إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

سيرة صحابة رسول الله رضي الله عنهم (( متجددة بإستمرار وأرجو المشاركة ))

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #31
    أبو أيوب الأنصاري
    ومَن منا لا يعرف أبا أيوب الأنصاري ؟‍‍‍! .

    فقد رفع الله ذكره في الخافقين ، وأعلى قدره في الأنام ، حين اختار بيته من دون بيوت المسلمين جميعاً ؛ لينزل فيه النبي الكريم لما حلَّ في المدينة مهاجراً وحسبه بذلك فخراً .

    * أقام النبي عليه الصلاة والسلام في بيت أبي أيوب نحواً من سبعة أشهر ، حتى تمَّ بناء مسجده في الأرض الخلاء التي بركت فيها الناقة ، فانتقل إلى الحُجرات التي أقيمت حول المسجد له ولأزواجه ، فغدا جاراً لأبي أيوب .

    ـ حدث ابن عباس قال :

    خرج أبو بكر في الهاجرة إلى المسجد ، فرآه عمر فقال : يا أبا بكر ما أخرجك هذه الساعة؟ .

    قال : ما أخرجني إلا ما أجد من شدة الجوع .

    فقال عمر : وأنا والله ما أخرجني غير ذلك .

    فبينما هما كذلك إذ خرج عليهما رسول الله فقال :

    " ما أخرجكما هذه الساعة ؟ " .

    فقالا : الجوع .

    قال عليه الصلاة والسلام : " وأنا ما أخرجني غير ذلك ، قوما معي " .

    * فانطلقوا إلى أبي أيوب ـ وكان يدَّخر لرسول الله كل يوم طعاماً ـ فلما بلغوا بابه خرجت إليهم أم أيوب وقالت : مرحباً برسول الله ومَن معه.

    وسمع أبو أيوب صوت النبي ، وكان يعملُ في نخل قريب له ، فأقبل يسرع وهو يقول : مرحباً برسول الله وبمن معه . فأخذ أبو أيوب جَدياً فذبحه ، ثم قال لامرأته : اعجني واخبزي لنا . فلما نضج الطعام ووضع بين يدي النبي وصاحبيه ، أخذ الرسول قطعة من الجدي ووضعها في رغيف وقال :

    " يا أبا أيوب بادر بهذه القطعة إلى فاطمة ، فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام " .

    * فلما أكلوا وشبعوا ، قال النبي عليه الصلاة والسلام :

    " خبز ، ولحم ، وتمر ، ورُطب !!! " . ودمعت عيناه ثم قال : " والذي نفسي بيده إن هذا هو النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة ، فإذا أصبتم مثل هذا فقولوا : بسم الله . فإذا شبعتم فقولوا: الحمد لله الذي هو أشبعنا وأنعم علينا فأفضل " .

    * عاش أبو أيوب طول حياته غازياً ، حتى قيل : إنه لم يتخلف عن غزوة غزاها المسلمون منذ عهد الرسول الله إلى زمن معاوية ؛ إلا إذا كان منشغلاً عنها بأخرى .

    * وكانت آخر غزواته حين جهز معاوية جيشاً بقيادة ابنه يزيد لفتح القسطنطينية .

    وكان أبو أيوب آنذاك شيخاً طاعناً في السن ، وهو في الثمانين من عمره ، فلم يمنعه ذلك من أن ينضوي تحت لواء يزيد ، وأن يخوض البحر غازياً في سبيل الله ، لكنه لم يمض غير قليل على منازلة العدو حتى مرض أبو أيوب مرضاً أقعده عن مواصلة القتال ، فجاءه يزيد وسأله : ألك حاجة يا أبا أيوب ؟ .

    ـ فقال : أقرأ عني السلام على جنود المسلمين ، وقل لهم : يوصيكم أبو أيوب أن توغلوا في أرض العدو إلى أبعد غاية ، وأن تحملوه معكم وأن تدفنوه عند أسوار القسطنطينية ، ولفظ أنفاسه الطاهرة .

