[color=#0000FF
هاني بن عبد الله بن جبير(*)
(*) قاض شرعي في محكمة محايل عسير، السعودية.
(1) تضمين من زاد المعاد، (3-5).
(2) تضمين من زاد المعاد، (3-72).
(3) صحيح البخاري، ج 1، ص 28.
(4) فتح الباري، (6-36).
(5) صحيح البخاري، ح- 2892، وانظر جمّاً غفيراً من الأحاديث في فضل الجهاد في زاد المعاد، (3-76 95).
(6) سنن أبي داود، ح- 4297، ومسند الإمام أحمد، (5-278)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (2-683)، برقم 958.
(7) تضمين من زاد المعاد، (3-16، 17).
(8) المرجع السابق.
(9) الإصابة لابن حجر، (1-412).
(10) معجم مقاييس اللغة، (4-145). مادة: عمل.
(11) لسان العرب، (11-475): القاموس المحيط، ص 1339. مادة: عمل.
(12) المعجم الوسيط، (2-628). مادة: عمل.
(13) القاموس المحيط، ص 372، مادة: شهد.
(14) المعجم الوسيط، (1-497). مادة: شهد.
(15) المعجم الوسيط، (2-906) مادة: نحر.
(16) تضمين من كتاب افتراءات حول غايات الجهاد. د. محمد نعيم ياسين، ص 35، باختصار. وفي بعض ما كتبه في كتابه نظر.
(17) السياسة الشرعية لابن تيمية، ص 199؛ الأحكام السلطانية لأبي يعلى، ص 43، وللماوردي، ص 90؛ المغني، (13-180)، وليست هذه المسألة محل وفاق؛ فهناك من يرى جواز قتل كل كافر ليس له عهد ولا ذمة ولا أمان.
(18) صحيح البخاري، ح- 3015؛ صحيح مسلم، ح- 1744.
(19) سنن البيهقي كتاب السير، باب: ما جاء في ترك قتل من لا قتال فيه، (9-91)؛ سنن سعيد بن منصور، كتاب الجهاد، باب: ما جاء في قتل النساء والصبيان، (2-239).
(20) أحكام أهل الذمّة، لابن القيم، (1-51).
(21) فتح الباري، (12-317).
(22) تفسير ابن كثير، (2-588).
(23) صحيح البخاري، ح- 6943.
(24) تفسير القرطبي، (10-188).
(25) سنن سعيد بن منصور، كتاب الجهاد، باب: لا يفر الرجل من الرجلين، (2-209)؛ سنن البيهقي كتاب السير، باب: تحريم الفرار، (9-76).
(26) المغني، (13-189).
]العمليات الاستشهادية
دراسة شرعية
[/color]دراسة شرعية
هاني بن عبد الله بن جبير(*)
الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام وقُبّته، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنّة، وكما لهم الرفعة في الدنيا فهم الأعلون في الدنيا والآخرة(1).
وقد أخبر الله تعالى بأن: ﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ {النساء: 74}. وأخبر الله أنه: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ {التوبة: 111}. "فليتأمل العاقد مع ربّه هذا التبايع ما أعظم خطره وأجلّه؛ فإنَّ الله عز وجل هو المشتري، والثمن جنّات النعيم، والفوز برضاه، والتمتّع برؤيته هناك"(2).
ولقد نعى الله تعالى على من ترك الجهاد فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ﴾ {التوبة: 38}.
عن عبد الرحمن بن جبر رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اغبرّت قدماه في سبيل الله حَرّمه الله على النار"(3).
قال ابن حجر: "وفيه إشارة إلى عظيم قدر التصرّف في سبيل الله، فإذا كان مجرد مَسّ الغبار القدم يحرم عليها النار؛ فكيف بمن سعى وبذل جهده واستنفد وسعه"(4).
عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خيرٌ من الدنيا وما عليها»(5).
