في السيرة النبوية
قراءة لجوانب الحذر والحماية
الحمد لله القوي العزيز، الذي أوقف الأمة المسلمة على ما شرع للأمم السابقة، وأورثها النبوة والكتاب، واصطفاها لحمل الرسالة الخاتمة الخالدة، وحفظ لها كتابها من التحريف والتأويل، وناط بها الشهادة على الناس، والقيادة لهم، فقال تعالى: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهـداء على الناس ) (البقرة: 143).
وجعل الإسلام دعوة ودولة، وقرآنًا وسلطانًا، وحذّر الأمة من موالاة أعدائها، الذين يودون عنتها ولا يألونها خبالاً، واعتبر موالاة غير الله ورسوله والذين آمنوا ردة عن الإسلام، وسببًا للسقوط والاستبدال، فقال تعالى بعد أن نهى عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء: ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ) (المائدة: 54).
وقال تعالى: ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون * ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ) (آل عمران: 72-73).
كما حذّر الأمة المسلمة أيضًا من الغفلة وغيبوبة الوعي، وطلب إليها أن تبقى يقظة حذرة من مكائد عدوها، فقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعًا ) (النساء: 71).
وقال: ( ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) (النساء: 102).
وشرع الجهاد لحماية منجزات الدعوة، ووقايتها من مؤامرات ومكائد الأعداء، وجعله رأس سنام الإسلام، كما جعله ماضيًا إلى يوم القيامة، لدرء الفتن، وإقرار حرية التدين، ودفع الاعتداء، فقال الرسول صلى الله عليه و سلم: ( الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة ) (رواه الطبراني في الأوسط وفي سنده مقال)، لأن العدوان على هذا الدين مستمر إلى يوم القيامة، ولأن التدافع بين الحق والباطل من سنن الحياة الاجتماعية الماضية -فالشر من لوازم الخير- قال تعالى: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا من المجرمين ) (الفرقان: 31)، فلابد أن يدرك المسلمون مهمتهم ورسالتهم، فيأخذوا حذرهم على الأصعدة المختلفة، وأن يعدوا ما استطاعوا من القوة والحذر واحتياطات الأمن، لنشر الدعوة وحماية منجزاتها، في كل المراحل، لأن حماية المنجزات وتأمين الامتداد، لا يقل أهمية عن الإنجاز نفسه.
وصلّى الله على محمد، رسول الرحمة، وخير مثال يُحتذى في الدعوة والإنجاز، وفي وسائل حماية الدعوة والإنجاز وتأمين امتدادها، الذي جاء الأمة من نفسها، وبُعث في الأميين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. قال تعالى: ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) (الجمعة: 2).
وهو الذي شهد الله له أنه معلم الكتاب، ومزكي النفوس، ومنقي المسالك من الزيغ والانحراف، ومبين كيفيات تنزيل القرآن على الواقع، وتقويم سلوك البشرية به، ذلك أن من الأمور التي أصبحت مُسَلَّمة، أن العقل لا يمكنه بأدواته ومحدوديته رؤية الصراط المستقيم، بنتائجه وعواقبه، ولو كان العقل دون الوحي قادرًا على ذلك، لانتفت الحاجة إلى النبوة.. ولو كان قادرًا على الاغتراف المباشر، أو التعامل المباشر مع القرآن، لما كان هناك حاجة إلى الرسول القدوة، الذي يجسّد المبادئ ويقدم المثال الأنموذج، ويُناط به البيان، بقوله وفعله وإقراره، أي بسنته وسيرته وما أقره من اجتهاد أصحابه.
وبعـد:
فهذا كتاب الأمة الرابع والخمسون: ( في السيرة النبوية.. قراءة لجوانب الحذر والحماية ) للدكتور إبراهيم علي محمد أحمد، في سلسلة ( كتاب الأمة )، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في استرداد دور الأمة المسلمة، وبناء خيريتها، وإخراجها للناس من جديد، حتى تؤدي رسالتها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، وذلك لا يتحقق إلا بإعادة بناء النخبة أو الطائفة القائمة على الحق، التي لا يضرها من خالفها، حتى يأتي أمر الله وهي على ذلك، لأن هذه الطائفة هي التي تشكل ضمير الأمة، وخميرة النهوض، والأنموذج التطبيقي العملي لقيم الدين، والدليل الممتد على خلود الإسلام، وقابليته للتطبيق في كل زمان ومكان.. إنها الطائفة الأمل، التي تحاول النجاة اليوم في سفينة هي أشبه ما تكون بسفينة نوح عليه السلام، وذلك بالتزامها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم، والعض عليهما بالنواجذ، لتستأنف الدورة الحضارية القادمة -إن شاء الله- بعد أن عم الطوفان، وانتشر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.
