مراتب الكافرين مع القرآن الكريم في سورة فصلت
قال الله تعالى: {ولو جعلناه قرآناً أعجميّاً لقالوا لولا فُصّلت آياته ءَاْعجميٌّ وعربيّ، قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر، وهو عليهم عمى، أولئك ينادون من مكان بعيد}.
سورة فصّلت أُسُسُ موضوعاتها هو الحديث عن العلاقة بين القرآن العربي الكريم وبين مستمعيه، فهي تعظ أهل الإيمان بالطريقة الصحيحة لتلاوته الفاهمة العالمة حتى يحصل أثره الذي أنزله الله تعالى من أجله، كما قال تعالى في السورة: {وإمّا ينزغنّك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنّه هو السميع العليم}.
والشيطان لا ينزغ إلا عند الطاعة، وقد حذّر الله تعالى منه حين حضور العبد لطاعة ربّه أكثر من تحذيره في مواطن أخر، ولذلك قال تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله إنّه هو السميع العليم}، لأنّ الشيطان لا يحضر في البيوت الخربة ولا عند المفلسين، بل يحضر عند القلوب العامرة ليفسد عليها عمرانها وما فيها من خير.
وممّا يُروى أنّ يهود افتخرت على المسلمين بأنّها لا توسوس في صلاتها، فقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: (وأي خير في قلوبهم وصلاتهم حتّى يوسوس فيها الشيطان؟)، ولذلك فإنّ هذا الخبيث يحضر عند الصلاة وعند الوضوء وعند الصدقة وعند القتال وعند قيام الليل.
وفي كلّ ذلك وردت أحاديث صحيحة فانتبه لهذا، وتذكّر حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه لما شكى له وسوسة الشيطان وشدّة ما يلقون في ذلك، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أوجدّتموه - أي الوسوسة - ذلك صريح الإيمان، الحمد لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة).
وقد ذكرت السورة - متفرّقا - شأن الكافرين مع هذا القرآن العظيم، وكيف يسمعونه ويحاورون أهله، وهي مع وجودها عند أعداء الكتاب الكريم، إلا أنّها تحمل التحذير لأهله لئلاّ يقعوا موقعهم:
• {وقالوا قلوبنا في أكنّة ممّا تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب}.
هكذا أغلق الكافرون كلّ وسائط العلم لما يتلوه النبيّ صلى الله عليه وسلم وأتباعه عليهم، فقد أكنّوا قلوبهم، أي جعلوها في (كِنّ)، وهو الوعاء الحافظ لما فيه فلا يسمح بدخول شيء عليه، هذا إن وقع على أسماعهم شيء من آياته، ولكنّهم لخوفهم أن تتأثّر قلوبهم من آياته إن وقعت عليها فقد صنعوا حاجزاً سابقاً عن القلب، هو الحاجز في الأسماع، فقد صممناها عن السماع وأغلقناها أن يدخل فيها شيء من هذا الكلام.
ثمّ زيادة في إبعاد هذا الكلام عنهم جعلوا بينهم وبينه حجاباً، ولذلك قال تعالى قبل هذه الآية: {فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون}.
وأنت أخي الحبيب لو تفكّرت في قوله تعالى عنهم: {وقالوا قلوبنا في أكنّة..} لوجدّت أنّ هذه الحواجز قد ذكرها الله تعالى مرتّبة على درجة الأهمّية، فالقلب هو وعاء الفهم والإدراك والإحساس، وهو منطلق الشعور الذي تحصل به الإرادة، فهو محطّ تسمية الإنسان إنساناً، ومقصد القرآن هو البلوغ إلى هذا المرجل الذي لا حياة للإنسان بدونه، ثمّ ذكر الربّ السمع وهو واسطة الإنسان نفسه بينه وبين العلم والقرآن، ثمّ ذكر الربّ المانع الخارجي والذي لا يحصل السماع مع وجوده، وهذا تفصيل له أهمّيته لغفلة الناس عنه.
وهذا قسم من أقسام أعداء القرآن لا يريدون سماعه ابتداءً، بل هم يخافون من سماعه، وأظنّ - والله أعلم - أنّ هذا القسم عنده القدرة على تذوّق الكلام الجميل الحسن، وأنّهم يطربون لبلاغات البيان الراقي الرفيع، ولمّا كانوا كذلك، وعلموا أنّ هذا القرآن مما يملك على سامعه نفسه وعقله ووجدانه، وأنّه مَلَكَ ناصية البيان، بل تجاوزها إلى رحاب يحسّونها في أنفسهم ولا يستطيعون إنكارها، لذلك سارعوا إلى وضع الحواجز الداخلية والنفسيّة والخارجيّة حتّى لا يسمعوا لهذا القرآن، فأبعدوه بالحجاب، وأغلقوا عليه منافذ الولوج إلى داخلهم، ثمّ حصّنوا قلوبهم بغلف ثخينة ثقيلة، ذلك لأنّهم يعرفون ما لهذا الكلام من وقع على آذانهم وقلوبهم، فستطرب له آذانهم رغم أنوفهم، وستؤمن له قلوبهم من غير رضاهم، وهم يكرهون هذا.