    * استجاب جند المسلمين لرغبة صَاحب رسول الله ، وكروا على جند العدو حتى بلغوا أسوار القسطنطينية وهم يحملون أبا أيوب معهم ، وهناك حفروا له قبراً ودفنوه فيه .

    رحم الله أبا أيوب ، فقد أبى إلا أن يموت إلا على ظهور الجياد الصافنات ، غازياً في سبيل الله ، وسنه تقارب الثمانين .

    والحمد لله رب العالمين
    القناعة كنز لا يفنى

    تعليق


    • #32
      أُسَيد بن الحُضير

      قدم الفتى المكي مصعب بن عمير إلى يثرب في أول بعثة تبشيرية عرفها الإسلام ، فنزل على أسعد بن زرارة أحد أشراف الخزرج ، واتخذ من داره مقاماً لنفسه ومنطلقاً لنشر دعوته إلى الله عز وجل .


      فجاء مَن أخبر أسيد بن الحضير وسعد بن معاذ ـ وكانا سيديِّ الأوس ـ بأن الداعية المكي قد نزل قريباً من ديارهما ... أخذ أُسيد حربته ومضى نحو مصعب ، فلما رآه أسعد بن زراره مقبلاً قال لمصعب : ويحك يا مصعب ، هذا سيد قومه ، وأرجحهم عقلاً ، فإن يسلم تبعه في إسلامه خلق كثير ، فاصدق الله فيه .. وقف أسيد على الجمع والتفت إلى مصعب وقال : ما جاء بكم إلى ديارنا ؟ وأغراكم بضعفائنا ؟ اعتزلا هذا الحي إذا أردتم أن تبقوا أحياء .


      قال مصعب : يا سيد قومه هل لك في خيرٍ من ذلك ؟ قال : وما هو ؟ قال : تجلس إلينا وتسمع منا ، فإن رضيت ما قلناه قبلته ، وإن لم ترضه تحولنا عنكم ولم نعد .

      قال أسيد : لقد أنصفتَ ، وركز رمحه في الأرض ، وجلس .. فأقبل عليه مصعب يذكر له حقيقة الإسلام ، ويقرأ عليه شيئاً من آيات القرآن ، فقال أسيد : ما أحسن هذا الذي تقول وما أجلَّ ذلك الذي تتلو .. كيف تصنعون إذا أردتم الدخول في الإسلام ؟ قال مصعب : تغتسل ، وتطهر ثيابك ، وتشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ... فانضم في ذلك اليوم إلى كتائب الإسلام فارس من فرسان العرب ، وسيد من سادات الأوس المعدودين .


      كان يلقبه قومه بالكامل ، لرجاحة عقله ، ونبالة أصله ، ولأنه ملك السيف والقلم ، وقد كان إسلامه سبباً في إسلام سعد بن معاذ ، وكان إسلامهما سبباً في أن تسلم جموع غفيرة من الأوس .

      ـ أولع أسيد بن الحضير بالقرآن منذ سمعه من مصعب ولع المحب بحبيبه ، وأقبل عليه إقبال العطشان على الماء العذب ، وجعله شغله الشاغل ، فكان لا يُرى إلا مجاهداً غازياً في سبيل الله ، أو عاكفاً يتلو كتاب الله ... وكان رخيم الصوت مشرق الأداء ، تطيب له قراءة القرآن إذا سكن الليل ، ونامت العيون ، وصفت النفوس ، وقد استعذب أهل السماء تلاوته ، كما استعذبها أهل الأرض .


      ففي ليلة من الليالي كان أسيد بن الحضير جالساً قرب داره ، وابنه يحيى نائم إلى جنبه ، وفرسه مُرتَبطة غير بعيدة عنه ... فتاقت نفس أسيد لتلاوة القرآن فانطلق يتلو بصوته الحنون

      [IMG]http://www.nabulsi.com/************/12others/Dawra1999/1seera/Image37.gif[/IMG]

      فإذا به يسمع فرسه قد جالت جولة كادت تقطع بسببها رباطها ، فسكت فسكنت الفرس وقرت ، فعاد يقرأ