لذلك سوف يكون من الأولويات المطلوبة باستمرار، إعادة بناء وتسديد مسيرة هذه القاعدة، أو هذه النخبة، أو الطائفة التي تتحقق بالمرجعية الشرعية من خلال الكتاب والسنة، وتحقيق الأمن والحماية لها، أو بمعنى آخر تصوّب شهادة الرسول صلى الله عليه و سلم على نفسها، لتصبح مؤهلة للشهادة على الأمة والناس، استجابة لقوله تعـالى: ( ليكون الرسول شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) (الحج: 78)، وتغطي الاختصاصـات المتنوعـة في شُعَب المعرفة، وتحقق الحضور والشهود والأنموذج الذي يثير الاقتداء في المواقع المختلفة، وتدرك سنن الله في السقوط والنهوض الحضاري، على مستوى الأمة والنخبة على حد سواء، وبذلك تصبح قادرة على مغالبة قَدَر بقَدَر، أو الفِرار من قَدَر إلى قَدَر أحب إلى الله، بحيث تبصر سنة الله في الذين خلوا من قبل، وتدرك أنّ هذه السنة قدر ممتد لا يتبدل ولا يتحول، قـال تـعـالـى: ( سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ً) (الأحزاب: 62). وقال: ( ولن تجد لسنة الله تحويلا ً) (فاطر: 43).. أي تبصر الماضي، وتستوعب الحاضر، لتستشرف المستقبل.
وقد يكون من المطلوب، ونحن بين يدي محاولات جادة لدراسة وتحليل جوانب من عطاء السيرة النبوية على أكثر من صعيد، ليكون ذلك محلاً للاقتداء والتأسي، وتقديم رؤية منهجية لبناء النخبة، واصطفاء الكفاءات للمهمات التي تتناسب معها، وتسديد مسيرة الأمة، وبيان سبيل بنائها لمشاريع النهوض، وأهمية التنبه لحماية منجزاتها في كل مرحلة، لتفيد من ذلك كله في حاضرها ومستقبلها، أن نقدم بعض المنطلقات والمفهومات، التي نراها ضرورية في إطار التأسي والاقتداء.
ولعل القضية الأهم، التي لابد أن نعرض لها ابتداءً، ونوضحها في مجال تصويب مسالكنا لتتحقق شهادة الرسول صلى الله عليه و سلم علينا، التي سبيلها التأسي والاقتداء، هي قضية بشرية الرسول صلى الله عليه و سلم، وحدود وأبعاد عصمته، ذلك أن من الأمور المقررة شرعًا وعقلاً وواقعًا، أن الرسول صلى الله عليه و سلم بشرٌ يُوحى إليه، وهي حقيقة أكدها القرآن الكريم، واعتبرها من الأمور المحسومة غير القابلة للتشكيك أو المساومة، لما للغفلة عنها من الأبعاد والآفاق والتداعيات الخطيرة، في مجال العقيدة والعبادة والسلوك.
وحسبنا في ذلك، ما قصّه القرآن علينا من صور الضلال والتضليل الذي وقع به أصحاب الأديان السابقة، ممن قـالوا: المسيح ابن الله، وعـزير ابن الله، وما كان لذلك من المضاعفات التي أصابت الركيزة الأساس، والمنطلق الأول: عقيدة التوحيد أو التدين بشكل عام، والآثار الشركية الخطيرة التي ترتبت على ذلك في النظر للخالق، والحكم على القدرة والإرادة والفعل من خلال صفات المخلوق، والنظر للرسول المخلوق العبد، ومنحه من القدرة والإرادة وفعل الخوارق والقدسية من خلال صفات الخالق سبحانه وتعالى، وانعكاس ذلك فيما بعد على ممارسات رجال الدين في التسلط والاستغلال، والتميز عن خلق الله بما يدَّعون من خلافة الألوهية ووراثتها، حتى جاء الإسلام، وصوّب الأمر، وأعاده إلى نصابه، على مستوى العقيدة، والعبادة، والسلوك، والكون، والحياة: ( إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم ) (الحجرات: 13).
( أنتم بنو آدم، وآدم من تراب ) (رواه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة).
( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ) (متفق عليه).
إنه التصويب لمسيرة الحياة على مستوى الإنسان والزمان والمكان. وقد يكون من المفيد للتذكير، أن نأتي ببعض النصوص التي تؤكد بشرية الرسول صلى الله عليه و سلم، لأن هذه البشرية تعتبر فيصلاً في مجال العبودية والتدين والتأسي والاقتداء، الذي هو السبيل لإعادة بناء النخبة، وتشكيل الأمة.
