أولا : الطريق إلى الوحده الإسلامية
الحمد لله ربِّ العالمين، ياربِّ لك الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ، يُحي ويميت وهُو على كل شئ قدير، وأشهد أن سيدنا محمداً عبدُ الله ورسولُه، وصَفِيُّهُ مِنْ خلْقه وخليلُه، بلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَحَ الأمةَ، وكشف الغُمةَ، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، اللهمّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وارض اللهم عن العشرة والذين بايعوه تحت الشجره متحدين
فبالوحدة الإسلامية، والأُخوة الإيمانية سطعتْ شمسُ الإسلامِ على العالم، وامتدتْ فتوحاتُه في الكون وخَضَعتْ له دولٌ وممالك قروناً طويلةً , وبغياب الوحدة الإسلامية والأخوة الإيمانية انحلَّتْ عُرانا، ووهَنَتْ قُوانا، وتداعتْ علينا الأممُ كما تَداعَى الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها
والحقُّ أنَّ الأمة الإسلامية تملك من أسباب الوحدة، وأواصر الأخوة، وقوة الإرادة، وإصرار العزيمة ما يجعلها قادرة على تجاوز هذه المحن وتغيير هذا الواقع, وأول خطوة يجب أن نقوم بها في الطريق إلى تحقيق الوحدة والتحقق بها هي تعميق الإحساس والشعور بالأسس والأصول الإيمانية للوحدة الإسلامية من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. قال تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون)
وقال تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعريف الإيمان: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)) .
إنَّ هذه الأسس والأصول أوثق وأكبر ضمان للوحدة المنشودة إلى آخر الدهر، ولهذا يجب تعميق الإحساس والشعور بالوحدة والإخوة الإسلامية
**الخطوةُ الثانيةُ التي يجب أن نقوم بها في الطريق إلى تحقيق الوحدة والتحقق بها هي العمل على ائتلاف القلوب والمشاعر بالحب والتراحم.
لقد كان تأليفُ القلوب بابَ الإسلام إلى تحقيق نعمة الوحدة والأخوة بين المؤمنين، ومِنْ ثَمَّ إلى تحقيق النصر على الأعداء
- قال تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون)َ وقال تعالى: (وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .
- والإسلامُ الذى فعل هذا بالأمس، وأطفأ نار العداوةِ بين الأوس والخزرج، وأنقذ الأمة من شفا حفرة من النار قادرٌ على أن يفعل مثله اليوم لأن ائتلاف القلوب والمشاعرو التواد والتراحم والتعاطف سمة من سمات المؤمنين و خصائص الإيمان.
-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعَى له سائرُ الجسد بالسهر والحمى " .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المؤمن يأْلَفُ ويُؤْلَفُ ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه)) .
بهذا الحب وبهذا التآلف وبهذا التراحم والتعاطف تتحقق الوحدةُ الإسلامية والأخوةُ الإيمانية، وبغير هذا لا يكون إلا ما ترون من فرقة واختلاف بين الاخوه ووصلت حتى بين الشقاء
**الخطوة الثالثة التي يجب أن نقوم بها على طريق تحقيق الوحدة الإسلامية والتحقق بها هي إحياءُ الأخوة الحقة التي تثمر الحب والإيثار، والتعاون والتناصر المؤثـر الفَّعـال طاعة لقوله تعـالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُـونَ إِخْوَةٌ ) وقال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) .
وتعالوْا بنا أيها الإخوة المؤمنون نتأملْ صورة المجتمع الإسلامي الأول لنرى كيف بَنَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وحْدَتَهُ الإسلامية وأُخُوَّتَهُ الإيمانية على خُلُق الحب والإيثار. قال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) . وقد طالبَنا القرآنُ الكريم - أيها الإخوة المؤمنون - بإحكام الوحدة الإسلامية وتأصيلها وتفعيلها بالتآزر والتناصر بين المؤمنين، ولفَتَ أنظارنا إلى أن أعداءنا يوالى بعضُهم بعضا، وحَذَّرنا من التفريط في هذه الموالاة، وبَصَّرنا بالعواقب الوخيمة والنتائج السيئة المترتبة على ترك التناصر والموالاة. قال تعالى: (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) .