      [IMG]http://www.nabulsi.com/************/12others/Dawra1999/1seera/Image38.gif[/IMG]

      فجالت الفرس جولة أخرى أشد من الأولى .. فسكت فسكنت ، وكرر ذلك مراراً ، فكان إذا قرأ أجفلت الفرس وهاجت ، وإذا سكت سكنت وقرت ... فخاف على ابنه يحيى أن تطأه .. فنظر إلى السماء فرأى غمامة كالظلة لم تر العيون أبهى منها ، قد عُلِّق بها أمثال المصابيح ، فملأت الآفاق ضياءً وسناءً ، وهي تصعد إلى الأعلى حتى غابت عن ناظريه ، فلما أصبح مضى إلى رسول الله ، وقصَّ عليه الخبر ، فقال له عليه الصلاة والسلام : تلك الملائكة كانت تستمع إليك يا أسيد ، ولو أنك مضيت في قراءتك لرآها الناس ولم تستتر منهم " .


      وكما أولع أسيد بكتاب الله فقد أولع برسول الله ، وقد كان الرسول صلوات الله عليه وسلامه يبادله حباً بحب ، ويحفظ له سابقته في الإسلام وذوده عنه يوم أحد حتى إنه طُعن سبع طعنات مميتات في ذلك اليوم .


      مات أسيد بن الحضير في خلافة عمر بن الخطاب ، فوجد عمر أن عليه أربعة آلاف درهم ديناً ، فأراد ورثته بيع أرضه لو فاء ديونه ، فلما عرف عمر ذلك قال : لا أترك بني أخي أسيد عالة على الناس ، ثم كلَّم الغرماء فرضوا بأن يشتروا منه ثمر الأرض أربع سنين كل سنة بألف .
      القناعة كنز لا يفنى

      تعليق


      • #33
        عتبة بن غزوان

        أوى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعد صلاة العشاء إلى مضجعه فقد كان يريد أن يصيب حظاً من الراحة ؛ ليستعين به على العسِّ في الليل .

        لكن النوم نفر عن عيني الخليفة ؛ لأن البريد حمل إليه أن جيوش الفرس المنهزمة أمام المسلمين يأتيها المدد من هنا وهناك ، فلا تلبث أن تستعيد قوتها وتستأنف القتال .

        وقيل له : إن مدينة الأُبُلَّة تعد من أهم المصادر التي تمد جيوش الفرس فعزم على أن يرسل جيشاً لفتح الأبلة ، وقطع إمداداتها عن الفرس لكنه اصطدم بقلة الرجال عنده ... فعمد إلى طريقته التي عرف بها وهي التعويض عن قلة الجند بقوة القائد .. وكان قد أضمر في نفسه الشخص الذي يصلح لذلك .

        ولما أصبح الصبح قال : ادعوا لي عتبة بن غزوان ، وعقد له الراية على ثلاثمائة وبضع عشر رجلاً ... ولما عزم الجيش الصغير على الرحيل ، وقف الفاروق يودِّع عتبة ويوصيه قائلاً :

        يا عتبة : إني قد وجهتك إلى أرض الأبلة ، فأرجوا الله أن يعينك عليها ، فإذا نزلت بها فادع قومها إلى الله ، فمن أجابك فاقبل منه ، ومن أبى فخذ منه الجزية ، وإلا فضع في رقابهم السيف ... واتق الله يا عتبة فيما وُليت عليه ، وإياك أن تنازعك نفسك في كبر يفسد عليك آخرتك واعلم أنك صحبت رسول الله فأعزك الله بعد الذلة ، وقواك بعد الضعف حتى صرت أميراً مطاعاً ، تقول فيسمع منك فيا لها من نعمة إذا هي لم تبطرك ، وتخدعك ، وتهو بك إلى جهنم ، أعاذك الله وأعاذني منها .


