الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ...وبعد،
بينما كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسير ليلا في أزقة المدينة لتفقد أحوال الرعيّة طرق سمعه صوت إمراة تنشد وهي تتغزل بأحد شبّان المدينة قائلة :
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ***** أو من سبيل إلى نصـر بن حجاج
إلى فتى ماجد الأعراق مقتبل ***** سهـل المحيا كـريم غـير ملجاج
فعمر الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم { بينما أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا إمراة تتوضأ إلى جانب قصرقلت لمن هذا القصر قالوا لعمر بن الخطاب فذكرت غيرته وولّيت مدبرا} لم تمرعليه هذه الحادثة مرور الكرام فقد قضى ليلته دون أن يغمض له جفن ، فعاصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قالت عن نسائها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، عندما نزل قول الله تعالى { ليضربن بخمرهن على جيوبهن } النور 31 ، ما منهن إمراة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين الصبح متعجرات كأن على رؤوسهن الغربان ، يسمع فيها خليفة المسلمين إمراة تتغزل بشاب قد سلب عقلها جماله !.
فهذا أمر في منتهى الخطورة بمنظور أبي حفص ، فبقي يتقلب على فراشه حتى أذّن المؤذن لصلاة الفجر ، فيؤم الناس بالصلاة ويصعد بعد إنتهاء الصلاة على المنبر ويحمد الله ويثنى عليه ويصلي ويسلم على نبيه صلى الله عليه وسلم ، معلنا بعد ذلك حالة الاستنفار بالمدينة لاحضار ذلك الشاب الذي تهتف به النساء في بيوتهن .
وعلى الفور ينعقد مجلس الشورى المكون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم ، فيتقدم من بينهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قائلا : يا أمير المؤمنين نصر بن حجاج أعرفه فهو شاب من شباب المدينة إشتهر بجماله فإن أردت أن تراه أحضرته إليك ، قال أمير المؤمنين إليّ به يا إبن عوف ، فيحضر نصر بن حجاج الى أمير المؤمنين ، ولمّا رأى من جماله قال : والله لا تساكني في بلدة يتمناك بها النساء ، فخذ من بيت المال ما يصلحك وسر إلى البصرة .
فقال نصر : لقد قتلتني يا أمير المؤمنين ، فإن فراق الاوطان كقتل النفس ، قال تعالى : { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلا } النساء 66 ، قال الخليفة ولكني أقول ما قال الله على لسان نبيه شعيب عليه السلام :{ إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله } هود 88 .
فأعراض المسلمين عند عمر تأتي في مقدمة إهتماماته ، فكيف لا وهو الذي قال :{ يا رسول الله لو أمرت نسائك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر ، فنزلت بعد ذلك آية الحجاب موافقا رأئه لأمر ربه من فوق سبع سموات } .
إن الرجال الناظرين إلى النساء ***** مثل الكلاب تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها ***** أكلــت بلا عوض ولا أثمان
فأؤلئك النساء هن اللاتي أنجبن القادة الذين تحطمت تحت سنابك خيولهم عروش الفرس والروم والعلماء الذين حفظ الله بهم ربقة الاسلام ، وما ذلك إلا بتوفيق الله لعمر أن جعله حصن الفضيلة المنيع الذي تتحطم على جنباته سهام دعاة الرذيلة .
تروي لنا كتب السير أن رجلا من السلف التحق بجيوش الفتح الاسلامي في خرسان وترك زوجته الحامل بالمدينة ولديها مبلغ ثلاثون ألف دينار هي كل ما يملك عدى سيفه وجواده الذين خرج بهمـا للجهـاد ، وبقي هذا المجاهد يحرس ثغور المسلمين مدة عشرين عاما, يقرر بعدها العودة الى زوجته التي لم تصله أخبارها منذ فارقها ولا يعلم ما صنع الله بالجنين الذي كانت تحمله في بطنها ، فيؤمم وجهه شطر مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتطيا صهوة جواده الذي أخذ ينهب الأرض ويطوي المسافات وكأنه يعلم ما يجول بين جوانح صاحبه من حنين لتلك الديار وساكنيها بعد هذه الغربة الطويلة .
