تأييد العساكر الإسلامية في غزوها للمعاقل الرافضية
[الكاتب: ابن تيمية]
كتب شيخ الإسلام إلى الملك الناصر بعد وقعة جبل كسروان بسبب فتوح الجبل [1]:
بسم الله الرحمن الرحيم
من الداعي أحمد بن تيمية إلى سلطان المسلمين، ومن أيد الله في دولته الدين، وأعز بها عباده المؤمنين، وقمع فيها الكفار والمنافقين، والخوارج المارقين، نصره الله ونصر به الإسلام، وأصلح له وبه أمور الخاص والعام، وأحيا به معالم الإيمان، وأقام به شرائع القرآن، وأذل به أهل الكفر والفسوق والعصيان.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلى على خاتم النبيين، وإمام المتقين محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
أما بعد...
فقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأنعم الله على السلطان، وعلى المؤمنين في دولته نعما لم تعهد في القرون الخالية، وجدد الإسلام في أيامه تجديدًا، بانت فضيلته على الدول الماضية، وتحقق في ولايته خبر الصادق المصدوق، أفضل الأولين والآخرين، الذين أخبر فيه عن تجديد الدين في رؤوس المئين.
والله تعالى يوزعه والمسلمين شكر هذه النعم العظيمة في الدنيا والدين، ويتمها بتمام النصر على سائر الأعداء المارقين.
وذلك أن السلطان - أتم الله نعمته - حصل للأمة - بيمن ولايته، وحسن نيته، وصحة إسلامه وعقيدته، وبركة إيمانه ومعرفته، وفضل همته وشجاعته، وثمرة تعظيمه للدين وشرعته، ونتيجة اتباعه لكتاب الله وحكمته - ما هو شبيه بما كان يجري في أيام الخلفاء الراشدين، وما كان يقصده أكابر الأئمة العادلين، من جهاد أعداء الله المارقين من الدين.
وهم صنفان:
أهل الفجور والطغيان، وذوو الغي والعدوان، الخارجون عن شرائع الإيمان، طلبا للعلو في الأرض والفساد، وتركا لسبيل الهدي والرشاد؛ وهؤلاء هم التتار، ونحوهم من كل خارج عن شرائع الإسلام وإن تمسك بالشهادتين، أو ببعض سياسة الإسلام.
والصنف الثاني: أهل البدع المارقون، وذوو الضلال المنافقون، الخارجون عن السنة والجماعة،المفارقون للشرعة والطاعة؛ مثل هؤلاء الذين غزوا بأمر السلطان من أهل الجبل، والجرد، والكسروان، فإن ما مَنَّ الله به من الفتح والنصر على هؤلاء الطغام، هو من عزائم الأمور التي أنعم الله بها على السلطان وأهل الإسلام.
وذلك أن هؤلاء وجنسهم من أكابر المفسدين في أمر الدنيا والدين؛
فإن اعتقادهم؛
أن أبا بكر وعمر وعثمان، وأهل بدر، وبيعة الرضوان وجمهور المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، وأئمة الإسلام وعلماءهم أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، ومشايخ الإسلام وعبادهم، وملوك المسلمين وأجنادهم، وعوام المسلمين وأفرادهم، كل هؤلاء عندهم كفار مرتدون، أكفر من اليهود والنصارى؛ لأنهم مرتدون عندهم، والمرتد شر من الكافر الأصلى.
ولهذا السبب يقدمون الفرنج والتتار على أهل القرآن والإيمان.
ولهذا لما قدم التتار إلى البلاد، وفعلوا بعسكر المسلمين ما لا يحصي من الفساد، وأرسلوا إلى أهل قبرص فملكوا بعض الساحل، وحملوا راية الصليب، وحملوا إلى قبرص من خيل المسلمين وسلاحهم وأسراهم ما لا يحصي عدده إلا الله، وأقام سوقهم بالساحل عشرين يوما يبيعون فيه المسلمين والخيل والسلاح على أهل قبرص، وفرحوا بمجيء التتار، هم وسائر أهل هذا المذهب الملعون، مثل أهل جزين وما حوإليها، وجبل عامل ونواحيه.
ولما خرجت العساكر الإسلامية من الديار المصرية؛ ظهر فيهم من الخزي والنكال ما عرفه الناس منهم، ولما نصر الله الإسلام النصرة العظمي عند قدوم السلطان، كان بينهم شبيه بالعزاء.