        ـ كانت الأبلة التي اتجه إليها عتبة بن غزوان مدينة حصينة ، وكان الفرس قد اتخذوها مخازن لأسلحتهم ، ولكن ذلك لم يمنع عتبة من غزوها ، على الرغم من قلة رجاله ، وضآلة سلاحه ، وكان لابد له من أن يستعمل ذكاءه :


        ـ أعدَّ عتبة للنسوة رايات ، أعدها على أعواد الرماح ، وأمرهن أن يمشين بها خلف الجيش ، وقال لهن : إذا نحن اقتربنا من المدينة ، فأثرن التراب وراءنا حتى تملأن به الجو ... فلما دنوا من الأبلة ، خرج إليهم جند الفرس فرأوا إقدامهم عليهم ، ونظروا إلى الرايات التي تخفق وراءهم ، ووجدوا الغبار يملأ الجو خلفهم ، فقال بعضهم لبعض: إنها طليعة العسكر ، وإن وراءهم جيشاً جراراً ، يثير الغبار ، ونحن قلة..

        ثم دبَّ في قلوبهم الذعر ، فأخذوا يحملون ما خفَّ وزنه وغلا ثمنه ويفرُّوا هاربين .

        ودخل عتبة الأبلة دون أن يفقد واحداً من رجاله ، ثم فتح ما حولها من المدن والقرى ، وغنم من ذلك غنائم كبيرة .


        ـ عند ذلك رأى عتبة أن إقامة جنوده في المدن المفتوحة سوف تعودهم على لين العيش ، وتفلُّ من حدة عزائمهم على مواصلة القتال . فكتب إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في بناء مدينة البصرة ، فأذن له .


        ـ اختط عتبة المدينة الجديدة ، وكان أول ما بناه مسجدها العظيم ، ثم تسابق الجند على اقتطاع الأرض وبناء البيوت ، لكن عتبة لم يبق لنفسه بيتاً ، وإنما ظل يسكن خيمة من الأكسية، وكان قد أسرَّ في نفسه أمراً..

        فجمع الناس في مسجد الكوفة ، وقال : أيها الناس إن الدنيا قد آذنت بالانقضاء ، وأنتم منتقلون عنها إلى دار لا زوال فيها ، فانتقلوا إليها بخير أعمالكم ، ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله وما لنا طعام غير ورق الشجر ، حتى تقرحت أشداقنا منه ، ولقد التقطت بردة ذات يوم فشققتها بيني وبين سعد بن أبي وقاص ، فاتزرتُ بنصفها ، واتزر سعد بنصفها الآخر ، فإذا نحن لم يبق واحد منا إلا وهو أمير على بلد من البلاد ، وإني أعوذ بالله أن أكون عظيماً في نفسي .. صغيراً عند الله .


        ثم استخلف عليهم رجلاً منهم وودعهم ومضى إلى المدينة ، فلما قَدم على الفاروق ، واستعفاه من الولاية فلم يعفه ، فألح عليه ، فأصر عليه الخليفة ، وأمره بالعودة إلى البصرة ، فأذعن لأمر عمر كارهاً ، وركب ناقته وهو يقول :

        اللهم لا تردني إليها ... فاستجاب الله دعوته إذ لم يبعد عن المدينة كثيراً حتى فارق الحياة .
        القناعة كنز لا يفنى

        تعليق


        • #34
          عبد الله بن مسعود

          ـ في ذات يوم أبصر الغلام المكي عبد الله بن مسعود رجلين عليهما الوقار يتجهان نحوه من بعيد ، وقد أخذ الجهد منهما كل مأخذ ، وأشتد عليهما الظمأ حتى جفت منهما الحلوق والشفاه .. فلما وقفا عليه سلَّما وقالا : يا غلام احلب لنا من هذه الشياه ما نطفئ به ظمأنا ، ونبل به عروقنا .

          قال الغلام : لا أفعل فالغنم ليست لي ، وأنا عليها مؤتمن ، فبدا الرضا على وجوه الرجلين، ثم قال أحدهما له : دلني على شاة جف ضرعها ، فأشار الغلام إلى شاة صغرة قريبة منه ، فتقدم الرجل وجعل يمسح ضرعها بيده وهو يذكر اسم الله عليها ، فامتلأ ضرعها لبناً ، فأخذ الرجل الآخر حجراً مجوفاً من الأرض ، وملأه باللبن وشرب منه هو وصاحبه ، ثم سقياني منه ، وأنا لا أكاد أصدق ما أرى .


