فضل الشهـــادة
*****
أولا: تعريف الشهيد.
اختصر بعض العلماء ومنهم الحافظ ابن حجر رحمه الله ما قيل في سبب تسمية الشهيد بذلك فقال في شرح باب: الشهادة سبع سوى القتل من صحيح البخاري: اختـُلِف في سبب تسمية الشهيد، فقال النضر بن شميل: لأنه حي بالحق أرواحهم شاهدة أي حاضرة، وقال ابن الدفع: لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة، وقيل لأنه يشهد عند خروج روحه ما أعد له من الكرامة، وقيل لأنه يشهد له بالأمان من النار، وقيل لأن عليه شاهدا بكونه شهيدا، وقيل: لأنه لا يشهده عند موته إلا ملائكة الرحمة، وقيل: لأنه الذي يشهد يوم القيامة بإبلاغ الرسل، وقيل: لأن الملائكة تشهد له بحسن الخاتمة، وقيل: لأن الأنبياء تشهد له بحسن الاتباع، وقيل: لأن الله يشهد له بحسن نيته وإخلاصه، وقيل: لأنه يشاهد الملائكة عند احتضاره، وقيل: لأنه يشاهد الملكوت من دار الدنيا ودار الآخرة، وقيل: لأنه مشهود له بالأمان من النار، وقيل: لأن عليه علامة شاهدة بأنه قد نجا، قال ابن حجر: وبعض هذه يختص بمن قتل في سبيل الله وبعضها يعم غيره وبعضها قد ينازع فيه. اهـ( )
شرائط الشهادة.
لاعتبار كون المقتول شهيدا عدة شرائط استفيدت من الأدلة الواردة في هذا الباب، ومن هذه الشرائط ما هو متفق عليه ومنها ما هو مختلف فيه فأما المتفق عليه:
* الإسلام: فإن الكافر لو استعان به المسلمون فقتل معهم لا يكون شهيدا لأن الشهادة كرامة جعلها الله تعالى لأهل الإسلام في الدنيا وهي في الآخرة تنجيهم من السؤال والحساب، والكافر لا كرامة له في الدنيا والنار مثواه يوم القيامة لا ينفعه عمل ولا يقبل منه أبدا، قال تعالى (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) ( )، وقال تبارك وتعالى (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون)( )، ومثله قوله تعالى (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين)( ) إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن المكلف إذا وقع في الكفر أو الشرك الأكبر فقد خرج من الملة وحبط عمله كله، ولذلك أهدر الله سبحانه وتعالى أعمال الكفار الذين يأتون بها يوم القيامة وجعلها هباء منثورا مع أنها أعمال صحيحة من حيث الظاهر حيث قال تبارك وتعالى عن الكفار (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) ( ) وقال تعالى (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء)( )، فقد أحبط الله أعمالهم لما أتوه من الكفر الأكبر ولم يقبلها منهم، فالكافر لا ينفعه عمل يوم القيامة وفي النار هم خالدون.
* أن يكون مقتولا في معركة الكفار وهذا متفق عليه، وأما من قتل حتف أنفه مثل الغريق وصاحب الهدم والمحترق بالنار والمرأة تموت في نفاسها وما يلحق بهم فهؤلاء وإن جاء النص بتسميتهم شهداء فهم من شهداء الآخرة فقط لأنهم جميعا كانوا يغسلون ويصلى عليهم من لدن النبي وإلى وقتنا هذا.
* أن لا يكون مرتثا، والمرتث هو الذي فعل ما يفعله الأحياء بعد إصابته وقبل موته كمن قام من مكانه وتحرك أو بات ليلة أو أكثر أو باع أو أشترى أو ما شابه ذلك، فإن بعض الصحابة ماتوا من جراحاتهم التي أصيبوا بها بعد أن مكثوا وقتا فعلوا فيه فعل الأحياء ومن هؤلاء سعد بن معاذ وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ، وقد غسل النبي سعدا وصلى عليه مع أنه مات بسبب جرحه التي أصيب بها يوم الخندق، وكذلك غسل الصحابة من ذكرنا منهم وصلوا عليهم، وسنفرد هذه المسألة بالشرح لأهميتها ولكثرة الخطأ فيها والسؤال عنها من قِبل المجاهدين.
* ومن الشرائط المتفق عليها أن لا يكون قد قتل بحق كمن قتل في حد من حدود الله تعالى أو تعزير شرعي فهذا لا يكون شهيدا وإن كان مقتولا.
وأما ما اختلف فيه من الشرائط:
كون المقتول قتل في قتال البغاة أو الخوارج أو المحاربين وقطاع الطريق ومن قتل في دفع الصائل على الدين والحرمة والمال وقد قدمنا في الباب الأول من الأدلة وأقوال أهل العلم ما يدل على أن الراجح هو أن كل هؤلاء شهداء لهم حكم شهداء معركة الكفار ومن هذه الأدلة:
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت النبي يقول: (من قتل دون ماله فهو شهيد)، وقد بوب مسلم رحمه الله في صحيحه على هذا الحديث باب: الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه وإن قتل كان في النار، وأن من قتل دون ماله فهو شهيد، وروى عن سليمان الأحول أن ثابتا مولى عمر بن عبد الرحمن أخبره أنه لما كان بين عبد الله بن عمرو وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان تيسروا للقتال فركب خالد بن العاص إلى عبد الله بن عمرو فوعظه خالد، فقال عبد الله بن عمرو: أما علمت أن رسول الله قال: (من قتل دون ماله فهو شهيد )، وعن سعيد بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)( )، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال: (من قتل دون ماله مظلوما فله الجنة)( )، وعن سويد بن مقرن قال: قال رسول الله (من قتل دون مظلمته فهو شهيد)( )، وعن أبي هريرة قال جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟، قال : (فلا تعطه مالك)، قال الرجل: أرأيت إن قاتلني؟، قال : (قاتله)، قال الرجل : أرأيت إن قتلني؟ قال : (فأنت شهيد)، قال الرجل: أرأيت إن قتلته؟، قال : (هو في النار)( )، وعن أبي هريرة أيضا قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله أرأيت إن عُدِيَ على مالي؟، قال : (فانشد بالله)، قال الرجل: فإن أَبَوْا علي؟، قال : (فانشد بالله)، قال الرجل: فإن أبوا علي؟، قال : (فانشد بالله)، قال الرجل: فإن أبوا علي؟، قال : (فقاتل فإن قُتِلت ففي الجنة، وإن قَتَلت ففي النار)( )، أي من قتلته ممن يريد العدوان على حر مالك فهو في النار لأنه ظالم معتد ودمه هدر.
وقد عقد الخلال في كتاب السنة فصلا لما ورد عن أحمد بن حنبل رحمه الله في بيان مشروعية الدفاع عن المال والنفس والعرض وأن هذا من الجهاد المشروع وأن من قتل في هذا فهو شهيد، فقال أخبرني عبد الكريم بن الهيثم بن زياد القطان العاقولي أنه قال لأبي عبد الله: يقاتل اللصوص؟ قال: إن كان يدفع عن نفسه، وعن صالح بن أحمد أنه سأل أباه عن قتال اللصوص فقال: كل من عرض لك يريد مالك ونفسك فلك أن تدفع عن نفسك ومالك، وعن عبد الملك الميموني أن أبا عبد الله قال له في هذه المسألة: قال النبي (من قتل دون ماله فهو شهيد).
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: وسنة رسول الله تدل على أن للمرء أن يمنع ماله وإذا منعه بالقتال دونه فهو إحلال للقتال والقتال سبب الإتلاف لمن يقاتل في النفس وما دونها، ولا يحتمل قول رسول الله والله تعالى أعلم من قتل دون ماله فهو شهيد إلا أن يقاتل دونه، ولو ذهب رجل إلى أن يحمل هذا القول على أن يقتل ويؤخذ ماله كان اللفظ في الحديث من قتل وأخذ ماله أو قتل ليؤخذ ماله ولا يقال له قتل دون ماله ومن قتل بلا أن يقاتل فلا يشك أحد أنه شهيد.اهـ( )
وفي بيان أن من قتل في قتال البغاة فهو شهيد قال الكاساني الحنفي رحمه الله: إذا قُتِلَ الرجل في المعركة أو غيرها وهو يقاتل أهل الحرب أو قتل مدافعا عن نفسه أو ماله أو أهله أو واحد من المسلمين أو أهل الذمة فهو شهيد، سواء قتل بسلاح أو غيره لاستجماع شرائط الشهادة في حقه فالتحق بشهداء أحد، وكذلك إذا صار مقتولا من جهة قطاع الطريق، دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (من قتل دون ماله فهو شهيد) وهذا قتل دون ماله فيكون شهيدا بشهادة النبي وكذا إذا قتل في محاربة أهل البغي، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يغسل في أحد قوليه لأن على أحد قوليه يجب القصاص على الباغي فهذا قتيل أخلف بدلا وهو القصاص وهذا يمنع الشهادة عنده على ما مر.
ولنا ما روي عن عمار أنه لما استشهد بصفين تحت راية علي فقال: لا تغسلوا عني دما ولا تنزعوا عني ثوبا فإني ألتقي ومعاوية بالجادة، وكان قتيل أهل البغي على ما قال النبي : (تقتلك الفئة الباغية)( ) وروي أن زيد بن صوحان لما استشهد يوم الجمل فقال: لا تغسلوا عني دما ولا تنزعوا عني ثوبا فإني رجل محاج أحاج يوم القيامة من قتلني( )، وعن علي أنه كان لا يغسل من قتل من أصحابه، ولأنه في معنى شهداء أحد لأنه قتل قتلا تمحض ظلما ولم يخلف بدلا هو مال، ووجوب القصاص في قتل الباغي ممنوع وعليه إجماع الصحابة أن كل دم أريق بتأويل القرآن فهو باطل. اهـ( )
وقال ابن قدامة رحمه الله في قتيل أهل البغي: ومن قُتِل من أهل العدل في المعركة فحكمه في الغسل والصلاة حكم من قتل في معركة المشركين، لأن عليا لم يغسل من قتل معه وعمار أوصى أن لا يغسل وقال: ادفنوني في ثيابي فإني مخاصم، قال أحمد: قد أوصى أصحاب الجمل أنا مستشهدون غدا فلا ثوبا ولا دما، ولأنه شهيد المعركة أشبه قتيل الكفار وهذا قول أبي حنيفة، وقال الشافعي في أحد قوليه يغسلون لأن أسماء رضي الله عنها غسلت ابنها عبد الله بن الزبير، والأول أولى لما ذكرناه، وأما عبد الله بن الزبير فإنه أخذ وصلب فهو كالمقتول ظلما وليس بشهيد. اهـ( )
* ومما اختلف فيه أيضا من شرائط الشهادة كون المقتول بالغا والصحيح أنه لا يشترط ذلك لما ورد عن أنس أنه قال: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع، فقال (ويحك أو هبلت أو جنة واحدة هي، إنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس) وقد سبق
* ومما اختلف فيه أيضا أن يكون المقتول طاهرا والراجح في ذلك أنه لا يشترط الطهارة في اعتبار الشهادة فقد كان حنظلة الغسيل شهيدا قبل أن تغسله الملائكة.
قال الكاساني رحمه الله: وأما الشهيد فالكلام فيه في موضعين، أحدهما: في بيان من يكون شهيدا في الحكم ومن لا يكون، والثاني: في بيان حكم الشهادة في الدنيا، أما الأول فمبني على شرائط الشهادة وهي أنواع:
* منها أن يكون مقتولا حتى لو مات حتف أنفه، أو تردى من موضع، أو احترق بالنار، أو مات تحت هدم، أو غرق لا يكون شهيدا لأنه ليس بمقتول فلم يكن في معنى شهداء أحد، وبأي شيء قتل في المعركة من سلاح أو غيره فهو سواء في حكم الشهادة لأن شهداء أحد ما قتل كلهم بسلاح بل منهم من قتل بغير سلاح.
* ومنها أن يكون مظلوما حتى لو قتل بحق في قصاص أو رجم لا يكون شهيدا، لأن شهداء أحد قتلوا مظلومين وروي أنه لما رجم ماعز جاء عمه إلى النبي فقال: قتل ماعز كما تقتل الكلاب فماذا تأمرني أن أصنع به؟ فقال النبي : (لا تقل هذا فقد تاب توبة لو قسمت توبته على أهل الأرض لوسعتهم اذهب فاغسله وكفنه وصل عليه)، وكذلك من مات من حد أو تعزير أو عدا على قوم ظلما فقتلوه لا يكون شهيدا لأنه ظلم نفسه وكذا لو قتله سبع لانعدام تحقق الظلم.
ومنها أن لا يخلف عن نفسه بدلا هو مال حتى لو كان مقتولا خطأ أو شبه عمد بأن قتله في المصر نهارا بعصا صغيرة أو سوط أو وكزه باليد أو لكزه بالرجل لا يكون شهيدا، لأن الواجب في هذه المواضع هو المال دون القصاص وذا دليل خفة الجناية فلم يكن في معنى شهداء أحد…إلى أن قال:
ولو نزل عليه اللصوص ليلا في المصر فقتل بسلاح أو غيره أو قتله قطاع الطريق خارج المصر بسلاح أو غيره فهو شهيد لأن القتيل لم يخلف في هذه المواضع بدلا هو مال، ولو قتل في المصر نهارا بسلاح ظلما بأن قتل بحديدة أو ما يشبه الحديدة كالنحاس والصفر وما أشبه ذلك أو ما يعمل عمل الحديد من جرح أو قطع أو طعن بأن قتله بزجاجة أو بليطة قصب أو طعنه برمح لا زج له أو رماه بنشابة لا نصل لها أو أحرقه بالنار، وفي الجملة كل قتل يتعلق به وجوب القصاص كان شهيد.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: لا يكون شهيدا، واحتج بما روي (أن عمر وعليا غسلا) ولأن هذا قتيل أخلف بدلا وهو المال أو القصاص فما هو في معنى شهداء أحد كالقتيل خطأ أو شبه عمد، ولنا أن وجوب هذا البدل دليل انعدام الشبهة وتحقق الظلم من جميع الوجوه إذ لا يجب القصاص مع الشبهة فصار في معنى شهداء أحد بخلاف ما إذا أخلف بدلا هو مال لأن ذلك أمارة خفة الجناية لأن المال لا يجب إلا عند تحقق الشبهة في القتل فلم يكن في معنى شهداء أحد ولأن الدية بدل عن المقتول فإذا وصل إليه البدل صار المبدل كالباقي من وجه لبقاء بدله فأوجب خللا في الشهادة فأما القصاص فليس ببدل عن المحل بل هو جزاء الفعل على طريق المساواة فلا يسقط به حكم الشهادة وإنما غسل عمر وعلي لأنهما ارتثا والارتثاث يمنع الشهادة على ما نذكر…إلى أن قال:
* ومنها أن لا يكون مرتثا في شهادته وهو مأخوذ من الثوب الرث وهو الخلق، والأصل فيه ما روي أن عمر رضي الله عنه لما طعن حمل إلى بيته فعاش يومين ثم مات فغسل وكان شهيدا وكذا علي حمل حيا بعد ما طعن ثم مات فغسل وكان شهيدا وعثمان أجهز عليه في مصرعه ولم يرتث فلم يغسل وسعد بن معاذ ارتث فقال النبي (بادروا إلى غسل صاحبكم سعد كيلا تسبقنا الملائكة بغسله كما سبقتنا بغسل حنظلة) ولأن شهداء أحد ماتوا على مصارعهم ولم يرتثوا حتى روي أن الكأس كان يدار عليهم فلم يشربوا خوفا من نقصان الشهادة فإذا ارتث لم يكن في معنى شهداء أحد…إلى قوله:
* ومنها ـ أي من شرائط الشهادة ـ كون المقتول مسلما فإن كان كافرا كالذمي إذا خرج مع المسلمين للقتال فقتل يغسل لأن سقوط الغسل عن المسلم إنما ثبت كرامة له والكافر لا يستحق الكرامة.
* ومنها كون المقتول مكلفا هو شرط صحة الشهادة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلا يكون الصبي والمجنون شهيدين عنده وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ليس بشرط ويلحقهما حكم الشهادة…إلى أن قال:
* ومنها الطهارة عن الجنابة شرط في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما ليس بشرط حتى لو قتل جنبا لم يكن شهيدا عنده خلافا لهما، وجه قولهما أن القتل على طريق الشهادة أقيم مقام الغسل كالذكاة أقيمت مقام غسل العروق بدليل أنه يرفع الحدث، ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى ما روي أن حنظلة استشهد جنبا فغسلته الملائكة حتى قال رسول الله : (إن صاحبكم لتغسله الملائكة فاسألوا أهله ما باله) فسئلت صاحبته فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهيعة فقال : (لذلك غسلته الملائكة). اهـ( )
حكم المرتث( ).