ولا عجب أن كانت هذه منزلة الجهاد؛ فالتغلب على الشهوات والاستعلاء على المحبوبات من الأزواج والأولاد والأموال، بَلْهَ النفسَ، ليس بالأمر السهل، وبالجهاد يعرف المؤمن الذي يستعلي على حبّه للحياة.
إنّ أمتنا المسلمة مع طول ما عاشت وعايشت لم تشهد ظروفاً كهذه التي تمر بها في هذا العصر المتأخر، ولم تُبتلَ قطّ بما ابتليت به الآن؛ فهي مع أنها لم تكن قط تبلغ ما بلغ عدد المنتسبين إليها الآن، فإنها لم تعانِ ضعفاً ووهناً كهذا.
وهذا مصداق خبر النبي صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: ومن قلّة نحن يا رسول الله؟ قال: لا؛ بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت"(6).
ومع تخاذل الأمة عن النصرة الواجبة فإنا نشاهد من هانت عليه نفسه فباعها لله مسترخصاً ما يبذل.. يحمله على ذلك شوقه لربه ويقينه بموعوده، فهناك "يلتذ العبد أعظم اللذة بما تحمَّل من الألم من أجله وفي مرضاته، وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمّل من الألم في الله ولله"(7)، ولا تعجب من فعله فإنّه "ربما غيّبه الشوق إلى لقائه عن شهود الألم والإحساس به. فالشوق يحمل المشتاق على الجد في السير إلى محبوبه، ويقرّب عليه الطريق، ويطوي له البعيد، ويهوّن عليه الآلام والمشاق"(8).
ومن ضمن الأعمال الفردية التي نشهدها في هذا الزمن ما يفعله بعض الفدائيين من عمليات تودي بحياتهم، قاصدين إلحاق الضرر بأعداء الله، وحيث ظهر أثر هذه العمليات في إرهاب أعداء الله، وزرع الخوف في قلوبهم، فقد كَثُرت، وتعددت طرقها وأساليبها، إلا أنها جميعاً تشترك في كونها تودي بحياة منفذها يقيناً.
ولمّا كان في هذه العمليات ملحظان: أولهما: ما فيها من إزهاق الروح وقتل النفس، والثاني: ما فيها من نكاية في العدو وإضرار به مما يجعلها راجحة المصلحة وقريبة من حال المجاهد الذي تزهق روحه شهيداً؛ فقد تنوعت آراء من كتب في هذا الموضوع، ووقفت فيه على آراء متقابلة اجتمعت على عدم تحديد المراد بهذه العمليات؛ فإن من أشاد بها وجعلها نوعاً من الجهاد استدلّ على مشروعيتها بمثل فعل البراء بن مالك رضي الله عنه لمّا ألقاه أصحابه إلى داخل حديقة الموت ليفتح بابها لهم معرِّضاً نفسه للموت، مع أنَّ واقع فعله ليس من جنس العمليات الاستشهادية المعاصرة؛ إذ هي قتل للنفس، والبراء لم يقتل نفسه، بل ولم يُقْتل في تلك المعركة! (9).
وإنَّ الناظر في هذه المسألة لا ينبغي له أن يحمله إعجابه ببذل الفدائي نفسه وإقدامه على الشهادة، وما لفعله من أثرٍ عن تأمل حقيقة الحكم مستفيداً من واقع الحال.
وبين يديك أخي القارئ أسطر قلائل حاولت فيها إيضاح هذه المسألة، مع علمي بقصوري عن ذلك، ولكن لعلها أن تكون خطوة تفتح الباب لأبحاث جادّة تجلّي الموضوع، وما توفيقي إلا بالله.
أولاً: تعريف العمليات الاستشهادية
العمليات: جمع عملية.
والعملية لفظ مشتق من العمل، وهو: عام في كل فعل يُفْعل(10).
ويطلق العمل على المهنة(11).
أمّا العملية فهي كلمة محدثة تُطلق على جملة أعمال تُحدث أثراً خاصّاً، يقال: عمليّة جراحيّة أو حربية(12).
