أورد ابن الجوزي إلى صفة الصفوة وابن النحاس في مشارع الأشواق عن رجل من الصالحين اسمه أبو قدامة الشامي ... وكان رجلا قد حبب إليه الجهاد والغزو في سبيل الله فلا , فلا يسمع بغزو في سبيل الله ولا بقتال بين المسلمين والكفار إلا وسارع وقاتل مع المسلمين فيه , فجلس مرة في الحرم المدني فسأله سائل فقال :
يا ابا قدامة أنت رجل قد حبب إليك الجهاد والغزو في سبيل الله فحدثنا بأعجب ما رأيت من أمر الجهاد والغزو فقال أبو قدامة : إني محدثكم عن ذلك : خرجت مرة مع أصحاب لي لقتال الصليبين على بعض الثغور (والثغور هي مراكز عسكرية تجعل على حدود البلاد الإسلامية لصد الكفار عنها ) فمررت في طريقي بمدينة الرقة ( مدينة في العراق على نهر الفرات ) واشتريت منها جملاَ أحمل عليه سلاحي , ووعظت الناس في مساجدها وحثثتهم على الجهاد والإنفاق في سبيل الله , فلما جن علي الليل اكتريت منزلاً أبيت فيه , فلما ذهب بعض الليل فإذا بالباب يطرق علي , فلما فتحت الباب فإذا بامرأة متحصنة قد تلفعت بجلبابها , فقلت : ما تريدين ؟ قالت : آنت أبو قدامة ؟ قلت : نعم , قالت : أنت الذي جمعت المال اليوم للثغور ؟ قلت : نعم , فدفعت إلى برقعة وخرقة مشدودة وانصرفت باكية , فنظرت إلى الرقعة فإذا فيها : إنك دعوتنا إلى الجهاد ولا قدرة لي على ذلك فقطعت احسن ما في وهما ضفيرتاي وأنفذتهما إليك لتجعلها قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغفر لي ,
قال أبو قدامة : فعجبت والله من حرصها وبذلها , وشدة شوقها إلى المغفرة والجنة .
فلما أصبحنا خرجت أنا وأصحابي من الرقة . فلما بلغنا حصن مسلمة بن عبد الملك فإذا بفارس يصيح وراءنا وينادي يقول : يا أبا قدامة يا أبا قدامة , قف علي يرحمك الله ,
قال أبو قدامة : فقلت لأصحابي : تقدموا عني وأنا أنظر خبر هذا الفارس , فلما رجعت إليه , بدأني بالكلام وقال : الحمد لله الذي لم يحرمني صحبتك ولم يردني خائبا .
فقلت له ما تريد : قال أريد الخروج معكم للقتال .
فقلت له : أسفر عن وجهك أنظر إليك فإن كنت كبيرا يلزمك القتال قبلتك , وإن كنت صغيرا لا يلزمك الجهاد رددتك .
فقال : فكشف اللثام عن وجهه فإذا بوجه مثل القمر وإذا هو غلام سبع عشرة سنة
فقلت له يا بني ؟ عندك والد ؟ قال : أبي قد قتله الصليبيون وأنا خارج أقاتل الذين قتلوا أبي
قلت : أعندك والدة ؟
قال : نعم , فقلت ارجع إلى أمك فأحسن صحبتها فإن الجنة تحت قدمها
فقال : أما تعرف أمي ؟ قلت : لا ,
قال : أمي هي صاحبة الوديعة , قلت : أي وديعة ؟
قال : هي صاحبة الشكال , قلت : أي شكال ؟
قال : سبحان الله ما أسرع ما نسيت !! أما تذكر المرأة التي أتتك البارحة وأعطتك الكيس والشكال ؟؟
قلت : بلى , قال : هي أمي , أمرتني أن اخرج إلى الجهاد , وأقسمت علي أن لا أرجع وإنها قالت لي : يا بني إذا لقيت الكفار فلا توليهم الدبر , وهب نفسك لله , ومساكنه أبيك وأخوالك في الجنة , فإذا رزقك الله الشهادة , فاشفع في.. ثم ضمتني إلى صدرها , ورفعت بصرها إلى السماء , وقالت : إلهي وسيدي ومولاي , هذا ولدي , وريحانة قلبي , وثمرة فؤادي , سلمته إليك فقربه من أبيه وأخواله ..