يسأل كثير من المجاهدين عن حكم من يصاب في المعركة غير أنه ربما يعيش فترة قصرت أو طالت وربما ينقل خلالها إلى مكان آخر ويتكلم بكلام الأحياء وربما أكل أو شرب ثم يموت بعد ذلك، فهل يغسل ويكفن ويصلى عليه مثل باقي الأموات أم أن هذا له حكم شهداء الدنيا والآخرة فلا يفعل به هكذا؟
والصواب الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة أن من كان مثل هذا فإن له منزلة الشهيد في الآخرة غير أن حكمه في الدنيا حكم سائر الأموات بخلاف من مات في مكان القتال أو أجهز عليه في مكانه ولو تكلم والدليل على هذا التفريق:
* ما ورد في قصة موت سعد بن معاذ وكان قد أصيب يوم خيبر ولكنه بقي مدة حتى حكم في بني قريظة( )
وعمر لما طعنه أبو لؤلؤة حمل إلى بيته فعاش يومين ثم غسل وذلك بحضرة كبار الصحابة ( )، وكذلك علي حمل حيا بعد ما طعن ثم غسل( ).
فأما عثمان فأجهز عليه في مصرعه ولم يغسل( )، فعرفنا بذلك أن الشهيد الذي لا يغسل من أجهز عليه في مصرعه دون من يحمل حيا ليمرض في خيمته أو في بيته.
قال الكاساني رحمه الله: ثم المرتث من خرج عن صفة القتلى وصار إلى حال الدنيا بأن جرى عليه شيء من أحكامها أو وصل إليه شيء من منافعها، وإذا عرف هذا فنقول من حمل من المعركة حيا ثم مات في بيته أو على أيدي الرجال فهو مرتث، وكذلك إذا أكل أو شرب أو باع أو ابتاع أو تكلم أو قام من مكانه ذلك أو تحول من مكانه إلى مكان آخر وبقي على مكانه ذلك حيا يوما كاملا أو ليلة كاملة وهو يعقل فهو مرتث، وروي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى إذا بقي وقت صلاة كامل حتى صارت الصلاة دينا في ذمته وهو يعقل فهو مرتث وإن بقي في مكانه لا يعقل فليس بمرتث، وقال محمد رحمه الله تعالى إن بقي يوما فهو مرتث ولو أوصى كان ارتثاثا عند أبي يوسف رحمه الله تعالى خلافا لمحمد وقيل لا خلاف بينهما في الحقيقة فجواب أبي يوسف رحمه الله تعالى خرج فيما إذا أوصى بشيء من أمور الدنيا وذلك يوجب الارتثاث بالإجماع لأن الوصية بأمور الدنيا من أحكام الدنيا ومصالحها فينقض ذلك معنى الشهادة، وجواب محمد رحمه الله تعالى محمول على ما إذا أوصى بشيء من أمور الآخرة وذلك لا يوجب الارتثاث بالإجماع كوصية سعد بن الربيع وهو ما روي أنه لما أصيب المسلمون يوم أحد ووضعت الحرب أوزارها قال رسول الله : (هل من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع) فنظر عبد الله بن عبد الرحمن من بني النجار فوجده جريحا في القتلى وبه رمق فقال له: إن رسول الله أمرني أن أنظر في الأحياء أنت أم في الأموات فقال: أنا في الأموات فأبلغ رسول الله عني السلام وقل له: إن سعد بن الربيع يقول: جزاك خير ما يجزي نبي عن أمته وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعدا يقول لا عذر لكم ثم الله تعالى أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، قال: ثم لم أبرح حتى مات فلم يغسل وصلي…إلى أن قال:
ثم المرتث وإن لم يكن شهيدا في حكم الدنيا فهو شهيد في حق الثواب حتى أنه ينال ثواب الشهداء كالغريق والحريق والمبطون والغريب أنهم شهداء بشهادة رسول الله لهم بالشهادة وإن لم يظهر حكم شهادتهم في الدنيا. اهـ( )
وفي شرح قول الخرقي: (وإن حمل وبه رمق غسل وصلي عليه) قال ابن قدامة رحمه الله: معنى قوله رمق أي حياة مستقرة فهذا عليه وإن كان شهيدا لأن النبي غسل سعد بن معاذ وصلى عليه وكان شهيدا رماه ابن العرقة يوم الخندق بسهم فقطع أكحله فحمل إلى المسجد فلبث فيه أياما حتى حكم في بني قريظة ثم انفتح جرحه فمات وظاهر كلام الخرقي أنه متى طالت حياته بعد حمله غسل وصلي عليه وإن مات في المعترك أو عقب حمله لم يغسل ولم يصل عليه ونحو هذا قول مالك قال إن أكل أو شرب أو بقي يومين أو ثلاثة غسل، وقال أحمد في موضع إن تكلم أو أكل أو شرب صلي عليه، وقول أصحاب أبي حنيفة نحو من هذا، وعن أحمد أنه سئل عن المجروح إذا بقي في المعترك يوما إلى الليل ثم مات فرأى أن يصلي عليه، وقال أصحاب الشافعي إن مات حال الحرب لم يغسل ولم يصل عليه وإلا فلا، والصحيح التحديد بطول الفصل أو الأكل لأن الأكل لا يكون إلا من ذي حياة مستقرة وطول الفصل يدل على ذلك وقد ثبت اعتباره في كثير من المواضع.
وأما الكلام والشرب وحالة الحرب فلا يصح التحديد بشيء منها لأنه يروى أن النبي قال يوم أحد: (من ينظر ما فعل سعد بن الربيع) فقال رجل: أنا أنظر لك يا رسول الله فنظر فوجده جريحا به رمق فقال له إن رسول الله أمرني أن أنظر في الأحياء أنت أم في الأموات، قال: فأنا في الأموات فأبلغ رسول الله عني السلام) وذكر الحديث، قال: ثم لم أبرح أن مات، وروي أن أصيرم بن عبد الأشهل وجد صريعا يوم أحد فقيل له ما جاء بك؟ قال: أسلمت ثم جئت، وهما من شهداء أحد دخلا في عموم قول النبي (ادفنوهم بدمائهم وثيابهم) ولم يغسلهم ولم يصل عليهم وقد تكلما وماتا بعد انقضاء الحرب، وفي قصة أهل اليمامة عن ابن عمر أنه طاف في القتلى فوجد أبا عقيل الأنفي قال فسقيته ماء وبه أربعة عشر جرحا كلها قد خلص إلى مقتل فخرج الماء من جراحاته كلها فلم يغسل، وفي فتوح الشام أن رجلا قال: أخذت ماء لعلي أسقي ابن عمي إن وجدت به حياة فوجدت الحارث بن هشام فأردت أن أسقيه، فإذا رجل ينظر إليه، فأومأ لي أن أسقيه فذهبت إليه لأسقيه، فإذا بآخر ينظر إليه فأومأ إلي أن أسقيه، فلم أصل إليه حتى ماتوا كلهم، ولم يفرد أحد منهم بغسل ولا صلاة وقد ماتوا بعد انقضاء الحرب. اهـ( )
فأما ما ورد في فضل الشهادة من أدلة في الكتاب والسنة فكثير ومنها:
قوله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين)( )
فقد بين الله تبارك وتعالى أن القتل الذي يحذر الناس منه ليس مما يحذر بل هو من أجل المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون وذلك إثر بيان أن الحذر لا يجدي ولا يغني من القدر، فبين الله تعالى في الآية الكريمة ما أعده للشهداء الذين يقتلون في سبيله من الكرامة والنعيم والفضل بما يحفز غيرهم على الجهاد في سبيل الله ولا يزهدهم فيه، فبين تعالى أن الشهداء وإن رآهم الناس قد ماتت أجسادهم فإن أرواحهم حية تسرح في أنهار الجنة ونعيمها حيث شاءت وتأكل من ثمارها ثم تأوي إلى قناديل معلقة في عرش الرحمن تعالى بحيث أنهم لا يتمنون على الله شيئا حين يسألهم لأنهم قد حصلوا منتهى النعيم والكرامة التي لا شيء بعدها.
قال الطبري رحمه الله في تفسيره لهذه الآية جامعا ما ذكر فيها: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) يقول: ولا تحسبنهم يا محمد أمواتا لا يحسون شيئا ولا يلتذون ولا يتنعمون، فإنهم أحياء عندي متنعمون في رزقي فرحون مسرورون بما آتيتهم من كرامتي وفضلي وحبوتهم به من جزيل ثوابي وعطائي، وساق بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : (لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله عز وجل على رسول الله هؤلاء الآيات، وعن مسروق بن الأجدع قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآيات (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله) الآية قال: أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا: إنه لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فيطلع الله إليهم اطلاعة فيقول: يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: ربنا لا فوق ما أعطيتنا الجنة نأكل منها حيث شئنا، ثلاث مرات، ثم يطلع فيقول: يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: ربنا لا فوق ما أعطيتنا الجنة نأكل منها حيث شئنا إلا أنا نختار أن ترد أرواحنا في أجسادنا ثم تردنا إلى الدنيا فنقاتل فيك حتى نقتل فيك مرة أخرى، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : (الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء أو قال ـ في روضة خضراء ـ يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا، وعن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال لي رسول الله : (ألا أبشرك يا جابر) قلت: بلى يا رسول الله، قال (إن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله ثم قال له: ما تحب يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك؟ قال: يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى)، وعن قتادة: ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله قالوا: يا ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين قتلوا يوم أحد، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك القرآن (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) كنا نحدث أن أرواح الشهداء تعارف في طير بيض تأكل من ثمار الجنة وأن مساكنهم السدرة...إلى أن قال الطبري رحمه الله:
قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد يرغب المؤمنين في ثواب الجنة ويهون عليهم القتل (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) أي قد أحييتهم فهم عندي يرزقون في روح الجنة وفضلها مسرورين بما آتاهم الله من ثوابه على جهادهم عنه، وعن الضحاك قال: كان المسلمون يسألون ربهم أن يريهم يوما كيوم بدر يبلون فيه خيرا ويرزقون فيه الشهادة ويرزقون فيه الجنة والحياة في الرزق، فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ الله منهم شهداء وهم الذين ذكرهم الله فقال (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) الآية، وعن أنس بن مالك أنه قال في أصحاب النبي الذين أرسلهم نبي الله إلى أهل بئر معونة: لا أدري أربعين أو سبعين، قال: فخرج أولئك النفر من أصحاب النبي حتى أتوا غارا مشرفا على الماء قعدوا فيه، ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يبلغ رسالة رسول الله أهل هذا الماء، فقال: أراه أبو ملحان الأنصاري أنا أبلغ رسالة رسول الله ، فخرج حتى أتى حيا منهم فاحتبى أمام البيوت ثم قال يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فآمنوا بالله ورسوله، فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر فقال الله أكبر فزت ورب الكعبة، فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل، فأنزل الله تعالى فيهم قرآنا رفع بعد ما قرأناه زمانا وأنزل الله (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء)...إلى أن قال رحمه الله:
قوله (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يعني بذلك تعالى ذكره ويفرحون بمن لم يلحق بهم من إخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على مناهجهم من جهاد أعداء الله مع رسوله لعلمهم بأنهم إن استشهدوا فلحقوا بهم صاروا من كرامة الله إلى مثل الذي صاروا هم إليه، فهم لذلك مستبشرون بهم فرحون أنهم إذا صاروا كذلك (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يعني بذلك لا خوف عليهم لأنهم قد أمنوا عقاب الله وأيقنوا برضاه عنهم، فقد أمنوا الخوف الذي كانوا يخافونه من ذلك في الدنيا، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من أسباب الدنيا ونكد عيشها للخفض الذي صاروا إليه والدعة والزلفة، وعن قتادة قوله (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) الآية، يقول: لإخوانهم الذين فارقوهم على دينهم وأمرهم لما قدموا عليه من الكرامة والفضل والنعيم الذي أعطاهم، وعن الربيع: ذكر لنا عن بعضهم في قوله(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) قال: هم قتلى بدر وأحد، زعموا أن الله تبارك وتعالى لما قبض أرواحهم وأدخلهم الجنة جعلت أرواحهم في طير خضر ترعى في الجنة وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش، فلما رأوا ما أعطاهم الله من الكرامة قالوا ليت إخواننا الذين بعدنا يعلمون ما نحن فيه فإذا شهدوا قتالا تعجلوا إلى ما نحن فيه، فقال الله تعالى إني منزل على نبيكم ومخبر إخوانكم بالذي أنتم فيه، ففرحوا به واستبشروا وقالوا: يخبر الله نبيكم وإخوانكم بالذي أنتم فيه فإذا شهدوا قتالا أتوكم، قال: فذلك قوله (فرحين بما آتاهم الله من فضله) إلى قوله (أجر المؤمنين)، وعن السدي (يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) فإن الشهيد يؤتى بكتاب فيه من يقدم عليه من إخوانه وأهله فيقال: يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، فيستبشر حين يقدم عليه كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا.
قوله تعالى (يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) يقول جل ثناؤه: يفرحون بنعمة من الله يعني بما حباهم به تعالى ذكره من عظيم كرامته عند ورودهم عليه وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل الثواب على ما سلف منهم من طاعة الله ورسوله وجهاد أعدائه، (وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين)، ومعنى قوله (لا يضيع أجر المؤمنين) لا يبطل جزاء أعمال من صدق رسوله واتبعه وعمل بما جاءه من عند الله. اهـ
وعن أنس عن النبي قال: (يؤتى بالرجل من أهل الجنة يوم القيامة فيقول الله عز وجل يا ابن آدم كيف وجدت منزلك فيقول يا رب خير منزل، فيقول: سل وتمنه، فيقول: ما أسأل وأتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات لما يرى من فضل الشهادة)( ).
وعن البراء قال: أتى النبي رجل مقنع بالحديد فقال: يا رسول الله أقاتل أو أسلم؟ قال : (أسلم ثم قاتل)، فأسلم ثم قاتل فقُتِل، فقال رسول الله : (عمل قليلا وأجر كثيرا)( ).
وعن أبي أمامة عن النبي قال: (ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين، قطرة من دموع في خشية الله وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران: فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة من فرائض الله)( ).
وعن أنس بن مالك عن النبي قال: (ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى)( ).
وعن عبد الله بن مسعود أنه سئل عن قوله ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون )، فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فأخبرنا أن أرواحهم في طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، فاطلع إليهم ربك اطلاعة، فقال: (هل تستزيدون شيئا فأزيدكم) قالوا: ربنا وما نستزيد ونحن في الجنة نسرح حيث شئنا، ثم اطلع إليهم الثانية، فقال: (هل تستزيدون شيئا فأزيدكم) فلما رأوا أنهم لم يتركوا، قالوا: تعيد أرواحنا في أجسادنا حتى نرجع إلى الدنيا فنقتل في سبيلك مرة أخرى)( )
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة)( ).
وعن رجل من أصحاب النبي أن رجلا قال: يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟، قال : (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)( ).
وعن ابن أبي عميرة أن رسول الله قال: (ما من الناس من نفس مسلمة يقبضها ربها تحب أن ترجع إليكم وأن لها الدنيا وما فيها غير الشهيد) قال ابن أبي عميرة: قال رسول الله : (ولأن أقتل في سبيل الله أحب إلي من أن يكون لي أهل الوبر والمدر)( ).
وعن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: إني سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله : (يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته)( ).
وعن أبي هريرة عن النبي قال ذكر الشهداء عند النبي فقال: (لا تجف الأرض من دم الشهيد حتى تبتدره زوجتاه كأنهما ظئران أضلتا فصيليهما في براح من الأرض وفي يد كل واحدة منهما حلة خير من الدنيا وما فيها)( ).
وعن عتبة بن عبد السلمي ـ وكان من أصحاب النبي ـ قال: قال رسول الله : (القتل ثلاثة: رجل مؤمن قاتل بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل فذلك الشهيد المفتخر في خيمة الله تحت عرشه لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة، ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا جاهد بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل محيت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محاء الخطايا، وأدخل من أي أبواب الجنة شاء، فإن لها ثمانية أبواب ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها أفضل من بعض، ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل في سبيل الله حتى يقتل فإن ذلك في النار السيف لا يمحو النفاق)( ).
وعن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله يقول: (الشهداء أربعة: رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذلك الذي يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة ـ هكذا ورفع رأسه حتى وقعت قلنسوته، قال فما أدري أقلنسوة عمر أراد أم قلنسوة النبي ـ قال: ورجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فكأنما ضرب جلده بشوك طلح من الجبن، أتاه سهم غرب فقتله فهو في الدرجة الثانية، ورجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذلك في الدرجة الثالثة، ورجل مؤمن أسرف على نفسه لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذلك في الدرجة الرابعة)( ).
وعن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله : (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه)( ).