كل هذا، وأعظم منه عند هذه الطائفة التي كانت من أعظم الأسباب في خروج جنكسخان إلى بلاد الإسلام، وفي استيلاء هولاكو على بغداد، وفي قدومه إلى حلب، وفي نهب الصالحية، وفي غير ذلك من أنواع العداوة للإسلام وأهله.
لأن عندهم أن كل من لم يوافقهم على ضلالهم فهو كافر مرتد.
ومن استحل الفقاع فهو كافر.
ومن مسح على الخفين فهو عندهم كافر.
ومن حرم المتعة فهو كافر.
ومن أحب أبا بكر، أو عمر، أو عثمان، أو ترضي عنهم، أو عن جماهير الصحابة، فهو عندهم كافر.
ومن لم يؤمن بمنتظرهم فهو عندهم كافر.
وهذا المنتظر صبي عمره سنتان أو ثلاث، أو خمس، يزعمون أنه دخل السرداب بسامرا من أكثر من أربعمائة سنة، وهو يعلم كل شيء، وهو حجة الله على أهل الأرض، فمن لم يؤمن به فهو عندهم كافر، وهو شيء لا حقيقة له، ولم يكن هذا في الوجود قط.
وعندهم من قال: إن الله يري في الآخرة فهو كافر.
ومن قال: إن الله تكلم بالقرآن حقيقة فهو كافر.
ومن قال: إن الله فوق السموات فهو كافر.
ومن آمن بالقضاء والقدر، وقال: إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وإن الله يقلب قلوب عباده، وإن الله خالق كل شيء، فهو عندهم كافر.
وعندهم أن من آمن بحقيقة أسماء الله وصفاته التي أخبر بها في كتابه وعلى لسان رسوله، فهو عندهم كافر.
هذا هو المذهب الذي تلقنه لهم أئمتهم - مثل بني العود؛ فإنهم شيوخ أهل هذا الجبل، وهم الذين كانوا يأمرونهم بقتال المسلمين، ويفتونهم بهذه الأمور -
وقد حصل بأيدي المسلمين طائفة من كتبهم تصنيف "ابن العود" وغيره، وفيها هذا وأعظم منه، وهم اعترفوا لنا بأنهم الذين علموهم وأمروهم، لكنهم مع هذا يظهرون التقية والنفاق، ويتقربون ببذل الأموال إلى من يقبلها منهم، وهكذا كان عادة هؤلاء الجبلية؛ فإنما أقاموا بجبلهم لما كانوا يظهرونه من النفاق، ويبذلونه من البرطيل لمن يقصدهم.
والمكان الذي لهم في غاية الصعوبة، ذكر أهل الخبرة أنهم لم يروا مثله؛ ولهذا كثر فسادهم، فقتلوا من النفوس، وأخذوا من الأموال، ما لا يعلمه إلا الله.
ولقد كان جيرانهم من أهل البقاع وغيرها معهم في أمر لا يضبط شره، كل ليلة تنزل عليهم منهم طائفة، ويفعلون من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، كانوا في قطع الطرقات وإخافة سكان البيوتات على أقبح سيرة عرفت من أهل الجنايات، يرد إليهم النصارى من أهل قبرص فيضيفونهم ويعطونهم سلاح المسلمين، ويقعون بالرجل الصالح من المسلمين، فإما أن يقتلوه أو يسلبوه، وقليل منهم من يفلت منهم بالحيلة.
فأعان الله ويسر - بحسن نية السلطان وهمته في إقامة شرائع الإسلام، وعنايته بجهاد المارقين - أن غزوا غزوة شرعية، كما أمر الله ورسوله، بعد أن كشفت أحوالهم، وأزيحت عللهم، وأزيلت شبههم، وبذل لهم من العدل والإنصاف ما لم يكونوا يطمعون به، وبين لهم أن غزوهم اقتداء بسيرة أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه في قتال الحرورية المارقين، الذين تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم ونعت حالهم من وجوه متعددة، أخرج منها أصحاب الصحيح عشرة أوجه، من حديث على بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري، وسهل بن حنيف، وأبي ذر الغفاري، ورافع بن عمرو، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال فيهم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية؛ لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد، لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يقرؤون القرآن، يحسبون أنه لهم وهو عليهم، شر قتلي تحت أديم السماء، خير قتلي من قتلوه).