ثم قال : سألتك بالله ألا تحرمني الغزو في سبيل الله , أنا إن شاء الله الشهيد ابن الشهيد , فإني حافظ لكتاب الله , وعارف بالفروسية والرمي , فلا تحقرني لصغر سني ...
قال أبو قدامة : فلما سمعت ذلك منه أخذته معنا , فو الله ما رأينا أنشط منه , إن ركبنا فهو أسرعنا , وإن نزلنا فهو أنشطنا , وهو في كل أحواله لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى أبداً .
فنزلنا منزلاً .. وكنا صائمين وأردنا أن نصنع فطورنا فأقسم الغلام أن لا يصنع الفطور إلا هو .. فأبينا وأبى .. فذهب يصنع الفطور .. وأبطأ علينا .. فذا أحد أصحابي يقول لي يا أبا قدامة اذهب وانظر ما أمر صاحبك .. فلما ذهبت فإذا الغلام قد أشعل النار بالحطب ووضع من فوقها القدر .. ثم غلبه التعب والنوم ووضع رأسه على حجر ثم نام .. فكرهت أن أوقضه من منامه .. وكرهت أن ارجع إلى أصحابي خالي اليدين .. فقمت بصنع الفطور بنفسي وكان الغلام على مرأى مني .. فبينما هو نائم لاحظته يبتسم .. ثم اشتد تبسمه فتعجبت ثم بدأ يضحك ثم أشتد ضحكه ثم استيقظ .. فلما رآني فزع الغلام وقال : يا عمي أبطأت عليكم دعني أصنع الطعام عنك .. أنا خادمكم في الجهاد فقال أبو قدامة : لا والله لست بصانع شيء حتى تخبرني ما رأيت في منامك وجعلك تضحك وتتبسم .
فقال : يا عمي هذه رؤيا رأيتها ..
فقلت : أقسمت عليك أن تخبرين بها
فقال : دعها ,, بيني وبين الله تعالى
فقلت : أقسمت عليك أن تخبرني بها
قال : رأيت يا عمي في منامي أني دخلت إلى جنة فهي بحسنها وجمالها كما أخبر الله في كتابه .. فبينما أنا أمشي فيها وأنا بعجب شديد من حسنها وجمالها .. إذ رأيت قصرا يتلألأ أنوارا , لبنة من ذهب ولبنة من فضة , وإذا شرفاته من الدر والياقوت والجوهر , وأبوابه من ذهب , وإذا ستور مرخية على شرفاته , وإذا بجواري يرفعن الستور , وجوههن كالأقمار .. فلما رأيت حسنهن أخذت أنظر إليهن وأتعجب من حسنهن فإذا بجارية كأحسن ما أنت رائي من الجواري وإذا بها تشير إلى وتحدث صاحباتها وتقول هذا زوج المرضية هذا زوج المرضية .. فقلت أنت لها أنت المرضية ؟؟؟ فقالت : أنا خادمة من خدم المرضية .. تريد المرضية ؟؟ ادخل القصر .. تقدم يرحمك الله فإذا على أعلى القصر غرفة من الذهب الأحمر عليها سرير من الزبرجد الأخضر , قوائمه من الفضة البيضاء , عليه جارية وجهها كأنه الشمس , لولا أن الله ثبت بصري لذهب وذهب عقلي من حسن الغرفة وبهاء الجارية ..