وفي الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضُه بعضا)) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخوا المسلم لا يظلمه ولا يسلمه))
** والخطوة الرابعة التي يجب أن نقوم بها في سبيل تحقيق الوحدة الإسلامية والتحقق بها هي أن نتسامَى فوق خلافاتنا، وأن نضرب بها عرض الحائط، وأن نترفع لصالح الإسلام والوحدة الإسلامية والأخوة الإيمانية عن المصالح الشخصية والمنافع الدنيوية والحزبية المقيتة -إنَّ التنازع والاختلاف وفساد ذات البين يُضْعِفُ الأقوياء ويُهْلِكُ الضعفاء، بينما التعاضد والاتحاد وإصلاح ذات البين يَصْنَع النصر المحقق والقوة المرهبة للاعداء ومن خلفهم.
قال تعالى: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأفضلَ من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاحُ ذاتِ البيْن، فإنَّ فسادَ ذاتِ البيْن هي الحالقة)) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دَبَّ إليكم داءُ الأمم قبلكم: الحسدُ والبغضاءُ، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشَّعْر ولكن تحلق الدِّين)) .
**الخطوةُ الخامسة التي يجب أن نقوم بها في سبيل الوحدة الإسلامية والتحقق بها هي أن نتحاشَى الانقسام في شأن أعدائنا، لأن الانقسام في شأنهم يشوه صورتنا، ويضعف قوتنا، ويَصُبُّ في الأخير في مصلحتهم لا في مصلحتنا، ولذلك قال جلَّ شأنه منكراً على المؤمنين اختلافهم في شأن المنافقين : فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً .
أيها الإخوة المجاهدون: إن الوحدة التي يقيمها الإسلام ليستْ عصبيةً من العصبيات، وليست حزبيه فيها أيُّ تهديد لأي أحد، وإنما هي طريق وسبيل إلى بناء أمة فاضلة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله وتَخْلُفُ نبيها صلى الله عليه وسلم فى إلحاق الرحمة بالعالمين. قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ).
وقد أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى خطبته العالمية يوم حجة الوداع عن اعتدال الإسلام ووسطيته عندما أكد على أن الإنسانية كلها أسرة واحدة: ربُّها واحد، وأبوها واحد فقال: ((إنَّ ربكم واحد وإن أباكم واحد)) .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزي قيادتنا الحكيمة عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وأن يبارك لنا فيهم , بما رحمونا من هذا الاقتتال وعصمونا من اتلدماء ونرجوا من الله أن يسخرهم ويهديهم لأفضل السبل لتخليص هذا البلد من الفرقة والانحلال والاقتتال
وأن يجعله وسائر بلاد المسلمين سخاءً رخاءً آمناً مطمئناً، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
التواضـع
إنَّ المتأملَ في تاريخ الإسلام وانتشارِ دعوتِه في الأرضِ يَجِدُ أنَّ الأخلاقَ الحسنة وفي مقدمتها التواضعُ، وخَفْضُ الجَناحِ للمؤمنين، ولِينُ الجانب كان لها أثرٌ في نَشْرِ الإسلامِ، وتحْبِيبِهِ إلى الناس، وترغيبِهم فيه، والتفافِهم حوْلَه، واعتناقِهم لشرائعه انظر معي أخي المسلم إلى أخلاق السلف الصالح من المسلمين الأوائل
- قال تعالى فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) وقـال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وقال تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ). فالناس جميعاً سواسية، ربهم واحد وأبوهم واحد، فعلاَمَ التكبر؟ وقال تعالى في وصف المؤمنين: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ . أذلة على المؤمنين: أي عاطفين متواضعين، أعزة على الكافرين: أي أقويـاء متغلبين، ونظيره قوله تعـالى : أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ . وقال رسول الله : ((إنَّ اللهَ أوْحَى إليَّ أنْ تَواضَعُوا حتَّى لا يَفْخَرَ أَحَدٌ على أَحَدٍ، ولاَ يَبْغِيَ أَحَدٌ علَى أَحَدٍ)) .
