موضوع: صفات الرسول (صلى الله علية وسلم) 11.09.07 12:18
يقول ابن العربي رحمه الله تعالى:
" حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته حياً وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه ، فإذا قُرِيء كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبّه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى:
{وإذا قُرِىءَ القُرْآنُ فاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنصِتُوا ...} [الأعراف: 204].
وكلام النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي وله الحرمة مثلما القرآن إلا معاني مستثناة بيانها في كتب الفقه، والله أعلم. ويُراعى هذا الأدب - وهو عدم رفع الصوت - أيضا في مسجده صلى الله عليه وسلم، لما أخرجه البخاري بسنده عن السائب بن يزيد قال: " كنتُ قائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتِني بهذين فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، صحيح البخاري.
كما أن هذا الأدب المستفاد من الآية يكون مع العلماء لأنهم ورثة الأنبياء وكذلك مع الأبوين وغيرهما لمن له فضل على الإنسان المسلم ، فلا شك أنّ هؤلاء الأشخاص يأخذون هذا الحكم وينبغي التأدب معهم وتوقيرهم بالشكل اللائق بهم مع مراعاة الفرق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنَ مقامه أرفع من هؤلاء جميعاً وهو صلى الله عليه وسلم المعنيُّ بالآية أصلاً وهؤلاء تبعاً وليس الفرع كالأصل وإن اشتركا في أمور، والله تعالى يقول: {النَّبيُّ أَوْلَى بالمُؤْمِنِيْنَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ...} [الأحزاب: 6] بل ينبغي أن يحترم العبد النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من سيده.
وفي مجال التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم جاء التنبيه في القرآن الكريم على ضرورة عدم مناداته بطريقة جافة ومزعجة بل لا بد من مراعاة مقامه وقدره وبالأخص عندما يكون في بيته مع نسائه وأولاده.
يقول تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهم لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 4] .
عن الأقرع بن حابس رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا محمد أخرج إلينا، فلم يجبه ، فقال: يا محمد إن حمدي زين وانّ ذمي شين"، فقال الله تعالى: {إنَّ الَّذِيْنَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}.
وقد تضمنت الآية أمرين :
أولهما: عدم إزعاج الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت خلوته في بيته مع نسائه بالنداء غير اللائق به.
وثانيهما: الإرشاد إلى ما ينبغي أن يفعل في هذه الحالة وهو الانتظار إلى أن يحين وقت خروجه.
و في ذلك قال الله عز وجل: {وّلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} أي: لكان في ذلك الخير والمصلحة في الدنيا والآخرة.
وهذا لا يعني أنه لا يجوز مناداته صلى الله عليه وسلم بتاتاً ، وإنما المحظور مناداته في وقت خلوته مع نسائه في بيته كما في هذه الحالة، وكذلك مناداته بصوت مرتفع خالٍ من الاحترام والتقدير بل ينبغي أن ينادى بصوت منخفض وبصيغة معينة تتناسب مع قدره وعظمته ووقاره مثل: يا رسول الله، يا نبي الله ، لا مجرد اسمه مثل: يا محمد، ويا أحمد، ويا أبا القاسم . كما ينادي الناس بعضهم بعضاً.
وهذا ما أشار إليه قوله تعالى:
{ لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ...} [النور: 63].
ومما تدل عليه هذه الآية أنه نهي لهم عن الإبطاء إذا أمرهم والتأخر إذا دعاهم.
يجب على المسلم أن يدع هذه النداءات السوقية في لفظها وكيفيتها مثل: يا محمد، ويا أحمد، أو كنيته مثل: يا أبا القاسم كما كانوا يفعلونه من قبل، وأن يناديه صلى الله عليه وسلم نداءً يتناسب مع مقامه ومكانته مثل: يا رسول الله ويا نبيالله ، اقتداءً بما في القرآن من نداء الله سبحانه وتعالى له صلى الله عليه وسلم بحيث لم يناد رسوله في القرآن بمجرد اسمه ولو مرة واحدة وإنما ناداه بصفة النبوة والرسالة وغيرها من الصفات الثابتة له في القرآن الكريم.
كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لأزْوَجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا...} [الأحزاب: 28] و {يا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ قمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً.. } و {يَا أّيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ }.