فلما رأتني الجارية قالت : مرحباً بولي الله وحبيبه .. أنا لك وأنت لي
فلما سمعت كلامها اقتربت منها وكدت أن أضع يدي عليها قالت : يا خليلي يا حبيبي أبعد الله عنك الخناء قد بقي لك في الحياة شيء وموعدنا معك غداً بعد صلاة الظهر ...
فتبسمت من ذلك وفرحت منه ياعم
فقلت له : رأيت خيرا إنشاء الله .
ثم إننا أكلنا فطورنا ومضينا إلى أصحابنا المرابطين في الثغور ثم حضر عدونا .. وصف الجيوش قائدنا ..
وبينما أنا أتأمل الناس .. فإذا كل منهم يجمع حوله أقاربه وإخوانه .. إلا الغلام .. فبحثت عنه ووجدته في مقدمة الصفوف .. فذهبت إليه وقلت : يا بني هل أنت خبير بأمور الجهاد ؟؟
قال لا يا عم هذه والله أول معركة لي مع الكفار .
فقلت يا بني إن الأمر خلاف على ما في بالك , إن الأمر قتال ودماء .. فيا بني كن في آخر الجيش فان انتصرنا فأنت معنا من المنتصرين وإن هزمنا لم تكن أول القتلى ..
فقال متعجبا : أنت تقول لي ذلك ؟؟
قلت نعم أنا أقول لك ذلك
قال ياعم أتود أن أكون من أهل النار ؟
قلت أعوذ بالله .. لا والله والله ما جئنا إلى الجهاد إلا خوف منها ,,
فقال الغلام : فإن الله تعالى يقول : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير )
هل تريدني أوليهم الأدبار فأكون من أهل النار ؟
فعجبت والله من حرصه وتمسكه بالآيات فقلت له يا بني إن الآية مخرجها على غير كلامك .. فأبى أن يرجع فأخذت بيده أرجعه إلى آخر الصفوف وأخذ يسحب يده علي فبدأت الحرب وحالت بيني وبينه ..
فجالت الأبطال ورميت النبال , وجردت السيوف , وتكسرت الجماجم , وتطايرت الأيدي والأرجل .. واشتد علينا القتال حتى اشتغل كل بنفسه , وقال كل خليل كنت آمله .. لا ألهينك إني عنك مشغول ..
حتى دخل وقت صلاة الظهر فهزم الله عز وجل الصليبين .. فلما انتصرنا جمعت أصحابي وصلينا الظهر وبعد ذلك ذهب كل منا يبحث عن أهله وأصحابه .. إلا الغلام فليس هنالك من يسأل عنه فذهبت أبحث عنه .. فبينما أنا أتفقده وإذا بصوت يقول : أيها الناس ابعثوا إلى أبا قدامة ابعثوا إلى عمي أبا قدامة .. فالتفت إلى مصدر الصوت فإذا الجسد جسد الغلام .. وإذا الرماح قد تسابقت إليه , والخيل قد وطئت عليه فمزقت اللحمان , وأدمت اللسان وفرقت الأعضاء , وكسرت العظام .. وإذا هو يتيم ملقى في الصحراء .
قال أبو قدامة : فأقبلت إليه , وانطرحت بين يديه , وصرخت : ها أنا أبو قدامة .. ها أنا أبو قدامة .. فقال : الحمد لله الذي أحياني إلى أن أوصي إليك , فاسمع وصيتي قال أبو قدامة : فبكيت والله على محاسنه وجماله , ورحمة بأمه التي فجعت عام أول بأبيه وأخواله وتفجع الآن به , أخذت طرف ثوبي امسح الدم عن وجهه فقال : تمسح الدم عن وجهي بثوبك !! بل امسحه بثوبي , فثوبي أحق بالوسخ من ثوبك ..
قال أبو قدامة : فبكيت والله ولم أحر جواباً ..