ولاَ يَحْسَبَنَّ أَحَدٌ أَنَّ رفعةَ التواضع والمتواضعين تقفُ عند حدود الحياة الدنيا! كَلاَّ، إِنَّ هذه الرفعةَ تتجاوز الدنيا إلى الآخرة، لاَ بلْ إِنَّ الدار الآخرة كُلَّها جعلها اللهُ لأهل التواضع الذين لا يُريدون عُلُوًّا في الأرض ولا فساداً كدأْب فرعونَ وقارونَ وغيرهما مِنْ أهلِ التكبر والتجبر على عباد الله.
ولقد بين الله ثواب المتواضعين بعد أنْ بيَّن عاقبةَ أهلِ التكبر والتجبر الذين خَسَفَ بهم وبدارهم الأرضَ: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ . وقال رسول الله : إنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إليَّ وأَقْرَبِكُمْ منِّي مجلساً يومَ القيامةِ أحَاسنكم أخلاقاً، وإنَّ أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون، قالوا: يارسول الله قد علمنا الثرثارين والمتشدقين فما المتفيهقون؟ قال: ((المتكبرون)) ..
أيها الإخوة المجاهدون: والمتأملُ في سيرة النبي الأعظم والرسولِ الأكرمِ سيدِ ولدِ آدمَ يجدُ صوراً عجيبةً من التواضع تستحقُّ أنْ نقفَ عندها طويلاً لنتعلم كيف نتواضع لله، وكيف نتواضع لأهلنا وفي بيوتنا، وكيف نتواضع لأصحابنا وأحبابنا والناس أجمعين، وكيف نُصلِحُ بالتواضع دنيانا التي فيها معاشُنا وآخرتَنا التي فيها معادُنا.
- من صور تواضعه نجده يقف بباب ربه بِضَعْفٍ وافتقار، وخُضوعٍ وانكسار، يرجو رحمته ويخشى عذابه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان فيما دعا به رسولُ الله في حجة الوداع: ((اللهم إنك تسمعُ كلامي، وترى مكاني، وتعلمُ سِرِّي وعلانيتي، ولا يَخْفَى عليك شيء من أَمْري، أناَ البائسُ الفقيرُ، المستغيثُ المستجيرُ، الوجِلُ المشفقُ، المقِرُّ المعترفُ بذنبهِ، أسألك مسألةَ المسكين، وأبتهلُ إليك ابتهالَ الذليل، وأدعوكَ دعاءَ الخائفِ الضرير، مَنْ خَضَعَتْ لكَ رَقَبَتُه، وفاضتْ لك عَبْرتُهُ، وذَلَّ لكَ جسدُه ورَغِمَ لكَ أَنْفُه، اللهم لا تجعلْني بدعائكَ ربِّ شقيا، وكُنْ بي رؤوفاً رحيماً، يا خيرَ المسؤولين، ويا خيرَ المعطين)) ..
أخي المجاهد:
هكذا يكون التواضُع لله، بالخضوع لعظمته، والتذلل في ساحة عبوديته، والافتقار إلى عفوه ورحمته، والفزع إلى حوله وقوته. وفي الصورة الثانية من صور تواضعه نجده بَشَراً من البشر لاَ يأْنَفُ مِنْ خِدمة أَهْلِهِ وهُوَ سيدُ الأولين والآخرين.
سُئِلَتْ عائشةُ رضي الله عنها: ((ما كان النبي يَصْنَعُ في بيته؟ قالتْ: كان يكونُ في مِهْنةِ أهلِه " يعني خِدْمَةَ أَهْلِه " فإذا حضرتِ الصلاةُ خرجَ إلى الصلاة)) . وقيل لعائشة رضي الله عنها: ((ماذا كان يعمل رسول الله في بيته؟ قالت: كانَ بَشَراً من البَشَرِ، يَفْلِي ثَوْبَهُ، وَيَحْلُبُ شَاتَهُ، ويَخْدِمُ نَفْسَهُ)) .