          ـ كانت هذه بداية قصة عبد الله بن مسعود مع الإسلام ، فهذان الرجلان لم يكونا إلا النبي عليه الصلاة والسلام ، وأبو بكر الصديق .

          لم يمض غير قليل حتى أسلم ابن مسعود ، وعرض نفسه على رسول الله ليخدمه فقبله رسول الله . لزم عبد الله رسول الله ملازمة الظل لصاحبه ، فكان يرافقه داخل بيته وخارجه .


          ـ رُبِّي عبد الله في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاهتدى بهديه وتخلق بشمائله ، وتابعه في كل خصلة من خصاله ، حتى قيل عنه : إنه أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدياً وسمتاً .

          ولقد قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سرَّه أن يقرأ القرآن رطباً كما نزل ، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد .


          ـ ولقد بلغ من علم عبد الله بن مسعود بكتاب الله أن كان يقول : والله الذي لا إله غيره ، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت وفيمَ نزلت ، ولو أعلم أن أحداً أعلم مني بكتاب الله لأتيته .


          ـ لم يكن عبد الله بن مسعود مبالغاً فيما قال ، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلقى ربكاً في سفر من أسفاره ، والليل مخيم يحجب الركب بظلامه ، فأمر عمر رجلاً أن يناديهم :

          ـ من أين القوم ؟ فأجابوه : من الفج العميق .

          ـ قال عمر : أين تريدون ؟ قالوا البيت العتيق .

          ـ قال عمر : إنك فيهم عالماً ...

          ـ فناداهم : أي القرآن أعظم ؟ فأجابوه : اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ .

          [سورة البقرة]

          ـ فناداهم : أي القرآن أحكـم ؟ فأجابوه : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .

          [سورة النحل]

          ـ فناداهم : أي القرآن أجمـع ؟ فأجابوه : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه .

          [سورة الزلزلة]

          ـ فناداهم : أي القرآن أخوف ؟ فأجابوه : لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا .

          [سورة النساء]

          ـ فناداهم : أي القرآن أرجى ؟ فأجابوه : قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .

          (سورة الزمر)

          ـ فناداهم : عمر : أفيكم عبد الله بن مسعود .. ؟ قالوا : اللهم نعم .


          ـ عاش ابن مسعود إلى زمن خلافة عثمان ، فلما مَرض مَرض الموت جاءه عثمان زائراً، فقال له :

          ـ ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي .

          ـ قال : فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي .

          ـ قال : ألا آمر لك بطبيب ؟ قال : الطبيب أمرضني .

          ـ قال : ألا آمر لك بعطائك الذي لم تأخذه منذ سنين ، يكون لبناتك من بعدك ؟ قال : أتخشى على بناتي الفقر ؟ّ ، إني أمرتهن أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من قرأ الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة .
          القناعة كنز لا يفنى

          تعليق


          • #35
            عكرمة بن أبي جهل

            كان من أكرم قريش حسباً ، وأكثرهم مالاً ، وأعزهم نسباً ... هذا هو عكرمة بن أبي جهل، أحد أبرز فرسان قريش المرموقين .


            ـ وجد عكرمة بن أبي جهل نفسه مدفوعاً ـ بحكم زعامة أبيه إلى معاداة محمد وأصحابه، فعاداه أشد العداء ، وصب على المسلمين ما قرت به عين أبيه .