مع أنه سبحانه قد قال:
{ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ..} [البقرة: 35].
{ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ...} [هود: 46].
{ يَا إبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ...} [هود: 76].
{ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيْفَةً فِي الأَرْضِ ..} [ص: 26].
لزوم محبته صلى الله عليه وسلم :
قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. [ التوبة: 24] .
فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحُجَّة على إلزام محبته، ووجوب فرضها وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرَّع الله تعالى من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وتوَعَّدهم بقوله تعالى: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}. [التوبة: 24]. ثم فسَّقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضَلّ ولم يهده الله سبحانه وتعالى.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ثَلاثٌ مّنْ كُنَّ فيه وجَدَ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهمُا، وأن يُحبَّ المرءَ لا يُحبهُ إلا لله، وأن يَكرَهَ أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار "، رواه مسلم ونسائي.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده ووالده والناس أجمعين "، أخرجه البخاري ومسلم.
حب الرسول صلى الله عليه وسلم من تمام الإيمان:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده ووالده والناس أجمعين "، أخرجه الشيخان وأحمد والنسائي.
وفي الحديث جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقسام المحبة التي تكون بين الناس وهي ثلاثة:
1- محبة إجلال وإعظام كمحبة الولد والده.
2- محبة إشفاق ورحمة كمحبة الوالد ولده.
3- محبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس.
أما محبته صلى الله عليه وسلم فهي فوق هذا كله كما يفيد أفعل التفضيل في قوله:" أحب أليه".
وفي حديث عمر: " أنت أحبُّ إليّ يا رسول الله من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي. فقال له عليه الصلاة والسلام: لا تكون مؤمناً حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب، لأنت أحبُ إلىَّ من نفسي التي بين جنبي، فقال صلى الله عليه وسلم: " الآن يا عُمُر تم إيمانك "، أخرجه البخاري.
قال القاضي عياض:
" اختلف الناس في تفسير محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكثرت عباراتهم في ذلك وليست ترجع بالحقيقة إلى اختلاف مقال ولكنها اختلاف أحوال ، فقال سفيان : " المحبة اتِّباع الرسول، كأنه التفت إلى قوله تعالى: {قُل إنْ كُنْتُم تُحِبُّونَ الله فاَتَّبعُونِ يُحْبِبْكُمُ اللهُ ..} [آل عمران: 31] وقال بعضهم: محبة الرسول اعتقاد نصرته والذب عن سنته والانقياد لها وهيبة مخالفته ، وقال بعضهم: المحبة دوام الذكر للمحبوب ، وقال آخر إيثار المحبوب وقال بعضهم: المحبة الشوق إلى المحبوب، وقال بعضهم : المحبة مواطأة القلب لمراد الرب بحُبِّ ما أحبَّ وبِكُرهِ ما كَرِهَ، وقال آخر: المحبة ميل القلب إلى موافق له، ثم قال: وأكثر العبارات المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها، وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان ".
ويقول أبو عبد الله المحاسبي:
" والمحبة في ثلاثة أشياء لا يسمى محباً لله عز وجل إلا بها:
1- محبة المؤمنين في الله عز وجل.
2- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عز وجل.
3- محبة الله عز وجل في إيثار الطاعة على المعصية.
" وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان وتكون موافقته إمّا لاستلذاذه بإدراكه كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة والأطعمة والأشربة اللذيذة وأشباهها مما يميل كل طبع سليم إليها لموافقتها له ، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله وقلبه معاني باطنة شريفة كحب الصالحين والعلماء وأهل المعروف المأثور عنهم السِّيَر الجميلة والأفعال الحسنة ، فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم لقوم والتشيع من أمة في آخرين ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان وهتك الحرم واحترام النفوس أو يكون حبه إياه لموافقته له من جهة إحسانه له وإنعامه عليه فقد جُبِلَت النفوس على حب من أحسن إليها".
ثم ذكر بعد ذلك أنّ هذه الأنواع المسببة للمحبة كلها مجتمعة في شخصيته صلى الله عليه وسلم على أتم وجه حيث قال: " فإذا تقرر لك هذا نظرت هذه الأسباب كلها في حقه صلى الله عليه وسلم فعلمت أنّه جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة . فقد تميّز بجمال الصورة والظاهرة وكمال الأخلاق والباطن، كما تميز بإحسانه وإنعامه على أمته.