- من صُور تواضعه نجده مع أصحابه كواحد منهم، لا يتكلف ولا يتزمت، بلْ يَتَبَسَّطُ معهم، ولا يترفع عليهم.
يقول خارجة بن زيدِ بنِ ثابت: دَخَلَ نَفرٌ علَى زيد بن ثابت فقالوا له: حَدِّثْنَا أَحاديثَ رسول الله ، قال: ((ماذا أُحَدِّثُكُمْ، كنتُ جارَه، فكان إذا نَزَلَ عليه الوحيُ بَعَثَ إليَّ فكتبْتُه له، فكان إذا ذَكَرْنَا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذَكَرْنَا الآخرةَ ذكرها معنا، وإذا ذَكَرْنَا الطعامَ ذَكَرَهُ معنا، فكُلُّ هذا أُحَدِّثُكُمْ عن رسول الله )) .
- من صُور تواضعه نجده لكمال تواضعه يُفْشي السلامَ على الصبيان، ويعودُ المرضى، ويُشيِّعُ الجنائز، ويُجيبُ الدعوةَ ولو إلى شئ بسيط من الطعام، ويَقْبَلُ الهدية، ويَرْكَبُ الحمارَ، ويمشِي في الأسواق، ويَحْمِلُ متاعَه بنفسه. عن أنس رضي الله عنه أنَّه مرَّ علَى صبيان فسلَّم عليهم، وقال: ((كان النبي يفعله)) .
- وعنه رضي الله عنه قال: (( كان يَعُودُ المريضَ، ويَتَّبِعُ الجنازة، ويُجيبُ دعوةَ المملوك، ويَرْكَبُ الحمارَ، لقد رأيتُه يومَ خَيْبرَ على حمارٍ خِطامُهُ لِيفٌ)) .
- من صُور تواضعه نجده يوم الفتح والنصر والظَّفَر يتَنسَّكُ وَيَتَخَشَّعُ ويَضَعُ رأسَهُ تواضُعاً لله. يقول أنس رضي الله عنه: لَمَّا دَخَلَ رسولُ الله مكة استَشَرَفَهُ الناسُ فَوَضَعَ رَأْسَهُ على رَحْلِهِ تَخَشُّعًا لله وهذه هي السنة النبوية حيث عفى النبي عن الذين آذوه من المشركين فما بالنا لا نرحم أنفسنا ولا إخواننا المسلمين الذين يصلون معنا في المساجد فأين أخلاق الاسلام العظيم
وفي رواية: ((وَإنَّ رسولَ الله ليضعُ رأسه تواضعاً لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح)) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً كَلَّمَ رسولَ الله يوم الفتح فأَخَذتْهُ الرعدة، فقال النبي : ((هَوِّنْ عليكَ فإني لستُ بملكٍ، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد)) .
أيها الإخوة المؤمنون: هذا هُوَ التواضعُ الذي أُمِرْنا به، وهذه هي معالمه، وهذه هي صوره ونماذجه المشرقة التي يجب التأسي بها: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا .
نسأل الله سبحانه وتعالى من فضله أن يجعلنا من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً.