قال تعالى:
( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادًا لي من دون الله ) (آل عمران: 79).
( قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ) (إبراهيم: 10).
( قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم )(إبراهيم: 11).
( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد ) (الكهف: 110).
( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون ) (الأنبياء: 34).
( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب ) (الشورى: 51).
( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرًا مثلنا ) (هود: 27).
( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولا ً) (الإسراء: 93).
وقال الرسول صلى الله عليه و سلم: ( إنما أنابشر، وإنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضَكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيتُ له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار ) (رواه مالك وأحمد والشيخان عن أم سلمة).
وقال لرجل مرتعد خائف متهيب من مقابلة الرسول صلى الله عليه و سلم: ( هَوِّن عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابنُ امرأة من قريش كانت تأكل القَديد ) (رواه ابن ماجه والحاكم عن أبي مسعود البدري).
( إنما أنا بشرٌ مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلتُ لكم: قال الله، فلن أكذب على الله ) (رواه أحمد وابن ماجه من حديث طلحة).
(إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيتُ فذكروني ) (رواه الشيخان عن ابن مسعود).
( يا أم سُلَيْم! أما تعلمين أني اشترطتُ على ربي فقلتُ: إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضبُ كما يغضبُ البشر، فأيما أحد دعوتُ عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن تجعلها له طهورًا وزكاة، وقُربة تقرِّبه بها منك يوم القيامة ) (رواه أحمد ومسلم عن أنس).
وهذه البشرية، جعلت حياة الرسول صلى الله عليه و سلم كحياة البشر، دون تميز عمن حوله، لذلك كان الأعرابي إذا غشي المجالس يقول: أيكم محمد؟
هذه النصوص، التي لم نوردها على سبيل الاستقصاء، وإنما أتينا على ذكر نماذج لترسيخ الحقيقة التي تؤكد البشرية للرسل، وأنه يجري عليهـم ما يجري على سائر البشر، من خضوعهم لقوانين الحياة، من الولادة والوفاة، والصحة والمرض، والطعام والشراب، والغضب والرضا، وما إلى ذلك من الخصائص والصفات التي غرزها الله في طبائع البشر وكينونتهم، وأودعها فيهم.. ولهذا المنطلق أهمية قصوى في مجال العقيدة والعبادة والسلوك والدعوة والتأسي والاقتداء، الأمر الذي سنعرض له في مكانه إن شاء الله تعالى.
والجانب الآخر والأهم، الذي قد يعتبر مكملاً لموضوع بشرية الرسل أو بشرية الرسول القدوة عليه الصلاة والسلام، هو ما يمتاز به عن سائر البشر من الوحي، أو من العصمة في تبليغ الرسالة، وما يقتضيه ذلك من الصفات.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: ( الحديث النبوي: هو عند الإطلاق ينصرف إلى ما حُدِّثَ به عنه صلى الله عليه و سلم بعد النبوة، من قوله وفعله وإقراره، -والسيرة فعله وإقراره لفعل أصحابه رضي الله عنهم- فإن سنته ثبتت من هذه الوجوه الثلاثة، فما قاله، إن كان خبرًا وجب تصديقه به، وإن كان تشريعًا إيجابًا أو تحريمًا أو إباحة، وجب اتباعُه فيه، فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون -عن الخطأ- فيما يخبرون به عن الله عز وجل، فلا يكون خبرهم إلا حقًا، وهذا معنى النبوة، وهو يتضمن أن الله يُنْبئُه بالغيب، وأنه يُنبئ الناسَ بالغيب، والرسول صلى الله عليه و سلم مأمورٌ بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه ) (نقلاً عن قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، لجمال الدين القاسمي رحمه الله، ص62).
واختلف العلماء -كما هو معروف في مظانه من كتب العلم-: هـل ما ورد عن النبي صلى الله عليه و سلم كله من الوحي؟ كما اختلفوا أيضًا في حدود عصمة الأنبياء، وهل هي عصمة مطلقـة لكـل ما يصـدر عنهـم، سـواء في ذلك ما يتعلق بإبلاغ الرسالة، أو غيرها من الأمور الدنيوية؟
فذهب بعضهم إلى أن الرسول صلى الله عليه و سلم لا يقول إلا حقًا، لأنه مؤيد بالوحي ومسدد به، وهذا يعني أن كل ما ورد عنه بطرق النقل المعتمدة علميًا ومنهجيًا يعتبر وحيًا، ودليلهم في ذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما، وكان يكتب كل ما يسمع من النبي صلى الله عليه و سلم، فقـال له بعـض النـاس: إن رسـول الله يتكلـم في الغضب، فـلا تكتب كـل ما تسمع، فسأل النبي صلى الله عليه و سلمعن ذلك فقال: ( اكتبْ فوالذي نفسي بيده، ما يخرج منه ( يعني فمه ) إلا حق ) (رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عمرو).
أما أن الحديث ( القول والفعل والتقرير، والسيرة فعل وتقرير كما أسلفنا ) من الوحي، فالعلماء مجمعون على ذلك، إذا كان موضوعه مما له علاقة بمهمة الرسول صلى الله عليه و سلم في إبلاغ الرسالة، أو بيان مجمل القرآن، أو تشريع الأحكام الجديدة في الحلال والحرام، لحديث المقدام بن معديكرب، قال: قال رسول صلى الله عليه و سلم: ( ألا إنِّي أُوتيتُ القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه، وإن ما حرّم رسول الله كما حرّم الله ) (رواه أبو داود والدارمي، وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب).
وما روي عن حسان بن عطية، قال: كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن. وما روي عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ( آتاني الله القرآن ومن الحكمة مثليه ) ( رواهما أبو داود في مراسيله).
لذلك يرى هؤلاء العلماء أن العصمة هي في حدود ما كان له علاقة مباشرة بمهمته عليه الصلاة والسلام، من حيث إبلاغ الرسالة، وبيان أحكام الحلال والحرام.
أما فيما يتعلق بأمور الدنيا من الحرف والصناعات والزراعات، وما له علاقة بالاجتهاد والظن، فإنما يرد إلى طبيعته البشرية، وآرائه الدنيوية القابلة للخطـأ والصواب، لذلك نرى أن النووي رحمه الله سلك هذا المسلك في شرحه لحديث تأبير النخل، في باب: وجوب امتثال ما قاله صلى الله عليه و سلم شرعًا، دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي ( مسلم بشرح النووي، 13-116 ).
وقد أوضح الرسول صلى الله عليه و سلم ذلك في طائفة من أقواله وأفعاله، ومنها: حديث: (إنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب )(رواه مسلم).
والخلاصة التي ننتهي إليها -والله أعلم- أن العصمة إنما تكون في حدود ما تميز به الرسول صلى الله عليه و سلم عن سائر البشر من الوحي وإبلاغ الرسالة، لأن مجرد احتمال الخطأ يعود بالشك والإبطال لمعرفة الوحي أصلاً -لأنه كما هو معلوم: إذا طرأ الاحتمال بطل الاستدلال- وما يقتضيه إبلاغ الرسالة من الخصائص والصفات المعروفة، وأن كل ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام عن طريق النقل المعتمد من اجتهاد في هذا المجال هو معصوم، لأنه إما صواب فيقره الوحي، وإما خطأ فيصوبه الوحي، وهذا الرأي هو الذي تطمئن إليه النفس، وتؤيده النصوص الشرعية في الكتاب والسنة.
ونخشى أن نقول: إن المغالاة في أبعاد العصمة، وما يترتب على ذلك من الإطراء والتقديس، يمكن أن تُلغى معها الطبيعة البشرية للرسول عليه الصلاة والسلام، وترفعه إلى مرتبة الألوهية، الأمر الذي يُناقض قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تُطْرُوني كما أَطْرَتْ النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) (رواه البخاري عن عمر).
كما أن هذه المغالاة في العصمة سوف يترتب عليها الكثير من المخاطر العقدية والتربوية.. والأهم -في تقديري، فيما يخص نطاق التأسي- أنها ستُخرج الرسول صلى الله عليه و سلم من أن يكون محلاً للتأسي والاقتداء للبشر، الذي يخطئ ويصيب، إذ كيف يمكن لبشر أن يقتدي بمن لا يتصف بصفات البشر، ولا يعاني معاناة البشر، ولا يجري عليه ما يجري على البشر من الخطأ والصواب؟
لذلك نقول: إن المشكلة كل المشكلة فيما لو لم يكن الرسول صلى الله عليه و سلم بشرًا، يجري عليه ما يجري على البشر، وليست المشكلة في كون الرسل من البشر، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ولقد أكّد القرآن الكريم هذه النقطـة وصوَّبَها، ودحـض شبهـة المشـركين بقولـه: ( ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون ) (الأنعام: 9).
فالذين يغالون في قضية العصمة، ولو بِنِيِّةٍ سليمة وحماس للإسلام ورسوله، يُخرجون الرسول عليه الصلاة والسلام، من حيث يدرون أو لا يدرون، من مجال الاقتداء والتأسي، وبذلك يحاصرون خلود الرسالة وعطاءها في كل زمان ومكان، ويبتعدون بالمثال والأنموذج عن الواقع، وعن إمكانية التطبيق، وقد يقعون في التأليه -والعياذ بالله- كما فعلت اليهود والنصارى.
فالرسول القدوة صلى الله عليه و سلم بشر إنسان، ابتُعث في قومه ومنهم، قال تعالى: ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعـة: 2).
( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) (التوبة: 128)
إنه صلى الله عليه و سلم بشر إنسان، خضع في حمله وولادته ورضاعه، ويتمه وشبابه وهرمه، ومرضه ووفاته، للسنن الفطرية والقوانين الطبيعية، التي يخضع لها سائر البشر، فلقد كان حمله طبيعيًا، استغرق مدة الحمل نفسها، كما كانت ولادته طبيعية كسائر الولادات، وعانى من فقد الأب والأم ككثير من البشر، وخضع لكفالة الأقارب، وبلغ سن الشباب، وعمل في الأعمال الموجودة في مجتمعه، والتي كان يمارسها قومه كالرعي والتجارة، وتزوج وأنجب، وفقد الابن والبنت والزوجة والصَّدِيق، وتعرّض للأذى والمرض، والنصر والهزيمة، وحَلَّت به جراحات الحرب، مما يمكن أن يحل بكل إنسان، وتعرّض للنسيان كسائر البشر، فعندما نسي في صلاته أكد على بشريته فقال: ( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيتُ فذكِّروني ) (رواه الشيخان عن ابن مسعود).. وأعلن أكثر من مرة أنه بشر من البشر، وأن النبوة لم تخرجه عن بشريته، وإنما امتاز عن البشر بالوحي والعصمة في تبليغ الرسالة.
ولعل قوله تعالى: ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم )، يعبّر أدق تعبير عن هذه الحقيقة.
وهنا قضايا قد يكون من المفيد التوقف عندها قليلاً لما لها من علاقة ببشرية الرسول القدوة صلى الله عليه و سلم، وحدود عصمته، وأنه بُعث في الأمة الأمية رسولاً منها، أو من نفسها، ونحن نحاول أن نلمح بعض مواقع التأسي والاقتداء، ومنطلقات التعامل معها، وهي:
ـ إن حركات التغيير والإصلاح ومشاريع النهوض والاقتداء، بكل أهدافها ووسائلها وآلياتها وأدواتها المعرفية، لابد أن تخرج من رحم المجتمع نفسه، وتكون مستوعبة لمعادلة الأمة الاجتماعية، ومتمثلة لقيمها الدينية، مدركة لمشكلاتها ومعاناتها الواقعية، تفقه القيم الإسلامية، وتفهم العصر ومشكلاته، وتتعامل مع السنن الجارية على البشر، وتؤمن أن التغيير المنشود إنما يتحقق من خلال عزمات البشر واستطاعاتهم واجتهادهم وجهدهم.
ـ وإن أية مشاريع للإصلاح والتغيير، تأتي من خارج الأمة، وتجافي القيم الإسلامية، وتجهل معادلة الأمة الاجتماعية، أو تعدل عن السنن الجارية إلى السنن الخارقة، سوف تُمنى بالفشل.
ـ وإن أية مشروعات تحاول أن تخرج الرسول صلى الله عليه و سلم عن طبيعته البشرية وتغالي في حدود عصمته، سوف تخفق في الاقتداء، وفي تحقيق أهدافها، لأنها تناقض الحقيقة، وتنافي منهج الرسول صلى الله عليه و سلم وسيرته.
ـ وإن عصمة الاجتهاد والفكر ليست لأحد، فكل إنسان يجري عليه الخطأ والصواب، عدا المسدد بالوحي.. وإن كل اجتهاد قابل للمراجعة والنقد والنقض والرد.. وإن العصمة للكتاب والسنة، وبعد ذلك، وفي هدي ذلك، لعموم الأمة، بدليل قوله صلى الله عليه و سلم:
(إن الله تعالى لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله فوق الجماعة، ومن شذ شذ في النار ) (رواه الترمذي عن ابن عمر).
( إن الله تعالى قد أجار أُمتي أن تجتمع على ضلالة ) (رواه ابن أبي عاصم عن أنس).
( إن أُمتي لن تجتمع على ضلالة ) (رواه ابن ماجه عن أنس).
ـ وإن كل حركة إصلاح أو تغيير تعجز عن تقديم الحلول في ضوء السيرة، التي تمثل الفقه والتجسيد العملي أو التنزيل العملي لقيم الكتاب والسنة على الواقع، هي بعيدة عن الاقتداء، وعاجزة عن تمثل القيم الإسلامية، فالسيرة هي البيان النبوي العملي والضابط لكيفيات تعامل البشري بطبيعته ومحدوديته وظروفه، مع الوحي المعصوم والمطلق والصالح لكل زمان ومكان.
فالخلود للرسالة الإسلامية يعني، فيما يعني، امتلاك الإمكانية على قراءة السيرة في كل عصر، بشكل يحقق القدرة على الإجابة عن مشكلات الواقع في كل زمان ومكان، أو بمعنى آخر امتلاك القدرة على تجريد السيرة النبوية من قيد الزمان والمكان، وتوليد رؤية من خلالها، لمعالجة الواقع والإجابة عن أسئلته ومشكلاته، وإن أية قراءة بعيدة عن هذه الإجابة، أو عاجزة عنها، أو لا تشكل رؤية إضافية، هي تكريس للضياع، وتعطيل لفاعلية السيرة في حياة الأمة.. صحيح أن المسلمين نقلوا السيرة من جيل إلى جيل، فحققوا أمانة النقل والحفظ.. أما قراءة السيرة لكل جيل من خلال مشكلاته ومعاناته والإجابة عن أسئلته، فقد لا يتوفر في المكتبة الإسلامية من ذلك إلا النذر اليسير.
لقد تحولت السيرة في مجتمعات الجهل والتخلف، إلى موالد وموائد وأناشيد وطبول، تشيع فيها البدعة، وتغيب فيها السنة، وتضيع معها الأوقات في الأكل والشرب والطرب!
وإذا نظرنا إلى المشكلة من هذه الزاوية -زاوية قراءة السيرة لكل جيل من خلال مشكلاته- أمكننا القول: إن الكثير من الكتابات في السيرة، التي بين أيدينا، إذا نزعنا عنها تاريخ الطبعة واسم المؤلف، أي إذا نزعنا غلاف الكتاب، لا يمكن أن نعرف لأي عصر تنتسب، وأي مجتمع تُخَاطِب، وفي أي زمـن صـدرت، ما لـم ننظـر في اسـم المؤلف وتاريـخ الطبعـة ومكان الصدور.
وقد تكون المشكلة الحقيقية هنا، تكمن في غياب المقاصد الحقيقية، التي تمثل معاني الخلود، عند دارسي السيرة النبوية، الخلود الذي يعني تجردها عن قيود الزمان والمكان، وقدرتها على الإجابة عن مشكلات الأمة في كل زمان ومكان -كما أسلفنا- الأمر الذي جعلها -على أحسن الأحوال- تاريخًا من التاريخ ، وليست مصدرًا للتشريع والاهتداء.
ومما لا شك فيه أن السيرة من الناحية الزمانية والناحية المكانية ، أي الجغرافيا التاريخية، تمثل حلقة تاريخية من حياة الأمة المسلمة، لكن هذه المرحلة هي من التاريخ، وهي من الحاضر، وهي من المستقبل.. هي من التاريخ والجغرافيا زمانًا ومكانًا، كما أسلفنا، لكنها من الحاضر عطاءًا ومصدرًا للتشريع، ومن المستقبل رؤية واستشرافًا.. فإذا كان التاريخ مصدرًا للدرس والعبرة، فإن السيرة مصدر لذلك وما فوقه، فهي مصدر للتشريع، لأنها فترة مسددة بالوحي ومؤيدة به، وحقبة بيان عملي، ودليل تعامل خالد، لتنزيل قيم الإسلام أو قيم السماء على الواقع البشري، لذلك فأية دراسة للسيرة لا تتحقق بهذه الرؤية، ولا تنطلق من هذه المنطلقات، سوف لا تبلغ المقصد، ولا تحقق الهدف.
إن غياب هذا المنطلق أو هذه الرؤية، أدى من جانب إلى الامتداد والاستمرار والتبحر في فقه الأحكام النظري، سواء في ذلك الفقه الذي يسير خلف المجتمع، ويكتفي بالحكم على تصرفاته بالحلال والحرام، بدل أن ينزل إلى الساحة فيصبغها بفعل الحلال ومنع الحرام، أو الفقه الذي خرج من الحاضر والمستقبل، واستغرقه التنظير بالفراغ بعيدًا عن معالجة المشكلات الحقيقية.