والشهادة هي القتل في سبيل الله(13).
واستشهد أي تعرّض أن يقتل في سبيل الله(14).
ولم أرَ من عرّف العمليات الاستشهادية. ويمكن أن يُقال في تعريفها بناء على ما تقدّم: إنها أعمال يقوم بها المجاهد تعرّضه للقتل.
ويطلق البعض عليها عمليات انتحارية من جهة ما فيها من قتل النفس. فالانتحار قتل النفس. يقال: انتحر الرجل إذا قتل نفسه بوسيلة ما(15).
وفي تسميتها بذلك نظر من جهتين:
الأولى: أن المقدم على العملية لا يقصد قتل نفسه، ولو أراد الانتحار لكان له طرق أخرى.
والثانية: أن المقدم عليها إنما حمله فيما يظهر يقينه بأجر المجاهد وثواب الشهيد، ولولا ذلك لما أقدم عليها.
ثانياً: مقدمات لا بد منها
قبل الشروع في تفصيل أحوال هذه العمليات وبيان الحكم المنزَّل على كل حالة منها بناءً على توصيفها التوصيف المناسب فإنه يحسن أن نُقَدّم بمقدمات تمهد لها وتجلّي حقائق ينبغي أن يتأملها من أراد إطلاق الحكم عليها.
1 ـ المبادئ العامة لكيفية القتال:
لا بد في كل عمل جهادي من أن يكون ملتزماً بالمبادئ التي قررها الشرع في كيفية القتال وأسلوب الحرب وطريقة المقاومة.
فإن "أول عامل يعتمد عليه جيش الإسلام في استنزال النّصر من عند الله عز وجل: التقوى، وعفة النفس، والوفاء بالعهد، والبعد عن الفاحشة، والمروءة، واحتساب الأجر عند الله تعالى، وتجنب البغي والانتقام عند الظفر، واتقاء البطر، ومراعاة الناس في الحرب"(16).
ومن هذه المبادئ: عدم قتل المدنيين. وهم من لم ينصب نفسه للقتال، وكذا النساء والصبيان الذين لا يقاتلون ولا يعينون على القتال بنفس أو رأي(17)؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان(18).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب"(19).
قال الإمام أحمد: "من أطبق بابه على نفسه ولم يُقاتل؛ لم يُقْتل"(20).
أما من قاتل من المدنيين أو النساء والصبيان، أو أعان على القتال ولو بالرأي فإنه يُقتل؛ إذ قد يُشير برأي هو أنكى للمسلمين من القتال.
فقد قتل دريد بن الصمة في حرب هوازن وقد جاوز المائة فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله لِمَا كان من رأيه(21).
وقد قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة امرأة ألقت رحيً على خلاد بن سُويد(22).
لكن إذا لم يتوصل إلى قتل المقاتلة إلا بقتل النساء والأطفال ونحوهم، كأن يتترسوا بهم في الحرب، أو تحصنوا جميعاً في مكان واحد، أو هُجم عليهم ليلاً فلم يمكن التمييز بينهم؛ فيجوز قتلهم، فقد نصب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق على أهل الطائف ورماهم به(23).
قال في المغني: "وإن تترسوا في الحرب بنسائهم وصبيانهم جاز رميهم، ويقصد المقاتلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماهم بالمنجنيق ومعهم النساء والصبيان؛ ولأن كف المسلمين عنهم يُفْضي إلى تعطيل الجهاد؛ لأنهم متى علموا ذلك تترسوا بهم عند خوفهم، فينقطع الجهاد، وسواء كانت الحرب ملتحمة أو غير ملتحمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحيّن بالرمى حال التحام الحرب"(24).
عن الصعب بن جَثّامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عن الديار من ديار المشركين يُبَيّتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال: "هم منهم"(25)، ومن هذه المبادئ جواز الإتلاف والتخريب والتدمير مما تقتضيه الأعمال الحربية، وكان في إتلافه إضعاف للكفار أو إغاظتهم أو النكاية فيهم(26).