-
ثانيا: إنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون
إنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون
إن الحمد لله نحمده وستعينه ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله
هذا العنوان جزء من آية كريمة يقول فيها الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً }النساء104, إن حمل هذا الدين والقيام بأمانة تبليغه للبشرية أجمع والدفاع عنه والوفاء بحقه، والقيام بأعبائه أمر صعب شاق على النفوس، وإن القيام بهذا الجهد لا يمكن أبداً أن يكافئه أي جهد في دنيا الناس
ومن هنا كان هذا الدين يحتاج في حمله إلى نفوس أبيّة، إلى نفوس جادة، يحتاج الحاملون لهذا الدين والقائمون به إلى مزيد من رفع الهمة ، وإلى مزيد من الجدية حتى يكونوا مؤهلين للقيام بهذا الدين ولتحمّل أعباء نشره ومواجهة ما يواجههم في هذا الطريق، ولا شك أن هذا القرآن وهو يربي هذه الأمة ، يربيها على تقوى الله عز وجل وتوحيده وعبادته، ويربيها على الخلق والسلوك ، ويربيها على حمل أعباء هذا الدين والقيام بهذه الأمانة التي ائتمن الله عز وجل هذه الأمة عليها، لا شك أن هذا القرآن يخاطب القلوب البشرية ويخاطب الناس بكافة وسائل الخطاب وأساليبه، وليس أعظم أثراً لدى الناس من النماذج الحية التي تُعرض أمامهم؛ فالحديث النظري يحفز الكثير من الناس، لكن الصورة الحية التي يرونها بأعينهم ، أو يقرؤون عنها فتتخيلها أذهانهم وكأنهم يرونها رأي العين ، لاشك أن هذه الصورة تترك أعظم الأثر لدى الناس، إنك حين تسمع حديثاً عن رجل أصيب بحادث هشم عظامه، وأصاب جسمه بآلام مبرّحة، يترك ذلك أثراً عظيماً في نفسك ، لكنه لا يصل إلى درجة رؤيتك هذا الرجل أمامك وهو يتشحّط بدمائه ، وربما استطاع كاتب مبدع مُجيد أن يصور لك هذا المشهد وكأنك تراه بأم عينيك، فيترك أمام ناظريك صورة ربما لا تبتعد عن تلك الصورة التي رايتها شاخصة ببصرك، ولهذا يؤكد القرآن على هذه القضية فيعرض القدوات والنماذج الحية أمام هذه الأمة
يخبر الله تبارك وتعالى أن الابتلاء سنة لمن دخل في طريق الإيمان : {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ }العنكبوت2
ثم يعرض القرآن نموذجاً حيًّا من حياة السابقين ، ليجعل هذه القضية شاخصة أمام أعينهم، وأن الابتلاء ليس أمراً خاصًّا بهم، قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ }العنكبوت
إذاً فالفتنة على طريق الإيمان ليست قضية خاصة بهؤلاء المخاطبين بهذا القرآن ، وليست قضية خاصة بهذه الأمة، إنما هي سنة ماضية
وفي القرآن الكريم حديث عن سنة لا تتخلف في قيام هذه الدعوات وانتصارها ، يقول تبارك وتعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ }البقرة214
أتظنون أنكم تدخلون الجنة؟ ولمّا يصيبكم ما أصاب من كان قبلكم ؟ لقد مستهم البأساء والضراء حتى يتساءل الرسول وهو أعلم الناس بوعد الله ، وحتى يتساءل المؤمنون معه [متى نصر الله]؟ وهو سؤال يحمل في طياته عظم ما كان يعانيه هؤلاء من البلاء والمضايقة. وفي آية أخرى يبين الله عز وجل طبيعة هذا الدين، وطبيعة هذا النصر والتمكين لهذه الأمة
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ }يوسف110
إذاً فالنصر والتمكين للدين إنما يأتي حين يستيئس الرسل، وحين يظن أقوامهم المكذبون أن هؤلاء الرسل قد كُذبوا ما وُعدوا.