وقد يقول سائل: هل تؤمن القلوب من غير رضا أصحابها ؟
الجواب؛ نعم، وإن شئت فاقرأ قوله سبحانه وتعالى: {وأمّا ثمود فهديناهم فاستحبّوا العمى على الهدى}، واقرأ قوله تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوّاً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}، وغيرها من الآيات التي تدل على أنّ القلوب قد تذوّقت الحقّ وعرفته معرفة يقينيّة، ولكنّهم كرهوا هذه المعاني الإيمانية ورأوها تصادم أهواءهم وشهواتهم ودنياهم، فتصارعت معاني الإيمان في قلوبهم مع الموانع من هذه الشهوات فغلبت الشهوة تلك المعاني، وذهب الإيمان تحت أركام العلو والظلم والاستكبار، ولذلك استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة، ورغبوا عن رضا الله إلى رضا الشهوات.
• الصنف الثاني: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلّكم تغلبون}؟
هؤلاء هم بهائم البشر وأغبياؤهم، وهم مقلّدة الأسياد والكبار من الطواغيت، فالطواغيت يأمرونهم: {لا تسمعوا... والغوا فيه}.
وممّا يدلّ على أنّ مقام هؤلاء هو مقام المقلّدة هو قوله سبحانه وتعالى بعدها: {وقال الذين كفروا ربّنا أرِنا الَّذَيْنِ أضلاّنا من الجنّ والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين}.
فالمقام مقام مقلدة بهائم مع أسياد خبثاء.
وهذا الصنف لا يفرّق بين الدر والبعر، ولا بين سقيم القول ومعجزه، فهم يردون الحق بالغناء والتصفيق والرقص والنقص، ولذلك أوصاهم أسيادهم أن يردّوا على سماع القرآن باللغو، واللغو، كما قال مجاهد رحمه الله تعالى: (بالمكاء والتصدية)، أي بالصفير والتصفيق.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (هذا حال الجهلة من الكفّار، ومن سلك مسلكهم عند سماع القرآن).
فهذا الصنف يجابهون هدى القرآن وأثره على قلوبهم بالتشغيب والصراخ وإثارة الحواس البهيميّة بالطرب والغناء المحرّم، وربمّا زادوا عُتواً وكفراً بأن يقرؤوا القرآن نفسه بألحان أهل المجون والتغبير، وربّما غنّوه بآلات اللهو المحرّم لتسقط من القلوب عظمة المتلوّ وتصغر في نفوس السامعين.
ومما يدخل في هذا الصنف كذلك هو تلاوة القرآن في المحلّ الذي يقال فيه الكفر أو تصدر منه المعصية، وأمثل دليل على هذا هو ما تصنعه الإذاعات اللعينة من افتتاح برامجها بالقرآن الكريم، ثمّ ما هي إلا لحظات حتّى يبدأ وحش المعصية يهجم على الآذان والأعين، والناس في هذا المقام لا يرون في القرآن العظيم إلا برنامجاً يعادل ما يبث بعده، ولا يقع في قلوبهم شيء من عظمته وعزّته وكماله، فهم لا يفرّقون بين أن يضعوا شريطاً للغناء الخبيث أو يضعوا شريطاً للقرآن يتلوه مطرب لهم يميلهم كما تميلهم النشوة المحرّمة، وهذا كلّه لتسقط حرمة القرآن من قلوب الناس فلا يتّعظون بمواعظه ولا يقفون عند حرامه وحلاله، ولا يهتدون بهدايته، بل كلّ شأنهم معه هو شأن استماعهم لأيّ كلامٍ مطربٍ جميل، وقد حدّثني بعض الإخوة أنّه يعلم ناساً إذا أخذوا في شرب وتدخين الحشيشة وضعوا للسماع بعض أصوات القارئين المشهورين ليأخذهم الطرب والنشوة، بل إنّ بعض القارئين أنفسهم لا يتورّع أن يتعاطى الحشيش قبل قراءته ليزداد إطرابه لسامعيه، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
وهذه اللذة التي تحصل في قلوبهم ليست هي تلك اللذة الحاصلة لأهل الإيمان حين يسمعوا له فتخبت له قلوبهم ثمّ تلين قلوبهم وجلودهم لذكره، خشية مما فيه، ويزدادون قرباً من مولاهم جلّ في علاه.
إذاً هذا الصنف يُمنعون من استماع التدبّر والاتّعاظ والعبرة والفهم والذي يؤدّي إلى الانقياد لأوامره والابتعاد عن نواهيه لأنّهم يلغون فيه.
• الصنف الثالث: {إنّ الذين يلحدوهن في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يُلقى في النار خير أمّن يأتي آمناً يوم القيامة إعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير * إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنّه لكتاب عزيز}.
وهذا صنف آخر من أعداء الذكر الربّاني العظيم، هم أشدّ وأعتى، اطمأنّت نفوسهم على ما في قلوبهم من كفرٍ عاتٍ متجذّر، وعلموا أن هذا الكفر صار مختلطاً بمشاشات القلوب، فلن يُنتزع منهم حتّى لو حاول أولوا العزم والقوّة، فالكفر ثابت في قلوبهم ثباتاً لا يخاف عليه من سماع القرآن ولا من الجلوس مع تاليه وقارئه.
هذا الصنف يملك عقلاً إبليسيّاً خبيثاً، قرّر بكلّ صرامة أن يحاور القرآن حتّى يحمله على غير محمله، فهو سيلحد فيه، والإلحاد هو الإمالة، أي إنّه امرؤٌ يتستّر بظاهر جميل، وله باطن خبيث، ولذلك ذكر الربّ جلّ في علاه أمر علمه بهذا الصنف، وهذا يدلّ على تخفّيه وتستّره فقال سبحانه: {لا يخفون علينا}.