وعن أنس قال بعث النبي أقواما من بني سليم إلى بني عامر في سبعين، فلما قدموا قال لهم خالي أتقدمكم فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله وإلا كنتم مني قريبا، فتقدم فأمنوه فبينما يحدثهم عن النبي إذ أومئوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه، فقال: الله أكبر فزت ورب الكعبة، ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم، إلا رجلا أعرج صعد الجبل، فأخبر جبريل عليه السلام النبي أنهم قد لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم، فكنا نقرأ (أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا) ثم نسخ بعد، فدعا عليهم أربعين صباحا، على رعل وذكوان وبني لحيان وبني عصية الذين عصوا الله ورسوله)
وعن أنس بن مالك أيضا أن أم الربيع بنت البراء ـ وهي أم حارثة بن سراقة ـ أتت النبي فقالت: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة؟ ـ وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب ـ فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال: (يا أم حارثة إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى)( )
وفي رواية أخرى عنه أيضا قال: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تك الأخرى ترى ما أصنع، فقال : (ويحك أو هبلت أو جنة واحدة هي، إنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس)
وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد)( )
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: (ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون غنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث، فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم)( )
وعن جابر قال: قال رجل يوم أحد: أرأيت إن قتلت في سبيل الله فأين أنا؟ قال: (في الجنة)، فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل)( )
وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: (عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد وعفيف متعفف وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه)( )
وعن حسناء بنت معاوية الصريمية قالت: حدثنا عمي قال: قلت للنبي : من في الجنة؟ قال: النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد في الجنة )( )
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: (الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا)( )
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله قال: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)( ).
وعن عبد الله بن أبي قتادة أن أباه كان يحدث أن رجلا سأل النبي فقال: يا رسول الله: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر كفر الله به خطاياي؟ فقال رسول الله : (إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر كفر الله به خطاياك) ثم إن رسول الله لبث ما شاء الله، ثم سأله الرجل فقال: يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله مقبلا غير مدبر كفر الله عني خطاياي؟ فقال رسول الله : (إن قتلت في سبيل الله مقبلا غير مدبر كفر الله عنك خطاياك إلا الدين، كذلك قال لي جبريل عليه السلام)( )
جواز تمني الشهادة وطلبها.
عن أنس ابن مالك قال: كان رسول الله يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، ـ وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت ـ فدخل عليها رسول الله فأطعمته وجعلت تفلي رأسه، فنام رسول الله ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة) ـ شك إسحاق ـ قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله ، ثم وضع رأسه ثم استيقظ وهو يضحك، فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله) كما قال في الأول، قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، قال: (أنت من الأولين) فركبت البحر في زمان معاوية بن أبي سفيان فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت)( )، وقد بوب البخاري على الحديث باب: الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء
قال ابن حجر رحمه الله: قال ابن المنير وغيره: إن الظاهر من الدعاء بالشهادة يستلزم طلب نصر الكافر على المسلم وإعانة من يعصي الله على من يطيعه، لكن القصد الأصلي إنما هو حصول الدرجة العليا المترتبة على حصول الشهادة، وليس ما ذكره مقصودا لذاته وإنما ما يقع في ضمن ذلك من قتل بعض المسلمين، وجاز تمني الشهادة لما يدل عليه من صدق من وقعت له من إعلاء كلمة الله حتى بذل نفسه في تحصيل ذلك.اهـ( )
وقال رحمه الله في شرح قصة أنس بن النضر : وفي قصة أنس بن النضر جواز بذل النفس في الجهاد، وفضل الوفاء بالعهد ولو شق على النفس حتى يصل إلى إهلاكها، وأن طلب الشهادة في الجهاد لا يتناوله النهي عن الإلقاء إلى التهلكة.اهـ( )
وعن أبي هريرة قال سمعت النبي يقول: (والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل)( )
وعن عمر قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك .( )
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : (من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه)( )
وعن مالك بن يخامر أن معاذ بن جبل حدثهم أنه سمع رسول الله يقول: (من قاتل في سبيل الله عز وجل من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة، ومن سأل الله القتل من عند نفسه صادقا ثم مات أو قتل فله أجر شهيد، ومن جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها كالزعفران وريحها كالمسك، ومن جرح جرحا في سبيل الله فعليه طابع الشهداء)( )
وعن سهل بن حنيف أن النبي قال: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)( )
وفي جواز تمني الشهادة قال ابن القيم رحمه الله: وقال خيثمة ـ أبو سعد ـ وكان ابنه استشهد مع رسول الله يوم بدر لقد أخطأتني وقعة بدر وكنت والله عليها حريصا حتى ساهمت ابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها ويقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا وقد الله يا رسول الله أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة وقد كبرت سني ورق عظمي وأحببت لقاء ربي فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة فدعا له رسول الله بذلك فقتل بأحد شهيدا، وقال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غدا فيقتلوني ثم يبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني ثم تسألني فيم ذلك فأقول فيك، وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله إذا غزا فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة فلو قعدت ونحن نكفيك وقد وضع عنك الجهاد فأتى عمرو بن الجموح رسول الله فقال يا رسول الله إن بني هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك ووالله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة فقال له رسول الله: (أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد)، وقال لبنيه: (وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة) فخرج مع رسول الله فقتل يوم أحد شهيدا، وانتهى أنس بن النضر إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم فقال: ما يجلسكم؟ فقالوا: قتل رسول الله، فقال: فما تصنعون بالحياة بعده فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل. اهـ( )
أنواع الشهداء وبعض أحكام الشهيد.
أولا: أنواع الشهداء.
ثبت في أحاديث النبي أن الشهداء قسمان: أحدهما: شهيد الدنيا والآخرة وهو من يقتل في سبيل الله تعالى وسواء كان في القتال مع الكفار أو في الدفاع عن دينه وماله وعرضه أو في مقاتلة البغاة والمحاربين كما بيـَّنا من قبل، وهذا الشهيد له أحكام خاصة عن بقية من يموت من أهل الإسلام أو يقتل، فلا يكفن الشهيد في غير ثيابه التي قتل فيها ولا يغسل ولا يصلى عليه على الصحيح كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، ويبعث يوم القيامة على حاله التي قتل عليها اللون لون الدم والريح ريح المسك، وله ما قد ذكرنا آنفا من الكرامة والنعيم والمكانة الرفيعة.
وأما القسم الآخر: فهم شهداء الآخرة فقط وهم أصناف ممن يموت من أمة محمد أكرمهم الله تعالى بمنزلة عالية يوم القيامة مِنَّـة منه وفضلا تبارك وتعالى غير أن لهم حكم سائر الموتى من حيث التغسيل والتكفين والصلاة عليهم إلى غير ذلك من أحكام الموتى، وقد جمع بعض العلماء الأصناف التي أخبر عنهم النبي أنهم من شهداء الآخرة فبلغت عشرين صنفا، وسنذكر فيما يلي بعض نصوص الأحاديث التي وردت فيهم إن شاء الله تعالى.
فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: (بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له)، ثم قال: (الشهداء خمسة: المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله)، وقال: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا)( )
وعنه أيضا عن النبي أنه قال: (ما تقولون في الشهيد فيكم؟) قالوا: القتل في سبيل الله، قال : (إن شهداء أمتي إذاً لقليل، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، والمبطون شهيد، والمطعون شهيد، والغرق شهيد)( )
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت النبي يقول: (من قتل دون ماله فهو شهيد)( )
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله) فذكر فيها (الحريق وصاحب ذات الجنب والمرأة تموت بجمع)( )
قال ابن حجر رحمه الله في شرح باب الشهادة سبع سوى القتل في صحيح البخاري: وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه مالك من رواية جابر بن عتيك أن النبي جاء يعود عبد الله بن ثابت فذكر الحديث وفيه (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: من يقتل في سبيل الله…)الحديث وفيه (الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله) فذكر زيادة على حديث أبي هريرة (الحريق وصاحب ذات الجنب والمرأة تموت بجمع) وتوارد مع أبي هريرة في (المبطون والمطعون والغريق وصاحب الهدم).
فأما صاحب ذات الجنب فهو مرض معروف ويقال له الشوصة، وأما المرأة تموت بجمع ـ فهو بضم الجيم وسكون الميم وقد تفتح الجيم وتكسر أيضا ـ وهي النفساء، وقيل: التي يموت ولدها ثم تموت بسبب ذلك، وقيل: التي تموت بمزدلفة وهو خطأ ظاهر، وقيل: التي تموت عذراء، والأول أشهر، قلت: حديث جابر بن عتيك أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن حبان، وقد روى مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة شاهدا لحديث جابر بن عتيك ولفظه (ما تعدون) وزاد فيه ونقص، فمن زيادته (ومن مات في سبيل الله فهو شهيد) ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت نحو حديث جابر بن عتيك ولفظه وفي (النفساء يقتلها ولدها جمعا شهادة)، وله من حديث راشد بن حبيش نحوه وفيه (والسل) وهو بكسر المهملة وتشديد اللام، وللنسائي من حديث عقبة بن عامر (خمس من قبض فيهن فهو شهيد) فذكر فيهم النفساء، وروى أصحاب السنن وصححه الترمذي من حديث سعيد بن زيد مرفوعا (من قتل دون ماله فهو شهيد)، وقال في الدين والدم والأهل مثل ذلك، وللنسائي من حديث سويد بن مقرن مرفوعا (من قتل دون مظلمته فهو شهيد…إلى أن قال ابن حجر رحمه الله:
والذي يظهر أنه أعلم بالأقل ثم أعلم زيادة على ذلك فذكرها في وقت آخر، ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك، وقد اجتمع لنا من الطرق الجيدة أكثر من عشرين خصلة فإن مجموع ما قدمته مما اشتملت عليه الأحاديث التي ذكرتها أربع عشرة خصلة، وتقدم في باب من ينكب في سبيل الله حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا (من وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه على أي حتف شاء الله تعالى فهو شهيد) وكذا للدارقطني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (موت الغريب شهادة) ولابن حبان من حديث أبي هريرة (من مات مرابطا مات شهيدا) الحديث، وللطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا (المرء يموت على فراشه في سبيل الله شهيد)، وقال ذلك أيضا في (المبطون واللديغ والغريق والشريق والذي يفترسه السبع والخار عن دابته وصاحب الهدم وذات الجنب)، ولأبي داود من حديث أم حرام رضي الله عنها (المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد)، وقد تقدمت أحاديث فيمن طلب الشهادة بنية صادقة أنه يكتب شهيدا في باب تمني الشهادة، ويأتي في حديث فيمن صبر في الطاعون أنه شهيد، وتقدم حديث عقبة بن عامر فيمن صرعته دابته وأنه عند الطبراني وعنده من حديث أبن مسعود بإسناد صحيح أن (من يتردى من رءوس الجبال ويغرق في البحار لشهيد عند الله)، ووردت أحاديث أخرى في أمور أخرى لم أعرج عليها لضعفها.
قال ابن التين: هذه كلها ميتات فيها شدة تفضل الله على أمة محمد بأن جعلها تمحيصا لذنوبهم وزيادة في أجورهم يبلغهم بها مراتب الشهداء، قلت والذي يظهر أن المذكورين ليسوا في المرتبة سواء، ويدل عليه ما روى أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث جابر والدارمي وأحمد والطحاوي من حديث عبد الله بن حبشي وابن ماجة من حديث عمرو بن عنبسة أن النبي سئل أي الجهاد أفضل؟ قال: (من عقر جواده وأهريق دمه) وروى الحسن بن علي الحلواني في كتاب المعرفة له بإسناد حسن من حديث علي بن أبي طالب قال: (كل موتة يموت بها المسلم) فهو أن الشهادة تتفاضل، ويتحصل مما ذكر في هذه الأحاديث أن الشهداء قسمان: شهيد الدنيا، وشهيد الآخرة وهو من يقتل في حرب الكفار مخلصا، وشهيد الآخرة وهو من ذكر بمعنى أنهم يعطون من جنس أجر الشهداء ولا تجري عليهم أحكامهم في الدنيا.اهـ( )
حكم تكفين الشهيد وتغسيله والصلاة عليه.
ثبت في الأحاديث الصحيحة عن نبينا أنه كان يدفن الشهداء في مكانهم الذي يقتلون فيه ولا يغسلهم كسائر الموتى وشهداء الآخرة( )، بل أمر أن يدفنوا بدمائهم وجراحاتهم التي قتلوا بها فإن الشهيد يأتي يوم القيامة وجرحه يثغب دما ريحه ريح المسك، والخلاف في تغسيل الشهيد ضعيف جدا ولا دليل نعلمه يصح الاعتماد عليه لمن خالف ما ذكرناه.
وأما الصلاة عليهم فالراجح أيضا أنه لا يُصلى على الشهداء لقوة الأحاديث الواردة في هذا وأنه ما صلى إلا على شهداء أحد وذلك بعد سنين كالمودع لهم كما ذكر في نص الحديث، وترك الصلاة على سائر الشهداء غيرهم، فلو كانت الصلاة علي الشهداء واجبة كسائر الموتى لما تركها وهذا أمر لا يخفى لتكراره ولو كان لنقل إلينا، وهذه الأحكام لا تختص بالبالغ فقط بل من قتل من غير البالغين في المعركة فحكمه حكم البالغ وعلى ذلك دل الحديث، وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى حكم تكفين الشهيد وتغسيله والصلاة عليه وما يتعلق بذلك وتحقيق الخلاف الوارد في هذه المسائل.
أولا: التكفين والتغسيل والدفن.
فأما ما ورد في ترك تكفينهم في غير ثيابهم التي قتلوا فيها وترك تغسيلهم كسائر الموتى ودفنهم في مكانهم الذي قتلوا فيه.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان النبي يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول (أيهم أكثر أخذا للقرآن) فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال: (أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة) وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم.( )
وعنه أيضا قال: قال النبي : (ادفنوهم في دمائهم) يعني يوم أحد ولم يغسلهم)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله (أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم)( )
وعن جابر بن عبد الله عن النبي أنه قال في قتلى أحد: (لا تغسلوهم، فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة) ولم يصل عليهم.( )
وعن عبد الله بن ثعلبة قال: قال رسول الله : (زملوهم بدمائهم، فإنه ليس كلم يكلم في الله إلا أتى يوم القيامة جرحه يدمى لونه لون دم وريحه ريح المسك)( )
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما كان يوم أحد جاءت عمتي بأبي لتدفنه في مقابرنا فنادى منادي رسول الله : ردوا القتلى إلى مضاجعهم.( )، وعنه أيضا أن النبي قال: (ادفنوا القتلى في مصارعهم)( )
فقد دلت هذه الأحاديث على أن الشهيد يدفن بدمه ولا يغسل والعدول عن هذا الظاهر المنصوص عليه في الشهداء إلى العمل بالعموم الوارد في سائر الموتى يأباه الفقه الصحيح، ولذلك قال ابن قدامة رحمه الله في شرح قول الخرقي (والشهيد إذا مات في موضعه لم يغسل ولم يصل عليه): يعني إذا مات في المعترك فإنه لا يغسل رواية واحدة، وهو قول أكثر أهل العلم ولا نعلم فيه خلافا إلا عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا: يغسل الشهيد ما مات ميت إلا جنبا، والاقتداء بالنبي وأصحابه في ترك غسلهم أولى...إلى أن قال:
فيحتمل أن ترك غسل الشهيد لما تضمنه الغسل من إزالة أثر العبادة المستحسنة شرعا، فإنه جاء عن النبي أنه قال (والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة واللون لون دم والريح ريح مسك)، وقال النبي : (ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين أما الأثران فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة الله تعالى)( )، وقد جاء ذكر هذه العلة في الحديث فإن عبد الله بن ثعلبة قال: قال رسول الله (زملوهم بدمائهم فإنه ليس كلم يكلم في الله إلا يأتي يوم القيامة يدمي لونه لون الدم وريحه ريح المسك)، ويحتمل أن الغسل لا يجب إلا من أجل الصلاة إلا أن الميت لا فعل له فأمرنا بغسله لنصلي عليه فمن لم تجب الصلاة عليه لم يجب غسله كالحي، ويحتمل أن الشهداء في المعركة يكثرون فيشق غسلهم وربما يكون فيهم الجراح فيتضررون فعفي عن غسلهم لذلك
فإن كان الشهيد جنبا غسل وحكمه في الصلاة عليه حكم غيره من الشهداء، وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك: لا يغسل لعموم الخبر وعن الشافعي كالمذهبين، ولنا ما روي أن حنظلة بن الراهب قتل يوم أحد فقال النبي : (ما شأن حنظلة فإني رأيت الملائكة تغسله) فقالوا: إنه جامع ثم سمع الهيعة فخرج إلى القتال، ولأنه غسل واجب لغير الموت فسقط بالموت كغسل النجاسة وحديثهم لا عموم له فإنه قضية في عين ورد في شهداء أحد وحديثنا خاص في حنظلة وهو من شهداء أحد، فيجب تقديمه…إلى أن قال:
والبالغ وغيره سواء وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وابن المنذر، وقال أبو حنيفة: لا يثبت حكم الشهادة لغير البالغ لأنه ليس من أهل القتال، ولنا أنه مسلم قتل في معترك المشركين بقتالهم أشبه البالغ، ولأنه أشبه البالغ في الصلاة عليه والغسل إذا لم يقتله المشركون فيشبهه في سقوط ذلك عنه بالشهادة، وقد كان في شهداء أحد حارثة بن النعمان وعمير بن أبي وقاص أخو سعد وهما صغيران، والحديث عام في الكل.