ولما بلغ أسوار المدينة إتّجه إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليسلم على هادي هذه الامة ومعلمها محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، ويصلي لله ما شاء أن يصلي قبل الذهاب إلى أهله وقد وافق مجيئه وقت صلاة المغرب وبعــد أن أديت الصلاة تحلق طلبة العلم حول شيخهم ذلك الفتى المعمم الذي يشع وجهه بنور الايمان ، فجلس الرجل الى تلك الحلقة رغبة في فضل مجلس الذكر وللاستزادة من العلم الشرعي لا سيما أنه كان منشغلا بالجهاد ولم يحضر مجالس العلماء الا نادرا ، ويبدأ الشيخ ربيعة بن فروخ المكنى ( ربيعة الراي ) الدرس بشرح كتاب الجهاد لأحد علماء السلف رحمهم الله ولشدة إعجاب الرجل بهذا الشاب عاد به الخيال إلى ما قبل عشرين سنة متمنيا لو بقى بالمدينة وقام على تربية إبنه الذي كان وقتها حملا في بطن أمه لعل الله أن يجعل منه عالما تنتفع بعلمه أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثل هذا الشاب .
ولم ينتبه إلا لصوت المؤذن معلنا دخول صلاة العشاء ، وبعد أداء الصلاة مكث جالسا بالمسجد حتى تفرق الناس وذهب كل الى بيته ، عندها توجه الى داره القريبة من المسجد ثم ربط جواده أمام الدار وتقدم الى الباب وطرقه طرقا خفيفا حتى لا يزعج الجيران ، وكانت المفاجأة العظيمة عندما خرج عليه من الدار ذلك الشاب الذي كان يلقي الدرس بالمسجد ، فما كان منه إلا أن يمتشق سيفه ليفتك بهذا الوغد الذي لم يحترم مبادئ الاسلام التي كان يعلمها للناس ، ودخل داره وخلى بزوجته مستغلا غيابه عن أهله ، ويرد الشاب على هذا التصرف العدواني قائلا ما ذا تريد يا عدو الله تدخل داري وتشهر عليّ سلاحك ، فتتدخل الام التي أتت بعد سماعها الجلبة التي حصلت بين إبنها وذلك الرجل الذي طرق الباب ، فقالت على رسلكما (سلم يا بني على والدك ).
وبعد أن هدأت المشاعر واستقرت النفوس المشحونة بالعواطف سجد الجميع شكرا لله سبحانه وتعالى الذي منّ عليهم بلم الشمل بعد طول فراق ، ومن بديهيات الامور أن يسأل الرجل زوجته عن ما بقي من المال الذي أودعه عندها أثناء سفره فقالت بقي منه العلم الذي أودعه الله في عقل إبنك ، فعلم إنها قد صرفت كل المبلغ ولكن ليس فيما تهوي الانفس البشرية من المشرب والمأكل وأدوات اللهو وإنما صرفته على تربية ابنها وتعليمه فحمد الله على ذلك وأثنى عليه ودعى لها بحسن العاقية .
فهذه الام التي إستطاعت أن تصمد كل هذه المدة التي غاب عنها زوجها وتنذر نفسها وما تملك لتربية إبنها وتعليمه حتى أصبح من كبار علماء عصره ولم يتجاوز عمره العشرين سنة لو لم تكن في بيئة إجتماعية صالحة وولاية راشدة تعتني بأخلاقيات الامة وتغار على محارم الله لربما جرفها التيار وانزلقت في مهاوي الرذيلة كما انزلق غيرها من بنات جنسها اللاتي عشن في مجتمعات تحكم سلوكها الاهواء والشهوات بحجة أن سلوكيات الافراد خاصة بهم وتعتبر من الحريات الشخصية التي لا يجوز للآخرين المساس بها .
بعكس المجتمع الاسلامي السليم الذي يعتبر أن رعاية الفرد وتربيتة على الاخلاق الفاضلة وحمايته من ما ينافيها حتى وإن كان الفاعل هو نفسه ، هي من أهم واجبات من ولاه الله أمر الأمة, وهذا المنهج الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وسار عليه من بعده خلفاؤه الراشدون وسلف الأمة الصالح .
وعندما ضعفت الامة وسلبت منها الارادة وسلط عليها من أبنائها المؤتمرين بأمر عدوها ليفرضوا عليها إتباعه حذو القذة بالقذة تنازلت عن أهم موروثاتها الحضارية وصارت تردد كالببغاوات ما يسميه الاعداء حرية المرأة ومساواتها بالرجل .
وفي هذا المضمار محطات في تاريخ الامة حالكة السواد ، لعلي أذكر منها على سبيل المثال أيام حكم ملوك الطوائف بالاندلس حيث كانت بنات الملوك يجاهرن بفسقهن مع من يردن ولا أحد ينكر عليهن هذا العمل الشنيع .