وهذا الصنف - والله أعلم - هم الزنادقة، وهم قوم زعموا في الظاهر أنّهم يريدون أن يعرفوا ماذا يقول الله في هذا الكتاب، وقالوا: هلمّ لنسمع له ونرى ما فيه وأي شيء يقول، وبطريقة خبيثة مكينة أخذوا في ضرب آياته بعضها ببعض، فيردّون المحكم فيه بالمتشابه فيه، وهم يقولون: نحن لسنا كأولئك - من تقدّم وصفهم بأنّهم لا يسمعونه - بل نحن سمعناه وفهمناه وجلسنا نحاوره فهذا هو الذي خرج معنا، ولذلك أرسلهم الله تعالى، ومدّ لهم في طغيانهم بقوله جلّ سبحانه: {إعملوا ما شئتم}، ولم يجبهم على صنيعهم إلا بقوله: {أفمن يُلقى في النار خير أم من يأتي يوم القيامة..}.
وهذا الصنف - صنف الزنادقة - على طبقات، فمنهم الباطنيّة الغلاة، يزعمون أنّهم مع القرآن ولا يخالفونه، فهم مع ظاهره العربي، وفي الباطن يحملون آياته على التأويل الباطل، وعلى التحريف الذي لا يلتقي مع اللسان العربي في شيء، ومن هؤلاء قديماً الإسماعيليّة والقرامطة والدروز والنصيريّة، ومن المعاصرين طوائف تنتسب لهذه الطوائف المتقدّمة، وكذلك زنادقة الأدب الذين يزعمون الحداثة أو ما بعد الحداثة كأدونيس النصيري - حامل لواء الزندقة الأدبيّة في هذا العصر -
ومنهم من هو على شاكلتهم ولكنّهم لا يظهرون ما يظهر الأوائل، فإنّ الأوائل في زمزمتهم الداخلية لا ينسبون أنفسهم إلى الإسلام، وأمّا هذا الصنف فهو يأتي من باب الحرص على الإسلام ويزعم أنّه يريد أن يطوّر الإسلام ليقدّمه إلى عالم اليوم فتُقبِل عليه النفوس، أو أن يعطيه دفعة جديدة لئلاّ يقع التعارض بين أهواء النفوس المعاصرة وبين آيات القرآن، وهذا الصنف يمارس كلّ أساليب الإلحاد، أي إمالة معاني كتاب الله تعالى لتوافق الأهواء الباطلة والشهوات الدنيويّة، وهم يستخدمون كلّ طاقاتهم وقدراتهم لليّ أعناق النصوص - كما يقول سيّد قطب - حتّى تتوافق مع مرادهم، وهذا الصنف ملأ السهل والواد في عصرنا هذا وأيّامنا هذه، ويحمل لواء هذا الجحفل إلى جهنّم كبيرهم الذي علّمهم الزندقة والإلحاد: محمّد أركون الجزائري، وارتشف قيحه وصديده نصر حامد أبو زيد ومعهم حسن حنفي وغيرهم الكثير.
ثمّ جاء بعدهم وسبقهم في ارتكاستهم السوري النصيريّ محمّد شحرور صاحب (الكتاب والقرآن)، ولو ذهبنا نستقصي لطال بنا المقام، وكاتب هذه الكلمات بدأ في إعداد معلّمة تسمّى (طبقات الزنادقة) تقتصر على أسماء المعاصرين من هذا الصنف اللعين، أسأل الله تعالى الإمداد والإعانة.
فهذا الصنف الكافر بما أنزل الله تعالى همّه تفسير القرآن على غير وجهه الذي نزل به، إمّا لضرب بعضه بعضاً كما كان يصنع ابن الرايوندي الملحد الزنديق وكذا صادق جلال العظم والسوري تركي علي الربيعو، أو يحمله على غير وجهه حتّى يحتجّ به على باطله وخبثه وشرّه.
وهذا كلّه لمؤاخاتهم الشياطين - قرنائهم - كما قال تعالى في السورة: {وقيّضنا لهم قرناء فزيّنوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم}.
هذا الصنف هو أخطر صنف على الأمّة المسلمة لأنّه يتزيّا بزيّ أهل الإسلام، بل يلبس لبوس العلماء والحكماء فيُفتَتَنُ به أقوام من العابدين الجهلاء، أو من أصحاب الأهواء، ويتّخذون كلامهم حجّة في إلحادهم وزندقتهم.
والباطنيّة هي أسس البلاء في تاريخ أمّتنا، فإنّه ما من شرّ حصل فيها إلا وهم بابه وأصله، بل ما من فتنة أصابت الأمّة في دنياها ودينها إلا وهم أساسها، واستقصاء ذلك يطول ويخرجنا إلى مقام آخر.
وفي هذه السورة الجليلة التي نحن بصددها بيان لأصل فساد هؤلاء الباطنيّة، فقد افتتح الله السورة بأنّ هذا القرآن عربيّ، وقد فُصِّلت آياته بما لا يحصل فيه اللبس من خلال هذه اللغة الشريفة، اللغة العربيّة، وأنّه لا يحصل به العلم الذي يريده الله تعالى من عبيده إلا من خلال إنزاله على قواعد هذه اللغة.