أما دفنه بثيابه فلا نعلم فيه خلافا وهو ثابت بقول النبي (ادفنوهم بثيابهم)، وعن ابن عباس أن رسول الله (أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم)، وليس هذا بحتم لكنه الأولى، وللولي أن ينزع عنه ثيابه ويكفنه بغيرها، وقال أبو حنيفة لا ينزع عنه شيء لظاهر الخبر، ولنا ما روي أن صفية أرسلت إلى النبي ثوبين ليكفن فيهما حمزة، فكفنه في أحدهما وكفن في الآخر رجلا آخر فدل على أن الخيار للولي، والحديث الآخر يحمل على الإباحة والاستحباب. اهـ( )
قال الكاساني رحمه الله: وأما حكم الشهادة في الدنيا فنقول: إن الشهيد كسائر الموتى في أحكام الدنيا وإنما يخالفهم في حكمين، أحدهما: أنه لا يغسل عند عامة العلماء، وقال الحسن البصري: يغسل لأن الغسل كرامة لبني آدم والشهيد يستحق الكرامة حسبما يستحقه غيره بل أشد فكان الغسل في حقه أوجب، ولهذا يغسل المرتث ومن قتل بحق فكذا الشهيد، ولأن غسل الميت وجب تطهيرا له ألا ترى أنه إنما تجوز الصلاة عليه بعد غسله لا قبله والشهيد يصلى عليه فيغسل أيضا تطهيرا له، وإنما لم تغسل شهداء أحد تخفيفا على الأحياء لكون أكثر الناس كان مجروحا لما أن ذلك اليوم كان يوم بلاء وتمحيص فلم يقدروا على غسلهم.
ولنا ما روي عن النبي أنه قال في شهداء أحد: (زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك) وفي بعض الروايات (زملوهم بدمائهم ولا تغسلوهم فإنه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا وهو يأتي يوم القيامة وأوداجه تشخب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك) وهذه الرواية أعم، فالنبي لم يأمر بغسلهم وبين المعنى وهو أنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما فلا يزال عنهم الدم ليكون شاهدا لهم يوم القيامة، وبه تبين أن ترك غسل الشهيد من باب الكرامة له وإن الشهادة جعلت مانعة عن حلول نجاسة الموت كما في شهداء أحد، وما ذكر من تعذر غير سديد لما بينا أن النبي أمر بأن يزملوهم بدمائهم وبين المعنى، ولأن الجراحات التي أصابتهم لما لم تكن مانعة لهم من الحفر والدفن كيف صارت مانعة من الغسل وهو أيسر من الحفر والدفن، ولأن ترك الغسل لو كان للتعذر لأمر أن يتيمموا كما لو تعذر غسل الميت لعدم الماء، والدليل عليه أنه كما لم تغسل شهداء أحد لم تغسل شهداء بدر والخندق وخيبر، وما ذكر من التعذر لم يكن يومئذ ولذا لم يغسل عثمان وعمار وكان بالمسلمين قوة، فدل أنهم ما فهموا من ترك الغسل على القتلى ما فهم الحسن.
والثاني: أنه يكفن في ثيابه لقول النبي (زملوهم بدمائهم) وقد روي (في ثيابهم) وروينا عن عمار وزيد بن صوحان أنهما قالا: لا تنزعوا عني ثوبا، وأنه ينزع عنه الجلد والسلاح والفرو والحشو والخف والمنطقة والقلنسوة، وعند الشافعي لا ينزع عنه شيء مما ذكرنا لقوله (زملوهم بثيابهم)، ولنا ما روي عن علي أنه قال: (تنزع عنه ما يباع والخفين والقلنسوة) وهذا لأن ما يترك ليكون كفنا، والكفن ما يلبس للستر وهذه الأشياء تلبس إما للتجمل والزينة ولا حاجة للميت إلى شيء من ذلك فلم يكن شيء من ذلك كفنا، وبه تبين أن المراد من قوله (زملوهم بثيابهم) الثياب التي يكفن بها وتلبس للستر، ولأن هذا عادة أهل الجاهلية فإنهم كانوا يدفنون أبطالهم بما عليهم من الأسلحة وقد نهينا عن التشبه بهم.
ويزيدون في أكفانهم ما شاءوا وينقصون ما شاءوا لما روي أن حمزة كان عليه نمرة لو غطي رأسه بها بدت رجلاه ولو غطيت بها رجلاه بدا رأسه فأمر رسول الله أن يغطى بها رأسه ويوضع على رجليه شيء من الإذخر، وذاك زيادة في الكفن ولأن الزيادة على ما عليه حتى يبلغ عدد السنة من باب الكمال فكان لهم ذلك، والنقصان من باب دفع الضرر عن الورثة لجواز أن يكون عليه من الثياب ما يضر تركه بالورثة، فأما فيما سوى ذلك فهو همام من الموتى. اهـ( )
وقال القرطبي رحمه الله: وقد اختلف العلماء في غسل الشهداء والصلاة عليهم، فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري إلى غسل جميع الشهداء والصلاة عليهم إلا قتيل المعترك في قتال العدو خاصة لحديث جابر قال: قال النبي : (ادفنوهم بدمائهم يعني يوم أحد ولم يغسلهم) رواه البخاري، وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر رسول الله بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم)، وبهذا قال أحمد وإسحاق والأوزاعي وداود بن علي وجماعة فقهاء الأمصار وأهل الحديث وابن علية، وقال سعيد بن المسيب والحسن: يغسلون، قال أحدهما: إنما لم تغسل شهداء أحد لكثرتهم والشغل عن ذلك، قال أبو عمر: ولم يقل بقول سعيد والحسن هذا أحد من فقهاء الأمصار إلا عبيد الله بن الحسن العنبري، وليس ما ذكروا من الشغل عن غسل شهداء أحد علة لأن كل واحد منهم كان له ولى يشتغل به ويقوم بأمره، والعلة في ذلك والله أعلم ما جاء في الحديث في دمائهم أنها تأتي يوم القيامة كريح المسك فبان أن العلة ليست الشغل كما قال من قال في ذلك، وليس لهذه المسألة مدخل في القياس والنظر وإنما هي مسألة أتباع للأثر الذي نقله الكافة في قتلى أحد لم يغسلوا، وقد احتج بعض المتأخرين ممن ذهب مذهب الحسن بقوله عليه السلام في شهداء أحد (أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة) قال: وهذا يدل على خصوصهم وأنه لا يشركهم في ذلك غيرهم، قال أبو عمر: وهذا يشبه الشذوذ والقول بترك غسلهم أولى لثبوت ذلك عن النبي في قتلى أحد وغيرهم وروى أبو داود عن جابر قال: رمى رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو، قال: ونحن مع رسول الله .اهـ( )
حكم الصلاة على الشهداء.
ثبت في حديث جابر بن عبد الله السابق أن النبي ما صلى على الشهداء يوم أحد ولم يرد أنه صلى عليهم في غيرها من المعارك، وقد قال بعض العلماء: إن الشهيد يصلى عليه مثل سائر الموتى واحتجوا في ذلك بما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أتي بهم رسول الله يوم أحد فجعل يصلي على عشرة عشرة وحمزة كما هو يُرفَعون وهو كما هو موضوع، ولكن هذا الحديث لا يصح الاحتجاج به لضعفه( )، ولأن أنس بن مالك
قد ذكر أن النبي ما صلى على غير حمزة( )، ولعل ذلك ـ على فرض ثبوت الحديث ـ خصوصية لحمزة لا يشاركه فيها غيره، ولو كانت الصلاة على الشهداء حكما عاما لنقل إلينا في شهداء أحد جميعهم وفي غيرهم من الشهداء وهم كثر وفي غير معركة، وما ورد في الصحيح أن النبي خرج يوما فصلى على شهداء أحد فقد ورد في الحديث ما يبين السبب في ذلك وأنه كان يودع الأموات مثل ما ودع الأحياء، فإن هذه الصلاة كانت عليهم بعد ثمان سنين كما ورد في بعض روايات الحديث، ولو كانت الصلاة عليهم واجبة مثل سائر الموتى لما أخرها كل هذه المدة، والشاهد أنه لو كانت الصلاة على الشهداء سنة ماضية لنقلت إلينا، خاصة مع توفر الدواعي لنقل المعارك وأحوال القتلى وقد نقل ما هو دون ذلك.
قال ابن قدامة رحمه الله في شرح قول الخرقي (والشهيد إذا مات في موضعه لم يغسل ولم يصل عليه): فأما الصلاة عليه فالصحيح أنه لا يصلى عليه وهو قول مالك والشافعي وإسحاق، وعن أحمد رواية أخرى أنه يصلى عليه واختارها الخلال، وهو قول الثوري وأبي حنيفة إلا أن كلام أحمد في هذه الرواية يشير إلى أن الصلاة عليه واجبة، قال في موضع: إن صلي عليه فلا بأس به، وفي موضع آخر قال: يصلى وأهل الحجاز لا يصلون عليه وما تضره الصلاة لا بأس به، وصرح بذلك في رواية المروذي فقال: الصلاة عليه أجود وإن لم يصلوا عليه أجزأ بالحق الروايتين في استحباب الصلاة لا في وجوبها، إحداهما يستحب لما روى عقبة (أن النبي خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر)( )، وعن ابن عباس (أن النبي صلى على قتلى أحد).
ولنا ما روى جابر (أن النبي أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم ولم يغسلهم ولم يصل عليهم)، ولأنه لا يغسل مع إمكان غسله فلم يصل عليه كسائر من لم يغسل، وحديث عقبة مخصوص بشهداء أحد فإنه صلى عليهم في القبور بعد ثماني سنين وهم لا يصلون على القبر أصلا، ونحن لا نصلي عليه بعد شهر...إلى أن قال:
وأما سقوط الصلاة عليهم فيحتمل أن تكون علته كونهم أحياء عند ربهم والصلاة إنما شرعت في حق الموتى، ويحتمل أن ذلك لغناهم عن الشفاعة لهم فإن الشهيد يشفع في سبعين من أهله فلا يحتاج إلى شفيعه، والصلاة إنما شرعت للشفاعة.اهـ( )
قال الكاساني رحمه الله: وقال الشافعي أنه لا يصلى عليه كما لا يغسل، واحتج بما روي عن جابر أن النبي ما صلى على أحد من شهداء أحد، ولأن الصلاة على الميت شفاعة له ودعاء لتمحيص ذنوبه والشهيد قد تطهر بصفة الشهادة عن دنس الذنوب على ما قال النبي (السيف محاء للذنوب) فاستغنى عن ذلك كما استغنى عن الغسل، ولأن الله تعالى وصف الشهداء بأنهم أحياء في كتابه والصلاة على الميت لا على الحي.
ولنا ما روي (أن النبي صلى على شهداء أحد صلاة الجنازة) حتى روي (أنه صلى على حمزة سبعين صلاة)( وبعضهم أولوا ذلك بأنه كان يؤتي بواحد واحد فيصلي عليه رسول الله وحمزة بين يديه فظن الراوي أنه كان يصلي على حمزة في كل مرة فروي أنه صلى عليه سبعين صلاة، ويحتمل أنه كان ذلك على حسب الرواية وكان مخصوصا بتلك الكرامة، وما روي عن جابر صحيح وقيل أنه كان يومئذ مشغولا فإنه قتل أبوه وأخوه وخاله فرجع إلى المدينة ليدبر كيف يحملهم إلى المدينة فلم يكن حاضرا حين صلى النبي عليهم، فلهذا روي ما روي ومن شاهد النبي قد روي أنه صلى عليهم، ثم سمع جابر منادي رسول الله أن تدفن القتلى في مصارعهم فرجع فدفنهم فيها، ولأن الصلاة على الميت لإظهار كرامته، ولهذا اختص بها المسلمون دون الكفرة والشهيد أولى بالكرامة.
وما ذكر من حصول الطهارة بالشهادة فالعبد وإن جل قدره لا يستغني عن الدعاء ألا ترى أنهم صلوا على رسول الله ولا شك أن درجته كانت فوق درجة الشهداء، وإنما وصفهم بالحياة في حق أحكام الآخرة ألا ترى إلى قوله تعالى (بل أحياء عند ربهم يرزقون)، فأما في حق أحكام الدنيا فالشهيد ميت يقسم ماله وتنكح امرأته بعد انقضاء العدة ووجوب الصلاة عليه من أحكام الدنيا فكان ميتا فيه فيصلى عليه والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. اهـ( )
وقال القرطبي رحمه الله: وأما الصلاة عليهم فاختلف العلماء في ذلك أيضا فذهب مالك والليث والشافعي وأحمد وداود إلى أنه لا يصلى عليهم لحديث جابر قال: كان النبي يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: (أيهما أكثر أخذا للقرآن) فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال: (أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة) وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم، وقال فقهاء الكوفة والبصرة والشام: يصلى عليهم ورووا آثارا كثيرة أكثرها مراسيل أن النبي صلى على حمزة وعلى سائر شهداء أحد.اهـ( )
فائدتان تتعلقان بالشهادة.
* الأولى: قال القرطبي رحمه الله: العدو إذا صبح قوما في منزلهم ولم يعلموا به فقتل منهم فهل يكون حكمه حكم قتيل المعترك أو حكم سائر الموتى؟ وهذه المسألة نزلت عندنا بقرطبة أعادها الله أغار العدو قصمه الله صبيحة الثالث من رمضان المعظم سنة سبع وعشرين وستمائة ـ 627هـ ـ والناس في أجرانهم على غفلة، فقتل وأسر وكان من جملة من قتل والدي رحمه الله، فسألت شيخنا المقرىء الأستاذ أبا جعفر أحمد المعروف بأبي حجة فقال: غسله وصل عليه فإن أباك لم يقتل في المعترك بين الصفين، ثم سألت شيخنا ربيع بن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع فقال: إن حكمه حكم القتلى في المعترك، ثم سألت قاضي الجماعة أبا الحسن علي بن قطرال وحوله جماعة من الفقهاء فقالوا: غسله وكفنه وصل عليه ففعلت، ثم بعد ذلك وقفت على المسألة في التبصرة لأبي الحسن اللخمي وغيرها ولو كان ذلك قبل ذلك ما غسلته وكنت دفنته بدمه في ثيابه. اهـ( )
* الثانية: قال ابن حجر رحمه الله في شرح تبويب البخاري: لا يقال فلان شهيد: قوله باب لا يقال فلان شهيد أي على سبيل القطع بذلك إلا أن كان بالوحي وكأنه أشار إلى حديث عمر أنه خطب فقال: تقولون في مغازيكم فلان شهيد ومات فلان شهيد ولعله قد يكون قد أوقر راحلته، ألا لا تقولوا ذلكم ولكن قولوا كما قال رسول الله : (من مات في سبيل الله أو قتل فهو شهيد) وهو حديث حسن أخرجه أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما من طريق محمد بن سيرين عن أبي العجفاء عن عمر وله شاهد في حديث أخرجه أبو نعيم من طريق عبد الله بن الصلت عن أبي ذر قال: قال رسول الله : (من تعدون الشهيد؟) قالوا: من أصابه السلاح، قال: (كم من أصابه السلاح وليس بشهيد ولا حميد وكم من مات على فراشه حتف عند الله صديق وشهيد) وفي إسناده نظر فإنه من رواية عبد الله بن خُبَيق ـ بالمعجمة والموحدة والقاف مصغر ـ عن يوسف بن أسباط، وعلى هذا فالمراد النهي عن تعيين وصف واحد بعينه بأنه شهيد بل يجوز أن يقال ذلك على طريق الإجمال، قوله وقال أبو هريرة عن النبي : (الله أعلم بمن يجاهد في سبيله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله) أي يجرح وجه أخذ الترجمة منه يظهر من حديث أبي موسى الماضي (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ولا يطلع على ذلك إلا بالوحي فمن ثبت أنه في سبيل الله أعطى حكم الشهادة، فقوله (والله أعلم بمن يكلم في سبيله) أي فلا يعلم ذلك إلا من أعلمه الله فلا ينبغي إطلاق كون كل مقتول في الجهاد أنه في سبيل الله.
ثم ذكر المصنف حديث سهل بن سعد في قصة في القتال حتى قال المسلمون: ما أجزأ أحد ما أجزأ ثم كان آخر أمره أن قتل نفسه، وسيأتي شرحه مستوفى في المغازي حيث ذكره المصنف ووجه أخذ الترجمة منه أنهم شهدوا برجحانه في أمر الجهاد، فلو كان قتل لم يمتنع أن يشهدوا له بالشهادة وقد ظهر منه أنه لم يقاتل لله وإنما قاتل غضبا لقومه، فلا يطلق على كل مقتول في الجهاد أنه شهيد لاحتمال أن يكون مثل هذا، وأن كان مع ذلك يعطى حكم الشهداء في الأحكام الظاهرة، ولذلك أطبق السلف على تسمية المقتولين في بدر وأحد وغيرهما شهداء والمراد بذلك الحكم الظاهر المبني على الظن الغالب والله أعلم. اهـ( )
وهذا آخر ما نذكره في مسألة فضل الشهادة وبعض أحكام الشهيد والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
*****
أولا: تعريف الشهيد.