فهاهي سليلة الأمويين مع وزير أبيها بن زيدون عندما شعرت أنه مال إلى جاريتها وهي التي تظن أنها الوحيدة التي إستطاعت سلب لباب عقله فقالت له معاتبة :
لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا ***** لم تهو جاريتي ولم تتخير
وتركت غصـنا مثمـرا بجماله ***** وجنحت للغصن الذي لم يثمر
فولادة بنت المستكفي التي كانت تكتب بالذهب على طرازها الايمن :
أنا والله أصلح للمعالي * وأمشي مشيتي وأتيه تيها
وعلى طرازها الايسر :
وأمكن عاشقي من صحن خدي * وأعطي قبلتي من يشتهيها
قد قضت حياتها باللهو والمجون وماتت بعد أن تجاوز عمرها الثمانين عاما ولم تتزوج.
وليست هي المسئولة الوحيدة عن ما آلت إليه حالها ، بل هي ضحية من ضحايا الانهيار الذي أصاب الامة بأسرها كنتيجة حتمية لتبعية ملوك الطوائف الذين كان والدها أحدهم لملوك النصارى، فلو قدر لولادة بما عرف عنها من الذكاء أن تكون حياتها بعصرعمر ابن الخطاب لربما كانت أما لأحد قادة الفتح الاسلامي .
فالانسان جبل على الخير والشر معا فإن وجد من يوقظ نزعة الخير التي بداخله كان خيّرا بإذن الله تعالى وإن كانت الاخرى صار شريرا نعوذ بالله من ذلك .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أويمجسانه ) رواه مسلم .
إن الناظر الى عصرنا الحالي يرى التشابه الكبير بينه وبين عصر الطوائف بالاندلس من حيث الدعوة النشطة لخروج المرأة من خدرها وتنحيتها عن المهمة التي وجدت من أجلها وجعلها لا تكتفي بمزاحمة الرجال لما كلفوا به ولكن تتجاوز ذلك الى أمور تفقدها دورها كربة بيت ومربية أجيال وهذا ورب الكعبة هو الذي أراده أعداء الامة من الكفار وأذنابهم المنافقين .
ومن أوجه الشبه بعصر الطوائف أن أغلب الداعيات لتفسخ المرأة وإنحلالها من نساء علية القوم .
وكما أسلفت هنّ لسن وحدهنّ المسئولات عن ما آل إليه الحال ولكن المسئول أمام الله ثم أمام الامة هو من أتاه الله سلطة تغيير المنكر بدرجته الاولى ولم يفعل { إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) وآخر دعوانا ان الحمدلله رب العالمين } .
بينما كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسير ليلا في أزقة المدينة لتفقد أحوال الرعيّة طرق سمعه صوت إمراة تنشد وهي تتغزل بأحد شبّان المدينة قائلة :
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ***** أو من سبيل إلى نصـر بن حجاج
إلى فتى ماجد الأعراق مقتبل ***** سهـل المحيا كـريم غـير ملجاج
فعمر الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم { بينما أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا إمراة تتوضأ إلى جانب قصرقلت لمن هذا القصر قالوا لعمر بن الخطاب فذكرت غيرته وولّيت مدبرا} لم تمرعليه هذه الحادثة مرور الكرام فقد قضى ليلته دون أن يغمض له جفن ، فعاصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قالت عن نسائها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، عندما نزل قول الله تعالى { ليضربن بخمرهن على جيوبهن } النور 31 ، ما منهن إمراة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين الصبح متعجرات كأن على رؤوسهن الغربان ، يسمع فيها خليفة المسلمين إمراة تتغزل بشاب قد سلب عقلها جماله !.
فهذا أمر في منتهى الخطورة بمنظور أبي حفص ، فبقي يتقلب على فراشه حتى أذّن المؤذن لصلاة الفجر ، فيؤم الناس بالصلاة ويصعد بعد إنتهاء الصلاة على المنبر ويحمد الله ويثنى عليه ويصلي ويسلم على نبيه صلى الله عليه وسلم ، معلنا بعد ذلك حالة الاستنفار بالمدينة لاحضار ذلك الشاب الذي تهتف به النساء في بيوتهن .
وعلى الفور ينعقد مجلس الشورى المكون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم ، فيتقدم من بينهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قائلا : يا أمير المؤمنين نصر بن حجاج أعرفه فهو شاب من شباب المدينة إشتهر بجماله فإن أردت أن تراه أحضرته إليك ، قال أمير المؤمنين إليّ به يا إبن عوف ، فيحضر نصر بن حجاج الى أمير المؤمنين ، ولمّا رأى من جماله قال : والله لا تساكني في بلدة يتمناك بها النساء ، فخذ من بيت المال ما يصلحك وسر إلى البصرة .
فقال نصر : لقد قتلتني يا أمير المؤمنين ، فإن فراق الاوطان كقتل النفس ، قال تعالى : { ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلا } النساء 66 ، قال الخليفة ولكني أقول ما قال الله على لسان نبيه شعيب عليه السلام :{ إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله } هود 88 .
فأعراض المسلمين عند عمر تأتي في مقدمة إهتماماته ، فكيف لا وهو الذي قال :{ يا رسول الله لو أمرت نسائك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر ، فنزلت بعد ذلك آية الحجاب موافقا رأئه لأمر ربه من فوق سبع سموات } .
إن الرجال الناظرين إلى النساء ***** مثل الكلاب تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها ***** أكلــت بلا عوض ولا أثمان
فأؤلئك النساء هن اللاتي أنجبن القادة الذين تحطمت تحت سنابك خيولهم عروش الفرس والروم والعلماء الذين حفظ الله بهم ربقة الاسلام ، وما ذلك إلا بتوفيق الله لعمر أن جعله حصن الفضيلة المنيع الذي تتحطم على جنباته سهام دعاة الرذيلة .
تروي لنا كتب السير أن رجلا من السلف التحق بجيوش الفتح الاسلامي في خرسان وترك زوجته الحامل بالمدينة ولديها مبلغ ثلاثون ألف دينار هي كل ما يملك عدى سيفه وجواده الذين خرج بهمـا للجهـاد ، وبقي هذا المجاهد يحرس ثغور المسلمين مدة عشرين عاما, يقرر بعدها العودة الى زوجته التي لم تصله أخبارها منذ فارقها ولا يعلم ما صنع الله بالجنين الذي كانت تحمله في بطنها ، فيؤمم وجهه شطر مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتطيا صهوة جواده الذي أخذ ينهب الأرض ويطوي المسافات وكأنه يعلم ما يجول بين جوانح صاحبه من حنين لتلك الديار وساكنيها بعد هذه الغربة الطويلة .
ولما بلغ أسوار المدينة إتّجه إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليسلم على هادي هذه الامة ومعلمها محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، ويصلي لله ما شاء أن يصلي قبل الذهاب إلى أهله وقد وافق مجيئه وقت صلاة المغرب وبعــد أن أديت الصلاة تحلق طلبة العلم حول شيخهم ذلك الفتى المعمم الذي يشع وجهه بنور الايمان ، فجلس الرجل الى تلك الحلقة رغبة في فضل مجلس الذكر وللاستزادة من العلم الشرعي لا سيما أنه كان منشغلا بالجهاد ولم يحضر مجالس العلماء الا نادرا ، ويبدأ الشيخ ربيعة بن فروخ المكنى ( ربيعة الراي ) الدرس بشرح كتاب الجهاد لأحد علماء السلف رحمهم الله ولشدة إعجاب الرجل بهذا الشاب عاد به الخيال إلى ما قبل عشرين سنة متمنيا لو بقى بالمدينة وقام على تربية إبنه الذي كان وقتها حملا في بطن أمه لعل الله أن يجعل منه عالما تنتفع بعلمه أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثل هذا الشاب .
ولم ينتبه إلا لصوت المؤذن معلنا دخول صلاة العشاء ، وبعد أداء الصلاة مكث جالسا بالمسجد حتى تفرق الناس وذهب كل الى بيته ، عندها توجه الى داره القريبة من المسجد ثم ربط جواده أمام الدار وتقدم الى الباب وطرقه طرقا خفيفا حتى لا يزعج الجيران ، وكانت المفاجأة العظيمة عندما خرج عليه من الدار ذلك الشاب الذي كان يلقي الدرس بالمسجد ، فما كان منه إلا أن يمتشق سيفه ليفتك بهذا الوغد الذي لم يحترم مبادئ الاسلام التي كان يعلمها للناس ، ودخل داره وخلى بزوجته مستغلا غيابه عن أهله ، ويرد الشاب على هذا التصرف العدواني قائلا ما ذا تريد يا عدو الله تدخل داري وتشهر عليّ سلاحك ، فتتدخل الام التي أتت بعد سماعها الجلبة التي حصلت بين إبنها وذلك الرجل الذي طرق الباب ، فقالت على رسلكما (سلم يا بني على والدك ).
وبعد أن هدأت المشاعر واستقرت النفوس المشحونة بالعواطف سجد الجميع شكرا لله سبحانه وتعالى الذي منّ عليهم بلم الشمل بعد طول فراق ، ومن بديهيات الامور أن يسأل الرجل زوجته عن ما بقي من المال الذي أودعه عندها أثناء سفره فقالت بقي منه العلم الذي أودعه الله في عقل إبنك ، فعلم إنها قد صرفت كل المبلغ ولكن ليس فيما تهوي الانفس البشرية من المشرب والمأكل وأدوات اللهو وإنما صرفته على تربية ابنها وتعليمه فحمد الله على ذلك وأثنى عليه ودعى لها بحسن العاقية .
فهذه الام التي إستطاعت أن تصمد كل هذه المدة التي غاب عنها زوجها وتنذر نفسها وما تملك لتربية إبنها وتعليمه حتى أصبح من كبار علماء عصره ولم يتجاوز عمره العشرين سنة لو لم تكن في بيئة إجتماعية صالحة وولاية راشدة تعتني بأخلاقيات الامة وتغار على محارم الله لربما جرفها التيار وانزلقت في مهاوي الرذيلة كما انزلق غيرها من بنات جنسها اللاتي عشن في مجتمعات تحكم سلوكها الاهواء والشهوات بحجة أن سلوكيات الافراد خاصة بهم وتعتبر من الحريات الشخصية التي لا يجوز للآخرين المساس بها .
بعكس المجتمع الاسلامي السليم الذي يعتبر أن رعاية الفرد وتربيتة على الاخلاق الفاضلة وحمايته من ما ينافيها حتى وإن كان الفاعل هو نفسه ، هي من أهم واجبات من ولاه الله أمر الأمة, وهذا المنهج الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وسار عليه من بعده خلفاؤه الراشدون وسلف الأمة الصالح .
وعندما ضعفت الامة وسلبت منها الارادة وسلط عليها من أبنائها المؤتمرين بأمر عدوها ليفرضوا عليها إتباعه حذو القذة بالقذة تنازلت عن أهم موروثاتها الحضارية وصارت تردد كالببغاوات ما يسميه الاعداء حرية المرأة ومساواتها بالرجل .
وفي هذا المضمار محطات في تاريخ الامة حالكة السواد ، لعلي أذكر منها على سبيل المثال أيام حكم ملوك الطوائف بالاندلس حيث كانت بنات الملوك يجاهرن بفسقهن مع من يردن ولا أحد ينكر عليهن هذا العمل الشنيع .
فهاهي سليلة الأمويين مع وزير أبيها بن زيدون عندما شعرت أنه مال إلى جاريتها وهي التي تظن أنها الوحيدة التي إستطاعت سلب لباب عقله فقالت له معاتبة :
لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا ***** لم تهو جاريتي ولم تتخير
وتركت غصـنا مثمـرا بجماله ***** وجنحت للغصن الذي لم يثمر
فولادة بنت المستكفي التي كانت تكتب بالذهب على طرازها الايمن :
أنا والله أصلح للمعالي * وأمشي مشيتي وأتيه تيها
وعلى طرازها الايسر :
وأمكن عاشقي من صحن خدي * وأعطي قبلتي من يشتهيها
قد قضت حياتها باللهو والمجون وماتت بعد أن تجاوز عمرها الثمانين عاما ولم تتزوج.
وليست هي المسئولة الوحيدة عن ما آلت إليه حالها ، بل هي ضحية من ضحايا الانهيار الذي أصاب الامة بأسرها كنتيجة حتمية لتبعية ملوك الطوائف الذين كان والدها أحدهم لملوك النصارى، فلو قدر لولادة بما عرف عنها من الذكاء أن تكون حياتها بعصرعمر ابن الخطاب لربما كانت أما لأحد قادة الفتح الاسلامي .
فالانسان جبل على الخير والشر معا فإن وجد من يوقظ نزعة الخير التي بداخله كان خيّرا بإذن الله تعالى وإن كانت الاخرى صار شريرا نعوذ بالله من ذلك .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أويمجسانه ) رواه مسلم .
إن الناظر الى عصرنا الحالي يرى التشابه الكبير بينه وبين عصر الطوائف بالاندلس من حيث الدعوة النشطة لخروج المرأة من خدرها وتنحيتها عن المهمة التي وجدت من أجلها وجعلها لا تكتفي بمزاحمة الرجال لما كلفوا به ولكن تتجاوز ذلك الى أمور تفقدها دورها كربة بيت ومربية أجيال وهذا ورب الكعبة هو الذي أراده أعداء الامة من الكفار وأذنابهم المنافقين .
ومن أوجه الشبه بعصر الطوائف أن أغلب الداعيات لتفسخ المرأة وإنحلالها من نساء علية القوم .
وكما أسلفت هنّ لسن وحدهنّ المسئولات عن ما آل إليه الحال ولكن المسئول أمام الله ثم أمام الامة هو من أتاه الله سلطة تغيير المنكر بدرجته الاولى ولم يفعل { إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) وآخر دعوانا ان الحمدلله رب العالمين } .
تعليق