وقد ذكر الله تعالى في أوصافه رأفته بهم ورحمته لهم وهدايته إياهم وشفقته عليهم واستنقاذهم من النار وأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم ورحمة للعالمين ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه، ويتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم ، فأي إحسان أجل قدراً وأعظم خطراً من إحسانه إلى جميع المؤمنين، وأي إفضال أعمّ منفعة وأكثر فائدة من إنعامه على كافة المسلمين، إذ كان ذريعهم إلى الهداية، ومنقذهم من العماية وداعيهم إلى الفلاح والكرامة، ووسيلتهم إلى ربّهم وشفيعهم والمتكلم عنهم والشاهد لهم والموجب لهم البقاء الدائم والنعيم السرمدي فقد استبان لك أنه صلى الله عليه وسلم مستوجب للمحبة الحقيقية شرعاً.. إلى أن قال: فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفاً أو استنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذّي بها قليل منقطع فمن منحه ما لا يبيد من النعيم ووقاه ما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب، وإذا كان يحب بالطبع ملكاً لحسن سيرته أو حاكماً لما يؤثر من قوام طريقته أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه أو كرم شيمته فمن جمع هذه الخصال كلها على غاية مراتب الكمال أحق بالحب وأولى بالميل".
__________________
علامة محبته صلى الله عليه وسلم:
إن من أحب شيئاً آثرَ موافقته، وإلا لم يكن صادقاً في حُبه، وكان مُدعياً، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها: الإقتداء به، واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عُسره ويُسره، ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى:
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [ آل عمران: 31 ]، وإيثار ما شرعه، والحض عليه وتقديمه على هوى نفسه وموافقة شهوته.
قال الله تعالى:
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بنيَّ إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غِشٌ لأحدٍ فافعل "، ثم قال لي: يا بُنَيَّ وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة ".
فمن اتصف بهذه الصفة فهو كامل المحبة لله ورسوله، ومن خالفها في بعض هذه الأمور فهو ناقص المحبة ولا يخرج عن اسمها.
و من علامات محبته صلى الله عليه وسلم:
الإيثار أي إيثار النبي صلى الله عليه وسلم على النفس كما يدل عليه قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤا الدَّارَ وَ الإيمَانَ من قَبلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَان بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَاُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
والآية وإن كانت عامة في إيثار المهاجرين إلا أنه صلى الله عليه وسلم هو رئيس المهاجرين وقائدهم، وهو المحبوب الأول من الخلق أساساً، وأمّا غيره فتَبَعٌ له بحسب قربهم إليه صلى الله عليه وسلم ومتابعتهم إيّاه.
ومن علامات محبته صلى الله عليه و سلم أيضاً : بغض من أبغض الله ورسوله مهما كانت صلته ورتبته لقوله تعالى :{لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ باللهِ واليوم الآخر يُوادُّونَ مّنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءاباءهم أَو أَبناءهُمْ أَو إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيْمَان وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ...} [المجادلة: 22].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية:
قيل في قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا آباءهُمْ}: نزلت في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر، و{أَوْ أَبْنَاءهُمْ} في الصِدِّيق لابنه عبد الرحمن ،{أَوْ عَشِيرَتُهُم}: في عمر قتل قريباً له يومئذ أيضاَ ..".
وهؤلاء قاموا بقتل أقرب أقربائهم في معركة بدر لأن حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يقتضي قتل من حادَّ الله ورسوله وبغض من أبغض الله ورسوله.
ومن العلامات كذلك: حب من أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عكس الصورة السابقة لقوله صلى الله عليه وسلم: " الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومنآذى الله يوشك أن يأخذه "، حديث حسن غريب.