وفي غزوة أحد حين أصاب المؤمنين ما أصابهم، فعادوا من تلك الغزوة وما من بيت إلا وفيه قتيل أوجريح، وقد افتقدوا سبعين من خيارهم ومن صلحائهم وكانوا يظنون أنها ساعة وتأتي الدولة لهم.. يقول تبارك وتعالى مخبراً لهم أن هذه السنة سنة الماضين من قبل {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ, وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }هذه طريق المؤمنين الصادقين الذين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم
وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم نماذج من ذلك ، جاء إليه أحد أصحابه وهو خباب - رضي الله عنه - يشتكي إليه ما أصابه من المشركين وقال له: ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فغضب صلى الله عليه وسلم لأنه قرأ في حديث خباب الاستعجال واستبطاء وعد الله عز وجل؛ فقعد صلى الله عليه وسلم وقال:"لقد كان من كان قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيُشق باثنين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون". إنها سنة الماضين من قبلكم، ويمضى خباب - رضي الله عنه - وقد سمع هذا التثبيت والتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم ، يمضي بنفس صادقة جادة وعزيمة أبيّة يستمد من هذه النماذج التي عرضها له صلى الله عليه وسلم روحاً تدفعه إلى مزيد من الصبر على الابتلاء والصبر على الأذى والمضايقة، وتدفعه إلى الشعور بالأمل والاستبشار وإلى أن يطرح اليأس عنه جانباً، وأن يعلم ان ما أصابه فقد أصاب السابقين قبله
- عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: كأني انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء آذاه قومه وهو يقول:"اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
إن المبادئ ليست رخيصة، وإن إصلاح المجتمعات لا يمكن أن يتم بجهود مبعثرة ونفوس هينة كسولة، إنه يحتاج إلى أن يُدفع لذلك ثمن باهظ، يحتاج إلى أن يكون أشرفُ خلق الله عز وجل يتعرضون لمثل هذا الأمر حتى يمسح أحدهم الدم عن وجهه وهو يقول : "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
بل أخبر الله عز وجل عن بعض أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم أنهم كانوا يُقتلون بغير حق؛ فحكى القرآن كثيراً عن بني إسرائيل أنهم يقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ,عرض الله تبارك وتعالى هذه الصوره ليوضح للمؤمنين أن هذه هي الطريق الواجب اتباعها بالصبر على البلاء وليس بالضجر والعربدة والافساد في الارض وقطع العلاقات بين الناس , وهي ليست دعوة خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم ، بل هو خطاب له ولأصحابه وللأمة أجمع أن يقتدوا بهدي أولئك الأنبياء.
وهناك صور أخرى للذين تحتملوا في سبيل هذا الدين المشاق والمكاره، كقصة أهل الكهف الذين اختاروا أن يعيشوا في كهف خشن بعيد عن الناس، وأصحاب الأخدود الذين اختاروا أن يقذفوا في نار الدنيا، وكان هذا أحب إليهم من أن يعودوا إلى الكفر بعد أن أنقذهم الله منه؛ فكانوا أهلاً لأن يذوقوا حلاوة الإيمان ولذة الإيمان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يُكره أن يقذف في النار".
لقد كان المسلمون ربما يشعرون بنوع من اليأس والألم ويصيبهم الإحباط وهم يواجهون أعداء الله عز وجل، فيثير فيهم القرآن الكريم النظر إلى جانب آخر ربما كان له دور عظيم في إحياء نفوسهم، يقول تبارك وتعالى : {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً }
لا يصيبكم الوهن ولا الضعف وأنتم تبتغون القوم في الجهاد والدعوة ، وأن تبذلوا ما تبذلون، فإن كنتم تألمون وتدفعون الثمن فأولئك يألمون كما تألمون، إن كان يسقط منكم شهداء فأولئك يسقط منهم قتلى، إن كنتم تبذلون الوقت والجهد فأولئك يبذلون كما تبذلون.