كما أدى غياب هذا المنطلق وهذه الرؤية أيضًا، إلى تراجع أو توقف الاجتهاد في الفقه التطبيقي، أو ما يمكن أن نطلق عليه فقه التنزيل، فتحول الفقه إلى تجريدات ذهنية بعيدة عن الواقع، وبدأ مجتمع المسلمين يتشكل ويحل مشكلاته بالوافد من القوانين والخطط المطلوبة للحياة، التي ابتعدت به عن الفقه التطبيقي، وأصبح الفقه لاحقًا للمشكلات لا سابقًا عليها كي ينير لها الطريق.
وهنا قضية جديرة بالتنبه، وهي أن السيرة النبوية التي اكتملت على عين الوحي وتسديده، والتي هي فعل المعصوم، لها صفة المعيارية الخالدة في الإطار العملي التطبيقي.
والمسيرة الإسلامية، أو أقدار التدين، في ارتفاعها وانخفاضها، والجماعات والأفراد، والجمعيات والمؤسسات، قد تحاول التأسي والاقتداء، وقد يقوم بعض الكتاب والباحثين بنوع من الإسقاط للسيرة على تصرف بعض الجماعات أو الأحزاب أو المؤسسات، لتسويغ بعض الممارسات، وإعطائها صفة المشروعية، سواء في ذلك الدراسات التي تسبق التصرف والممارسة لإعطائه جواز المرور والتبني، أو التي تلحق التصرف لتسويغه وتبريره وإعطائه صفة المشروعية، كأن تُقرأ السيرة حركيًا أو عسكريًا، أو أمنيًا، أو اقتصاديًا، أو تربويًا، أو ما أشبه ذلك من القراءات، وتُفَصَّل حوادثها على تصرفات جماعة أو مؤسسة.
إن هذه القراءات أو هذه الإسقاطات، مهما كانت دقيقة أو غير دقيقة، لا يمكن بحال من الأحوال أن تكتسب صفة القدسية أو العصمة، أو بعبارة أدق صفة المعيارية، وتصبح بديلاً عن السيرة، مهما اقترب الاجتهاد من الصواب وابتعد عن الخطأ، ذلك أن السيرة بما توفر لها من رعاية الوحي، وفعل المعصوم، تبقى لها وحدها صفة المعيارية.
من هنا نقول: إنه من الخطورة بمكان تفصيل قيم السيرة وأحداثها على واقع بعض الجماعات والمؤسسات، لتصبح فيما بعد ممارسة الجماعات والمؤسسات هي المعيار، لأن في ذلك ما فيه من إجهاضٍ لمعاني السيرة النبوية، وقدسيتها. إن ممارسة الجماعات والأفراد والجمعيات والمؤسسات لها صفة التاريخ، الذي يفيد العبرة أو الدرس، ولا تكتسب المعيارية كالسيرة.
ولعل الإشكالية الأكثر خطورة في الكتابة عن السيرة، هي في افتقاد بعض الباحثين والدارسين إلى المرجعية الشرعية، أو النظام المعرفي الإسلامي المستخدم في النظر والتحليل، البعيد عن الإدراك والإحاطة بمعرفة الوحي، التي تشكل الضابط المنهجي والإطار المرجعي لكل دراسة في المجال الإسلامي بشكل عام، وفي السيرة بشكل أخص، حتى لو جاءت هذه الدراسة من المنتصرين أو المتحمسين للقضية الإسلامية، ذلك أن الإصابات والحفر التي تأتي من قبل المتحمسين المفتقدين للمرجعية الشرعية في النظر والتناول، تكون على المدى البعيد هي الأخطر، لأنها تصنع مشكلة وتساهم بالتشكيل الذهني والثقافي الغلط بدل أن تقدم حلاً، وتزيد من حالة التخاذل الثقافي.. وكأني بحال الذين يُقْدِمُون على أمرٍ، دون امتلاك أدواته ووسائله، يشبه إلى حد بعيد حال بعض وَضَعَةِ الحديث، الذين كانوا يسعون إلى كل قول جميل أو منمق أو مرغوب، وينسبونه إلى الرسول صلى الله عليه و سلم، كأن يزيدون في العبادات والطاعات، رغبة في الترغيب والترهيب، من عند أنفسهم، وينسبون ذلك إلى الرسول صلى الله عليه و سلم، وإذا استُنكر عليهم ذلك، واستُشهد بقوله صلى الله عليه و سلم: ( من كذب عليّ متعمّدًا فليتبوأ مقعده من النار ) (حديث صحيح متواتر، رواه الشيخان وغيرهما)، قالـوا: إننا نكـذب لـه ولا نكذب عليه.. وفي النهاية، فالكذب له كالكذب عليه، لأن كليهما كذب واستدراك على الشرع، وهي أحاديث موضوعة، كما يقرر علماء مصطلح الحديث.