ــــــــــــــــــــــــوقد أخبر الله تعالى بأن: ﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ {النساء: 74}. وأخبر الله أنه: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ {التوبة: 111}. "فليتأمل العاقد مع ربّه هذا التبايع ما أعظم خطره وأجلّه؛ فإنَّ الله عز وجل هو المشتري، والثمن جنّات النعيم، والفوز برضاه، والتمتّع برؤيته هناك"(2).
ولقد نعى الله تعالى على من ترك الجهاد فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ﴾ {التوبة: 38}.
عن عبد الرحمن بن جبر رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اغبرّت قدماه في سبيل الله حَرّمه الله على النار"(3).
قال ابن حجر: "وفيه إشارة إلى عظيم قدر التصرّف في سبيل الله، فإذا كان مجرد مَسّ الغبار القدم يحرم عليها النار؛ فكيف بمن سعى وبذل جهده واستنفد وسعه"(4).
عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خيرٌ من الدنيا وما عليها»(5).
ولا عجب أن كانت هذه منزلة الجهاد؛ فالتغلب على الشهوات والاستعلاء على المحبوبات من الأزواج والأولاد والأموال، بَلْهَ النفسَ، ليس بالأمر السهل، وبالجهاد يعرف المؤمن الذي يستعلي على حبّه للحياة.
إنّ أمتنا المسلمة مع طول ما عاشت وعايشت لم تشهد ظروفاً كهذه التي تمر بها في هذا العصر المتأخر، ولم تُبتلَ قطّ بما ابتليت به الآن؛ فهي مع أنها لم تكن قط تبلغ ما بلغ عدد المنتسبين إليها الآن، فإنها لم تعانِ ضعفاً ووهناً كهذا.
وهذا مصداق خبر النبي صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: ومن قلّة نحن يا رسول الله؟ قال: لا؛ بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت"(6).
ومع تخاذل الأمة عن النصرة الواجبة فإنا نشاهد من هانت عليه نفسه فباعها لله مسترخصاً ما يبذل.. يحمله على ذلك شوقه لربه ويقينه بموعوده، فهناك "يلتذ العبد أعظم اللذة بما تحمَّل من الألم من أجله وفي مرضاته، وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمّل من الألم في الله ولله"(7)، ولا تعجب من فعله فإنّه "ربما غيّبه الشوق إلى لقائه عن شهود الألم والإحساس به. فالشوق يحمل المشتاق على الجد في السير إلى محبوبه، ويقرّب عليه الطريق، ويطوي له البعيد، ويهوّن عليه الآلام والمشاق"(8).
ومن ضمن الأعمال الفردية التي نشهدها في هذا الزمن ما يفعله بعض الفدائيين من عمليات تودي بحياتهم، قاصدين إلحاق الضرر بأعداء الله، وحيث ظهر أثر هذه العمليات في إرهاب أعداء الله، وزرع الخوف في قلوبهم، فقد كَثُرت، وتعددت طرقها وأساليبها، إلا أنها جميعاً تشترك في كونها تودي بحياة منفذها يقيناً.
ولمّا كان في هذه العمليات ملحظان: أولهما: ما فيها من إزهاق الروح وقتل النفس، والثاني: ما فيها من نكاية في العدو وإضرار به مما يجعلها راجحة المصلحة وقريبة من حال المجاهد الذي تزهق روحه شهيداً؛ فقد تنوعت آراء من كتب في هذا الموضوع، ووقفت فيه على آراء متقابلة اجتمعت على عدم تحديد المراد بهذه العمليات؛ فإن من أشاد بها وجعلها نوعاً من الجهاد استدلّ على مشروعيتها بمثل فعل البراء بن مالك رضي الله عنه لمّا ألقاه أصحابه إلى داخل حديقة الموت ليفتح بابها لهم معرِّضاً نفسه للموت، مع أنَّ واقع فعله ليس من جنس العمليات الاستشهادية المعاصرة؛ إذ هي قتل للنفس، والبراء لم يقتل نفسه، بل ولم يُقْتل في تلك المعركة! (9).