ثمرة محبته صلى الله عليه وسلم:
من ثمرة محبته عليه الصلاة و السلام، مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين لحديث عائشة رضي الله عنها: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم،فقال يا رسول الله: إنّك لأحبَ إلى من نفسي وإنك لأحب إليَ من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك،وإذا ذكرت موتك عرفت إنَك دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإنّي إذا دخلت خشيت أن لا أراك فأنزل الله تعالى:
{وَمَنْ يُطع الله والرَّسُولَ فأُولَئكَ مع الذين أنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحيِنَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفيِقاً} [النساء: 69]، مجمع الزوائد وقال الهيثمي: ورواه الطبراني في الصغير والأوسط ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران الغامدي وهو ثقة.
عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "متى الساعة يا رسول الله؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة، ولا صوم، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال:" أنت مع من أحببت"، أخرجه البخاري ومسلم.
فهل من ثواب أرجى من أن يُحشَر المرء مع من أحب خاصة إذا كان المحبوب هو المصطفى صلى الله عليه و سلم!.
قال شهاب الدين الخفاجي رحمه الله تعالى:
وحـق المصطفـى لي فيـه حب إذا مرض الرجاء يكون طباً
ولا أرضى سوى الفردوس مأوى إذا كان الفتى مع من أحبا
صور من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم:
هناك صور متعددة من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم نذكر طرفاً منها في هذا المقام وخاصة ما روي في حب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين للرسول صلى الله عليه وسلم:
من ذلك ما أخرجه الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " لمّا فرض عمر لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وفرض لي ألفين وخمسمائة قلت له: يا أبَتِ لم تفرض لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وتفرض لي ألفين وخمسمائة والله ما شهد أسامة مشهداً غبت عنه ولا شهد أبوه مشهداً غاب عنه أبي، فقال: صدقت يا بني، ولكني أشهد لأبوه كان أحبّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك ولهو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك "، رواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
ومنها ما روي أنّه لما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه، قال له أبو سفيان بن حرب: " أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك لضرب عنقه وإنّك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحبّ أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وإنّي جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً ".
ومنها ما روي أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها فأخبروها بذلك فقالت: " ما فعل الله برسول الله؟ قالوا: بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظره، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " أشدّ أمتي لي حباً قوم يكونون من بعدي ، يود أحدهم أنه فقد أهله وماله وأنه رآني"، أخرجه أحمد بسند حسن.
يقول ابن العربي رحمه الله تعالى:
" حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته حياً وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه ، فإذا قُرِيء كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبّه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى:
{وإذا قُرِىءَ القُرْآنُ فاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنصِتُوا ...} [الأعراف: 204].
وكلام النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي وله الحرمة مثلما القرآن إلا معاني مستثناة بيانها في كتب الفقه، والله أعلم. ويُراعى هذا الأدب - وهو عدم رفع الصوت - أيضا في مسجده صلى الله عليه وسلم، لما أخرجه البخاري بسنده عن السائب بن يزيد قال: " كنتُ قائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتِني بهذين فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، صحيح البخاري.
كما أن هذا الأدب المستفاد من الآية يكون مع العلماء لأنهم ورثة الأنبياء وكذلك مع الأبوين وغيرهما لمن له فضل على الإنسان المسلم ، فلا شك أنّ هؤلاء الأشخاص يأخذون هذا الحكم وينبغي التأدب معهم وتوقيرهم بالشكل اللائق بهم مع مراعاة الفرق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنَ مقامه أرفع من هؤلاء جميعاً وهو صلى الله عليه وسلم المعنيُّ بالآية أصلاً وهؤلاء تبعاً وليس الفرع كالأصل وإن اشتركا في أمور، والله تعالى يقول: {النَّبيُّ أَوْلَى بالمُؤْمِنِيْنَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ...} [الأحزاب: 6] بل ينبغي أن يحترم العبد النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من سيده.
وفي مجال التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم جاء التنبيه في القرآن الكريم على ضرورة عدم مناداته بطريقة جافة ومزعجة بل لا بد من مراعاة مقامه وقدره وبالأخص عندما يكون في بيته مع نسائه وأولاده.
يقول تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهم لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 4] .
عن الأقرع بن حابس رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا محمد أخرج إلينا، فلم يجبه ، فقال: يا محمد إن حمدي زين وانّ ذمي شين"، فقال الله تعالى: {إنَّ الَّذِيْنَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}.