اختصر بعض العلماء ومنهم الحافظ ابن حجر رحمه الله ما قيل في سبب تسمية الشهيد بذلك فقال في شرح باب: الشهادة سبع سوى القتل من صحيح البخاري: اختـُلِف في سبب تسمية الشهيد، فقال النضر بن شميل: لأنه حي بالحق أرواحهم شاهدة أي حاضرة، وقال ابن الدفع: لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة، وقيل لأنه يشهد عند خروج روحه ما أعد له من الكرامة، وقيل لأنه يشهد له بالأمان من النار، وقيل لأن عليه شاهدا بكونه شهيدا، وقيل: لأنه لا يشهده عند موته إلا ملائكة الرحمة، وقيل: لأنه الذي يشهد يوم القيامة بإبلاغ الرسل، وقيل: لأن الملائكة تشهد له بحسن الخاتمة، وقيل: لأن الأنبياء تشهد له بحسن الاتباع، وقيل: لأن الله يشهد له بحسن نيته وإخلاصه، وقيل: لأنه يشاهد الملائكة عند احتضاره، وقيل: لأنه يشاهد الملكوت من دار الدنيا ودار الآخرة، وقيل: لأنه مشهود له بالأمان من النار، وقيل: لأن عليه علامة شاهدة بأنه قد نجا، قال ابن حجر: وبعض هذه يختص بمن قتل في سبيل الله وبعضها يعم غيره وبعضها قد ينازع فيه. اهـ( )
شرائط الشهادة.
لاعتبار كون المقتول شهيدا عدة شرائط استفيدت من الأدلة الواردة في هذا الباب، ومن هذه الشرائط ما هو متفق عليه ومنها ما هو مختلف فيه فأما المتفق عليه:
* الإسلام: فإن الكافر لو استعان به المسلمون فقتل معهم لا يكون شهيدا لأن الشهادة كرامة جعلها الله تعالى لأهل الإسلام في الدنيا وهي في الآخرة تنجيهم من السؤال والحساب، والكافر لا كرامة له في الدنيا والنار مثواه يوم القيامة لا ينفعه عمل ولا يقبل منه أبدا، قال تعالى (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) ( )، وقال تبارك وتعالى (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون)( )، ومثله قوله تعالى (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين)( ) إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن المكلف إذا وقع في الكفر أو الشرك الأكبر فقد خرج من الملة وحبط عمله كله، ولذلك أهدر الله سبحانه وتعالى أعمال الكفار الذين يأتون بها يوم القيامة وجعلها هباء منثورا مع أنها أعمال صحيحة من حيث الظاهر حيث قال تبارك وتعالى عن الكفار (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) ( ) وقال تعالى (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء)( )، فقد أحبط الله أعمالهم لما أتوه من الكفر الأكبر ولم يقبلها منهم، فالكافر لا ينفعه عمل يوم القيامة وفي النار هم خالدون.
* أن يكون مقتولا في معركة الكفار وهذا متفق عليه، وأما من قتل حتف أنفه مثل الغريق وصاحب الهدم والمحترق بالنار والمرأة تموت في نفاسها وما يلحق بهم فهؤلاء وإن جاء النص بتسميتهم شهداء فهم من شهداء الآخرة فقط لأنهم جميعا كانوا يغسلون ويصلى عليهم من لدن النبي وإلى وقتنا هذا.
* أن لا يكون مرتثا، والمرتث هو الذي فعل ما يفعله الأحياء بعد إصابته وقبل موته كمن قام من مكانه وتحرك أو بات ليلة أو أكثر أو باع أو أشترى أو ما شابه ذلك، فإن بعض الصحابة ماتوا من جراحاتهم التي أصيبوا بها بعد أن مكثوا وقتا فعلوا فيه فعل الأحياء ومن هؤلاء سعد بن معاذ وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ، وقد غسل النبي سعدا وصلى عليه مع أنه مات بسبب جرحه التي أصيب بها يوم الخندق، وكذلك غسل الصحابة من ذكرنا منهم وصلوا عليهم، وسنفرد هذه المسألة بالشرح لأهميتها ولكثرة الخطأ فيها والسؤال عنها من قِبل المجاهدين.
* ومن الشرائط المتفق عليها أن لا يكون قد قتل بحق كمن قتل في حد من حدود الله تعالى أو تعزير شرعي فهذا لا يكون شهيدا وإن كان مقتولا.
وأما ما اختلف فيه من الشرائط:
كون المقتول قتل في قتال البغاة أو الخوارج أو المحاربين وقطاع الطريق ومن قتل في دفع الصائل على الدين والحرمة والمال وقد قدمنا في الباب الأول من الأدلة وأقوال أهل العلم ما يدل على أن الراجح هو أن كل هؤلاء شهداء لهم حكم شهداء معركة الكفار ومن هذه الأدلة:
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت النبي يقول: (من قتل دون ماله فهو شهيد)، وقد بوب مسلم رحمه الله في صحيحه على هذا الحديث باب: الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه وإن قتل كان في النار، وأن من قتل دون ماله فهو شهيد، وروى عن سليمان الأحول أن ثابتا مولى عمر بن عبد الرحمن أخبره أنه لما كان بين عبد الله بن عمرو وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان تيسروا للقتال فركب خالد بن العاص إلى عبد الله بن عمرو فوعظه خالد، فقال عبد الله بن عمرو: أما علمت أن رسول الله قال: (من قتل دون ماله فهو شهيد )، وعن سعيد بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)( )، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال: (من قتل دون ماله مظلوما فله الجنة)( )، وعن سويد بن مقرن قال: قال رسول الله (من قتل دون مظلمته فهو شهيد)( )، وعن أبي هريرة قال جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟، قال : (فلا تعطه مالك)، قال الرجل: أرأيت إن قاتلني؟، قال : (قاتله)، قال الرجل : أرأيت إن قتلني؟ قال : (فأنت شهيد)، قال الرجل: أرأيت إن قتلته؟، قال : (هو في النار)( )، وعن أبي هريرة أيضا قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله أرأيت إن عُدِيَ على مالي؟، قال : (فانشد بالله)، قال الرجل: فإن أَبَوْا علي؟، قال : (فانشد بالله)، قال الرجل: فإن أبوا علي؟، قال : (فانشد بالله)، قال الرجل: فإن أبوا علي؟، قال : (فقاتل فإن قُتِلت ففي الجنة، وإن قَتَلت ففي النار)( )، أي من قتلته ممن يريد العدوان على حر مالك فهو في النار لأنه ظالم معتد ودمه هدر.
وقد عقد الخلال في كتاب السنة فصلا لما ورد عن أحمد بن حنبل رحمه الله في بيان مشروعية الدفاع عن المال والنفس والعرض وأن هذا من الجهاد المشروع وأن من قتل في هذا فهو شهيد، فقال أخبرني عبد الكريم بن الهيثم بن زياد القطان العاقولي أنه قال لأبي عبد الله: يقاتل اللصوص؟ قال: إن كان يدفع عن نفسه، وعن صالح بن أحمد أنه سأل أباه عن قتال اللصوص فقال: كل من عرض لك يريد مالك ونفسك فلك أن تدفع عن نفسك ومالك، وعن عبد الملك الميموني أن أبا عبد الله قال له في هذه المسألة: قال النبي (من قتل دون ماله فهو شهيد).
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: وسنة رسول الله تدل على أن للمرء أن يمنع ماله وإذا منعه بالقتال دونه فهو إحلال للقتال والقتال سبب الإتلاف لمن يقاتل في النفس وما دونها، ولا يحتمل قول رسول الله والله تعالى أعلم من قتل دون ماله فهو شهيد إلا أن يقاتل دونه، ولو ذهب رجل إلى أن يحمل هذا القول على أن يقتل ويؤخذ ماله كان اللفظ في الحديث من قتل وأخذ ماله أو قتل ليؤخذ ماله ولا يقال له قتل دون ماله ومن قتل بلا أن يقاتل فلا يشك أحد أنه شهيد.اهـ( )
وفي بيان أن من قتل في قتال البغاة فهو شهيد قال الكاساني الحنفي رحمه الله: إذا قُتِلَ الرجل في المعركة أو غيرها وهو يقاتل أهل الحرب أو قتل مدافعا عن نفسه أو ماله أو أهله أو واحد من المسلمين أو أهل الذمة فهو شهيد، سواء قتل بسلاح أو غيره لاستجماع شرائط الشهادة في حقه فالتحق بشهداء أحد، وكذلك إذا صار مقتولا من جهة قطاع الطريق، دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (من قتل دون ماله فهو شهيد) وهذا قتل دون ماله فيكون شهيدا بشهادة النبي وكذا إذا قتل في محاربة أهل البغي، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يغسل في أحد قوليه لأن على أحد قوليه يجب القصاص على الباغي فهذا قتيل أخلف بدلا وهو القصاص وهذا يمنع الشهادة عنده على ما مر.
ولنا ما روي عن عمار أنه لما استشهد بصفين تحت راية علي فقال: لا تغسلوا عني دما ولا تنزعوا عني ثوبا فإني ألتقي ومعاوية بالجادة، وكان قتيل أهل البغي على ما قال النبي : (تقتلك الفئة الباغية)( ) وروي أن زيد بن صوحان لما استشهد يوم الجمل فقال: لا تغسلوا عني دما ولا تنزعوا عني ثوبا فإني رجل محاج أحاج يوم القيامة من قتلني( )، وعن علي أنه كان لا يغسل من قتل من أصحابه، ولأنه في معنى شهداء أحد لأنه قتل قتلا تمحض ظلما ولم يخلف بدلا هو مال، ووجوب القصاص في قتل الباغي ممنوع وعليه إجماع الصحابة أن كل دم أريق بتأويل القرآن فهو باطل. اهـ( )
وقال ابن قدامة رحمه الله في قتيل أهل البغي: ومن قُتِل من أهل العدل في المعركة فحكمه في الغسل والصلاة حكم من قتل في معركة المشركين، لأن عليا لم يغسل من قتل معه وعمار أوصى أن لا يغسل وقال: ادفنوني في ثيابي فإني مخاصم، قال أحمد: قد أوصى أصحاب الجمل أنا مستشهدون غدا فلا ثوبا ولا دما، ولأنه شهيد المعركة أشبه قتيل الكفار وهذا قول أبي حنيفة، وقال الشافعي في أحد قوليه يغسلون لأن أسماء رضي الله عنها غسلت ابنها عبد الله بن الزبير، والأول أولى لما ذكرناه، وأما عبد الله بن الزبير فإنه أخذ وصلب فهو كالمقتول ظلما وليس بشهيد. اهـ( )
* ومما اختلف فيه أيضا من شرائط الشهادة كون المقتول بالغا والصحيح أنه لا يشترط ذلك لما ورد عن أنس أنه قال: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع، فقال (ويحك أو هبلت أو جنة واحدة هي، إنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس) وقد سبق
* ومما اختلف فيه أيضا أن يكون المقتول طاهرا والراجح في ذلك أنه لا يشترط الطهارة في اعتبار الشهادة فقد كان حنظلة الغسيل شهيدا قبل أن تغسله الملائكة.
قال الكاساني رحمه الله: وأما الشهيد فالكلام فيه في موضعين، أحدهما: في بيان من يكون شهيدا في الحكم ومن لا يكون، والثاني: في بيان حكم الشهادة في الدنيا، أما الأول فمبني على شرائط الشهادة وهي أنواع:
* منها أن يكون مقتولا حتى لو مات حتف أنفه، أو تردى من موضع، أو احترق بالنار، أو مات تحت هدم، أو غرق لا يكون شهيدا لأنه ليس بمقتول فلم يكن في معنى شهداء أحد، وبأي شيء قتل في المعركة من سلاح أو غيره فهو سواء في حكم الشهادة لأن شهداء أحد ما قتل كلهم بسلاح بل منهم من قتل بغير سلاح.
* ومنها أن يكون مظلوما حتى لو قتل بحق في قصاص أو رجم لا يكون شهيدا، لأن شهداء أحد قتلوا مظلومين وروي أنه لما رجم ماعز جاء عمه إلى النبي فقال: قتل ماعز كما تقتل الكلاب فماذا تأمرني أن أصنع به؟ فقال النبي : (لا تقل هذا فقد تاب توبة لو قسمت توبته على أهل الأرض لوسعتهم اذهب فاغسله وكفنه وصل عليه)، وكذلك من مات من حد أو تعزير أو عدا على قوم ظلما فقتلوه لا يكون شهيدا لأنه ظلم نفسه وكذا لو قتله سبع لانعدام تحقق الظلم.
ومنها أن لا يخلف عن نفسه بدلا هو مال حتى لو كان مقتولا خطأ أو شبه عمد بأن قتله في المصر نهارا بعصا صغيرة أو سوط أو وكزه باليد أو لكزه بالرجل لا يكون شهيدا، لأن الواجب في هذه المواضع هو المال دون القصاص وذا دليل خفة الجناية فلم يكن في معنى شهداء أحد…إلى أن قال:
ولو نزل عليه اللصوص ليلا في المصر فقتل بسلاح أو غيره أو قتله قطاع الطريق خارج المصر بسلاح أو غيره فهو شهيد لأن القتيل لم يخلف في هذه المواضع بدلا هو مال، ولو قتل في المصر نهارا بسلاح ظلما بأن قتل بحديدة أو ما يشبه الحديدة كالنحاس والصفر وما أشبه ذلك أو ما يعمل عمل الحديد من جرح أو قطع أو طعن بأن قتله بزجاجة أو بليطة قصب أو طعنه برمح لا زج له أو رماه بنشابة لا نصل لها أو أحرقه بالنار، وفي الجملة كل قتل يتعلق به وجوب القصاص كان شهيد.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: لا يكون شهيدا، واحتج بما روي (أن عمر وعليا غسلا) ولأن هذا قتيل أخلف بدلا وهو المال أو القصاص فما هو في معنى شهداء أحد كالقتيل خطأ أو شبه عمد، ولنا أن وجوب هذا البدل دليل انعدام الشبهة وتحقق الظلم من جميع الوجوه إذ لا يجب القصاص مع الشبهة فصار في معنى شهداء أحد بخلاف ما إذا أخلف بدلا هو مال لأن ذلك أمارة خفة الجناية لأن المال لا يجب إلا عند تحقق الشبهة في القتل فلم يكن في معنى شهداء أحد ولأن الدية بدل عن المقتول فإذا وصل إليه البدل صار المبدل كالباقي من وجه لبقاء بدله فأوجب خللا في الشهادة فأما القصاص فليس ببدل عن المحل بل هو جزاء الفعل على طريق المساواة فلا يسقط به حكم الشهادة وإنما غسل عمر وعلي لأنهما ارتثا والارتثاث يمنع الشهادة على ما نذكر…إلى أن قال:
* ومنها أن لا يكون مرتثا في شهادته وهو مأخوذ من الثوب الرث وهو الخلق، والأصل فيه ما روي أن عمر رضي الله عنه لما طعن حمل إلى بيته فعاش يومين ثم مات فغسل وكان شهيدا وكذا علي حمل حيا بعد ما طعن ثم مات فغسل وكان شهيدا وعثمان أجهز عليه في مصرعه ولم يرتث فلم يغسل وسعد بن معاذ ارتث فقال النبي (بادروا إلى غسل صاحبكم سعد كيلا تسبقنا الملائكة بغسله كما سبقتنا بغسل حنظلة) ولأن شهداء أحد ماتوا على مصارعهم ولم يرتثوا حتى روي أن الكأس كان يدار عليهم فلم يشربوا خوفا من نقصان الشهادة فإذا ارتث لم يكن في معنى شهداء أحد…إلى قوله:
* ومنها ـ أي من شرائط الشهادة ـ كون المقتول مسلما فإن كان كافرا كالذمي إذا خرج مع المسلمين للقتال فقتل يغسل لأن سقوط الغسل عن المسلم إنما ثبت كرامة له والكافر لا يستحق الكرامة.
* ومنها كون المقتول مكلفا هو شرط صحة الشهادة في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلا يكون الصبي والمجنون شهيدين عنده وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ليس بشرط ويلحقهما حكم الشهادة…إلى أن قال:
* ومنها الطهارة عن الجنابة شرط في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما ليس بشرط حتى لو قتل جنبا لم يكن شهيدا عنده خلافا لهما، وجه قولهما أن القتل على طريق الشهادة أقيم مقام الغسل كالذكاة أقيمت مقام غسل العروق بدليل أنه يرفع الحدث، ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى ما روي أن حنظلة استشهد جنبا فغسلته الملائكة حتى قال رسول الله : (إن صاحبكم لتغسله الملائكة فاسألوا أهله ما باله) فسئلت صاحبته فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهيعة فقال : (لذلك غسلته الملائكة). اهـ( )
حكم المرتث( ).