وإنَّ الناظر في هذه المسألة لا ينبغي له أن يحمله إعجابه ببذل الفدائي نفسه وإقدامه على الشهادة، وما لفعله من أثرٍ عن تأمل حقيقة الحكم مستفيداً من واقع الحال.
وبين يديك أخي القارئ أسطر قلائل حاولت فيها إيضاح هذه المسألة، مع علمي بقصوري عن ذلك، ولكن لعلها أن تكون خطوة تفتح الباب لأبحاث جادّة تجلّي الموضوع، وما توفيقي إلا بالله.
أولاً: تعريف العمليات الاستشهادية
العمليات: جمع عملية.
والعملية لفظ مشتق من العمل، وهو: عام في كل فعل يُفْعل(10).
ويطلق العمل على المهنة(11).
أمّا العملية فهي كلمة محدثة تُطلق على جملة أعمال تُحدث أثراً خاصّاً، يقال: عمليّة جراحيّة أو حربية(12).
والشهادة هي القتل في سبيل الله(13).
واستشهد أي تعرّض أن يقتل في سبيل الله(14).
ولم أرَ من عرّف العمليات الاستشهادية. ويمكن أن يُقال في تعريفها بناء على ما تقدّم: إنها أعمال يقوم بها المجاهد تعرّضه للقتل.
ويطلق البعض عليها عمليات انتحارية من جهة ما فيها من قتل النفس. فالانتحار قتل النفس. يقال: انتحر الرجل إذا قتل نفسه بوسيلة ما(15).
وفي تسميتها بذلك نظر من جهتين:
الأولى: أن المقدم على العملية لا يقصد قتل نفسه، ولو أراد الانتحار لكان له طرق أخرى.
والثانية: أن المقدم عليها إنما حمله فيما يظهر يقينه بأجر المجاهد وثواب الشهيد، ولولا ذلك لما أقدم عليها.
ثانياً: مقدمات لا بد منها
قبل الشروع في تفصيل أحوال هذه العمليات وبيان الحكم المنزَّل على كل حالة منها بناءً على توصيفها التوصيف المناسب فإنه يحسن أن نُقَدّم بمقدمات تمهد لها وتجلّي حقائق ينبغي أن يتأملها من أراد إطلاق الحكم عليها.
1 ـ المبادئ العامة لكيفية القتال:
لا بد في كل عمل جهادي من أن يكون ملتزماً بالمبادئ التي قررها الشرع في كيفية القتال وأسلوب الحرب وطريقة المقاومة.
فإن "أول عامل يعتمد عليه جيش الإسلام في استنزال النّصر من عند الله عز وجل: التقوى، وعفة النفس، والوفاء بالعهد، والبعد عن الفاحشة، والمروءة، واحتساب الأجر عند الله تعالى، وتجنب البغي والانتقام عند الظفر، واتقاء البطر، ومراعاة الناس في الحرب"(16).
ومن هذه المبادئ: عدم قتل المدنيين. وهم من لم ينصب نفسه للقتال، وكذا النساء والصبيان الذين لا يقاتلون ولا يعينون على القتال بنفس أو رأي(17)؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان(18).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب"(19).
قال الإمام أحمد: "من أطبق بابه على نفسه ولم يُقاتل؛ لم يُقْتل"(20).
أما من قاتل من المدنيين أو النساء والصبيان، أو أعان على القتال ولو بالرأي فإنه يُقتل؛ إذ قد يُشير برأي هو أنكى للمسلمين من القتال.
فقد قتل دريد بن الصمة في حرب هوازن وقد جاوز المائة فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله لِمَا كان من رأيه(21).