فقال : يا عم , أقسمت عليك إذا أنا مت أن ترجع إلى الرقة , وتبشر أمي بأن الله قد تقبل هديتها إليه , وأن ولدها قد قتل في سبيل الله مقبلا غير مدبر , وأن الله كتبني في الشهداء , فإني سأوصل سلامها إلى أبي وأخوالي في الجنة , ثم قال : ياعم إني أخاف ألا تصدق أمي كلامك فخذ بعض ثيابي التي فيها الدم , فإن أمي إذا رأتها صدقت أني مقتول , وقل لها إن الموعد الجنة إن شاء الله ..
ياعم : إنك إذا أتيت إلى بيتنا ستجد أختا لي صغيرة عمرها تسع سنوات .. ما دخلت البيت إلا واستبشرت وفرحت ولا خرجت إلا بكت وحزنت , وقد فجعت بمقتل أبي عام أول وتفجع بمقتلي اليوم , وأنها قالت لي عندما رأت علي ثياب السفر : يا أخي لا تبطئ علينا وعجل الرجوع إلينا , فإذا رأيتها فطيب صدرها بكلمات .. وقل لها يقول لك أخوك الله خليفتي عليك ..
ثم تحامل الغلام على نفسه وقال : يا عم صدقت الرؤيا ورب الكعبة والله إني لأرى المرضية الآن عند رأسي وأشم ريحها .. ثم انتفض وتصبب العرق وشهق شهقات , ثم مات .
قال أبو قدامة : فأخذت بعض ثيابه فلما دفناه لم يكن عندي هم أعظم من أن ارجع إلى الرقة وأبلغ رسالته لأمه .. فرجعت إلى الرقة وأنا لا ادري ما اسم أمه وأين تسكن .. فبينما أنا امشي وقفت عند منزل تقف على بابه فتاة صغيرة ما يمر أحد من عند بابها وعليه أثر السفر إلا سألته يا عمي من أين أتيت فيقول من الجهاد فتقول له معكم أخي ؟؟ .. فيقول ما ادري من أخوك ويمضي .. وتكرر ذلك مراراً مع المارة ويتكرر معاها نفس الرد .. فبكت أخيرا وقالت : مالي أرى الناس يرجعون وأخي لا يرجع ...
فلما رأيت حالها أقبلت عليها .. فرأت علي اثر السفر فقالت يا عم من أين أنت قال من الجهاد فقالت معكم أخي قفلت أين أمك ؟؟ قالت في الداخل ودخلت تناديها .. فلما أتت الأم وسمعت صوتي عرفتني وقالت : يا أبا قدامة أقبلت معزيا أم مبشراً ؟؟
فقلت إن كنت أقبلت تخبرني أن ولدي قتل في سبيل الله مقبل غير مدبر فأنت تبشرني بأن الله قبل هديتي التي أعدتها من سبعة عشر عاماً .
وإن كنت قد أقبلت كي تخبرني أن ابني رجع سالما معه الغنيمة فإنك تعزيني لأن الله لم يقبل هديتي إليه .. فقلت لها بل أنا مبشر إن ولدك قد قتل مقبل غير مدبر .. فقالت ما أظنك صادقا وهي تنظر إلى الكيس ثم فتحت الكيس وإذا بالدماء تغطي الملابس فقلت لها أليست هذه ثيابه التي ألبستيه إياها بيدك ؟
فقالت الله أكبر وفرحت ... أما الصغيرة شهقت ثم وقعت على الأرض ففزعت أمها ودخلت تحضر لها الماء وتسكبها على وجهها .. أما أنا فجلست أقرأ القرآن عند رأسها .. و والله مازالت تشهق وتنادي باسم أبيها وأخيها .. وما غادرتها إلا ميتة ..
فأخذتها أمها وأدخلتها وأغلقت الباب وسمعتها تقول :
اللهم إني قد قدمت زوجي وإخواني وولدي في سبيلك اللهم أن ترضى عني وتجمعني وإياهم في جنتك .....