يسأل كثير من المجاهدين عن حكم من يصاب في المعركة غير أنه ربما يعيش فترة قصرت أو طالت وربما ينقل خلالها إلى مكان آخر ويتكلم بكلام الأحياء وربما أكل أو شرب ثم يموت بعد ذلك، فهل يغسل ويكفن ويصلى عليه مثل باقي الأموات أم أن هذا له حكم شهداء الدنيا والآخرة فلا يفعل به هكذا؟
والصواب الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة أن من كان مثل هذا فإن له منزلة الشهيد في الآخرة غير أن حكمه في الدنيا حكم سائر الأموات بخلاف من مات في مكان القتال أو أجهز عليه في مكانه ولو تكلم والدليل على هذا التفريق:
* ما ورد في قصة موت سعد بن معاذ وكان قد أصيب يوم خيبر ولكنه بقي مدة حتى حكم في بني قريظة( )
وعمر لما طعنه أبو لؤلؤة حمل إلى بيته فعاش يومين ثم غسل وذلك بحضرة كبار الصحابة ( )، وكذلك علي حمل حيا بعد ما طعن ثم غسل( ).
فأما عثمان فأجهز عليه في مصرعه ولم يغسل( )، فعرفنا بذلك أن الشهيد الذي لا يغسل من أجهز عليه في مصرعه دون من يحمل حيا ليمرض في خيمته أو في بيته.
قال الكاساني رحمه الله: ثم المرتث من خرج عن صفة القتلى وصار إلى حال الدنيا بأن جرى عليه شيء من أحكامها أو وصل إليه شيء من منافعها، وإذا عرف هذا فنقول من حمل من المعركة حيا ثم مات في بيته أو على أيدي الرجال فهو مرتث، وكذلك إذا أكل أو شرب أو باع أو ابتاع أو تكلم أو قام من مكانه ذلك أو تحول من مكانه إلى مكان آخر وبقي على مكانه ذلك حيا يوما كاملا أو ليلة كاملة وهو يعقل فهو مرتث، وروي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى إذا بقي وقت صلاة كامل حتى صارت الصلاة دينا في ذمته وهو يعقل فهو مرتث وإن بقي في مكانه لا يعقل فليس بمرتث، وقال محمد رحمه الله تعالى إن بقي يوما فهو مرتث ولو أوصى كان ارتثاثا عند أبي يوسف رحمه الله تعالى خلافا لمحمد وقيل لا خلاف بينهما في الحقيقة فجواب أبي يوسف رحمه الله تعالى خرج فيما إذا أوصى بشيء من أمور الدنيا وذلك يوجب الارتثاث بالإجماع لأن الوصية بأمور الدنيا من أحكام الدنيا ومصالحها فينقض ذلك معنى الشهادة، وجواب محمد رحمه الله تعالى محمول على ما إذا أوصى بشيء من أمور الآخرة وذلك لا يوجب الارتثاث بالإجماع كوصية سعد بن الربيع وهو ما روي أنه لما أصيب المسلمون يوم أحد ووضعت الحرب أوزارها قال رسول الله : (هل من رجل ينظر ما فعل سعد بن الربيع) فنظر عبد الله بن عبد الرحمن من بني النجار فوجده جريحا في القتلى وبه رمق فقال له: إن رسول الله أمرني أن أنظر في الأحياء أنت أم في الأموات فقال: أنا في الأموات فأبلغ رسول الله عني السلام وقل له: إن سعد بن الربيع يقول: جزاك خير ما يجزي نبي عن أمته وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعدا يقول لا عذر لكم ثم الله تعالى أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، قال: ثم لم أبرح حتى مات فلم يغسل وصلي…إلى أن قال:
ثم المرتث وإن لم يكن شهيدا في حكم الدنيا فهو شهيد في حق الثواب حتى أنه ينال ثواب الشهداء كالغريق والحريق والمبطون والغريب أنهم شهداء بشهادة رسول الله لهم بالشهادة وإن لم يظهر حكم شهادتهم في الدنيا. اهـ( )
وفي شرح قول الخرقي: (وإن حمل وبه رمق غسل وصلي عليه) قال ابن قدامة رحمه الله: معنى قوله رمق أي حياة مستقرة فهذا عليه وإن كان شهيدا لأن النبي غسل سعد بن معاذ وصلى عليه وكان شهيدا رماه ابن العرقة يوم الخندق بسهم فقطع أكحله فحمل إلى المسجد فلبث فيه أياما حتى حكم في بني قريظة ثم انفتح جرحه فمات وظاهر كلام الخرقي أنه متى طالت حياته بعد حمله غسل وصلي عليه وإن مات في المعترك أو عقب حمله لم يغسل ولم يصل عليه ونحو هذا قول مالك قال إن أكل أو شرب أو بقي يومين أو ثلاثة غسل، وقال أحمد في موضع إن تكلم أو أكل أو شرب صلي عليه، وقول أصحاب أبي حنيفة نحو من هذا، وعن أحمد أنه سئل عن المجروح إذا بقي في المعترك يوما إلى الليل ثم مات فرأى أن يصلي عليه، وقال أصحاب الشافعي إن مات حال الحرب لم يغسل ولم يصل عليه وإلا فلا، والصحيح التحديد بطول الفصل أو الأكل لأن الأكل لا يكون إلا من ذي حياة مستقرة وطول الفصل يدل على ذلك وقد ثبت اعتباره في كثير من المواضع.
وأما الكلام والشرب وحالة الحرب فلا يصح التحديد بشيء منها لأنه يروى أن النبي قال يوم أحد: (من ينظر ما فعل سعد بن الربيع) فقال رجل: أنا أنظر لك يا رسول الله فنظر فوجده جريحا به رمق فقال له إن رسول الله أمرني أن أنظر في الأحياء أنت أم في الأموات، قال: فأنا في الأموات فأبلغ رسول الله عني السلام) وذكر الحديث، قال: ثم لم أبرح أن مات، وروي أن أصيرم بن عبد الأشهل وجد صريعا يوم أحد فقيل له ما جاء بك؟ قال: أسلمت ثم جئت، وهما من شهداء أحد دخلا في عموم قول النبي (ادفنوهم بدمائهم وثيابهم) ولم يغسلهم ولم يصل عليهم وقد تكلما وماتا بعد انقضاء الحرب، وفي قصة أهل اليمامة عن ابن عمر أنه طاف في القتلى فوجد أبا عقيل الأنفي قال فسقيته ماء وبه أربعة عشر جرحا كلها قد خلص إلى مقتل فخرج الماء من جراحاته كلها فلم يغسل، وفي فتوح الشام أن رجلا قال: أخذت ماء لعلي أسقي ابن عمي إن وجدت به حياة فوجدت الحارث بن هشام فأردت أن أسقيه، فإذا رجل ينظر إليه، فأومأ لي أن أسقيه فذهبت إليه لأسقيه، فإذا بآخر ينظر إليه فأومأ إلي أن أسقيه، فلم أصل إليه حتى ماتوا كلهم، ولم يفرد أحد منهم بغسل ولا صلاة وقد ماتوا بعد انقضاء الحرب. اهـ( )
فأما ما ورد في فضل الشهادة من أدلة في الكتاب والسنة فكثير ومنها:
قوله تعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين)( )
فقد بين الله تبارك وتعالى أن القتل الذي يحذر الناس منه ليس مما يحذر بل هو من أجل المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون وذلك إثر بيان أن الحذر لا يجدي ولا يغني من القدر، فبين الله تعالى في الآية الكريمة ما أعده للشهداء الذين يقتلون في سبيله من الكرامة والنعيم والفضل بما يحفز غيرهم على الجهاد في سبيل الله ولا يزهدهم فيه، فبين تعالى أن الشهداء وإن رآهم الناس قد ماتت أجسادهم فإن أرواحهم حية تسرح في أنهار الجنة ونعيمها حيث شاءت وتأكل من ثمارها ثم تأوي إلى قناديل معلقة في عرش الرحمن تعالى بحيث أنهم لا يتمنون على الله شيئا حين يسألهم لأنهم قد حصلوا منتهى النعيم والكرامة التي لا شيء بعدها.
قال الطبري رحمه الله في تفسيره لهذه الآية جامعا ما ذكر فيها: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) يقول: ولا تحسبنهم يا محمد أمواتا لا يحسون شيئا ولا يلتذون ولا يتنعمون، فإنهم أحياء عندي متنعمون في رزقي فرحون مسرورون بما آتيتهم من كرامتي وفضلي وحبوتهم به من جزيل ثوابي وعطائي، وساق بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : (لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله عز وجل على رسول الله هؤلاء الآيات، وعن مسروق بن الأجدع قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآيات (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله) الآية قال: أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا: إنه لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فيطلع الله إليهم اطلاعة فيقول: يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: ربنا لا فوق ما أعطيتنا الجنة نأكل منها حيث شئنا، ثلاث مرات، ثم يطلع فيقول: يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: ربنا لا فوق ما أعطيتنا الجنة نأكل منها حيث شئنا إلا أنا نختار أن ترد أرواحنا في أجسادنا ثم تردنا إلى الدنيا فنقاتل فيك حتى نقتل فيك مرة أخرى، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : (الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء أو قال ـ في روضة خضراء ـ يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا، وعن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال لي رسول الله : (ألا أبشرك يا جابر) قلت: بلى يا رسول الله، قال (إن أباك حيث أصيب بأحد أحياه الله ثم قال له: ما تحب يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك؟ قال: يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى)، وعن قتادة: ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله قالوا: يا ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين قتلوا يوم أحد، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك القرآن (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) كنا نحدث أن أرواح الشهداء تعارف في طير بيض تأكل من ثمار الجنة وأن مساكنهم السدرة...إلى أن قال الطبري رحمه الله:
قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد يرغب المؤمنين في ثواب الجنة ويهون عليهم القتل (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) أي قد أحييتهم فهم عندي يرزقون في روح الجنة وفضلها مسرورين بما آتاهم الله من ثوابه على جهادهم عنه، وعن الضحاك قال: كان المسلمون يسألون ربهم أن يريهم يوما كيوم بدر يبلون فيه خيرا ويرزقون فيه الشهادة ويرزقون فيه الجنة والحياة في الرزق، فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ الله منهم شهداء وهم الذين ذكرهم الله فقال (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا) الآية، وعن أنس بن مالك أنه قال في أصحاب النبي الذين أرسلهم نبي الله إلى أهل بئر معونة: لا أدري أربعين أو سبعين، قال: فخرج أولئك النفر من أصحاب النبي حتى أتوا غارا مشرفا على الماء قعدوا فيه، ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يبلغ رسالة رسول الله أهل هذا الماء، فقال: أراه أبو ملحان الأنصاري أنا أبلغ رسالة رسول الله ، فخرج حتى أتى حيا منهم فاحتبى أمام البيوت ثم قال يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فآمنوا بالله ورسوله، فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر فقال الله أكبر فزت ورب الكعبة، فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل، فأنزل الله تعالى فيهم قرآنا رفع بعد ما قرأناه زمانا وأنزل الله (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء)...إلى أن قال رحمه الله:
قوله (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يعني بذلك تعالى ذكره ويفرحون بمن لم يلحق بهم من إخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على مناهجهم من جهاد أعداء الله مع رسوله لعلمهم بأنهم إن استشهدوا فلحقوا بهم صاروا من كرامة الله إلى مثل الذي صاروا هم إليه، فهم لذلك مستبشرون بهم فرحون أنهم إذا صاروا كذلك (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يعني بذلك لا خوف عليهم لأنهم قد أمنوا عقاب الله وأيقنوا برضاه عنهم، فقد أمنوا الخوف الذي كانوا يخافونه من ذلك في الدنيا، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من أسباب الدنيا ونكد عيشها للخفض الذي صاروا إليه والدعة والزلفة، وعن قتادة قوله (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) الآية، يقول: لإخوانهم الذين فارقوهم على دينهم وأمرهم لما قدموا عليه من الكرامة والفضل والنعيم الذي أعطاهم، وعن الربيع: ذكر لنا عن بعضهم في قوله(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) قال: هم قتلى بدر وأحد، زعموا أن الله تبارك وتعالى لما قبض أرواحهم وأدخلهم الجنة جعلت أرواحهم في طير خضر ترعى في الجنة وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش، فلما رأوا ما أعطاهم الله من الكرامة قالوا ليت إخواننا الذين بعدنا يعلمون ما نحن فيه فإذا شهدوا قتالا تعجلوا إلى ما نحن فيه، فقال الله تعالى إني منزل على نبيكم ومخبر إخوانكم بالذي أنتم فيه، ففرحوا به واستبشروا وقالوا: يخبر الله نبيكم وإخوانكم بالذي أنتم فيه فإذا شهدوا قتالا أتوكم، قال: فذلك قوله (فرحين بما آتاهم الله من فضله) إلى قوله (أجر المؤمنين)، وعن السدي (يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) فإن الشهيد يؤتى بكتاب فيه من يقدم عليه من إخوانه وأهله فيقال: يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، فيستبشر حين يقدم عليه كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا.
قوله تعالى (يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) يقول جل ثناؤه: يفرحون بنعمة من الله يعني بما حباهم به تعالى ذكره من عظيم كرامته عند ورودهم عليه وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل الثواب على ما سلف منهم من طاعة الله ورسوله وجهاد أعدائه، (وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين)، ومعنى قوله (لا يضيع أجر المؤمنين) لا يبطل جزاء أعمال من صدق رسوله واتبعه وعمل بما جاءه من عند الله. اهـ
وعن أنس عن النبي قال: (يؤتى بالرجل من أهل الجنة يوم القيامة فيقول الله عز وجل يا ابن آدم كيف وجدت منزلك فيقول يا رب خير منزل، فيقول: سل وتمنه، فيقول: ما أسأل وأتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات لما يرى من فضل الشهادة)( ).
وعن البراء قال: أتى النبي رجل مقنع بالحديد فقال: يا رسول الله أقاتل أو أسلم؟ قال : (أسلم ثم قاتل)، فأسلم ثم قاتل فقُتِل، فقال رسول الله : (عمل قليلا وأجر كثيرا)( ).
وعن أبي أمامة عن النبي قال: (ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين، قطرة من دموع في خشية الله وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران: فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة من فرائض الله)( ).
وعن أنس بن مالك عن النبي قال: (ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى)( ).
وعن عبد الله بن مسعود أنه سئل عن قوله ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون )، فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فأخبرنا أن أرواحهم في طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، فاطلع إليهم ربك اطلاعة، فقال: (هل تستزيدون شيئا فأزيدكم) قالوا: ربنا وما نستزيد ونحن في الجنة نسرح حيث شئنا، ثم اطلع إليهم الثانية، فقال: (هل تستزيدون شيئا فأزيدكم) فلما رأوا أنهم لم يتركوا، قالوا: تعيد أرواحنا في أجسادنا حتى نرجع إلى الدنيا فنقتل في سبيلك مرة أخرى)( )
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة)( ).
وعن رجل من أصحاب النبي أن رجلا قال: يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟، قال : (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)( ).
وعن ابن أبي عميرة أن رسول الله قال: (ما من الناس من نفس مسلمة يقبضها ربها تحب أن ترجع إليكم وأن لها الدنيا وما فيها غير الشهيد) قال ابن أبي عميرة: قال رسول الله : (ولأن أقتل في سبيل الله أحب إلي من أن يكون لي أهل الوبر والمدر)( ).
وعن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: إني سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله : (يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته)( ).
وعن أبي هريرة عن النبي قال ذكر الشهداء عند النبي فقال: (لا تجف الأرض من دم الشهيد حتى تبتدره زوجتاه كأنهما ظئران أضلتا فصيليهما في براح من الأرض وفي يد كل واحدة منهما حلة خير من الدنيا وما فيها)( ).
وعن عتبة بن عبد السلمي ـ وكان من أصحاب النبي ـ قال: قال رسول الله : (القتل ثلاثة: رجل مؤمن قاتل بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل فذلك الشهيد المفتخر في خيمة الله تحت عرشه لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة، ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا جاهد بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل محيت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محاء الخطايا، وأدخل من أي أبواب الجنة شاء، فإن لها ثمانية أبواب ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها أفضل من بعض، ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل في سبيل الله حتى يقتل فإن ذلك في النار السيف لا يمحو النفاق)( ).
وعن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله يقول: (الشهداء أربعة: رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذلك الذي يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة ـ هكذا ورفع رأسه حتى وقعت قلنسوته، قال فما أدري أقلنسوة عمر أراد أم قلنسوة النبي ـ قال: ورجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو فكأنما ضرب جلده بشوك طلح من الجبن، أتاه سهم غرب فقتله فهو في الدرجة الثانية، ورجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذلك في الدرجة الثالثة، ورجل مؤمن أسرف على نفسه لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذلك في الدرجة الرابعة)( ).
وعن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله : (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه)( ).