وقد تضمنت الآية أمرين :
أولهما: عدم إزعاج الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت خلوته في بيته مع نسائه بالنداء غير اللائق به.
وثانيهما: الإرشاد إلى ما ينبغي أن يفعل في هذه الحالة وهو الانتظار إلى أن يحين وقت خروجه.
و في ذلك قال الله عز وجل: {وّلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} أي: لكان في ذلك الخير والمصلحة في الدنيا والآخرة.
وهذا لا يعني أنه لا يجوز مناداته صلى الله عليه وسلم بتاتاً ، وإنما المحظور مناداته في وقت خلوته مع نسائه في بيته كما في هذه الحالة، وكذلك مناداته بصوت مرتفع خالٍ من الاحترام والتقدير بل ينبغي أن ينادى بصوت منخفض وبصيغة معينة تتناسب مع قدره وعظمته ووقاره مثل: يا رسول الله، يا نبي الله ، لا مجرد اسمه مثل: يا محمد، ويا أحمد، ويا أبا القاسم . كما ينادي الناس بعضهم بعضاً.
وهذا ما أشار إليه قوله تعالى:
{ لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ...} [النور: 63].
ومما تدل عليه هذه الآية أنه نهي لهم عن الإبطاء إذا أمرهم والتأخر إذا دعاهم.
يجب على المسلم أن يدع هذه النداءات السوقية في لفظها وكيفيتها مثل: يا محمد، ويا أحمد، أو كنيته مثل: يا أبا القاسم كما كانوا يفعلونه من قبل، وأن يناديه صلى الله عليه وسلم نداءً يتناسب مع مقامه ومكانته مثل: يا رسول الله ويا نبيالله ، اقتداءً بما في القرآن من نداء الله سبحانه وتعالى له صلى الله عليه وسلم بحيث لم يناد رسوله في القرآن بمجرد اسمه ولو مرة واحدة وإنما ناداه بصفة النبوة والرسالة وغيرها من الصفات الثابتة له في القرآن الكريم.
كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لأزْوَجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا...} [الأحزاب: 28] و {يا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ قمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً.. } و {يَا أّيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ }.
مع أنه سبحانه قد قال:
{ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ..} [البقرة: 35].
{ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ...} [هود: 46].
{ يَا إبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ...} [هود: 76].
{ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيْفَةً فِي الأَرْضِ ..} [ص: 26].
لزوم محبته صلى الله عليه وسلم :
قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. [ التوبة: 24] .
فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحُجَّة على إلزام محبته، ووجوب فرضها وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرَّع الله تعالى من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وتوَعَّدهم بقوله تعالى: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}. [التوبة: 24]. ثم فسَّقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضَلّ ولم يهده الله سبحانه وتعالى.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ثَلاثٌ مّنْ كُنَّ فيه وجَدَ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهمُا، وأن يُحبَّ المرءَ لا يُحبهُ إلا لله، وأن يَكرَهَ أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار "، رواه مسلم ونسائي.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده ووالده والناس أجمعين "، أخرجه البخاري ومسلم.
حب الرسول صلى الله عليه وسلم من تمام الإيمان:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده ووالده والناس أجمعين "، أخرجه الشيخان وأحمد والنسائي.
وفي الحديث جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقسام المحبة التي تكون بين الناس وهي ثلاثة:
1- محبة إجلال وإعظام كمحبة الولد والده.
2- محبة إشفاق ورحمة كمحبة الوالد ولده.
3- محبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس.
أما محبته صلى الله عليه وسلم فهي فوق هذا كله كما يفيد أفعل التفضيل في قوله:" أحب أليه".
وفي حديث عمر: " أنت أحبُّ إليّ يا رسول الله من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي. فقال له عليه الصلاة والسلام: لا تكون مؤمناً حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب، لأنت أحبُ إلىَّ من نفسي التي بين جنبي، فقال صلى الله عليه وسلم: " الآن يا عُمُر تم إيمانك "، أخرجه البخاري.
قال القاضي عياض:
" اختلف الناس في تفسير محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكثرت عباراتهم في ذلك وليست ترجع بالحقيقة إلى اختلاف مقال ولكنها اختلاف أحوال ، فقال سفيان : " المحبة اتِّباع الرسول، كأنه التفت إلى قوله تعالى: {قُل إنْ كُنْتُم تُحِبُّونَ الله فاَتَّبعُونِ يُحْبِبْكُمُ اللهُ ..} [آل عمران: 31] وقال بعضهم: محبة الرسول اعتقاد نصرته والذب عن سنته والانقياد لها وهيبة مخالفته ، وقال بعضهم: المحبة دوام الذكر للمحبوب ، وقال آخر إيثار المحبوب وقال بعضهم: المحبة الشوق إلى المحبوب، وقال بعضهم : المحبة مواطأة القلب لمراد الرب بحُبِّ ما أحبَّ وبِكُرهِ ما كَرِهَ، وقال آخر: المحبة ميل القلب إلى موافق له، ثم قال: وأكثر العبارات المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها، وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان ".
ويقول أبو عبد الله المحاسبي:
" والمحبة في ثلاثة أشياء لا يسمى محباً لله عز وجل إلا بها:
1- محبة المؤمنين في الله عز وجل.
2- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عز وجل.
3- محبة الله عز وجل في إيثار الطاعة على المعصية.
" وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان وتكون موافقته إمّا لاستلذاذه بإدراكه كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة والأطعمة والأشربة اللذيذة وأشباهها مما يميل كل طبع سليم إليها لموافقتها له ، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله وقلبه معاني باطنة شريفة كحب الصالحين والعلماء وأهل المعروف المأثور عنهم السِّيَر الجميلة والأفعال الحسنة ، فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم لقوم والتشيع من أمة في آخرين ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان وهتك الحرم واحترام النفوس أو يكون حبه إياه لموافقته له من جهة إحسانه له وإنعامه عليه فقد جُبِلَت النفوس على حب من أحسن إليها".
ثم ذكر بعد ذلك أنّ هذه الأنواع المسببة للمحبة كلها مجتمعة في شخصيته صلى الله عليه وسلم على أتم وجه حيث قال: " فإذا تقرر لك هذا نظرت هذه الأسباب كلها في حقه صلى الله عليه وسلم فعلمت أنّه جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة . فقد تميّز بجمال الصورة والظاهرة وكمال الأخلاق والباطن، كما تميز بإحسانه وإنعامه على أمته.
وقد ذكر الله تعالى في أوصافه رأفته بهم ورحمته لهم وهدايته إياهم وشفقته عليهم واستنقاذهم من النار وأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم ورحمة للعالمين ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه، ويتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم ، فأي إحسان أجل قدراً وأعظم خطراً من إحسانه إلى جميع المؤمنين، وأي إفضال أعمّ منفعة وأكثر فائدة من إنعامه على كافة المسلمين، إذ كان ذريعهم إلى الهداية، ومنقذهم من العماية وداعيهم إلى الفلاح والكرامة، ووسيلتهم إلى ربّهم وشفيعهم والمتكلم عنهم والشاهد لهم والموجب لهم البقاء الدائم والنعيم السرمدي فقد استبان لك أنه صلى الله عليه وسلم مستوجب للمحبة الحقيقية شرعاً.. إلى أن قال: فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفاً أو استنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذّي بها قليل منقطع فمن منحه ما لا يبيد من النعيم ووقاه ما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب، وإذا كان يحب بالطبع ملكاً لحسن سيرته أو حاكماً لما يؤثر من قوام طريقته أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه أو كرم شيمته فمن جمع هذه الخصال كلها على غاية مراتب الكمال أحق بالحب وأولى بالميل".
__________________
علامة محبته صلى الله عليه وسلم:
إن من أحب شيئاً آثرَ موافقته، وإلا لم يكن صادقاً في حُبه، وكان مُدعياً، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها: الإقتداء به، واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عُسره ويُسره، ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى:
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [ آل عمران: 31 ]، وإيثار ما شرعه، والحض عليه وتقديمه على هوى نفسه وموافقة شهوته.
قال الله تعالى:
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بنيَّ إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غِشٌ لأحدٍ فافعل "، ثم قال لي: يا بُنَيَّ وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة ".
فمن اتصف بهذه الصفة فهو كامل المحبة لله ورسوله، ومن خالفها في بعض هذه الأمور فهو ناقص المحبة ولا يخرج عن اسمها.