قال تعالى: {كتاب فُصِّلت آياته قرآناً عربيّاً لقومٍ يعلمون}، وبيّن الربّ جلّ وعلا أنّه إن تمّ ذلك وفهم هذا الكتاب العظيم بلغة هؤلاء القوم فإنّه سيهدي من قرأه وتعلّمه، ولن يحصل له الاضطراب والتعارض في شيء من آياته البيّنة، وذلك كما قال تعالى: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}، فلمّا كان متكلّم هذا الكلام حكيم حميد، أي محمود لجميل صفاته وجميل إحسانه وحسن كلامه، كان كلامه تامّاً سليماً من النقص والتعارض، وهذه الآية ردّ على من زعم أنّ في القرآن من الكلام ما يحصل به اختلاف الفهوم بين الناس اختلافاً متعارضاً، فهذا يفهم منه على وفق مراده وهواه، وآخر يعارضه بفهم جديد آخر، وآخر وآخر، وهذه القضيّة هي عمدة الزنادقة الجدد الذين يزعمون أنّ القرآن له فهم عصريّ جديد يخالف ما فهمه الجيل الأوّل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام مثل هذا يحصل به التناقض والاختلاف لا يُسمّى مفصّلاً ولا يسمّى مبيّناً، ولا يقال عنه: {أُحكِمَت آياته}، فأي تهمة خبيثة يقولها هؤلاء العصرانيون في كتاب الله؟ ألا لعنة الله على الظالمين.
فهؤلاء الزنادقة يحاولون جهدهم إنزال القرآن الكريم على قواعد أهل العجمة ولا يتقيّدون باللسان العربي وقواعده، وذلك كما فسّره الباطنية بأمزجة أئمّتهم، وكما فسّره الفلاسفة على طريقة معلّمهم الأوّل أرسطو، وكما يفسّره هؤلاء على قواعد اليسار وقواعد اليمين، فهذا يفسّره من خلال المنهج المادّي الماركسي، وآخر من خلال منهجه الانقلابي الثوري، وهذا يفسّره من خلال مفاهيم الغرب للدين والأديان، وهذا يفسّره بقانون أهل الحداثة.. وهكذا كلّ منهم يحاول أن يثبت هواه من خلال هذا القرآن العظيم.
ومن أجل هذا نفى الله العجمة عنه، فقال سبحانه: {ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فُصِّلت آياته...}، والعجمة في الناس بمعنيين، أولاهما: غير العربيّ، والثاني: من لا يحسن الإبانة عن نفسه، والقرآن عربيّ ومبين ومفصّل، جلّ متكلّمه سبحانه وتعالى.
وهؤلاء الملحدون في آياته لو أنزله الله أعجميّاً غير عربيّ، ولم يفصّله الله قاطعاً به أعذارهم الواهية لقالوا: لولا أنزل عربيّاً لنفهمه، وكيف يصح أن يكون النبيّ عربياً وكتابه أعجميّاً؟
• {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء}...
هو هدى لما يريدون مِن قادم حياتهم، وشفاء لما وقع في قديمها، هو هدى للحق وللوصول إلى أهداف الإنسان العظيمة، وذلك بالبلوغ إلى رضا الله سبحانه وتعالى، وهو شفاء لما يقع في هذا السلوك من أعراض وأمراض وعوائق، فالقرآن قوّة أبصار وتقوية، وقوّة تجديد وتنقية، هو هادي لكل ما يسأل عنه الإنسان في حياته، وهو شفاء لما يقع في النفوس من ندوب قراع سهام الهوى من نفسه أو من الشيطان، فالقرآن يسدّد ويحمي، وكلّ هذا لا يحصل إلا للمؤمنين به، فلا يهتدي به أولئك الكافرون به والمعرضون عنه، فهو هدى وشفاء للمؤمنين.
وأمّا غير المؤمنين ففي آذانهم وقر وصمّ قد صنعوه بأنفسهم، فكيف يأخذ الدواء سبيله إلى مستقرّه ويعمل عمَله ومسلكه مقفل موصود، ثمّ هم في عماية عن إبصار هداه، فلا يعرفون مواطن الحقّ والهدى والخير التي يكشفها ويفصّلها، فمنافذ القلب من سماع ورؤية معطّلة خربة، وإن من كان هذا شأنه فإنّه إن نودي لن يسمع ولو صرخ عليه بألف صوت - أولئك ينادون من مكان بعيد.
وهكذا فصّلت لنا هذه السورة العظيمة مراتب هؤلاء القوم وحالهم بأشفى بيان وأعظمه، وإنّه ممّا يراه المبصر في طريقة تعامل القرآن مع هؤلاء القوم أنّه تعامل معهم بازدراء واحتقار، فكشف لنا أنّ ما يحصل لهم إنّما هو بسبب جهلهم وفساد قلوبهم وعقولهم، وتعطيل حواس الإدراك والشعور، ولو أنصفوا أنفسهم لسمحوا لهذا النور أن يلج إلى نفوسهم وقلوبهم فيعمل النور عمله بإصلاحهم وتقويمهم.
وإنّه مما تحدّثت به السورة في معالجتها لهؤلاء أن قالت لهم: {قل أرأيتم إن كان من عند الله ثمّ كفرتم به، مَن أضلّ ممن هو في شقاق بعيد}.
فماذا بقي لهؤلاء من عذر أو أي حجّة لهم يوم القيامة عند الله؟
{فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله}.
ثمّ يبيّن سبحانه بعض أدلّة صدق هذا الكتاب العظيم بقوله: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ}.
وهي آية تقيم الحجّة أنّ خالق هذا الكون هو قائل هذا الكلام، فبين التكوين والتشريع تطابق تام {ألا له الخلق والأمر}.
والحمد لله ربّ العالمين
قال الله تعالى: {ولو جعلناه قرآناً أعجميّاً لقالوا لولا فُصّلت آياته ءَاْعجميٌّ وعربيّ، قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر، وهو عليهم عمى، أولئك ينادون من مكان بعيد}.
سورة فصّلت أُسُسُ موضوعاتها هو الحديث عن العلاقة بين القرآن العربي الكريم وبين مستمعيه، فهي تعظ أهل الإيمان بالطريقة الصحيحة لتلاوته الفاهمة العالمة حتى يحصل أثره الذي أنزله الله تعالى من أجله، كما قال تعالى في السورة: {وإمّا ينزغنّك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنّه هو السميع العليم}.
والشيطان لا ينزغ إلا عند الطاعة، وقد حذّر الله تعالى منه حين حضور العبد لطاعة ربّه أكثر من تحذيره في مواطن أخر، ولذلك قال تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله إنّه هو السميع العليم}، لأنّ الشيطان لا يحضر في البيوت الخربة ولا عند المفلسين، بل يحضر عند القلوب العامرة ليفسد عليها عمرانها وما فيها من خير.
وممّا يُروى أنّ يهود افتخرت على المسلمين بأنّها لا توسوس في صلاتها، فقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: (وأي خير في قلوبهم وصلاتهم حتّى يوسوس فيها الشيطان؟)، ولذلك فإنّ هذا الخبيث يحضر عند الصلاة وعند الوضوء وعند الصدقة وعند القتال وعند قيام الليل.
وفي كلّ ذلك وردت أحاديث صحيحة فانتبه لهذا، وتذكّر حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه لما شكى له وسوسة الشيطان وشدّة ما يلقون في ذلك، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أوجدّتموه - أي الوسوسة - ذلك صريح الإيمان، الحمد لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة).
وقد ذكرت السورة - متفرّقا - شأن الكافرين مع هذا القرآن العظيم، وكيف يسمعونه ويحاورون أهله، وهي مع وجودها عند أعداء الكتاب الكريم، إلا أنّها تحمل التحذير لأهله لئلاّ يقعوا موقعهم:
• {وقالوا قلوبنا في أكنّة ممّا تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب}.
هكذا أغلق الكافرون كلّ وسائط العلم لما يتلوه النبيّ صلى الله عليه وسلم وأتباعه عليهم، فقد أكنّوا قلوبهم، أي جعلوها في (كِنّ)، وهو الوعاء الحافظ لما فيه فلا يسمح بدخول شيء عليه، هذا إن وقع على أسماعهم شيء من آياته، ولكنّهم لخوفهم أن تتأثّر قلوبهم من آياته إن وقعت عليها فقد صنعوا حاجزاً سابقاً عن القلب، هو الحاجز في الأسماع، فقد صممناها عن السماع وأغلقناها أن يدخل فيها شيء من هذا الكلام.
ثمّ زيادة في إبعاد هذا الكلام عنهم جعلوا بينهم وبينه حجاباً، ولذلك قال تعالى قبل هذه الآية: {فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون}.
وأنت أخي الحبيب لو تفكّرت في قوله تعالى عنهم: {وقالوا قلوبنا في أكنّة..} لوجدّت أنّ هذه الحواجز قد ذكرها الله تعالى مرتّبة على درجة الأهمّية، فالقلب هو وعاء الفهم والإدراك والإحساس، وهو منطلق الشعور الذي تحصل به الإرادة، فهو محطّ تسمية الإنسان إنساناً، ومقصد القرآن هو البلوغ إلى هذا المرجل الذي لا حياة للإنسان بدونه، ثمّ ذكر الربّ السمع وهو واسطة الإنسان نفسه بينه وبين العلم والقرآن، ثمّ ذكر الربّ المانع الخارجي والذي لا يحصل السماع مع وجوده، وهذا تفصيل له أهمّيته لغفلة الناس عنه.
وهذا قسم من أقسام أعداء القرآن لا يريدون سماعه ابتداءً، بل هم يخافون من سماعه، وأظنّ - والله أعلم - أنّ هذا القسم عنده القدرة على تذوّق الكلام الجميل الحسن، وأنّهم يطربون لبلاغات البيان الراقي الرفيع، ولمّا كانوا كذلك، وعلموا أنّ هذا القرآن مما يملك على سامعه نفسه وعقله ووجدانه، وأنّه مَلَكَ ناصية البيان، بل تجاوزها إلى رحاب يحسّونها في أنفسهم ولا يستطيعون إنكارها، لذلك سارعوا إلى وضع الحواجز الداخلية والنفسيّة والخارجيّة حتّى لا يسمعوا لهذا القرآن، فأبعدوه بالحجاب، وأغلقوا عليه منافذ الولوج إلى داخلهم، ثمّ حصّنوا قلوبهم بغلف ثخينة ثقيلة، ذلك لأنّهم يعرفون ما لهذا الكلام من وقع على آذانهم وقلوبهم، فستطرب له آذانهم رغم أنوفهم، وستؤمن له قلوبهم من غير رضاهم، وهم يكرهون هذا.