وقد قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة امرأة ألقت رحيً على خلاد بن سُويد(22).
لكن إذا لم يتوصل إلى قتل المقاتلة إلا بقتل النساء والأطفال ونحوهم، كأن يتترسوا بهم في الحرب، أو تحصنوا جميعاً في مكان واحد، أو هُجم عليهم ليلاً فلم يمكن التمييز بينهم؛ فيجوز قتلهم، فقد نصب النبي صلى الله عليه وسلم المنجنيق على أهل الطائف ورماهم به(23).
قال في المغني: "وإن تترسوا في الحرب بنسائهم وصبيانهم جاز رميهم، ويقصد المقاتلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماهم بالمنجنيق ومعهم النساء والصبيان؛ ولأن كف المسلمين عنهم يُفْضي إلى تعطيل الجهاد؛ لأنهم متى علموا ذلك تترسوا بهم عند خوفهم، فينقطع الجهاد، وسواء كانت الحرب ملتحمة أو غير ملتحمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحيّن بالرمى حال التحام الحرب"(24).
عن الصعب بن جَثّامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عن الديار من ديار المشركين يُبَيّتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال: "هم منهم"(25)، ومن هذه المبادئ جواز الإتلاف والتخريب والتدمير مما تقتضيه الأعمال الحربية، وكان في إتلافه إضعاف للكفار أو إغاظتهم أو النكاية فيهم(26).
(*) قاض شرعي في محكمة محايل عسير، السعودية.
(1) تضمين من زاد المعاد، (3-5).
(2) تضمين من زاد المعاد، (3-72).
(3) صحيح البخاري، ج 1، ص 28.
(4) فتح الباري، (6-36).
(5) صحيح البخاري، ح- 2892، وانظر جمّاً غفيراً من الأحاديث في فضل الجهاد في زاد المعاد، (3-76 95).
(6) سنن أبي داود، ح- 4297، ومسند الإمام أحمد، (5-278)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، (2-683)، برقم 958.
(7) تضمين من زاد المعاد، (3-16، 17).
(8) المرجع السابق.
(9) الإصابة لابن حجر، (1-412).
(10) معجم مقاييس اللغة، (4-145). مادة: عمل.
(11) لسان العرب، (11-475): القاموس المحيط، ص 1339. مادة: عمل.
(12) المعجم الوسيط، (2-628). مادة: عمل.
(13) القاموس المحيط، ص 372، مادة: شهد.
(14) المعجم الوسيط، (1-497). مادة: شهد.
(15) المعجم الوسيط، (2-906) مادة: نحر.
(16) تضمين من كتاب افتراءات حول غايات الجهاد. د. محمد نعيم ياسين، ص 35، باختصار. وفي بعض ما كتبه في كتابه نظر.
(17) السياسة الشرعية لابن تيمية، ص 199؛ الأحكام السلطانية لأبي يعلى، ص 43، وللماوردي، ص 90؛ المغني، (13-180)، وليست هذه المسألة محل وفاق؛ فهناك من يرى جواز قتل كل كافر ليس له عهد ولا ذمة ولا أمان.
(18) صحيح البخاري، ح- 3015؛ صحيح مسلم، ح- 1744.
(19) سنن البيهقي كتاب السير، باب: ما جاء في ترك قتل من لا قتال فيه، (9-91)؛ سنن سعيد بن منصور، كتاب الجهاد، باب: ما جاء في قتل النساء والصبيان، (2-239).
(20) أحكام أهل الذمّة، لابن القيم، (1-51).
(21) فتح الباري، (12-317).
(22) تفسير ابن كثير، (2-588).
(23) صحيح البخاري، ح- 6943.
(24) تفسير القرطبي، (10-188).
(25) سنن سعيد بن منصور، كتاب الجهاد، باب: لا يفر الرجل من الرجلين، (2-209)؛ سنن البيهقي كتاب السير، باب: تحريم الفرار، (9-76).
(26) المغني، (13-189).
تعليق