انتهت القصة
قدمت هذه المرأة الصالحة كل ذلك في سبيل الله لكي تدخل الدار التي اشتد شوقها إليها وقدم ولدها نفسه رخيصة لله وتناسى لذاته وشبابه فيا ليت شعري ماذا قدم المفرطون أمثالنا
--------------------------------------------------------------------------------
يا ابا قدامة أنت رجل قد حبب إليك الجهاد والغزو في سبيل الله فحدثنا بأعجب ما رأيت من أمر الجهاد والغزو فقال أبو قدامة : إني محدثكم عن ذلك : خرجت مرة مع أصحاب لي لقتال الصليبين على بعض الثغور (والثغور هي مراكز عسكرية تجعل على حدود البلاد الإسلامية لصد الكفار عنها ) فمررت في طريقي بمدينة الرقة ( مدينة في العراق على نهر الفرات ) واشتريت منها جملاَ أحمل عليه سلاحي , ووعظت الناس في مساجدها وحثثتهم على الجهاد والإنفاق في سبيل الله , فلما جن علي الليل اكتريت منزلاً أبيت فيه , فلما ذهب بعض الليل فإذا بالباب يطرق علي , فلما فتحت الباب فإذا بامرأة متحصنة قد تلفعت بجلبابها , فقلت : ما تريدين ؟ قالت : آنت أبو قدامة ؟ قلت : نعم , قالت : أنت الذي جمعت المال اليوم للثغور ؟ قلت : نعم , فدفعت إلى برقعة وخرقة مشدودة وانصرفت باكية , فنظرت إلى الرقعة فإذا فيها : إنك دعوتنا إلى الجهاد ولا قدرة لي على ذلك فقطعت احسن ما في وهما ضفيرتاي وأنفذتهما إليك لتجعلها قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغفر لي ,
قال أبو قدامة : فعجبت والله من حرصها وبذلها , وشدة شوقها إلى المغفرة والجنة .
فلما أصبحنا خرجت أنا وأصحابي من الرقة . فلما بلغنا حصن مسلمة بن عبد الملك فإذا بفارس يصيح وراءنا وينادي يقول : يا أبا قدامة يا أبا قدامة , قف علي يرحمك الله ,
قال أبو قدامة : فقلت لأصحابي : تقدموا عني وأنا أنظر خبر هذا الفارس , فلما رجعت إليه , بدأني بالكلام وقال : الحمد لله الذي لم يحرمني صحبتك ولم يردني خائبا .
فقلت له ما تريد : قال أريد الخروج معكم للقتال .
فقلت له : أسفر عن وجهك أنظر إليك فإن كنت كبيرا يلزمك القتال قبلتك , وإن كنت صغيرا لا يلزمك الجهاد رددتك .
فقال : فكشف اللثام عن وجهه فإذا بوجه مثل القمر وإذا هو غلام سبع عشرة سنة
فقلت له يا بني ؟ عندك والد ؟ قال : أبي قد قتله الصليبيون وأنا خارج أقاتل الذين قتلوا أبي
قلت : أعندك والدة ؟
قال : نعم , فقلت ارجع إلى أمك فأحسن صحبتها فإن الجنة تحت قدمها
فقال : أما تعرف أمي ؟ قلت : لا ,
قال : أمي هي صاحبة الوديعة , قلت : أي وديعة ؟
قال : هي صاحبة الشكال , قلت : أي شكال ؟
قال : سبحان الله ما أسرع ما نسيت !! أما تذكر المرأة التي أتتك البارحة وأعطتك الكيس والشكال ؟؟
قلت : بلى , قال : هي أمي , أمرتني أن اخرج إلى الجهاد , وأقسمت علي أن لا أرجع وإنها قالت لي : يا بني إذا لقيت الكفار فلا توليهم الدبر , وهب نفسك لله , ومساكنه أبيك وأخوالك في الجنة , فإذا رزقك الله الشهادة , فاشفع في.. ثم ضمتني إلى صدرها , ورفعت بصرها إلى السماء , وقالت : إلهي وسيدي ومولاي , هذا ولدي , وريحانة قلبي , وثمرة فؤادي , سلمته إليك فقربه من أبيه وأخواله ..