وقد يقول سائل: هل تؤمن القلوب من غير رضا أصحابها ؟
الجواب؛ نعم، وإن شئت فاقرأ قوله سبحانه وتعالى: {وأمّا ثمود فهديناهم فاستحبّوا العمى على الهدى}، واقرأ قوله تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوّاً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}، وغيرها من الآيات التي تدل على أنّ القلوب قد تذوّقت الحقّ وعرفته معرفة يقينيّة، ولكنّهم كرهوا هذه المعاني الإيمانية ورأوها تصادم أهواءهم وشهواتهم ودنياهم، فتصارعت معاني الإيمان في قلوبهم مع الموانع من هذه الشهوات فغلبت الشهوة تلك المعاني، وذهب الإيمان تحت أركام العلو والظلم والاستكبار، ولذلك استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة، ورغبوا عن رضا الله إلى رضا الشهوات.
• الصنف الثاني: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلّكم تغلبون}؟
هؤلاء هم بهائم البشر وأغبياؤهم، وهم مقلّدة الأسياد والكبار من الطواغيت، فالطواغيت يأمرونهم: {لا تسمعوا... والغوا فيه}.
وممّا يدلّ على أنّ مقام هؤلاء هو مقام المقلّدة هو قوله سبحانه وتعالى بعدها: {وقال الذين كفروا ربّنا أرِنا الَّذَيْنِ أضلاّنا من الجنّ والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين}.
فالمقام مقام مقلدة بهائم مع أسياد خبثاء.
وهذا الصنف لا يفرّق بين الدر والبعر، ولا بين سقيم القول ومعجزه، فهم يردون الحق بالغناء والتصفيق والرقص والنقص، ولذلك أوصاهم أسيادهم أن يردّوا على سماع القرآن باللغو، واللغو، كما قال مجاهد رحمه الله تعالى: (بالمكاء والتصدية)، أي بالصفير والتصفيق.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (هذا حال الجهلة من الكفّار، ومن سلك مسلكهم عند سماع القرآن).
فهذا الصنف يجابهون هدى القرآن وأثره على قلوبهم بالتشغيب والصراخ وإثارة الحواس البهيميّة بالطرب والغناء المحرّم، وربمّا زادوا عُتواً وكفراً بأن يقرؤوا القرآن نفسه بألحان أهل المجون والتغبير، وربّما غنّوه بآلات اللهو المحرّم لتسقط من القلوب عظمة المتلوّ وتصغر في نفوس السامعين.
ومما يدخل في هذا الصنف كذلك هو تلاوة القرآن في المحلّ الذي يقال فيه الكفر أو تصدر منه المعصية، وأمثل دليل على هذا هو ما تصنعه الإذاعات اللعينة من افتتاح برامجها بالقرآن الكريم، ثمّ ما هي إلا لحظات حتّى يبدأ وحش المعصية يهجم على الآذان والأعين، والناس في هذا المقام لا يرون في القرآن العظيم إلا برنامجاً يعادل ما يبث بعده، ولا يقع في قلوبهم شيء من عظمته وعزّته وكماله، فهم لا يفرّقون بين أن يضعوا شريطاً للغناء الخبيث أو يضعوا شريطاً للقرآن يتلوه مطرب لهم يميلهم كما تميلهم النشوة المحرّمة، وهذا كلّه لتسقط حرمة القرآن من قلوب الناس فلا يتّعظون بمواعظه ولا يقفون عند حرامه وحلاله، ولا يهتدون بهدايته، بل كلّ شأنهم معه هو شأن استماعهم لأيّ كلامٍ مطربٍ جميل، وقد حدّثني بعض الإخوة أنّه يعلم ناساً إذا أخذوا في شرب وتدخين الحشيشة وضعوا للسماع بعض أصوات القارئين المشهورين ليأخذهم الطرب والنشوة، بل إنّ بعض القارئين أنفسهم لا يتورّع أن يتعاطى الحشيش قبل قراءته ليزداد إطرابه لسامعيه، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
وهذه اللذة التي تحصل في قلوبهم ليست هي تلك اللذة الحاصلة لأهل الإيمان حين يسمعوا له فتخبت له قلوبهم ثمّ تلين قلوبهم وجلودهم لذكره، خشية مما فيه، ويزدادون قرباً من مولاهم جلّ في علاه.
إذاً هذا الصنف يُمنعون من استماع التدبّر والاتّعاظ والعبرة والفهم والذي يؤدّي إلى الانقياد لأوامره والابتعاد عن نواهيه لأنّهم يلغون فيه.
• الصنف الثالث: {إنّ الذين يلحدوهن في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يُلقى في النار خير أمّن يأتي آمناً يوم القيامة إعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير * إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنّه لكتاب عزيز}.
وهذا صنف آخر من أعداء الذكر الربّاني العظيم، هم أشدّ وأعتى، اطمأنّت نفوسهم على ما في قلوبهم من كفرٍ عاتٍ متجذّر، وعلموا أن هذا الكفر صار مختلطاً بمشاشات القلوب، فلن يُنتزع منهم حتّى لو حاول أولوا العزم والقوّة، فالكفر ثابت في قلوبهم ثباتاً لا يخاف عليه من سماع القرآن ولا من الجلوس مع تاليه وقارئه.
هذا الصنف يملك عقلاً إبليسيّاً خبيثاً، قرّر بكلّ صرامة أن يحاور القرآن حتّى يحمله على غير محمله، فهو سيلحد فيه، والإلحاد هو الإمالة، أي إنّه امرؤٌ يتستّر بظاهر جميل، وله باطن خبيث، ولذلك ذكر الربّ جلّ في علاه أمر علمه بهذا الصنف، وهذا يدلّ على تخفّيه وتستّره فقال سبحانه: {لا يخفون علينا}.
وهذا الصنف - والله أعلم - هم الزنادقة، وهم قوم زعموا في الظاهر أنّهم يريدون أن يعرفوا ماذا يقول الله في هذا الكتاب، وقالوا: هلمّ لنسمع له ونرى ما فيه وأي شيء يقول، وبطريقة خبيثة مكينة أخذوا في ضرب آياته بعضها ببعض، فيردّون المحكم فيه بالمتشابه فيه، وهم يقولون: نحن لسنا كأولئك - من تقدّم وصفهم بأنّهم لا يسمعونه - بل نحن سمعناه وفهمناه وجلسنا نحاوره فهذا هو الذي خرج معنا، ولذلك أرسلهم الله تعالى، ومدّ لهم في طغيانهم بقوله جلّ سبحانه: {إعملوا ما شئتم}، ولم يجبهم على صنيعهم إلا بقوله: {أفمن يُلقى في النار خير أم من يأتي يوم القيامة..}.
وهذا الصنف - صنف الزنادقة - على طبقات، فمنهم الباطنيّة الغلاة، يزعمون أنّهم مع القرآن ولا يخالفونه، فهم مع ظاهره العربي، وفي الباطن يحملون آياته على التأويل الباطل، وعلى التحريف الذي لا يلتقي مع اللسان العربي في شيء، ومن هؤلاء قديماً الإسماعيليّة والقرامطة والدروز والنصيريّة، ومن المعاصرين طوائف تنتسب لهذه الطوائف المتقدّمة، وكذلك زنادقة الأدب الذين يزعمون الحداثة أو ما بعد الحداثة كأدونيس النصيري - حامل لواء الزندقة الأدبيّة في هذا العصر -
ومنهم من هو على شاكلتهم ولكنّهم لا يظهرون ما يظهر الأوائل، فإنّ الأوائل في زمزمتهم الداخلية لا ينسبون أنفسهم إلى الإسلام، وأمّا هذا الصنف فهو يأتي من باب الحرص على الإسلام ويزعم أنّه يريد أن يطوّر الإسلام ليقدّمه إلى عالم اليوم فتُقبِل عليه النفوس، أو أن يعطيه دفعة جديدة لئلاّ يقع التعارض بين أهواء النفوس المعاصرة وبين آيات القرآن، وهذا الصنف يمارس كلّ أساليب الإلحاد، أي إمالة معاني كتاب الله تعالى لتوافق الأهواء الباطلة والشهوات الدنيويّة، وهم يستخدمون كلّ طاقاتهم وقدراتهم لليّ أعناق النصوص - كما يقول سيّد قطب - حتّى تتوافق مع مرادهم، وهذا الصنف ملأ السهل والواد في عصرنا هذا وأيّامنا هذه، ويحمل لواء هذا الجحفل إلى جهنّم كبيرهم الذي علّمهم الزندقة والإلحاد: محمّد أركون الجزائري، وارتشف قيحه وصديده نصر حامد أبو زيد ومعهم حسن حنفي وغيرهم الكثير.
ثمّ جاء بعدهم وسبقهم في ارتكاستهم السوري النصيريّ محمّد شحرور صاحب (الكتاب والقرآن)، ولو ذهبنا نستقصي لطال بنا المقام، وكاتب هذه الكلمات بدأ في إعداد معلّمة تسمّى (طبقات الزنادقة) تقتصر على أسماء المعاصرين من هذا الصنف اللعين، أسأل الله تعالى الإمداد والإعانة.
فهذا الصنف الكافر بما أنزل الله تعالى همّه تفسير القرآن على غير وجهه الذي نزل به، إمّا لضرب بعضه بعضاً كما كان يصنع ابن الرايوندي الملحد الزنديق وكذا صادق جلال العظم والسوري تركي علي الربيعو، أو يحمله على غير وجهه حتّى يحتجّ به على باطله وخبثه وشرّه.
وهذا كلّه لمؤاخاتهم الشياطين - قرنائهم - كما قال تعالى في السورة: {وقيّضنا لهم قرناء فزيّنوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم}.
هذا الصنف هو أخطر صنف على الأمّة المسلمة لأنّه يتزيّا بزيّ أهل الإسلام، بل يلبس لبوس العلماء والحكماء فيُفتَتَنُ به أقوام من العابدين الجهلاء، أو من أصحاب الأهواء، ويتّخذون كلامهم حجّة في إلحادهم وزندقتهم.
والباطنيّة هي أسس البلاء في تاريخ أمّتنا، فإنّه ما من شرّ حصل فيها إلا وهم بابه وأصله، بل ما من فتنة أصابت الأمّة في دنياها ودينها إلا وهم أساسها، واستقصاء ذلك يطول ويخرجنا إلى مقام آخر.
وفي هذه السورة الجليلة التي نحن بصددها بيان لأصل فساد هؤلاء الباطنيّة، فقد افتتح الله السورة بأنّ هذا القرآن عربيّ، وقد فُصِّلت آياته بما لا يحصل فيه اللبس من خلال هذه اللغة الشريفة، اللغة العربيّة، وأنّه لا يحصل به العلم الذي يريده الله تعالى من عبيده إلا من خلال إنزاله على قواعد هذه اللغة.
قال تعالى: {كتاب فُصِّلت آياته قرآناً عربيّاً لقومٍ يعلمون}، وبيّن الربّ جلّ وعلا أنّه إن تمّ ذلك وفهم هذا الكتاب العظيم بلغة هؤلاء القوم فإنّه سيهدي من قرأه وتعلّمه، ولن يحصل له الاضطراب والتعارض في شيء من آياته البيّنة، وذلك كما قال تعالى: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}، فلمّا كان متكلّم هذا الكلام حكيم حميد، أي محمود لجميل صفاته وجميل إحسانه وحسن كلامه، كان كلامه تامّاً سليماً من النقص والتعارض، وهذه الآية ردّ على من زعم أنّ في القرآن من الكلام ما يحصل به اختلاف الفهوم بين الناس اختلافاً متعارضاً، فهذا يفهم منه على وفق مراده وهواه، وآخر يعارضه بفهم جديد آخر، وآخر وآخر، وهذه القضيّة هي عمدة الزنادقة الجدد الذين يزعمون أنّ القرآن له فهم عصريّ جديد يخالف ما فهمه الجيل الأوّل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام مثل هذا يحصل به التناقض والاختلاف لا يُسمّى مفصّلاً ولا يسمّى مبيّناً، ولا يقال عنه: {أُحكِمَت آياته}، فأي تهمة خبيثة يقولها هؤلاء العصرانيون في كتاب الله؟ ألا لعنة الله على الظالمين.
فهؤلاء الزنادقة يحاولون جهدهم إنزال القرآن الكريم على قواعد أهل العجمة ولا يتقيّدون باللسان العربي وقواعده، وذلك كما فسّره الباطنية بأمزجة أئمّتهم، وكما فسّره الفلاسفة على طريقة معلّمهم الأوّل أرسطو، وكما يفسّره هؤلاء على قواعد اليسار وقواعد اليمين، فهذا يفسّره من خلال المنهج المادّي الماركسي، وآخر من خلال منهجه الانقلابي الثوري، وهذا يفسّره من خلال مفاهيم الغرب للدين والأديان، وهذا يفسّره بقانون أهل الحداثة.. وهكذا كلّ منهم يحاول أن يثبت هواه من خلال هذا القرآن العظيم.
ومن أجل هذا نفى الله العجمة عنه، فقال سبحانه: {ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فُصِّلت آياته...}، والعجمة في الناس بمعنيين، أولاهما: غير العربيّ، والثاني: من لا يحسن الإبانة عن نفسه، والقرآن عربيّ ومبين ومفصّل، جلّ متكلّمه سبحانه وتعالى.
وهؤلاء الملحدون في آياته لو أنزله الله أعجميّاً غير عربيّ، ولم يفصّله الله قاطعاً به أعذارهم الواهية لقالوا: لولا أنزل عربيّاً لنفهمه، وكيف يصح أن يكون النبيّ عربياً وكتابه أعجميّاً؟
• {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء}...
هو هدى لما يريدون مِن قادم حياتهم، وشفاء لما وقع في قديمها، هو هدى للحق وللوصول إلى أهداف الإنسان العظيمة، وذلك بالبلوغ إلى رضا الله سبحانه وتعالى، وهو شفاء لما يقع في هذا السلوك من أعراض وأمراض وعوائق، فالقرآن قوّة أبصار وتقوية، وقوّة تجديد وتنقية، هو هادي لكل ما يسأل عنه الإنسان في حياته، وهو شفاء لما يقع في النفوس من ندوب قراع سهام الهوى من نفسه أو من الشيطان، فالقرآن يسدّد ويحمي، وكلّ هذا لا يحصل إلا للمؤمنين به، فلا يهتدي به أولئك الكافرون به والمعرضون عنه، فهو هدى وشفاء للمؤمنين.
وأمّا غير المؤمنين ففي آذانهم وقر وصمّ قد صنعوه بأنفسهم، فكيف يأخذ الدواء سبيله إلى مستقرّه ويعمل عمَله ومسلكه مقفل موصود، ثمّ هم في عماية عن إبصار هداه، فلا يعرفون مواطن الحقّ والهدى والخير التي يكشفها ويفصّلها، فمنافذ القلب من سماع ورؤية معطّلة خربة، وإن من كان هذا شأنه فإنّه إن نودي لن يسمع ولو صرخ عليه بألف صوت - أولئك ينادون من مكان بعيد.
وهكذا فصّلت لنا هذه السورة العظيمة مراتب هؤلاء القوم وحالهم بأشفى بيان وأعظمه، وإنّه ممّا يراه المبصر في طريقة تعامل القرآن مع هؤلاء القوم أنّه تعامل معهم بازدراء واحتقار، فكشف لنا أنّ ما يحصل لهم إنّما هو بسبب جهلهم وفساد قلوبهم وعقولهم، وتعطيل حواس الإدراك والشعور، ولو أنصفوا أنفسهم لسمحوا لهذا النور أن يلج إلى نفوسهم وقلوبهم فيعمل النور عمله بإصلاحهم وتقويمهم.
وإنّه مما تحدّثت به السورة في معالجتها لهؤلاء أن قالت لهم: {قل أرأيتم إن كان من عند الله ثمّ كفرتم به، مَن أضلّ ممن هو في شقاق بعيد}.
فماذا بقي لهؤلاء من عذر أو أي حجّة لهم يوم القيامة عند الله؟
{فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله}.
ثمّ يبيّن سبحانه بعض أدلّة صدق هذا الكتاب العظيم بقوله: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّه الحقّ}.
وهي آية تقيم الحجّة أنّ خالق هذا الكون هو قائل هذا الكلام، فبين التكوين والتشريع تطابق تام {ألا له الخلق والأمر}.
والحمد لله ربّ العالمين
تعليق