            ولما قاد أبوه معركة الشرك يوم بدر ، وأقسم باللاة والعزى ألا يعود إلى مكة إلا إذا هزم محمد ... ولكن اللاة والعزى لم يلبيا نداء أبي جهل؛ لأنهما لا يسمعان .. فخرَّ صريعاً في بدر، ورآه ابنه عكرمة بعينه ورماح المسلمين تنهل منه ... فزادت عداوة عكرمة لرسول الله شدة وأصبح له مع الإسلام ثأر أبيه ... فخاض مع المشركين معركة أحد والخندق ... وفي يوم فتح مكة رأت قريش ألا تقاتل محمداً ؛ لأنها لا تستطيع ذلك فأخلت له مكة ، لكن عكرمة ونفراً معه تصدَّوا لقتال المسلمين ، فهزمهم خالد بن الوليد في معركة صغيرة ، ولاذ عكرمة بالفرار .. وعفا رسول الله عن كل مَن آذاه من قريش ، لكنه استثنى نفراً وأمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة ، وكان من بين هؤلاء عكرمة ، لذا تسلل متخفياً واتجه نحو اليمن يريد الهروب ..


            عند ذلك مضت أم حكيم زوج عكرمة إلى منزل رسول الله ، وقالت : يا رسول الله : قد هرب منك عكرمة إلى اليمن خوفاً من أن تقتله ، فأمِّنه أمَّنك الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : " هو آمن " فخرجت من ساعتها في طلبه ، حتى أدركته عند ساحل البحر ، فقالت : يا ابن عم جئتك من عند أفضل الناس ، وأبرِّ الناس ، من عند محمد ، وقد استأمنتُ لك منه ، فلا تهلك نفسك ... فعاد معها ، ولما وصل عكرمة إلى رسول الله وقف بين يديه ، وقال : إلامَ تدعو يا محمد ؟ قال : أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأني عبد الله ورسوله ، وأن تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة .. حتى عدَّله أركان الإسلام . قال عكرمة : واللهِ ما دعوت إلا إلى حق ، ثم قال : قد كنتَ فينا ـ والله ـ قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه أصدقنا حديثاً ، وأبرنا براً ... ثم بسط يديه ونطق بالشهادتين .

            ثم قال عكرمة : يا رسول الله ، علمني خير شيء أقوله . قال : تقول: لا إله إلا الله ، محمداً عبده ورسوله .

            فقال له رسول الله : اليوم لا تسألني شيئاً إلا أعطيتك إياه .

            فقال عكرمة : إني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها ، أو كلام سوء قلته فيك .

            فقال عليه الصلاة والسلام : اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها ، وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد إطفاء نورك واغفر له ما نال من عرضي في وجهي أو أنا غائب " .

            فقال عكرمة : أما والله يا رسول الله لا أدع نفقة كنت أنفقتها في صدٍّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله ، ولا قتالاً قاتلته صداً عن سبيل الله إلا قاتلت ضعفه في سبيل الله .


            ومنذ ذلك اليوم انضم إلى موكب الدعاة فارس باسل في ساحات القتال عبَّاد قوَّام قرَّاء لكتاب الله ، في المساجد ؛ فقد كان يضع المصحف على وجهه قائلاً : كتاب ربي ... كلام ربي وهو يبكي من خشية الله .


            وفي يوم اليرموك أراد عكرمة أن يشق صفوف الروم ، فنهاه خالد قائلاً : لا تفعل يا عكرمة فإن قَتْلك سيكون شديداً على المسلمين ، فقال عكرمة :


            لقد قاتلتُ رسول الله في مواطن كثيرة ، وأهرب اليوم من الروم ... لن يكون هذا أبداً . ولما انجلت معركة اليرموك عن ذلك النصر المؤزر للمسلمين ، كان يتمدد على الأرض ثلاثة مجاهدين أثخنتهم الجراح ، هم: الحارث بن هشام ، عياش بن أبي ربيعة ، عكرمة بن أبي جهل .


            فدعا الحارث بماء ليشربه ، فلما قربوه منه نظر إليه عكرمة فقلا : ادفعوه إليه ، فلما قربوه نظر إليه عياش فقال : ادفعوه إليه .. فلما دنوا من عياش وجدوه قد فارق الحياة ، فلما عادوا إلى صاحبيه وجدوهما قد لحقا به ، رضي الله عنهم جميعاً ،

            وسقاهم من الكوثر شربة لا يظمئون بعدها .