ثم قال : سألتك بالله ألا تحرمني الغزو في سبيل الله , أنا إن شاء الله الشهيد ابن الشهيد , فإني حافظ لكتاب الله , وعارف بالفروسية والرمي , فلا تحقرني لصغر سني ...
قال أبو قدامة : فلما سمعت ذلك منه أخذته معنا , فو الله ما رأينا أنشط منه , إن ركبنا فهو أسرعنا , وإن نزلنا فهو أنشطنا , وهو في كل أحواله لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى أبداً .
فنزلنا منزلاً .. وكنا صائمين وأردنا أن نصنع فطورنا فأقسم الغلام أن لا يصنع الفطور إلا هو .. فأبينا وأبى .. فذهب يصنع الفطور .. وأبطأ علينا .. فذا أحد أصحابي يقول لي يا أبا قدامة اذهب وانظر ما أمر صاحبك .. فلما ذهبت فإذا الغلام قد أشعل النار بالحطب ووضع من فوقها القدر .. ثم غلبه التعب والنوم ووضع رأسه على حجر ثم نام .. فكرهت أن أوقضه من منامه .. وكرهت أن ارجع إلى أصحابي خالي اليدين .. فقمت بصنع الفطور بنفسي وكان الغلام على مرأى مني .. فبينما هو نائم لاحظته يبتسم .. ثم اشتد تبسمه فتعجبت ثم بدأ يضحك ثم أشتد ضحكه ثم استيقظ .. فلما رآني فزع الغلام وقال : يا عمي أبطأت عليكم دعني أصنع الطعام عنك .. أنا خادمكم في الجهاد فقال أبو قدامة : لا والله لست بصانع شيء حتى تخبرني ما رأيت في منامك وجعلك تضحك وتتبسم .
فقال : يا عمي هذه رؤيا رأيتها ..
فقلت : أقسمت عليك أن تخبرين بها
فقال : دعها ,, بيني وبين الله تعالى
فقلت : أقسمت عليك أن تخبرني بها
قال : رأيت يا عمي في منامي أني دخلت إلى جنة فهي بحسنها وجمالها كما أخبر الله في كتابه .. فبينما أنا أمشي فيها وأنا بعجب شديد من حسنها وجمالها .. إذ رأيت قصرا يتلألأ أنوارا , لبنة من ذهب ولبنة من فضة , وإذا شرفاته من الدر والياقوت والجوهر , وأبوابه من ذهب , وإذا ستور مرخية على شرفاته , وإذا بجواري يرفعن الستور , وجوههن كالأقمار .. فلما رأيت حسنهن أخذت أنظر إليهن وأتعجب من حسنهن فإذا بجارية كأحسن ما أنت رائي من الجواري وإذا بها تشير إلى وتحدث صاحباتها وتقول هذا زوج المرضية هذا زوج المرضية .. فقلت أنت لها أنت المرضية ؟؟؟ فقالت : أنا خادمة من خدم المرضية .. تريد المرضية ؟؟ ادخل القصر .. تقدم يرحمك الله فإذا على أعلى القصر غرفة من الذهب الأحمر عليها سرير من الزبرجد الأخضر , قوائمه من الفضة البيضاء , عليه جارية وجهها كأنه الشمس , لولا أن الله ثبت بصري لذهب وذهب عقلي من حسن الغرفة وبهاء الجارية ..
فلما رأتني الجارية قالت : مرحباً بولي الله وحبيبه .. أنا لك وأنت لي
فلما سمعت كلامها اقتربت منها وكدت أن أضع يدي عليها قالت : يا خليلي يا حبيبي أبعد الله عنك الخناء قد بقي لك في الحياة شيء وموعدنا معك غداً بعد صلاة الظهر ...
فتبسمت من ذلك وفرحت منه ياعم
فقلت له : رأيت خيرا إنشاء الله .
ثم إننا أكلنا فطورنا ومضينا إلى أصحابنا المرابطين في الثغور ثم حضر عدونا .. وصف الجيوش قائدنا ..
وبينما أنا أتأمل الناس .. فإذا كل منهم يجمع حوله أقاربه وإخوانه .. إلا الغلام .. فبحثت عنه ووجدته في مقدمة الصفوف .. فذهبت إليه وقلت : يا بني هل أنت خبير بأمور الجهاد ؟؟
قال لا يا عم هذه والله أول معركة لي مع الكفار .
فقلت يا بني إن الأمر خلاف على ما في بالك , إن الأمر قتال ودماء .. فيا بني كن في آخر الجيش فان انتصرنا فأنت معنا من المنتصرين وإن هزمنا لم تكن أول القتلى ..
فقال متعجبا : أنت تقول لي ذلك ؟؟
قلت نعم أنا أقول لك ذلك
قال ياعم أتود أن أكون من أهل النار ؟
قلت أعوذ بالله .. لا والله والله ما جئنا إلى الجهاد إلا خوف منها ,,
فقال الغلام : فإن الله تعالى يقول : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير )
هل تريدني أوليهم الأدبار فأكون من أهل النار ؟
فعجبت والله من حرصه وتمسكه بالآيات فقلت له يا بني إن الآية مخرجها على غير كلامك .. فأبى أن يرجع فأخذت بيده أرجعه إلى آخر الصفوف وأخذ يسحب يده علي فبدأت الحرب وحالت بيني وبينه ..
فجالت الأبطال ورميت النبال , وجردت السيوف , وتكسرت الجماجم , وتطايرت الأيدي والأرجل .. واشتد علينا القتال حتى اشتغل كل بنفسه , وقال كل خليل كنت آمله .. لا ألهينك إني عنك مشغول ..
حتى دخل وقت صلاة الظهر فهزم الله عز وجل الصليبين .. فلما انتصرنا جمعت أصحابي وصلينا الظهر وبعد ذلك ذهب كل منا يبحث عن أهله وأصحابه .. إلا الغلام فليس هنالك من يسأل عنه فذهبت أبحث عنه .. فبينما أنا أتفقده وإذا بصوت يقول : أيها الناس ابعثوا إلى أبا قدامة ابعثوا إلى عمي أبا قدامة .. فالتفت إلى مصدر الصوت فإذا الجسد جسد الغلام .. وإذا الرماح قد تسابقت إليه , والخيل قد وطئت عليه فمزقت اللحمان , وأدمت اللسان وفرقت الأعضاء , وكسرت العظام .. وإذا هو يتيم ملقى في الصحراء .
قال أبو قدامة : فأقبلت إليه , وانطرحت بين يديه , وصرخت : ها أنا أبو قدامة .. ها أنا أبو قدامة .. فقال : الحمد لله الذي أحياني إلى أن أوصي إليك , فاسمع وصيتي قال أبو قدامة : فبكيت والله على محاسنه وجماله , ورحمة بأمه التي فجعت عام أول بأبيه وأخواله وتفجع الآن به , أخذت طرف ثوبي امسح الدم عن وجهه فقال : تمسح الدم عن وجهي بثوبك !! بل امسحه بثوبي , فثوبي أحق بالوسخ من ثوبك ..
قال أبو قدامة : فبكيت والله ولم أحر جواباً ..
فقال : يا عم , أقسمت عليك إذا أنا مت أن ترجع إلى الرقة , وتبشر أمي بأن الله قد تقبل هديتها إليه , وأن ولدها قد قتل في سبيل الله مقبلا غير مدبر , وأن الله كتبني في الشهداء , فإني سأوصل سلامها إلى أبي وأخوالي في الجنة , ثم قال : ياعم إني أخاف ألا تصدق أمي كلامك فخذ بعض ثيابي التي فيها الدم , فإن أمي إذا رأتها صدقت أني مقتول , وقل لها إن الموعد الجنة إن شاء الله ..
ياعم : إنك إذا أتيت إلى بيتنا ستجد أختا لي صغيرة عمرها تسع سنوات .. ما دخلت البيت إلا واستبشرت وفرحت ولا خرجت إلا بكت وحزنت , وقد فجعت بمقتل أبي عام أول وتفجع بمقتلي اليوم , وأنها قالت لي عندما رأت علي ثياب السفر : يا أخي لا تبطئ علينا وعجل الرجوع إلينا , فإذا رأيتها فطيب صدرها بكلمات .. وقل لها يقول لك أخوك الله خليفتي عليك ..
ثم تحامل الغلام على نفسه وقال : يا عم صدقت الرؤيا ورب الكعبة والله إني لأرى المرضية الآن عند رأسي وأشم ريحها .. ثم انتفض وتصبب العرق وشهق شهقات , ثم مات .
قال أبو قدامة : فأخذت بعض ثيابه فلما دفناه لم يكن عندي هم أعظم من أن ارجع إلى الرقة وأبلغ رسالته لأمه .. فرجعت إلى الرقة وأنا لا ادري ما اسم أمه وأين تسكن .. فبينما أنا امشي وقفت عند منزل تقف على بابه فتاة صغيرة ما يمر أحد من عند بابها وعليه أثر السفر إلا سألته يا عمي من أين أتيت فيقول من الجهاد فتقول له معكم أخي ؟؟ .. فيقول ما ادري من أخوك ويمضي .. وتكرر ذلك مراراً مع المارة ويتكرر معاها نفس الرد .. فبكت أخيرا وقالت : مالي أرى الناس يرجعون وأخي لا يرجع ...
فلما رأيت حالها أقبلت عليها .. فرأت علي اثر السفر فقالت يا عم من أين أنت قال من الجهاد فقالت معكم أخي قفلت أين أمك ؟؟ قالت في الداخل ودخلت تناديها .. فلما أتت الأم وسمعت صوتي عرفتني وقالت : يا أبا قدامة أقبلت معزيا أم مبشراً ؟؟
فقلت إن كنت أقبلت تخبرني أن ولدي قتل في سبيل الله مقبل غير مدبر فأنت تبشرني بأن الله قبل هديتي التي أعدتها من سبعة عشر عاماً .
وإن كنت قد أقبلت كي تخبرني أن ابني رجع سالما معه الغنيمة فإنك تعزيني لأن الله لم يقبل هديتي إليه .. فقلت لها بل أنا مبشر إن ولدك قد قتل مقبل غير مدبر .. فقالت ما أظنك صادقا وهي تنظر إلى الكيس ثم فتحت الكيس وإذا بالدماء تغطي الملابس فقلت لها أليست هذه ثيابه التي ألبستيه إياها بيدك ؟
فقالت الله أكبر وفرحت ... أما الصغيرة شهقت ثم وقعت على الأرض ففزعت أمها ودخلت تحضر لها الماء وتسكبها على وجهها .. أما أنا فجلست أقرأ القرآن عند رأسها .. و والله مازالت تشهق وتنادي باسم أبيها وأخيها .. وما غادرتها إلا ميتة ..
فأخذتها أمها وأدخلتها وأغلقت الباب وسمعتها تقول :
اللهم إني قد قدمت زوجي وإخواني وولدي في سبيلك اللهم أن ترضى عني وتجمعني وإياهم في جنتك .....
انتهت القصة
قدمت هذه المرأة الصالحة كل ذلك في سبيل الله لكي تدخل الدار التي اشتد شوقها إليها وقدم ولدها نفسه رخيصة لله وتناسى لذاته وشبابه فيا ليت شعري ماذا قدم المفرطون أمثالنا
--------------------------------------------------------------------------------
تعليق