وأول ما خرج هؤلاء زمن أمير المؤمنين على رضي الله عنه، وكان لهم من الصلاة، والصيام، والقراءة، والعبادة، والزهادة، ما لم يكن لعموم الصحابة، لكن كانوا خارجين عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة المسلمين، وقتلوا من المسلمين رجلا اسمه عبد الله بن خباب، وأغاروا على دواب المسلمين.
وهؤلاء القوم كانوا أقل صلاة وصياما، ولم نجد في جبلهم مصحفا ولا فيهم قارئا للقرآن، وإنما عندهم عقائدهم التي خالفوا فيها الكتاب والسنة، وأباحوا بها دماء المسلمين، وهم مع هذا فقد سفكوا من الدماء وأخذوا من الأموال ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى.
فإذا كان على بن أبي طالب قد أباح لعسكره أن ينهبوا ما في عسكر الخوارج، مع أنه قتلهم جميعهم؛ كان هؤلاء أحق بأخذ أموالهم.
وليس هؤلاء بمنزلة المتأولين الذين نادى فيهم على بن أبي طالب يوم الجمل: (أنه لا يقتل مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يغنم لهم مالا ولا يسبي لهم ذرية)، لأن مثل أولئك لهم تأويل سائغ، وهؤلاء ليس لهم تأويل سائغ، ومثل أولئك إنما يكونون خارجين عن طاعة الإمام، وهؤلاء خرجوا عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته.
وهم شر من التتار من وجوه متعددة، لكن التتر أكثر وأقوى؛ فلذلك يظهر كثرة شرهم.
وكثير من فساد التتر هو لمخالطة هؤلاء لهم، كما كان في زمن قازان، وهولاكو وغيرهما؛ فإنهم أخذوا من أموال المسلمين أضعاف ما أخذوا من أموالهم.
وأرضهم فيء لبيت المال.
وقد قال كثير من السلف؛ إن الرافضة لا حق لهم من الفيء، لأن الله إنما جعل الفيء للمهاجرين والأنصار، {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10]، فمن لم يكن قلبه سليما لهم، ولسانه مستغفرًا لهم، لم يكن من هؤلاء.
وقطعت أشجارهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني النضير قطع أصحابه نخلهم وحرقوه، فقال اليهود: (هذا فساد، وأنت يا محمد تنهى عن الفساد)، فأنزل الله: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5].
وقد اتفق العلماء على جواز قطع الشجر، وتخريب العامر عند الحاجة إليه، فليس ذلك بأولى من قتل النفوس.
وما أمكن غير ذلك، فإن القوم لم يحضروا كلهم من الأماكن التي اختفوا فيها، وأيسوا من المقام في الجبل إلا حين قطعت الأشجار، وإلا كانوا يختفون حيث لا يمكن العلم بهم، وما أمكن أن يسكن الجبل غيرهم؛ لأن التركمان إنما قصدهم الرعي، وقد صار لهم مرعي، وسائر الفلاحين لا يتركون عمارة أرضهم ويجيؤون إليه.
فالحمد لله الذي يسر هذا الفتح في دولة السلطان بهمته وعزمه وأمره، وإخلاء الجبل منهم وإخراجهم من ديارهم.
وهم يشبهون ما ذكره الله في قوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عليهمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 2 - 5].
وأيضا، فإنه بهذا قد انكسر من أهل البدع والنفاق بالشام ومصر والحجاز، واليمن، والعراق ما يرفع الله به درجات السلطان، ويعز به أهل الإيمان.
* * *
فصل:
تمام هذا الفتح وبركته تقدم مراسم السلطان بحسم مادة أهل الفساد، وإقامة الشريعة في البلاد؛ فإن هؤلاء القوم لهم من المشايخ والإخوان في قرى كثيرة من يقتدون بهم، وينتصرون لهم، وفي قلوبهم غل عظيم، وإبطان معاداة شديدة، لا يؤمنون معها على ما يمكنهم، ولو أنه مباطنة العدو، فإذا أمسك رؤوسهم الذين يضلونهم - مثل بني العود - زال بذلك من الشر ما لا يعلمه إلا الله.