            وحباهم خضراء الفردوس يرتعون فيها أبداً


            *****
            القناعة كنز لا يفنى

            تعليق


            • #36
              معاذ بن جبل

              ـ أسلم الفتى معاذ بن جبل على يدي الداعية المكي مصعب بن عمير ، وفي ليلة العقبة امتدت يده فصافحت يد النبي الكريم وبايعته ...


              ـ وما إن عاد معاذ بن جبل من مكة ، حتى كوَّن هو ونفر صغير من أصدقائه جماعةً لكسر الأوثان ، وانتزاعها من بيوت المشركين في يثرب في السرِّ ، أو في العلن .

              وكان من أثر حركة هؤلاء الفتيان إسلام رجل كبير في المدينة هو عمر بن الجموح .

              ـ ولما قدم الرسول الكريم على المدينة مهاجراً لزمه معاذ بن جبل ملازمة الظل لصاحبه ، فأخذ عنه القرآن ، وتلقى عليه شرائع الإسلام ، حتى غدا من أقرأ الصحابة لكتاب الله ، وأعلمهم بشرعه .


              ـ حدَّث يزيد بن قطيب ـ وهو أحد التابعين ـ دخلتُ مسجد حمص فإذا أنا بفتىً جعد الشعر ، قد اجتمع حوله الناس ، فإذا تكلم كأنما يخرج من فيه نور ولؤلؤ ..


              ـ وروى أبو مسلم الخولاني قال : أتيتُ مسجد دمشق ، فإذا حلقة كهول من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ... وإذا شاب فيهم أكحل العينين براق الثنايا ، كلما اختلفوا في شيء ردوه إلى الفتى ، فقلت لجليس لي : من هذا الفتى ؟ فقال معاذ بن جبل .


              ـ وحسب معاذ شهادة أن يقول عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم :

              " أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل " .


              ـ ولما جاءت رسل ملوك اليمن إلى رسول الله تعلن إسلامها وإسلام مَن ورائها ، وتسأله أن يبعث معها من يعلِّم الناس دينهم ، انتدب لهذه المهمة نفراً من الدعاة ، وأمَّر عليهم معاذ بن جبل رضي الله عنه ... وقد خرج النبي عليه الصلاة والسلام يودِّع بعثة الهدى والنور هذه ، وأخذ يمشي تحت راحلة معاذ ، ومعاذ راكب ، ثم أوصاه وقال : يا معاذ إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا ، فبكى معاذ جزعاً لفراق نبيه ، وبكى معه المسلمون .


              ـ وفي أيام الفاروق أرسل إليه واليه على الشام يقول :

              يا أمير المؤمنين إن أهل الشام قد كثروا ، وملئوا المدائن واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ، ويفقههم بالدين ، فأعنِّي ـ يا أمير المؤمنين ـ برجال يعلِّمونهم . فدعا عمر النفر الخمسة الذين جمعوا القرآن في زمن النبي عليه الصلاة والسلام وهم : معاذ بن جبل ، وعبادة بن الصامت ، وأبو أيوب الأنصاري ، وأبي بن كعب ، وأبو الدرداء .

              قال لهم عمر : إن إخوانكم من أهل الشام قد استعانوني بمن يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين ، فأعينوني بثلاثة منكم ، فإن أحببتم فاقترعوا... وإلا انتدبت ثلاثة منكم .

              فقالوا : ولِمَ نقترع ؟ أبو أيوب شيخ كبير ، وأبيُّ رجل مريض ، وبقينا نحن الثلاثة .

              فقال عمر : ابدؤوا بحمص ، فإذا رضيتم حال أهلها فخلفوا أحدكم فيها وليخرج وأحد منكم إلى دمشق ، والآخر إلى فلسطين .

              فقام أصحاب رسول الله الثلاثة بما أمرهم به الفاروق في حمص ، ثم تركوا فيها عبادة بن الصامت ، وذهب أبو الدرداء إلى دمشق ، ومضى معاذ بن جبل إلى فلسطين .

              وهناك أصيب معاذ بالطاعون فلما حضرته الوفاة جعل يقول :

              ـ مرحباً بالموت مرحباً .