وعن أنس قال بعث النبي أقواما من بني سليم إلى بني عامر في سبعين، فلما قدموا قال لهم خالي أتقدمكم فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله وإلا كنتم مني قريبا، فتقدم فأمنوه فبينما يحدثهم عن النبي إذ أومئوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه، فقال: الله أكبر فزت ورب الكعبة، ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم، إلا رجلا أعرج صعد الجبل، فأخبر جبريل عليه السلام النبي أنهم قد لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم، فكنا نقرأ (أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا) ثم نسخ بعد، فدعا عليهم أربعين صباحا، على رعل وذكوان وبني لحيان وبني عصية الذين عصوا الله ورسوله)
وعن أنس بن مالك أيضا أن أم الربيع بنت البراء ـ وهي أم حارثة بن سراقة ـ أتت النبي فقالت: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة؟ ـ وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب ـ فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال: (يا أم حارثة إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى)( )
وفي رواية أخرى عنه أيضا قال: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تك الأخرى ترى ما أصنع، فقال : (ويحك أو هبلت أو جنة واحدة هي، إنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس)
وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد)( )
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: (ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون غنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة، ويبقى لهم الثلث، فإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم)( )
وعن جابر قال: قال رجل يوم أحد: أرأيت إن قتلت في سبيل الله فأين أنا؟ قال: (في الجنة)، فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل)( )
وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: (عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد وعفيف متعفف وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه)( )
وعن حسناء بنت معاوية الصريمية قالت: حدثنا عمي قال: قلت للنبي : من في الجنة؟ قال: النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد في الجنة )( )
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: (الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا)( )
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله قال: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)( ).
وعن عبد الله بن أبي قتادة أن أباه كان يحدث أن رجلا سأل النبي فقال: يا رسول الله: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر كفر الله به خطاياي؟ فقال رسول الله : (إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر كفر الله به خطاياك) ثم إن رسول الله لبث ما شاء الله، ثم سأله الرجل فقال: يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله مقبلا غير مدبر كفر الله عني خطاياي؟ فقال رسول الله : (إن قتلت في سبيل الله مقبلا غير مدبر كفر الله عنك خطاياك إلا الدين، كذلك قال لي جبريل عليه السلام)( )
جواز تمني الشهادة وطلبها.
عن أنس ابن مالك قال: كان رسول الله يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، ـ وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت ـ فدخل عليها رسول الله فأطعمته وجعلت تفلي رأسه، فنام رسول الله ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة) ـ شك إسحاق ـ قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله ، ثم وضع رأسه ثم استيقظ وهو يضحك، فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله) كما قال في الأول، قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، قال: (أنت من الأولين) فركبت البحر في زمان معاوية بن أبي سفيان فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت)( )، وقد بوب البخاري على الحديث باب: الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء
قال ابن حجر رحمه الله: قال ابن المنير وغيره: إن الظاهر من الدعاء بالشهادة يستلزم طلب نصر الكافر على المسلم وإعانة من يعصي الله على من يطيعه، لكن القصد الأصلي إنما هو حصول الدرجة العليا المترتبة على حصول الشهادة، وليس ما ذكره مقصودا لذاته وإنما ما يقع في ضمن ذلك من قتل بعض المسلمين، وجاز تمني الشهادة لما يدل عليه من صدق من وقعت له من إعلاء كلمة الله حتى بذل نفسه في تحصيل ذلك.اهـ( )
وقال رحمه الله في شرح قصة أنس بن النضر : وفي قصة أنس بن النضر جواز بذل النفس في الجهاد، وفضل الوفاء بالعهد ولو شق على النفس حتى يصل إلى إهلاكها، وأن طلب الشهادة في الجهاد لا يتناوله النهي عن الإلقاء إلى التهلكة.اهـ( )
وعن أبي هريرة قال سمعت النبي يقول: (والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل)( )
وعن عمر قال: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك .( )
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : (من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه)( )
وعن مالك بن يخامر أن معاذ بن جبل حدثهم أنه سمع رسول الله يقول: (من قاتل في سبيل الله عز وجل من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة، ومن سأل الله القتل من عند نفسه صادقا ثم مات أو قتل فله أجر شهيد، ومن جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها كالزعفران وريحها كالمسك، ومن جرح جرحا في سبيل الله فعليه طابع الشهداء)( )
وعن سهل بن حنيف أن النبي قال: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)( )
وفي جواز تمني الشهادة قال ابن القيم رحمه الله: وقال خيثمة ـ أبو سعد ـ وكان ابنه استشهد مع رسول الله يوم بدر لقد أخطأتني وقعة بدر وكنت والله عليها حريصا حتى ساهمت ابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها ويقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا وقد الله يا رسول الله أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة وقد كبرت سني ورق عظمي وأحببت لقاء ربي فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة فدعا له رسول الله بذلك فقتل بأحد شهيدا، وقال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غدا فيقتلوني ثم يبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني ثم تسألني فيم ذلك فأقول فيك، وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله إذا غزا فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة فلو قعدت ونحن نكفيك وقد وضع عنك الجهاد فأتى عمرو بن الجموح رسول الله فقال يا رسول الله إن بني هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك ووالله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة فقال له رسول الله: (أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد)، وقال لبنيه: (وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة) فخرج مع رسول الله فقتل يوم أحد شهيدا، وانتهى أنس بن النضر إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم فقال: ما يجلسكم؟ فقالوا: قتل رسول الله، فقال: فما تصنعون بالحياة بعده فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل. اهـ( )
أنواع الشهداء وبعض أحكام الشهيد.
أولا: أنواع الشهداء.
ثبت في أحاديث النبي أن الشهداء قسمان: أحدهما: شهيد الدنيا والآخرة وهو من يقتل في سبيل الله تعالى وسواء كان في القتال مع الكفار أو في الدفاع عن دينه وماله وعرضه أو في مقاتلة البغاة والمحاربين كما بيـَّنا من قبل، وهذا الشهيد له أحكام خاصة عن بقية من يموت من أهل الإسلام أو يقتل، فلا يكفن الشهيد في غير ثيابه التي قتل فيها ولا يغسل ولا يصلى عليه على الصحيح كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، ويبعث يوم القيامة على حاله التي قتل عليها اللون لون الدم والريح ريح المسك، وله ما قد ذكرنا آنفا من الكرامة والنعيم والمكانة الرفيعة.
وأما القسم الآخر: فهم شهداء الآخرة فقط وهم أصناف ممن يموت من أمة محمد أكرمهم الله تعالى بمنزلة عالية يوم القيامة مِنَّـة منه وفضلا تبارك وتعالى غير أن لهم حكم سائر الموتى من حيث التغسيل والتكفين والصلاة عليهم إلى غير ذلك من أحكام الموتى، وقد جمع بعض العلماء الأصناف التي أخبر عنهم النبي أنهم من شهداء الآخرة فبلغت عشرين صنفا، وسنذكر فيما يلي بعض نصوص الأحاديث التي وردت فيهم إن شاء الله تعالى.
فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: (بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له فغفر له)، ثم قال: (الشهداء خمسة: المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله)، وقال: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا)( )
وعنه أيضا عن النبي أنه قال: (ما تقولون في الشهيد فيكم؟) قالوا: القتل في سبيل الله، قال : (إن شهداء أمتي إذاً لقليل، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، والمبطون شهيد، والمطعون شهيد، والغرق شهيد)( )
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت النبي يقول: (من قتل دون ماله فهو شهيد)( )
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله) فذكر فيها (الحريق وصاحب ذات الجنب والمرأة تموت بجمع)( )
قال ابن حجر رحمه الله في شرح باب الشهادة سبع سوى القتل في صحيح البخاري: وهذه الترجمة لفظ حديث أخرجه مالك من رواية جابر بن عتيك أن النبي جاء يعود عبد الله بن ثابت فذكر الحديث وفيه (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: من يقتل في سبيل الله…)الحديث وفيه (الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله) فذكر زيادة على حديث أبي هريرة (الحريق وصاحب ذات الجنب والمرأة تموت بجمع) وتوارد مع أبي هريرة في (المبطون والمطعون والغريق وصاحب الهدم).
فأما صاحب ذات الجنب فهو مرض معروف ويقال له الشوصة، وأما المرأة تموت بجمع ـ فهو بضم الجيم وسكون الميم وقد تفتح الجيم وتكسر أيضا ـ وهي النفساء، وقيل: التي يموت ولدها ثم تموت بسبب ذلك، وقيل: التي تموت بمزدلفة وهو خطأ ظاهر، وقيل: التي تموت عذراء، والأول أشهر، قلت: حديث جابر بن عتيك أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن حبان، وقد روى مسلم من طريق أبي صالح عن أبي هريرة شاهدا لحديث جابر بن عتيك ولفظه (ما تعدون) وزاد فيه ونقص، فمن زيادته (ومن مات في سبيل الله فهو شهيد) ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت نحو حديث جابر بن عتيك ولفظه وفي (النفساء يقتلها ولدها جمعا شهادة)، وله من حديث راشد بن حبيش نحوه وفيه (والسل) وهو بكسر المهملة وتشديد اللام، وللنسائي من حديث عقبة بن عامر (خمس من قبض فيهن فهو شهيد) فذكر فيهم النفساء، وروى أصحاب السنن وصححه الترمذي من حديث سعيد بن زيد مرفوعا (من قتل دون ماله فهو شهيد)، وقال في الدين والدم والأهل مثل ذلك، وللنسائي من حديث سويد بن مقرن مرفوعا (من قتل دون مظلمته فهو شهيد…إلى أن قال ابن حجر رحمه الله:
والذي يظهر أنه أعلم بالأقل ثم أعلم زيادة على ذلك فذكرها في وقت آخر، ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك، وقد اجتمع لنا من الطرق الجيدة أكثر من عشرين خصلة فإن مجموع ما قدمته مما اشتملت عليه الأحاديث التي ذكرتها أربع عشرة خصلة، وتقدم في باب من ينكب في سبيل الله حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا (من وقصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه على أي حتف شاء الله تعالى فهو شهيد) وكذا للدارقطني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (موت الغريب شهادة) ولابن حبان من حديث أبي هريرة (من مات مرابطا مات شهيدا) الحديث، وللطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا (المرء يموت على فراشه في سبيل الله شهيد)، وقال ذلك أيضا في (المبطون واللديغ والغريق والشريق والذي يفترسه السبع والخار عن دابته وصاحب الهدم وذات الجنب)، ولأبي داود من حديث أم حرام رضي الله عنها (المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد)، وقد تقدمت أحاديث فيمن طلب الشهادة بنية صادقة أنه يكتب شهيدا في باب تمني الشهادة، ويأتي في حديث فيمن صبر في الطاعون أنه شهيد، وتقدم حديث عقبة بن عامر فيمن صرعته دابته وأنه عند الطبراني وعنده من حديث أبن مسعود بإسناد صحيح أن (من يتردى من رءوس الجبال ويغرق في البحار لشهيد عند الله)، ووردت أحاديث أخرى في أمور أخرى لم أعرج عليها لضعفها.
قال ابن التين: هذه كلها ميتات فيها شدة تفضل الله على أمة محمد بأن جعلها تمحيصا لذنوبهم وزيادة في أجورهم يبلغهم بها مراتب الشهداء، قلت والذي يظهر أن المذكورين ليسوا في المرتبة سواء، ويدل عليه ما روى أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث جابر والدارمي وأحمد والطحاوي من حديث عبد الله بن حبشي وابن ماجة من حديث عمرو بن عنبسة أن النبي سئل أي الجهاد أفضل؟ قال: (من عقر جواده وأهريق دمه) وروى الحسن بن علي الحلواني في كتاب المعرفة له بإسناد حسن من حديث علي بن أبي طالب قال: (كل موتة يموت بها المسلم) فهو أن الشهادة تتفاضل، ويتحصل مما ذكر في هذه الأحاديث أن الشهداء قسمان: شهيد الدنيا، وشهيد الآخرة وهو من يقتل في حرب الكفار مخلصا، وشهيد الآخرة وهو من ذكر بمعنى أنهم يعطون من جنس أجر الشهداء ولا تجري عليهم أحكامهم في الدنيا.اهـ( )
حكم تكفين الشهيد وتغسيله والصلاة عليه.
ثبت في الأحاديث الصحيحة عن نبينا أنه كان يدفن الشهداء في مكانهم الذي يقتلون فيه ولا يغسلهم كسائر الموتى وشهداء الآخرة( )، بل أمر أن يدفنوا بدمائهم وجراحاتهم التي قتلوا بها فإن الشهيد يأتي يوم القيامة وجرحه يثغب دما ريحه ريح المسك، والخلاف في تغسيل الشهيد ضعيف جدا ولا دليل نعلمه يصح الاعتماد عليه لمن خالف ما ذكرناه.
وأما الصلاة عليهم فالراجح أيضا أنه لا يُصلى على الشهداء لقوة الأحاديث الواردة في هذا وأنه ما صلى إلا على شهداء أحد وذلك بعد سنين كالمودع لهم كما ذكر في نص الحديث، وترك الصلاة على سائر الشهداء غيرهم، فلو كانت الصلاة علي الشهداء واجبة كسائر الموتى لما تركها وهذا أمر لا يخفى لتكراره ولو كان لنقل إلينا، وهذه الأحكام لا تختص بالبالغ فقط بل من قتل من غير البالغين في المعركة فحكمه حكم البالغ وعلى ذلك دل الحديث، وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى حكم تكفين الشهيد وتغسيله والصلاة عليه وما يتعلق بذلك وتحقيق الخلاف الوارد في هذه المسائل.
أولا: التكفين والتغسيل والدفن.
فأما ما ورد في ترك تكفينهم في غير ثيابهم التي قتلوا فيها وترك تغسيلهم كسائر الموتى ودفنهم في مكانهم الذي قتلوا فيه.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان النبي يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول (أيهم أكثر أخذا للقرآن) فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال: (أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة) وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم.( )
وعنه أيضا قال: قال النبي : (ادفنوهم في دمائهم) يعني يوم أحد ولم يغسلهم)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله (أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم)( )
وعن جابر بن عبد الله عن النبي أنه قال في قتلى أحد: (لا تغسلوهم، فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة) ولم يصل عليهم.( )
وعن عبد الله بن ثعلبة قال: قال رسول الله : (زملوهم بدمائهم، فإنه ليس كلم يكلم في الله إلا أتى يوم القيامة جرحه يدمى لونه لون دم وريحه ريح المسك)( )
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما كان يوم أحد جاءت عمتي بأبي لتدفنه في مقابرنا فنادى منادي رسول الله : ردوا القتلى إلى مضاجعهم.( )، وعنه أيضا أن النبي قال: (ادفنوا القتلى في مصارعهم)( )
فقد دلت هذه الأحاديث على أن الشهيد يدفن بدمه ولا يغسل والعدول عن هذا الظاهر المنصوص عليه في الشهداء إلى العمل بالعموم الوارد في سائر الموتى يأباه الفقه الصحيح، ولذلك قال ابن قدامة رحمه الله في شرح قول الخرقي (والشهيد إذا مات في موضعه لم يغسل ولم يصل عليه): يعني إذا مات في المعترك فإنه لا يغسل رواية واحدة، وهو قول أكثر أهل العلم ولا نعلم فيه خلافا إلا عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا: يغسل الشهيد ما مات ميت إلا جنبا، والاقتداء بالنبي وأصحابه في ترك غسلهم أولى...إلى أن قال:
فيحتمل أن ترك غسل الشهيد لما تضمنه الغسل من إزالة أثر العبادة المستحسنة شرعا، فإنه جاء عن النبي أنه قال (والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة واللون لون دم والريح ريح مسك)، وقال النبي : (ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين أما الأثران فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة الله تعالى)( )، وقد جاء ذكر هذه العلة في الحديث فإن عبد الله بن ثعلبة قال: قال رسول الله (زملوهم بدمائهم فإنه ليس كلم يكلم في الله إلا يأتي يوم القيامة يدمي لونه لون الدم وريحه ريح المسك)، ويحتمل أن الغسل لا يجب إلا من أجل الصلاة إلا أن الميت لا فعل له فأمرنا بغسله لنصلي عليه فمن لم تجب الصلاة عليه لم يجب غسله كالحي، ويحتمل أن الشهداء في المعركة يكثرون فيشق غسلهم وربما يكون فيهم الجراح فيتضررون فعفي عن غسلهم لذلك
فإن كان الشهيد جنبا غسل وحكمه في الصلاة عليه حكم غيره من الشهداء، وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك: لا يغسل لعموم الخبر وعن الشافعي كالمذهبين، ولنا ما روي أن حنظلة بن الراهب قتل يوم أحد فقال النبي : (ما شأن حنظلة فإني رأيت الملائكة تغسله) فقالوا: إنه جامع ثم سمع الهيعة فخرج إلى القتال، ولأنه غسل واجب لغير الموت فسقط بالموت كغسل النجاسة وحديثهم لا عموم له فإنه قضية في عين ورد في شهداء أحد وحديثنا خاص في حنظلة وهو من شهداء أحد، فيجب تقديمه…إلى أن قال:
والبالغ وغيره سواء وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وابن المنذر، وقال أبو حنيفة: لا يثبت حكم الشهادة لغير البالغ لأنه ليس من أهل القتال، ولنا أنه مسلم قتل في معترك المشركين بقتالهم أشبه البالغ، ولأنه أشبه البالغ في الصلاة عليه والغسل إذا لم يقتله المشركون فيشبهه في سقوط ذلك عنه بالشهادة، وقد كان في شهداء أحد حارثة بن النعمان وعمير بن أبي وقاص أخو سعد وهما صغيران، والحديث عام في الكل.
أما دفنه بثيابه فلا نعلم فيه خلافا وهو ثابت بقول النبي (ادفنوهم بثيابهم)، وعن ابن عباس أن رسول الله (أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم)، وليس هذا بحتم لكنه الأولى، وللولي أن ينزع عنه ثيابه ويكفنه بغيرها، وقال أبو حنيفة لا ينزع عنه شيء لظاهر الخبر، ولنا ما روي أن صفية أرسلت إلى النبي ثوبين ليكفن فيهما حمزة، فكفنه في أحدهما وكفن في الآخر رجلا آخر فدل على أن الخيار للولي، والحديث الآخر يحمل على الإباحة والاستحباب. اهـ( )
قال الكاساني رحمه الله: وأما حكم الشهادة في الدنيا فنقول: إن الشهيد كسائر الموتى في أحكام الدنيا وإنما يخالفهم في حكمين، أحدهما: أنه لا يغسل عند عامة العلماء، وقال الحسن البصري: يغسل لأن الغسل كرامة لبني آدم والشهيد يستحق الكرامة حسبما يستحقه غيره بل أشد فكان الغسل في حقه أوجب، ولهذا يغسل المرتث ومن قتل بحق فكذا الشهيد، ولأن غسل الميت وجب تطهيرا له ألا ترى أنه إنما تجوز الصلاة عليه بعد غسله لا قبله والشهيد يصلى عليه فيغسل أيضا تطهيرا له، وإنما لم تغسل شهداء أحد تخفيفا على الأحياء لكون أكثر الناس كان مجروحا لما أن ذلك اليوم كان يوم بلاء وتمحيص فلم يقدروا على غسلهم.
ولنا ما روي عن النبي أنه قال في شهداء أحد: (زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك) وفي بعض الروايات (زملوهم بدمائهم ولا تغسلوهم فإنه ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا وهو يأتي يوم القيامة وأوداجه تشخب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك) وهذه الرواية أعم، فالنبي لم يأمر بغسلهم وبين المعنى وهو أنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما فلا يزال عنهم الدم ليكون شاهدا لهم يوم القيامة، وبه تبين أن ترك غسل الشهيد من باب الكرامة له وإن الشهادة جعلت مانعة عن حلول نجاسة الموت كما في شهداء أحد، وما ذكر من تعذر غير سديد لما بينا أن النبي أمر بأن يزملوهم بدمائهم وبين المعنى، ولأن الجراحات التي أصابتهم لما لم تكن مانعة لهم من الحفر والدفن كيف صارت مانعة من الغسل وهو أيسر من الحفر والدفن، ولأن ترك الغسل لو كان للتعذر لأمر أن يتيمموا كما لو تعذر غسل الميت لعدم الماء، والدليل عليه أنه كما لم تغسل شهداء أحد لم تغسل شهداء بدر والخندق وخيبر، وما ذكر من التعذر لم يكن يومئذ ولذا لم يغسل عثمان وعمار وكان بالمسلمين قوة، فدل أنهم ما فهموا من ترك الغسل على القتلى ما فهم الحسن.
والثاني: أنه يكفن في ثيابه لقول النبي (زملوهم بدمائهم) وقد روي (في ثيابهم) وروينا عن عمار وزيد بن صوحان أنهما قالا: لا تنزعوا عني ثوبا، وأنه ينزع عنه الجلد والسلاح والفرو والحشو والخف والمنطقة والقلنسوة، وعند الشافعي لا ينزع عنه شيء مما ذكرنا لقوله (زملوهم بثيابهم)، ولنا ما روي عن علي أنه قال: (تنزع عنه ما يباع والخفين والقلنسوة) وهذا لأن ما يترك ليكون كفنا، والكفن ما يلبس للستر وهذه الأشياء تلبس إما للتجمل والزينة ولا حاجة للميت إلى شيء من ذلك فلم يكن شيء من ذلك كفنا، وبه تبين أن المراد من قوله (زملوهم بثيابهم) الثياب التي يكفن بها وتلبس للستر، ولأن هذا عادة أهل الجاهلية فإنهم كانوا يدفنون أبطالهم بما عليهم من الأسلحة وقد نهينا عن التشبه بهم.
ويزيدون في أكفانهم ما شاءوا وينقصون ما شاءوا لما روي أن حمزة كان عليه نمرة لو غطي رأسه بها بدت رجلاه ولو غطيت بها رجلاه بدا رأسه فأمر رسول الله أن يغطى بها رأسه ويوضع على رجليه شيء من الإذخر، وذاك زيادة في الكفن ولأن الزيادة على ما عليه حتى يبلغ عدد السنة من باب الكمال فكان لهم ذلك، والنقصان من باب دفع الضرر عن الورثة لجواز أن يكون عليه من الثياب ما يضر تركه بالورثة، فأما فيما سوى ذلك فهو همام من الموتى. اهـ( )
وقال القرطبي رحمه الله: وقد اختلف العلماء في غسل الشهداء والصلاة عليهم، فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري إلى غسل جميع الشهداء والصلاة عليهم إلا قتيل المعترك في قتال العدو خاصة لحديث جابر قال: قال النبي : (ادفنوهم بدمائهم يعني يوم أحد ولم يغسلهم) رواه البخاري، وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر رسول الله بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم)، وبهذا قال أحمد وإسحاق والأوزاعي وداود بن علي وجماعة فقهاء الأمصار وأهل الحديث وابن علية، وقال سعيد بن المسيب والحسن: يغسلون، قال أحدهما: إنما لم تغسل شهداء أحد لكثرتهم والشغل عن ذلك، قال أبو عمر: ولم يقل بقول سعيد والحسن هذا أحد من فقهاء الأمصار إلا عبيد الله بن الحسن العنبري، وليس ما ذكروا من الشغل عن غسل شهداء أحد علة لأن كل واحد منهم كان له ولى يشتغل به ويقوم بأمره، والعلة في ذلك والله أعلم ما جاء في الحديث في دمائهم أنها تأتي يوم القيامة كريح المسك فبان أن العلة ليست الشغل كما قال من قال في ذلك، وليس لهذه المسألة مدخل في القياس والنظر وإنما هي مسألة أتباع للأثر الذي نقله الكافة في قتلى أحد لم يغسلوا، وقد احتج بعض المتأخرين ممن ذهب مذهب الحسن بقوله عليه السلام في شهداء أحد (أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة) قال: وهذا يدل على خصوصهم وأنه لا يشركهم في ذلك غيرهم، قال أبو عمر: وهذا يشبه الشذوذ والقول بترك غسلهم أولى لثبوت ذلك عن النبي في قتلى أحد وغيرهم وروى أبو داود عن جابر قال: رمى رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو، قال: ونحن مع رسول الله .اهـ( )
حكم الصلاة على الشهداء.
ثبت في حديث جابر بن عبد الله السابق أن النبي ما صلى على الشهداء يوم أحد ولم يرد أنه صلى عليهم في غيرها من المعارك، وقد قال بعض العلماء: إن الشهيد يصلى عليه مثل سائر الموتى واحتجوا في ذلك بما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أتي بهم رسول الله يوم أحد فجعل يصلي على عشرة عشرة وحمزة كما هو يُرفَعون وهو كما هو موضوع، ولكن هذا الحديث لا يصح الاحتجاج به لضعفه( )، ولأن أنس بن مالك
قد ذكر أن النبي ما صلى على غير حمزة( )، ولعل ذلك ـ على فرض ثبوت الحديث ـ خصوصية لحمزة لا يشاركه فيها غيره، ولو كانت الصلاة على الشهداء حكما عاما لنقل إلينا في شهداء أحد جميعهم وفي غيرهم من الشهداء وهم كثر وفي غير معركة، وما ورد في الصحيح أن النبي خرج يوما فصلى على شهداء أحد فقد ورد في الحديث ما يبين السبب في ذلك وأنه كان يودع الأموات مثل ما ودع الأحياء، فإن هذه الصلاة كانت عليهم بعد ثمان سنين كما ورد في بعض روايات الحديث، ولو كانت الصلاة عليهم واجبة مثل سائر الموتى لما أخرها كل هذه المدة، والشاهد أنه لو كانت الصلاة على الشهداء سنة ماضية لنقلت إلينا، خاصة مع توفر الدواعي لنقل المعارك وأحوال القتلى وقد نقل ما هو دون ذلك.
قال ابن قدامة رحمه الله في شرح قول الخرقي (والشهيد إذا مات في موضعه لم يغسل ولم يصل عليه): فأما الصلاة عليه فالصحيح أنه لا يصلى عليه وهو قول مالك والشافعي وإسحاق، وعن أحمد رواية أخرى أنه يصلى عليه واختارها الخلال، وهو قول الثوري وأبي حنيفة إلا أن كلام أحمد في هذه الرواية يشير إلى أن الصلاة عليه واجبة، قال في موضع: إن صلي عليه فلا بأس به، وفي موضع آخر قال: يصلى وأهل الحجاز لا يصلون عليه وما تضره الصلاة لا بأس به، وصرح بذلك في رواية المروذي فقال: الصلاة عليه أجود وإن لم يصلوا عليه أجزأ بالحق الروايتين في استحباب الصلاة لا في وجوبها، إحداهما يستحب لما روى عقبة (أن النبي خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر)( )، وعن ابن عباس (أن النبي صلى على قتلى أحد).
ولنا ما روى جابر (أن النبي أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم ولم يغسلهم ولم يصل عليهم)، ولأنه لا يغسل مع إمكان غسله فلم يصل عليه كسائر من لم يغسل، وحديث عقبة مخصوص بشهداء أحد فإنه صلى عليهم في القبور بعد ثماني سنين وهم لا يصلون على القبر أصلا، ونحن لا نصلي عليه بعد شهر...إلى أن قال:
وأما سقوط الصلاة عليهم فيحتمل أن تكون علته كونهم أحياء عند ربهم والصلاة إنما شرعت في حق الموتى، ويحتمل أن ذلك لغناهم عن الشفاعة لهم فإن الشهيد يشفع في سبعين من أهله فلا يحتاج إلى شفيعه، والصلاة إنما شرعت للشفاعة.اهـ( )
قال الكاساني رحمه الله: وقال الشافعي أنه لا يصلى عليه كما لا يغسل، واحتج بما روي عن جابر أن النبي ما صلى على أحد من شهداء أحد، ولأن الصلاة على الميت شفاعة له ودعاء لتمحيص ذنوبه والشهيد قد تطهر بصفة الشهادة عن دنس الذنوب على ما قال النبي (السيف محاء للذنوب) فاستغنى عن ذلك كما استغنى عن الغسل، ولأن الله تعالى وصف الشهداء بأنهم أحياء في كتابه والصلاة على الميت لا على الحي.
ولنا ما روي (أن النبي صلى على شهداء أحد صلاة الجنازة) حتى روي (أنه صلى على حمزة سبعين صلاة)( وبعضهم أولوا ذلك بأنه كان يؤتي بواحد واحد فيصلي عليه رسول الله وحمزة بين يديه فظن الراوي أنه كان يصلي على حمزة في كل مرة فروي أنه صلى عليه سبعين صلاة، ويحتمل أنه كان ذلك على حسب الرواية وكان مخصوصا بتلك الكرامة، وما روي عن جابر صحيح وقيل أنه كان يومئذ مشغولا فإنه قتل أبوه وأخوه وخاله فرجع إلى المدينة ليدبر كيف يحملهم إلى المدينة فلم يكن حاضرا حين صلى النبي عليهم، فلهذا روي ما روي ومن شاهد النبي قد روي أنه صلى عليهم، ثم سمع جابر منادي رسول الله أن تدفن القتلى في مصارعهم فرجع فدفنهم فيها، ولأن الصلاة على الميت لإظهار كرامته، ولهذا اختص بها المسلمون دون الكفرة والشهيد أولى بالكرامة.
وما ذكر من حصول الطهارة بالشهادة فالعبد وإن جل قدره لا يستغني عن الدعاء ألا ترى أنهم صلوا على رسول الله ولا شك أن درجته كانت فوق درجة الشهداء، وإنما وصفهم بالحياة في حق أحكام الآخرة ألا ترى إلى قوله تعالى (بل أحياء عند ربهم يرزقون)، فأما في حق أحكام الدنيا فالشهيد ميت يقسم ماله وتنكح امرأته بعد انقضاء العدة ووجوب الصلاة عليه من أحكام الدنيا فكان ميتا فيه فيصلى عليه والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. اهـ( )
وقال القرطبي رحمه الله: وأما الصلاة عليهم فاختلف العلماء في ذلك أيضا فذهب مالك والليث والشافعي وأحمد وداود إلى أنه لا يصلى عليهم لحديث جابر قال: كان النبي يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: (أيهما أكثر أخذا للقرآن) فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال: (أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة) وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم، وقال فقهاء الكوفة والبصرة والشام: يصلى عليهم ورووا آثارا كثيرة أكثرها مراسيل أن النبي صلى على حمزة وعلى سائر شهداء أحد.اهـ( )
فائدتان تتعلقان بالشهادة.
* الأولى: قال القرطبي رحمه الله: العدو إذا صبح قوما في منزلهم ولم يعلموا به فقتل منهم فهل يكون حكمه حكم قتيل المعترك أو حكم سائر الموتى؟ وهذه المسألة نزلت عندنا بقرطبة أعادها الله أغار العدو قصمه الله صبيحة الثالث من رمضان المعظم سنة سبع وعشرين وستمائة ـ 627هـ ـ والناس في أجرانهم على غفلة، فقتل وأسر وكان من جملة من قتل والدي رحمه الله، فسألت شيخنا المقرىء الأستاذ أبا جعفر أحمد المعروف بأبي حجة فقال: غسله وصل عليه فإن أباك لم يقتل في المعترك بين الصفين، ثم سألت شيخنا ربيع بن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع فقال: إن حكمه حكم القتلى في المعترك، ثم سألت قاضي الجماعة أبا الحسن علي بن قطرال وحوله جماعة من الفقهاء فقالوا: غسله وكفنه وصل عليه ففعلت، ثم بعد ذلك وقفت على المسألة في التبصرة لأبي الحسن اللخمي وغيرها ولو كان ذلك قبل ذلك ما غسلته وكنت دفنته بدمه في ثيابه. اهـ( )
* الثانية: قال ابن حجر رحمه الله في شرح تبويب البخاري: لا يقال فلان شهيد: قوله باب لا يقال فلان شهيد أي على سبيل القطع بذلك إلا أن كان بالوحي وكأنه أشار إلى حديث عمر أنه خطب فقال: تقولون في مغازيكم فلان شهيد ومات فلان شهيد ولعله قد يكون قد أوقر راحلته، ألا لا تقولوا ذلكم ولكن قولوا كما قال رسول الله : (من مات في سبيل الله أو قتل فهو شهيد) وهو حديث حسن أخرجه أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما من طريق محمد بن سيرين عن أبي العجفاء عن عمر وله شاهد في حديث أخرجه أبو نعيم من طريق عبد الله بن الصلت عن أبي ذر قال: قال رسول الله : (من تعدون الشهيد؟) قالوا: من أصابه السلاح، قال: (كم من أصابه السلاح وليس بشهيد ولا حميد وكم من مات على فراشه حتف عند الله صديق وشهيد) وفي إسناده نظر فإنه من رواية عبد الله بن خُبَيق ـ بالمعجمة والموحدة والقاف مصغر ـ عن يوسف بن أسباط، وعلى هذا فالمراد النهي عن تعيين وصف واحد بعينه بأنه شهيد بل يجوز أن يقال ذلك على طريق الإجمال، قوله وقال أبو هريرة عن النبي : (الله أعلم بمن يجاهد في سبيله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله) أي يجرح وجه أخذ الترجمة منه يظهر من حديث أبي موسى الماضي (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ولا يطلع على ذلك إلا بالوحي فمن ثبت أنه في سبيل الله أعطى حكم الشهادة، فقوله (والله أعلم بمن يكلم في سبيله) أي فلا يعلم ذلك إلا من أعلمه الله فلا ينبغي إطلاق كون كل مقتول في الجهاد أنه في سبيل الله.
ثم ذكر المصنف حديث سهل بن سعد في قصة في القتال حتى قال المسلمون: ما أجزأ أحد ما أجزأ ثم كان آخر أمره أن قتل نفسه، وسيأتي شرحه مستوفى في المغازي حيث ذكره المصنف ووجه أخذ الترجمة منه أنهم شهدوا برجحانه في أمر الجهاد، فلو كان قتل لم يمتنع أن يشهدوا له بالشهادة وقد ظهر منه أنه لم يقاتل لله وإنما قاتل غضبا لقومه، فلا يطلق على كل مقتول في الجهاد أنه شهيد لاحتمال أن يكون مثل هذا، وأن كان مع ذلك يعطى حكم الشهداء في الأحكام الظاهرة، ولذلك أطبق السلف على تسمية المقتولين في بدر وأحد وغيرهما شهداء والمراد بذلك الحكم الظاهر المبني على الظن الغالب والله أعلم. اهـ( )
وهذا آخر ما نذكره في مسألة فضل الشهادة وبعض أحكام الشهيد والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
تعليق