ويتقدم إلى قراهم - وهي قرى متعددة بأعمال دمشق، وصفد، وطرابلس، وحماة، وحمص، وحلب -؛
بأن يقام فيهم شرائع الإسلام، والجمعة، والجماعة، وقراءة القرآن.
ويكون لهم خطباء ومؤذنون، كسائر قرى المسلمين.
وتقرأ فيهم الأحاديث النبوية، وتنشر فيهم المعالم الإسلامية.
ويعاقب من عرف منهم بالبدعة والنفاق بما توجبه شريعة الإسلام.
فإن هؤلاء المحاربين وأمثالهم قالوا: (نحن قوم جهال، وهؤلاء كانوا يعلموننا، ويقولون لنا: أنتم إذا قاتلتم هؤلاء تكونون مجاهدين، ومن قتل منكم فهو شهيد)!
وفي هؤلاء خلق كثير لا يقرون بصلاة، ولا صيام، ولا حج ولا عمرة، ولا يحرمون الميتة، والدم، ولحم الخنزير، ولا يؤمنون بالجنة والنار، من جنس الإسماعيلية، والنصيرية، والحاكمية، والباطنية، وهم كفار أكفر من اليهود والنصارى بإجماع المسلمين.
فتقدم المراسيم السلطانية بإقامة شعائر الإسلام؛ من الجمعة، والجماعة، وقراءة القرآن، وتبليغ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في قرى هؤلاء من أعظم المصالح الإسلامية، وأبلغ الجهاد في سبيل الله، وذلك سبب لانقماع من يباطن العدو من هؤلاء، ودخولهم في طاعة الله ورسوله، وطاعة أولي الأمر من المسلمين، وهو من الأسباب التي يعين الله بها على قمع الأعداء.
فإن ما فعلوه بالمسلمين في أرض "سيس" نوع من غدرهم الذي به ينصر الله المسلمين عليهم، وفي ذلك لله حكمة عظيمة، ونصرة للإسلام جسيمة.
قال ابن عباس: (ما نقض قوم العهد إلا أُديل عليهم العدو).
ولولا هذا وأمثاله؛ ما حصل للمسلمين من العزم بقوة الإيمان، وللعدو من الخذلان، ما ينصر الله به المؤمنين، ويذل به الكفار والمنافقين.
والله هو المسؤول أن يتم نعمته على سلطان الإسلام خاصة، وعلى عباده المؤمنين عامة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والحمد لله وحده
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
مجموع الفتاوى: ج 28 / ص220 - 225
--------------------------------------------------------------------------------
1) كتبها رحمه الله، بعد وقعة جبل كسروان، سنة 704 هـ، ضد الشيعة الغلاة، يهنئ فيها سلطان المسلمين بالنصر، ويشرح فيها بعض أحوال سكان جبل كسروان من الروافض والنصيرية والدروز، ويذكر الأحكام المتعلقة بقتالهم، ثم ألحقها الشيخ رحمه الله بتوصيات تتعلق بالتعامل مع من بقي من الشيعة الغلاة بعد تلك الواقعة.
قال ابن كثير رحمه الله في "البداية والنهاية"، عن تلك الواقعة: (وفي مستهل ذي الحجة؛ ركب الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه جماعة من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين، ومعه نقيب الاشراف زين الدين بن عدنان، فاستنابوا خلقاً منهم، وألزموهم بشرائع الإسلام، ورجع مؤيدا منصورا).
وكان شيخ الإسلام رحمه الله قد سبق له غزوهم أيضاً مع جيش دمشق سنة 699 هـ.
قال ابن كثير رحمه الله في أحداث تلك السنة: (ركب نائب السلطنة جمال الدين آقوش الافرم في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية، بسبب فساد نيتهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم، وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتر وهربوا حين اجتازوا ببلادهم؛ وثبوا عليهم ونهبوهم وأخذوا أسلحتهم وخيولهم، وقتلوا كثيرا منهم، فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية؛ فاستتابهم وبين للكثير منهم الصواب، وحصل بذلك خير كثير، وانتصار كبير على أولئك المفسدين، والتزموا برد ما كانوا أخذوه من أموال الجيش، وقرر عليهم أموالاً كثيرة يحملونها إلى بيت المال، وأقطعت أراضيهم وضياعهم، ولم يكونوا قبل ذلك يدخلون في طاعة الجند ولا يلتزمون أحكام الملة، ولا يديدون دين الحق، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله).