و من علامات محبته صلى الله عليه وسلم:
الإيثار أي إيثار النبي صلى الله عليه وسلم على النفس كما يدل عليه قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤا الدَّارَ وَ الإيمَانَ من قَبلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَان بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَاُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
والآية وإن كانت عامة في إيثار المهاجرين إلا أنه صلى الله عليه وسلم هو رئيس المهاجرين وقائدهم، وهو المحبوب الأول من الخلق أساساً، وأمّا غيره فتَبَعٌ له بحسب قربهم إليه صلى الله عليه وسلم ومتابعتهم إيّاه.
ومن علامات محبته صلى الله عليه و سلم أيضاً : بغض من أبغض الله ورسوله مهما كانت صلته ورتبته لقوله تعالى :{لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ باللهِ واليوم الآخر يُوادُّونَ مّنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءاباءهم أَو أَبناءهُمْ أَو إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيْمَان وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ...} [المجادلة: 22].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية:
قيل في قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا آباءهُمْ}: نزلت في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر، و{أَوْ أَبْنَاءهُمْ} في الصِدِّيق لابنه عبد الرحمن ،{أَوْ عَشِيرَتُهُم}: في عمر قتل قريباً له يومئذ أيضاَ ..".
وهؤلاء قاموا بقتل أقرب أقربائهم في معركة بدر لأن حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يقتضي قتل من حادَّ الله ورسوله وبغض من أبغض الله ورسوله.
ومن العلامات كذلك: حب من أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عكس الصورة السابقة لقوله صلى الله عليه وسلم: " الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومنآذى الله يوشك أن يأخذه "، حديث حسن غريب.
ثمرة محبته صلى الله عليه وسلم:
من ثمرة محبته عليه الصلاة و السلام، مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين لحديث عائشة رضي الله عنها: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم،فقال يا رسول الله: إنّك لأحبَ إلى من نفسي وإنك لأحب إليَ من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك،وإذا ذكرت موتك عرفت إنَك دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإنّي إذا دخلت خشيت أن لا أراك فأنزل الله تعالى:
{وَمَنْ يُطع الله والرَّسُولَ فأُولَئكَ مع الذين أنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحيِنَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفيِقاً} [النساء: 69]، مجمع الزوائد وقال الهيثمي: ورواه الطبراني في الصغير والأوسط ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران الغامدي وهو ثقة.
عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "متى الساعة يا رسول الله؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة، ولا صوم، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال:" أنت مع من أحببت"، أخرجه البخاري ومسلم.
فهل من ثواب أرجى من أن يُحشَر المرء مع من أحب خاصة إذا كان المحبوب هو المصطفى صلى الله عليه و سلم!.
قال شهاب الدين الخفاجي رحمه الله تعالى:
وحـق المصطفـى لي فيـه حب إذا مرض الرجاء يكون طباً
ولا أرضى سوى الفردوس مأوى إذا كان الفتى مع من أحبا
صور من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم:
هناك صور متعددة من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم نذكر طرفاً منها في هذا المقام وخاصة ما روي في حب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين للرسول صلى الله عليه وسلم:
من ذلك ما أخرجه الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " لمّا فرض عمر لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وفرض لي ألفين وخمسمائة قلت له: يا أبَتِ لم تفرض لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وتفرض لي ألفين وخمسمائة والله ما شهد أسامة مشهداً غبت عنه ولا شهد أبوه مشهداً غاب عنه أبي، فقال: صدقت يا بني، ولكني أشهد لأبوه كان أحبّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك ولهو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك "، رواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
ومنها ما روي أنّه لما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه، قال له أبو سفيان بن حرب: " أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك لضرب عنقه وإنّك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحبّ أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وإنّي جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً ".
ومنها ما روي أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها فأخبروها بذلك فقالت: " ما فعل الله برسول الله؟ قالوا: بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظره، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " أشدّ أمتي لي حباً قوم يكونون من بعدي ، يود أحدهم أنه فقد أهله وماله وأنه رآني"، أخرجه أحمد بسند حسن.
تعليق