              ـ زائر جاء بعد غياب .

              ـ وحبيب وفد على شوق .

              ثم جعل ينظر إلى السماء ويقول :

              اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا ، وطول البقاء فيها لغرس الأشجار ، وجري الأنهار ..

              ولكن لظمأ الهواجر ، ومكابدة الساعات ، ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَق الذكر .

              اللهم فتقبل نفسي بخير ما تتقبل به نفساً مؤمنة .

              ثم فاضت روحه بعيداً عن الأهل والعشير ، داعياً إلى الله مهاجراً في سبيله .


              *****
              القناعة كنز لا يفنى

              تعليق


              • #37
                أبو هريرة الدوسي

                ـ وهل في أمة الإسلام أحد لا يعرف أبا هريرة ؟ .

                أسلم أبو هريرة وظل في أرض قومه (دَوْس) إلى ما بعد الهجرة بست سنين ، حيث جاء مع وفد من قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة .


                ـ وقد انقطع أبو هريرة لخدمة الرسول صلوات الله وسلامه عليه وأحبه حباً خالط لحمه ودمه .

                وكان يقول : ما رأيت شيئاً أملح ولا أصبح من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ حتى لكأن الشمس تجري في وجهه .. وكما أولع أبو هريرة برسول الله ، فقد أولع بالعلم وجعله غاية ما يتمناه .. وكما أحب أبو هريرة العلم لنفسه ، أحبه لغيره ، من ذلك : مرَّ ذات يوم بسوق المدنية ، فهاله انشغال الناس بالدنيا ، واستغراقهم بالبيع والشراء ، فوقف عليهم وقال : ما أعجزكم يا أهل المدينة ..

                فقالوا : وما رأيت من عجزنا يا أبا هريرة ؟ .. فقال : ميراث رسول الله يقسم وأنتم هنا . ألا تذهبون وتأخذون نصيبكم ؟ ، قالوا : وأين هو يا أبا هريرة ؟ قال : في المسجد . فخرجوا سراعاً ، ووقف لهم أبو هريرة حتى رجعوا ، فلما رأوه قالوا : يا أبا هريرة لقد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نر شيئاً يُقسَّم .

                فقال لهم : ويحكم أما رأيتم في المسجد أحداً ؟ . قالوا : بلى رأينا قوماً يصلون ، وقوماً يقرؤون القرآن ، وقوماً يتذاكرون في الحلال والحرام .

                فقال : ويحكم ذلك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم .


                ـ وقد عانى أبو هريرة بسبب انصرافه للعلم ، وانقطاعه لمجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما لم يعانه أحد من الجوع وخشونة العيش .


                ـ لم يمض زمن طويل على ذلك حتى فاضت الخيرات على المسلمين وتدفقت عليهم غنائم الفتح؛ فصار لأبي هريرة مال ، ومنزل ، ومتاع وزوج وولد .

                غير أن ذلك كله لم يُغيِّر من نفسه الكريمة شيئاً ، ولم ينسه أيامه الخالية ؛ فكثيراً ما كان يقول : نشأت يتيماً ، وهاجرت مسكيناً ، وكنت أجيراً لامرأة وكنت أخدم القوم إذا نزلوا ، فزوجنيها الله .


                ـ وقد جمع أبو هريرة إلى وفرة علمه وسماحة نفسه التقى والورع ؛ فكان يصوم النهار ، ويقوم ثلث الليل ، ثم يوقظ زوجته فتقوم ثلثه الثاني ، ثم توقظ هذه ابنتها فتقوم ثلثه الأخير .. فكانت العبادة لا تقطع في بيته طوال الليل .


                ـ وكانت ابنته تقول له : يا أبت إن البنات يعيرنني ؛ فيقلن : لم لا يحليك أبوك بالذهب ؟ .

                فيقول : يا بُنية قولي لهنَّ : إن أبي يخشى عليَّ حر اللهب .


                ـ ولما مرض أبو هريرة مرض الموت بكى ...

                فقيل له : ما يبكيك يا أبا هريرة ