والشراب تزود الجسم بطاقة حرارية وقدرة على العمل والنشاط ( وهذه هي العلاقة العضوية)، هذه الطاقة والقدرة ينبغي أن ينفقها الإنسان في الإصلاح لا في الإفساد ( وهذه هي العلاقة الوظيفية)، ومن هنا نفهم لماذا جاء النهى الإلهي ـ بعدم الإفساد في الأرض عقب الأمر أو التوجيه بالأكل والشرب من رزق الله.



    إن الإفساد في الأرض معناه أن الإنسان يتوجه بفعالياته السلبية نحو إنتاج القيم الأمر الذي يحدث اختلالا في دورة القيم في عالم الإرادة ونظرا للتكامل بين عالمي اللا إرادة والإرادة ووحدة النظام الكوني ـ فإن دورة القيم في النظام يصيبها الأختلال.



    وهنا يثور تساؤل هام وهو: إذا كان توازن النظام الكوني يتوقف على سلامة دورة القيم في عالم الإرادة بمعنى أن يتجه الناس نحو إنتاج القيم وتجنب إنتاج نقائض القيم فهل من المقبول أن نفترض إلالتزام الكامل لكل البشر بانتاج القيم؟



    ونجيب على ذلك بالنفي لأن بداخل الإنسان أستعدادين: أستعداد الخير، وأستعداد للشر، يقول تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (7/8) سورة الشمس.



    وعندما تتغلب نزعة الشر على نزعة الخير ينعكس ذلك في صورة فعاليات سلبية في الخارج، وينتقل الصراع ( بين الخير والشر)، من داخل الإنسان إلى خارجه، وهو صراع بين فعاليات إيجابية وفعاليات سلبية ، صراع بين قيم ولا قيم أو نقائض قيم، صراع بين حق وباطل.



    والواقع أن هذا الصراع سنة كونية ـ سنة من سنن الله في خلقه فالصراع بين القيم ونقائض القيم حتمى كي تستمر الحياة ويستمر الوجود إلى أجله المسمى وقد يبدو هذا الكلام غريبا لأول وهلة إذ كيف يستقيم نظام الكون مع إنتاج نقائض القيم؟



    وقبل أن نجيب على ذلك ـ نقرر أن القرآن الكريم يؤكد وجود فعاليات سلبية تنتج نقائض القيم في عالم الإرادة، يقول تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (103) سورة يوسف، ويقول جل شأنه: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} (116) سورة الأنعام.



    هناك إذن ـ وبالضرورة فعاليات سلبية تنتج نقائض للقيم.



    الصراع إذن حقيقة من حقائق الوجود.



    إن صراع القيم ضرورية لإستمرار الحياة ويؤكد الإسلام هذه الحقيقة، ويقول تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين) سورة البقرة {251}.



    ويقول سبحانه: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا. ولينصرن الله من ينصره. إن الله لقوي عزيز) سورة الحج (40).



    ويقول عز وجل: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم) سورة النور(11).



    إن صراع القيم إذن سنة كونية (إلهية), وهو ضرورة من ضرورات التوازن المتحرك الذي يستقيم معه النظام الكوني.



    إن القيم أيا كانت طبيعتها: اقتصادية أو إجتماعية أو نفسية أو ثقافية ، تؤول في النهاية إلى قيمة الحق بينما تؤول نقائض القيم إلى الباطل فالصراع إذن في جوهره صراع بين الحق والباطل، وليس صراعا إقتصاديا من أجل البقاء، أو صراعا إجتماعيا بين الأفراد أو الطبقات وصراع القيم له اتجاه وله مجال، فهو محتوم داخل الإنسان ذاته في صورة مجاهدة النفس بين نزعتي الخير والشر، وهو دائب ودائم بين الإنسان وخارجه ـ بين الفرد والفرد وبين الفرد والمجموع ـ بين فعاليات إيجابية وفعاليات سلبية، وهناك أيضا صراع بين فعاليات الإنسان السلبية (في عالم الإرادة)، وفعاليات إيجابية في عالم اللا إرادة، ويحدث ذلك عندما يعمد الإنسان إلى العبث أو الإخلال بتوازن البيئة الطبيعية.



    وصراع القيم صراع بين الحق والباطل ـ وقد يكون صراعا بين باطل وباطل ولكن من المحال أن يقوم الصراع بين حق وحق، لأن طريق الحق واحد ومستقيم لا عوج فيه ولا التواء ـ بينما طريق الباطل كثير الالتواء متشعب الدروب متنافر الاتجاهات والغايات.



    وعلى ذلك يمكن أن يتصادم باطل وباطل ولكن من المحال أن يتصادم حق وحق.



    أن الفعاليات السلبية هي بمثابة التوترات الإحتكاكية التي تحفز النظام على توليد فعاليات إيجابية قادرة على استيعاب أو استقطاب الفعاليات السلبية لدفع دورة القيم في جنبات النظام الكوني وبذلك يتحقق التوازن المتحرك للنظام وقد تتفاقم الفعاليات السلبية وتضعف أو تتضاءل الفعاليات الإيجابية بحيث تصبح غير قادرة على استيعاب أو إحتواء الفعاليات السلبية الأمر الذي تختل معه دورة القيم ويتهدد النظام الكوني بالإنهيار، بتعبير آخر أوضح ـ قد يتجه الإنسان إلى إنتاج نقائض القيم فيشيع الباطل والظلم والإثرة والإنتهازية والإستغلال والإنحلال الخلقي ـ دون أن يرتفع صوت الحق والعدل والإيثار... الخ، فينتشر الفساد وتختل دورة القيم في عالم الإرادة الأمر الذي يحدث اختلال في دورة القيم في عالم اللا إرادة ويهدد النظام الكوني كله بالتصدع والإنهيار.



    وأسوق على ذلك مثالا: يحتاج الإنسان إلى الماء ـ وهذه حاجة كامنة فإذا تحولت إلى حاجة فعالة ولم يجد الإنسان الماء ـ يشتد إلحاح الحاجة (تتزايد درجة الظمأ)، فإذا استمر الظمأ لفترة طويلة دون أن يتوفر الماء يهلك الإنسان( أي ينهار نسق الحاجة).



    التوحيد هو قمية القيم وللا توحيد قمة نقائض القيم



    لا بد أن نفرق بين الشيء وفكرة الشيء، إن لكل شيء في هذا الوجود فكرة موضوعية تحدد مكونات الشيء ووظائفه والغاية المستهدفة من خلقه، وفكرة الشيء أسبق في الوجود من وجود الشيء نفسه لأنها في علم الله الأزلى قبل أن يخلق الله الشيء في عالم الوجود.



    ونحن نعرف أو ندرك الفكرة الموضوعية من خلال وعينا وإدراكنا الذاتي أي أن معرفتنا للفكرة الموضوعية هي فكرتنا الذاتية عنها التي قد تكون مطابقة للفكرة الموضوعية وقد لا تكون، ولهذه الملاحظة أهمية عملية بالغة لأن الفكرة الذاتية لا الموضوعية هي التي تشكل وتحدد علاقتنا بالأشياء في العالم الخارجي، فإذا كانت فكرتنا الذاتية داخل وعينا مطابقة للفكرة الموضوعية الموجودة في الخارج كان سلوكنا منسجما مع حركة الأشياء في الخارج، أما إذا لم تكن فكرتنا الذاتية مطابقة للفكرة الموضوعية فإن سلوكنا يتصادم مع حركة الأشياء في الخارج.




    السؤال الآن هو: كيف تتشكل فكرة الشيء؟ وأتحدث أولا عن الفكرة الموضوعية التي خلق الله الشيء عليها ومن أجلها ثم أتحدث عن الفكرة الذاتية أي الفكرة كما يتصورها الإنسان في وعيه.



    إن الفكرة الموضوعية للشيء ليست منفصلة عن الفكرة الموضوعية لكافة الأشياء الأخرى، لقد عرفنا أن كل شيء خلقه الله ـ نسق حاجة إلى غيره وقيمة لغيره، فلكي تتلاقى القيم التي تنتجها كل الأشياء مع حاجات كل الأشياء ـ لا بد أن يتناسق تركيبها البنائي وأن تتكامل وظائفها وأن تتعادل وتتوافق القيم مع الحاجه إليها ـ وكل ذلك على مدى الزمان والمكان.



    ولنا أن نتصور مدى الدقة والتعقيد لكي تتم هذه العملية في الوجود الممتد من الماضي إلى الحاضر ثم إلى المستقبل، ومن المحال أن يقدر على ذلك إلا خالق الوجود: (الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) سورة طه (50).



    وإذا كانت الفكرة الموضوعية للشيء تتحدد في إطار فكرة كلية موضوعية( أي على مستوى النظام الكوني)، فإن الفكرة الذاتية عن الشيء والتي تتكون في ذهن الإنسان ووعيه ـ تتحد أيضا في إطار فكرة (ذاتية)، كلية عن الوجود أو النظام الكوني، وهذه الفكرة الذاتية الكلية تتشكل في إطار تصور شامل للوجود من حيث مصدره وماله والغاية منه، بتعبير آخرـ فإذا كانت عقيدة الإنسان صحيحة ـ أي إذا كان تصوره للوجود مطابقا لحقيقة الوجود ـ فإن فكرته الذاتية عن الأشياء تطابق فكرتها الموضوعية التي وجدت عليها ومن أجلها، أما إذا كانت العقيدة فاسدة وتتصادم مع التوحيد وهو الفكرة الكلية التي يقوم عليها الوجود وهو الدعامة التي تستند إليها وحدة النظام الكوني وتوازنه ـ فإن ذلك يحرف فكرة الإنسان الذاتية عن الأشياء فلا تطابق فكرتها الموضوعية.



    ولسنا بحاجة إلى القول، بأنه إذا كانت العقيدة فاسدة ولم تطابق الفكرة الذاتية في وعي الإنسان عن الأشياء فكرتها الموضوعية ـ اختلت حركة الإنسان ( لأن الفكرة الذاتية وليست الموضوعية هي التي توجه حركته) ـ وسيلجأ إلى إنتاج نقائض القيم التي تحرف دورة القيم عن مسارها الطبيعي الأمر الذي يهدد بإنهيار النظام الكوني.



    ومن ذلك نتبين الدور البارز والحاسم للعقيدة في توجيه حركة الإنسان، بتعبير آخر فإن صراع القيم هو في جوهره صراع عقدى ... صراع بين العقيدة الصحيحة والعقائد الفاسدة ... صراع بين الحق والباطل.



    والمعلوم أن الإنسان ـ عندما تكون فعالياته سلبية تتصادم مع طبيعة الأشياء ـ أو فكرتها الموضوعية التي خلقت عليها ومن أجلها ـ فإن ذلك يؤدي إلى إحباط عمله، يقول تعالى: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين) سورة المائدة (5).



    ويقول جل شأنه: (ولقد أوحي إليك إلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) سورة الزمر(65).



    إن وحدة النظام الكوني لا يمكن أن تقوم أو تستقيم إلا بالإعتراف والتسليم بوجود خالق واحد لهذا النظام، فالتوحيد هو قمة القيم ـ بينما اللا توحيد ( كل العقائد الفاسدة)، فهو قمة نقائض القيم، وصراع القيم الدائر منذ خلق الإنسان وإلى أن تقوم الساعة هو في حقيقته صراع بين التوحيد واللا توحيد، (أعني كافة العقائد الفاسدة).



    خلاصة الموضوع



    أن صراع القيم سنة كونية من سنن الله في خلقه، وأنه ضرورة من ضرورات تحقق التوازن (المتحرك) في النظام الكوني، أنه ضرورة لإضفاء المعنى على الوجود ومنحه غاية يتجه نحوها، وأن الفعاليات السلبية هي بمثابة الدفع المستمر لتوليد فعاليات إيجابية تستوعب الفعاليات السلبية فتدفع بالقيم في جنبات النظام الكوني كي يتحقق توازنه.



    وأما إذا أخفقت الفعاليات الإيجابية في استيعاب الفعاليات السلبية فإن ذلك يؤدي إلى اختلال في دورة القيم ويتهدد النظام الكوني بالانهيار وإدراكنا بإن عقيدة الإنسان أو تصوره للوجود أي فكرته الذاتية الكلية عن الوجود من حيث مصدره وماله والغاية منه هي التي تهيمن على كافة جوانب النشاط الإنساني من إجتماعية وثقافية وإقتصادية وسيكولوجية ... تتحقق تلك الهيمنة من خلال الفكرة الذاتية التي في وعي الإنسان عن الأشياء في العالم الخارجي، فإذا كانت الفكرة الذاتية مطابقة للفكرة الموضوعية الكامنة في الأشياء ـ أي إذا كانت عقيدة الإنسان صحيحة مطابقة لحقيقة الوجود ـ فإن فعالياته الإيجابية تتعاظم لتدفع بدوره القيم في النظام الكوني في مسارها الطبيعي الأمر الذي يعمل على ارتقاء الحضارة وازدهارها.



    أما حيث تكون العقيدة فاسدة ـ تناقض التوحيد وهو الفكرة الموضوعية التي يقوم عليها الوجود، فإن الفكرة الذاتية عن الأشياء في العالم الخارجي لا تكون مطابقة للفكرة الموضوعية الكامنة في الأشياء الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم الفعاليات السلبية ويدفع بالحضارة نحو الأفول والانتكاس.



    والمعلوم بالضرورة أن التوحيد هو العقيدة الصحيحة لأنه الفكرة التي يقوم عليها الوجود والتي انبثقت عنها وحدة النظام الكوني.



    كيف تستقيم حياة الإنسان إذا قامت العلاقات بين الأفراد على الحقد والإثرة والأنانية والغش والمخادعة والنفاق؟



    وكيف تستقيم حياة الأفراد إذا كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه وكيف يحقق المرء آدميته وتستقيم حياته في مجتمع تقوم عليه صفوة من الانتهازيين والعملاء الذين يتفننون في ممارسة عمليات اغتصاب أموال المواطنين ويتقنون الكذب والخداع والتضليل..



    ويشيعون الفزع والرعب في نفوس الأفراد باستخدام أساليب الغدر والبطش مع كل من يقول كلمة حق أو يلتزم بالقيم الدينية والأخلاقية.
    هيهات منا الذلة

  • #2
    جزاك الله خيرا
    ثم ان العقيدة السليمة توجد القيم الطيبة و الحسنة عند صاحبها التى تناقض القيم عند اهل الكفر و الباطل

    تعليق


    • #3
      الله يجزيك الخير اخوي لاجئ مش فتحاوي علي الطرح الطيب والمبارك


      بصراحة ما بني علي عقيدة سليمة كان ما بعده سليم بإذن الله تبارك وتعالي


      الله يتقبل منك اخوي


      دمت بحفظ الرحمن ورعايته
      إن لله عباداً فطنا .. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
      نظروا فيها فلما علموا .. أنها ليست لحييٍ وطنا
      جعلوها لجةً واتخذوا .. صالح الأعمال فيها سفنا

      تعليق


      • #4
        بارك الله فيك
        انشاء الله في ميزان حسناتك

        [fot1]
        سرايا القدس امتداد لسرايا الرسول صلى الله عليه وسلم[/fot1]

        تعليق


        • #5


          أيها العضو الصديق لا بأس أن تؤيد رأيك بالحجة و البرهان .....

          كما لا بأس أن تنقض أدلتي ، وتزييف مما تعتقد أنك مبطل له
          .....

          لكن هناك أمر لا أرضاه لك أبدا ما حييت ، ولا أعتقد أنه ينفعك
          ؟

          الشتم و السباب

          تعليق


          • #6
            بارك الله فيك اخي

            بس ياريت اتخففوا من المواضيع حتى نستفيد اكتر ونستطيع القراءة بسرعة

            تقبل مروري

            تعليق

            يعمل...
            X