ويقول تبارك وتعالى في آية أخرى : {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }آل عمران ,إذن فالقضية ليست حكراً على المؤمنين، ولا على الذين يحملون الدعوة الصادقة، إنما هي سنة الله عز وجل في كل من يريد أن يحمل مبدأ يدافع عنه ويضحي في سبيله ، فهو ثمن لابد أن يدفعه كل من يريد أن ينشر مبدأً سواءً أكان حقّاً أم باطلاً، هو ثمن لابد أن يدفعه كل من يريد أن يدعو إلى عقيدة سواءً أكانت عقيدة صحيحة أم كانت عقيدة ضالة ، لاشك أن الذي يريد هذا المطلب النفيس الغالي لابد أن يدفع الثمن، ومن ثَمّ كان المؤمنون الصادقون الداعون إلى الله عز وجل وهم ينشرون دعوة الحق والتي لا حَقّ سواها، وهم ينشرون هذا المبدأ الصادق والذي تهون دونه سائر المبادئ كان هؤلاء بحاجة إلى عرض هذا النموذج، فلئن كان طريقكم شاقاً فطريق الآخرين كذلك، وأنتم تزيدون عليهم أنكم أصحاب هدف سام ونية صادقة [وترجون من الله مالايرجون] أنتم تشعرون أن كل ما تبذلونه ستلقون جزاءه عند الله يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، أما هؤلاء فهم حطب جهنم
فإلى نماذج مما يبذله أهل الدنيا سواءً أكانوا من حطب جهنم: أهل المذاهب الضالة الذين يدعون إلى سبيل الشيطان، أو من أولئك الذين يريدون تحصيل شهوات الدنيا وحطامها وثمنها العاجل، إنها نماذج من الذين يكدحون ويعملون في هذه الدنيا وهم لا يعملون لدين الله عز وجل، وإن اختلفت نواياهم وتباينت مواقفهم، ما بين داعٍ إلى سبيل الشيطان، وما بين رجل يبتغي الدنيا ويبتغي الشهوات.
إننا نسمع الكثير عن بذل المشقة والسفر وسائر ألوان المشاق في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، وربما تهتز نفوسنا شوقاً إلى مثل هذه الأعمال والجهود، ويتمنى كل واحد منا أن يبذل جهداً في الدعوة إلى دين الله عز وجل، ولو دعاه ذلك إلى تحمل المشقة وتحمل الصعاب وتحمل السفر، لكن حين تريد ذلك فلا تظن أنك وحدك تفعل ذلك، بل هاهم طلاب الدنيا وأرباب الدنيا يدفعون الثمن الباهظ لذلك ومن هذه النماذج:
- عبدالله بن سبأ :رجل يهودي تظاهر بالدخول في دين الإسلام حتى يهدم فيه من الداخل، لقد سافر هذا الرجل وتردد بين الأمصار، من مصر إلى الكوفة إلى اليمن هنا وهناك، كل هذا الأمر لأجل أن يجمع الأحزاب ويؤلبهم على هدم دولة الإسلام وعلى إثارة الفتن والقلاقل على خليفة المسلمين عثمان - رضي الله عنه -، وبذل في ذلك ما بذل من الجهد والسفر وبذل الأموال الطائلة حتى يدعو إلى هذا المذهب الضال ، وحتى يحقق ما يريد، واستجاب له طائفة من الرعاع، وبذلوا نفوسهم في معارك أثاروها، وما موقعة الجمل وموقعة صفّين ومقتل عمر - رضي الله عنه - ومقتل عثمان ومقتل علي - رضي الله عنهم - أجمعين وتلك الفتن التي ذهب ضحيتها خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم… ما تلك الفتن أجمع إلا حصاد جهد بذله أولئك من السهر والسفر والمشقة
- وها هم اليهود وقد أقاموا دولتهم، من أين أتى هؤلاء اليهود؟ إنهم شردمة الامم، لقد جاءوا من دول عدة ، لا تجمعهم لغة، ولا قومية، ولا تركيبة اجتماعية، لا يجمعهم إلا شيء واحد، هو أنهم يدينون باليهودية فبذلوا الجهد في تجميع شتاتهم ولَمِّ شملهم، وبذلوا الأموال حتى جاؤوا إلى الأرض المقدسة وبقوا فيها، وتحملوا في سبيل ذلك ما تحملوا، حتى استطاعوا أن يحققوا تواجدهم، وهاهو أحد طغاتهم الهالكين وهو موشيه دَيّان الذي كان وزيراً في ذلك المسخ، وكان رجلها الأول في وقت من الأوقات يحكي في مذكراته كيف أنه كان يصرف الأوقات الطويلة حتى يستطيع أن يقابل أحد الزعماء في لقاء غير معلن، فيغير وجهه بالمساحيق ويزيل تلك اللفافة التي كانت على عينه، ثم يسير في رحلة طويلة إلى دولة أوروبية ثم يسير بعد ذلك في طائرة أخرى وقد أخذه الإعياء وقد سهر لمدة يومين، فيستلقي في الطائرة ويلتحف بلحاف كان معه، ثم يذهب بعد ذلك ويبقى لمدة يومين وينهي مهمته ويعود إلى منزله، ولا يجد وقتاً ليتناول الطعام فيصلح طعاماً عاجلاً بنفسه ,إنه يعلم ضلال مذهبه، وأنه من حطب جهنم، ومع ذلك يبذل كل ما يبذل فيتحمل السفر والمشاق والمخاطر والسهر وشظف العيش ,أيكون مبدؤه أغلى من مبادئ المؤمنين الصادقين الدعاة إلى توحيد الله تبارك وتعالى؟
- انضر أخي المجاهدكم نحن مقصرونفمثلا: سائقو الشاحنات، يسير أحدهم مدة أسبوع في الطريق وهو يقود شاحنته ، وحين يشتد به الحر يوقف شاحنته لينام تحتها والرياح تهيل عليه التراب والغبار ، يبذل المشقة والجهد ويأكل طعام المسافر ويتناول شراب المسافر، ويغيب عن أهله وعن أولاده أسابيع طويلة، ويتحمل مشقة السفر ، كل ذلك من أجل أن يحصل على قوت يومه وليلته فهلا قطعت ربع هذه المسافة لأجل الله فقد يسافر الرجل الشهور الطويلة بل والسنوات لاجل الرغيف فما بالتا لا نصبر على طاعة الله والجهاد في سبيله
* إن الدعوة لدين الله عز وجل أغلى واللهِ عندنا من أنفسنا و من هذا الحطام الفاني ، فإن كانوا يألمون فنحن أولى أن نألم، وإن كان يمسهم القرح فنحن أولى أن يمسنا القرح، ونحن نعلم أن ساعة سهر نقضيها في سبيل الله مدخرة لنا عند الله عز وجل، ونحن نعلم أن تعباً ونصباً نبذله في سبيل الله عز وجل لن يضيع وسوف نلقاه عند الله تبارك وتعالى .
ولو قُدّر لك أن تذهب إلى سوق الماشية أو إلى سوق الخضار ولو قبل الفجر بساعات لرأيت أولئك الذين قد سبقوك، وربما جاء أحدهم من مسافة بعيدة وافترش الرصيف هناك، ونام ينتظر أن يدرك البكور ويدرك السوق في أوله، وأنت حيث يطلب منك التبكير إلى مجلس علم أو التبكير إلى بذل جهد وعمل تحتسبه عند الله عز وجل ، ربما استكثرت ذلك وظننت أن ذلك الجهد الذي تبذله جهد كثير مضنٍ ، فلو رأيت ما يبذله هؤلاء علمت أنهم يألمون أشد مما تألم ويصيبهم القرح أشد مما يصيبك وأنت ترجو من الله عز وجل أكثر مما يرجو هؤلاء، فأنت أولى بالبذل والتضحية.
- ربما يشعر الذين يقومون بالجهاد لاعلاء الدين أنهم يتحملون الأذى والمخاطر، وهو شأن ليس خاصاً بهم، بل هو شأن السابقين كلهم كما قال تبارك وتعالى : {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ)
ها هو عبدالله بن سبأ وأصحابه تعرضوا لما تعرضوا له، فمنهم من قتل، و منهم حرقوا لما غلو فيه، هاهم أولئك بذلوا نفوسهم، وتحملوا التحريق والأذى في سبيل دعوتهم الفاسدة فما بالنا وانفغسنا تتكاسل عن العوة والجهاد في سبيل الله , الهم ثبت قلوبنا على الحق ..آمين
تعليق