[الكاتب: ابن تيمية]
كتب شيخ الإسلام إلى الملك الناصر بعد وقعة جبل كسروان بسبب فتوح الجبل [1]:
بسم الله الرحمن الرحيم
من الداعي أحمد بن تيمية إلى سلطان المسلمين، ومن أيد الله في دولته الدين، وأعز بها عباده المؤمنين، وقمع فيها الكفار والمنافقين، والخوارج المارقين، نصره الله ونصر به الإسلام، وأصلح له وبه أمور الخاص والعام، وأحيا به معالم الإيمان، وأقام به شرائع القرآن، وأذل به أهل الكفر والفسوق والعصيان.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلى على خاتم النبيين، وإمام المتقين محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
أما بعد...
فقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأنعم الله على السلطان، وعلى المؤمنين في دولته نعما لم تعهد في القرون الخالية، وجدد الإسلام في أيامه تجديدًا، بانت فضيلته على الدول الماضية، وتحقق في ولايته خبر الصادق المصدوق، أفضل الأولين والآخرين، الذين أخبر فيه عن تجديد الدين في رؤوس المئين.
والله تعالى يوزعه والمسلمين شكر هذه النعم العظيمة في الدنيا والدين، ويتمها بتمام النصر على سائر الأعداء المارقين.
وذلك أن السلطان - أتم الله نعمته - حصل للأمة - بيمن ولايته، وحسن نيته، وصحة إسلامه وعقيدته، وبركة إيمانه ومعرفته، وفضل همته وشجاعته، وثمرة تعظيمه للدين وشرعته، ونتيجة اتباعه لكتاب الله وحكمته - ما هو شبيه بما كان يجري في أيام الخلفاء الراشدين، وما كان يقصده أكابر الأئمة العادلين، من جهاد أعداء الله المارقين من الدين.
وهم صنفان:
أهل الفجور والطغيان، وذوو الغي والعدوان، الخارجون عن شرائع الإيمان، طلبا للعلو في الأرض والفساد، وتركا لسبيل الهدي والرشاد؛ وهؤلاء هم التتار، ونحوهم من كل خارج عن شرائع الإسلام وإن تمسك بالشهادتين، أو ببعض سياسة الإسلام.
والصنف الثاني: أهل البدع المارقون، وذوو الضلال المنافقون، الخارجون عن السنة والجماعة،المفارقون للشرعة والطاعة؛ مثل هؤلاء الذين غزوا بأمر السلطان من أهل الجبل، والجرد، والكسروان، فإن ما مَنَّ الله به من الفتح والنصر على هؤلاء الطغام، هو من عزائم الأمور التي أنعم الله بها على السلطان وأهل الإسلام.
وذلك أن هؤلاء وجنسهم من أكابر المفسدين في أمر الدنيا والدين؛
فإن اعتقادهم؛
أن أبا بكر وعمر وعثمان، وأهل بدر، وبيعة الرضوان وجمهور المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، وأئمة الإسلام وعلماءهم أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، ومشايخ الإسلام وعبادهم، وملوك المسلمين وأجنادهم، وعوام المسلمين وأفرادهم، كل هؤلاء عندهم كفار مرتدون، أكفر من اليهود والنصارى؛ لأنهم مرتدون عندهم، والمرتد شر من الكافر الأصلى.
ولهذا السبب يقدمون الفرنج والتتار على أهل القرآن والإيمان.
ولهذا لما قدم التتار إلى البلاد، وفعلوا بعسكر المسلمين ما لا يحصي من الفساد، وأرسلوا إلى أهل قبرص فملكوا بعض الساحل، وحملوا راية الصليب، وحملوا إلى قبرص من خيل المسلمين وسلاحهم وأسراهم ما لا يحصي عدده إلا الله، وأقام سوقهم بالساحل عشرين يوما يبيعون فيه المسلمين والخيل والسلاح على أهل قبرص، وفرحوا بمجيء التتار، هم وسائر أهل هذا المذهب الملعون، مثل أهل جزين وما حوإليها، وجبل عامل ونواحيه.
ولما خرجت العساكر الإسلامية من الديار المصرية؛ ظهر فيهم من الخزي والنكال ما عرفه الناس منهم، ولما نصر الله الإسلام النصرة العظمي عند قدوم السلطان، كان بينهم شبيه بالعزاء.
كل هذا، وأعظم منه عند هذه الطائفة التي كانت من أعظم الأسباب في خروج جنكسخان إلى بلاد الإسلام، وفي استيلاء هولاكو على بغداد، وفي قدومه إلى حلب، وفي نهب الصالحية، وفي غير ذلك من أنواع العداوة للإسلام وأهله.
لأن عندهم أن كل من لم يوافقهم على ضلالهم فهو كافر مرتد.
ومن استحل الفقاع فهو كافر.
ومن مسح على الخفين فهو عندهم كافر.
ومن حرم المتعة فهو كافر.
ومن أحب أبا بكر، أو عمر، أو عثمان، أو ترضي عنهم، أو عن جماهير الصحابة، فهو عندهم كافر.
ومن لم يؤمن بمنتظرهم فهو عندهم كافر.
وهذا المنتظر صبي عمره سنتان أو ثلاث، أو خمس، يزعمون أنه دخل السرداب بسامرا من أكثر من أربعمائة سنة، وهو يعلم كل شيء، وهو حجة الله على أهل الأرض، فمن لم يؤمن به فهو عندهم كافر، وهو شيء لا حقيقة له، ولم يكن هذا في الوجود قط.
وعندهم من قال: إن الله يري في الآخرة فهو كافر.
ومن قال: إن الله تكلم بالقرآن حقيقة فهو كافر.
ومن قال: إن الله فوق السموات فهو كافر.
ومن آمن بالقضاء والقدر، وقال: إن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وإن الله يقلب قلوب عباده، وإن الله خالق كل شيء، فهو عندهم كافر.
وعندهم أن من آمن بحقيقة أسماء الله وصفاته التي أخبر بها في كتابه وعلى لسان رسوله، فهو عندهم كافر.
هذا هو المذهب الذي تلقنه لهم أئمتهم - مثل بني العود؛ فإنهم شيوخ أهل هذا الجبل، وهم الذين كانوا يأمرونهم بقتال المسلمين، ويفتونهم بهذه الأمور -
وقد حصل بأيدي المسلمين طائفة من كتبهم تصنيف "ابن العود" وغيره، وفيها هذا وأعظم منه، وهم اعترفوا لنا بأنهم الذين علموهم وأمروهم، لكنهم مع هذا يظهرون التقية والنفاق، ويتقربون ببذل الأموال إلى من يقبلها منهم، وهكذا كان عادة هؤلاء الجبلية؛ فإنما أقاموا بجبلهم لما كانوا يظهرونه من النفاق، ويبذلونه من البرطيل لمن يقصدهم.
والمكان الذي لهم في غاية الصعوبة، ذكر أهل الخبرة أنهم لم يروا مثله؛ ولهذا كثر فسادهم، فقتلوا من النفوس، وأخذوا من الأموال، ما لا يعلمه إلا الله.
ولقد كان جيرانهم من أهل البقاع وغيرها معهم في أمر لا يضبط شره، كل ليلة تنزل عليهم منهم طائفة، ويفعلون من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، كانوا في قطع الطرقات وإخافة سكان البيوتات على أقبح سيرة عرفت من أهل الجنايات، يرد إليهم النصارى من أهل قبرص فيضيفونهم ويعطونهم سلاح المسلمين، ويقعون بالرجل الصالح من المسلمين، فإما أن يقتلوه أو يسلبوه، وقليل منهم من يفلت منهم بالحيلة.
فأعان الله ويسر - بحسن نية السلطان وهمته في إقامة شرائع الإسلام، وعنايته بجهاد المارقين - أن غزوا غزوة شرعية، كما أمر الله ورسوله، بعد أن كشفت أحوالهم، وأزيحت عللهم، وأزيلت شبههم، وبذل لهم من العدل والإنصاف ما لم يكونوا يطمعون به، وبين لهم أن غزوهم اقتداء بسيرة أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه في قتال الحرورية المارقين، الذين تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم ونعت حالهم من وجوه متعددة، أخرج منها أصحاب الصحيح عشرة أوجه، من حديث على بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري، وسهل بن حنيف، وأبي ذر الغفاري، ورافع بن عمرو، وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال فيهم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية؛ لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد، لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم لنكلوا عن العمل، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يقرؤون القرآن، يحسبون أنه لهم وهو عليهم، شر قتلي تحت أديم السماء، خير قتلي من قتلوه).
وأول ما خرج هؤلاء زمن أمير المؤمنين على رضي الله عنه، وكان لهم من الصلاة، والصيام، والقراءة، والعبادة، والزهادة، ما لم يكن لعموم الصحابة، لكن كانوا خارجين عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة المسلمين، وقتلوا من المسلمين رجلا اسمه عبد الله بن خباب، وأغاروا على دواب المسلمين.
وهؤلاء القوم كانوا أقل صلاة وصياما، ولم نجد في جبلهم مصحفا ولا فيهم قارئا للقرآن، وإنما عندهم عقائدهم التي خالفوا فيها الكتاب والسنة، وأباحوا بها دماء المسلمين، وهم مع هذا فقد سفكوا من الدماء وأخذوا من الأموال ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى.
فإذا كان على بن أبي طالب قد أباح لعسكره أن ينهبوا ما في عسكر الخوارج، مع أنه قتلهم جميعهم؛ كان هؤلاء أحق بأخذ أموالهم.
وليس هؤلاء بمنزلة المتأولين الذين نادى فيهم على بن أبي طالب يوم الجمل: (أنه لا يقتل مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يغنم لهم مالا ولا يسبي لهم ذرية)، لأن مثل أولئك لهم تأويل سائغ، وهؤلاء ليس لهم تأويل سائغ، ومثل أولئك إنما يكونون خارجين عن طاعة الإمام، وهؤلاء خرجوا عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته.
وهم شر من التتار من وجوه متعددة، لكن التتر أكثر وأقوى؛ فلذلك يظهر كثرة شرهم.
وكثير من فساد التتر هو لمخالطة هؤلاء لهم، كما كان في زمن قازان، وهولاكو وغيرهما؛ فإنهم أخذوا من أموال المسلمين أضعاف ما أخذوا من أموالهم.
وأرضهم فيء لبيت المال.
وقد قال كثير من السلف؛ إن الرافضة لا حق لهم من الفيء، لأن الله إنما جعل الفيء للمهاجرين والأنصار، {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10]، فمن لم يكن قلبه سليما لهم، ولسانه مستغفرًا لهم، لم يكن من هؤلاء.
وقطعت أشجارهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني النضير قطع أصحابه نخلهم وحرقوه، فقال اليهود: (هذا فساد، وأنت يا محمد تنهى عن الفساد)، فأنزل الله: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5].
وقد اتفق العلماء على جواز قطع الشجر، وتخريب العامر عند الحاجة إليه، فليس ذلك بأولى من قتل النفوس.
وما أمكن غير ذلك، فإن القوم لم يحضروا كلهم من الأماكن التي اختفوا فيها، وأيسوا من المقام في الجبل إلا حين قطعت الأشجار، وإلا كانوا يختفون حيث لا يمكن العلم بهم، وما أمكن أن يسكن الجبل غيرهم؛ لأن التركمان إنما قصدهم الرعي، وقد صار لهم مرعي، وسائر الفلاحين لا يتركون عمارة أرضهم ويجيؤون إليه.
فالحمد لله الذي يسر هذا الفتح في دولة السلطان بهمته وعزمه وأمره، وإخلاء الجبل منهم وإخراجهم من ديارهم.
وهم يشبهون ما ذكره الله في قوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عليهمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 2 - 5].
وأيضا، فإنه بهذا قد انكسر من أهل البدع والنفاق بالشام ومصر والحجاز، واليمن، والعراق ما يرفع الله به درجات السلطان، ويعز به أهل الإيمان.
* * *
فصل:
تمام هذا الفتح وبركته تقدم مراسم السلطان بحسم مادة أهل الفساد، وإقامة الشريعة في البلاد؛ فإن هؤلاء القوم لهم من المشايخ والإخوان في قرى كثيرة من يقتدون بهم، وينتصرون لهم، وفي قلوبهم غل عظيم، وإبطان معاداة شديدة، لا يؤمنون معها على ما يمكنهم، ولو أنه مباطنة العدو، فإذا أمسك رؤوسهم الذين يضلونهم - مثل بني العود - زال بذلك من الشر ما لا يعلمه إلا الله.
ويتقدم إلى قراهم - وهي قرى متعددة بأعمال دمشق، وصفد، وطرابلس، وحماة، وحمص، وحلب -؛
بأن يقام فيهم شرائع الإسلام، والجمعة، والجماعة، وقراءة القرآن.
ويكون لهم خطباء ومؤذنون، كسائر قرى المسلمين.
وتقرأ فيهم الأحاديث النبوية، وتنشر فيهم المعالم الإسلامية.
ويعاقب من عرف منهم بالبدعة والنفاق بما توجبه شريعة الإسلام.
فإن هؤلاء المحاربين وأمثالهم قالوا: (نحن قوم جهال، وهؤلاء كانوا يعلموننا، ويقولون لنا: أنتم إذا قاتلتم هؤلاء تكونون مجاهدين، ومن قتل منكم فهو شهيد)!
وفي هؤلاء خلق كثير لا يقرون بصلاة، ولا صيام، ولا حج ولا عمرة، ولا يحرمون الميتة، والدم، ولحم الخنزير، ولا يؤمنون بالجنة والنار، من جنس الإسماعيلية، والنصيرية، والحاكمية، والباطنية، وهم كفار أكفر من اليهود والنصارى بإجماع المسلمين.
فتقدم المراسيم السلطانية بإقامة شعائر الإسلام؛ من الجمعة، والجماعة، وقراءة القرآن، وتبليغ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في قرى هؤلاء من أعظم المصالح الإسلامية، وأبلغ الجهاد في سبيل الله، وذلك سبب لانقماع من يباطن العدو من هؤلاء، ودخولهم في طاعة الله ورسوله، وطاعة أولي الأمر من المسلمين، وهو من الأسباب التي يعين الله بها على قمع الأعداء.
فإن ما فعلوه بالمسلمين في أرض "سيس" نوع من غدرهم الذي به ينصر الله المسلمين عليهم، وفي ذلك لله حكمة عظيمة، ونصرة للإسلام جسيمة.
قال ابن عباس: (ما نقض قوم العهد إلا أُديل عليهم العدو).
ولولا هذا وأمثاله؛ ما حصل للمسلمين من العزم بقوة الإيمان، وللعدو من الخذلان، ما ينصر الله به المؤمنين، ويذل به الكفار والمنافقين.
والله هو المسؤول أن يتم نعمته على سلطان الإسلام خاصة، وعلى عباده المؤمنين عامة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والحمد لله وحده
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
مجموع الفتاوى: ج 28 / ص220 - 225
--------------------------------------------------------------------------------
1) كتبها رحمه الله، بعد وقعة جبل كسروان، سنة 704 هـ، ضد الشيعة الغلاة، يهنئ فيها سلطان المسلمين بالنصر، ويشرح فيها بعض أحوال سكان جبل كسروان من الروافض والنصيرية والدروز، ويذكر الأحكام المتعلقة بقتالهم، ثم ألحقها الشيخ رحمه الله بتوصيات تتعلق بالتعامل مع من بقي من الشيعة الغلاة بعد تلك الواقعة.
قال ابن كثير رحمه الله في "البداية والنهاية"، عن تلك الواقعة: (وفي مستهل ذي الحجة؛ ركب الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه جماعة من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين، ومعه نقيب الاشراف زين الدين بن عدنان، فاستنابوا خلقاً منهم، وألزموهم بشرائع الإسلام، ورجع مؤيدا منصورا).
وكان شيخ الإسلام رحمه الله قد سبق له غزوهم أيضاً مع جيش دمشق سنة 699 هـ.
قال ابن كثير رحمه الله في أحداث تلك السنة: (ركب نائب السلطنة جمال الدين آقوش الافرم في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية، بسبب فساد نيتهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم، وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتر وهربوا حين اجتازوا ببلادهم؛ وثبوا عليهم ونهبوهم وأخذوا أسلحتهم وخيولهم، وقتلوا كثيرا منهم، فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية؛ فاستتابهم وبين للكثير منهم الصواب، وحصل بذلك خير كثير، وانتصار كبير على أولئك المفسدين، والتزموا برد ما كانوا أخذوه من أموال الجيش، وقرر عليهم أموالاً كثيرة يحملونها إلى بيت المال، وأقطعت أراضيهم وضياعهم، ولم يكونوا قبل ذلك يدخلون في طاعة الجند ولا يلتزمون أحكام الملة، ولا يديدون دين الحق، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله).
تعليق