أما قضية قراءات السيرة بأنظمة معرفية أخرى، رأسمالية، واشتراكية، وعلمانية، وقومية، من الخارج الإسلامي، ومحاولة تقطيعها والانتقاء من أحداثها، وفصلها عن نسقها المعرفي وسياقها ومناسباتها، وذلك نتيجة طبيعية، عندما تصاب الأمة بحالة التخاذل الثقافي، ويصبح تراثها نهبًا لكل سارق، ومستباحًا لكل صاحب هوى، ومشاعًا لكل دَعِي، فعند ذلك تصبح السيرة، ويصبح التراث عامة، مدخلاً أو معبرًا للغزو الفكري، الذي يُعطى المشروعية والقبول في الداخل الإسلامي.
ولسوف تستمر القراءات للسيرة النبوية بأنظمة معرفية من الخارج الإسلامي، وسوف تمتد في الداخل الإسلامي، طالما أن حالة التخاذل الثقافي هي المسيطرة والمتحكمة، ويكتفي الكثير من المسلمين بالتبرك والفخر بالسيرة، دون القدرة على الإفادة من عطائها.
وسوف تستمر القراءات الفاقدة للمرجعية أيضًا، للسيرة النبوية في الداخل الإسلامي، والتي لا تورث إلا تكريس التخاذل الثقافي، طالما لم تأخذ السيرة النبوية البعد المطلوب من الدراسة والتحليل ضمن منهج معرفي واضح، مستمد من القيم والمعايير نفسها، التي جسدتها السيرة في واقع الناس.. ضمن منهج ينطلق من مقاصد الدين، وخلود وخاتمية الرسالة، وهداية الوحي، وعصمة النبوة، وسلامة النقل، ودراية العقل.
وقد يكون المطلوب اليـوم أكثر من أي وقـت مضـى، حيث تعـاني الأمـة ما تعاني على أكثر من صعيد، قراءة السيرة ودراستها دراسة استراتيجية، في مختلف المجالات، السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية، والأمنية، والثقافية.
فإذا كانت السيرة -كما أسلفنا- هي التجسيد الخالد للرسالة، والبيان العملي للقرآن وتنزيله على واقع الناس، الأمر الذي يعني أنها -ومن خلال مسيرة النبوة التي بلغت ثلاثة وعشرين عامًا بين الدعوة والدولة، حتى وصلت إلى مرحلة الكمال والاكتمال، والتي تم خلالها بناء أنموذج الاقتداء- استوعبت جميع الحالات أو أصول الحالات، التي يمكن أن تمر بها البشرية حتى قيام الساعة، يبقى المطلوب من الدراسة الاستراتيجية التي ندعو إليها: الدقة في قراءة الواقع الذي عليه الناس، والإحاطة بعلمه من خـلال متخصصين لا متحمسين فحسب، وتحليله بدقة، ومن ثم دراسة وتحليل السيرة -والتحليل المقصود غير النقل- والتفسير للأحداث، ومن ثم تحديد موقع الاقتداء من مسيرة السيرة، أو اكتشاف المرحلة من السيرة التي تمثل حالة الاقتداء وكيفية الاقتداء، من خلال ظروف الحال التي عليها الناس.
وهذا لا يعني بحال من الأحوال سقوطًا في منهج الانتقاء، أو إخضاع السيرة لمنهج الانتقاء والتقطيع -كما يحلو لبعضهم أن يصف ذلك، ويخلط فيما يدعيه من الرؤية الشمولية، بين مرحلة الدعوة ومرحلة الدولة، ومرحلة الضعف ومرحلة التمكين، وبذلك تصبح السيرة عبئًا ومعوقًا بدل أن تكون حلاً هاديًا لمعالجة مشكلات الأمة- وإنما يعني التحقق بالرؤية الشاملة للسيرة، بمراحلها المتعددة، ووضع واقع الأمة في موقعه المناسب من مسيرة السيرة.. ولا أقصد هنا التقسيم الزمني، الذي وقع فيه كثير من الدارسين أو المتحمسين، فبدل أن يدركوا المنهج النبوي ومرونته، ويُسَخِّروا الزمن ضمن الإمكانات المتاحة، أصبحوا هم مسخَّرين للزمن، ومحكومين به، يعانون من حالة التيبس والعطالة، دون النظر للاستطاعة
تعليق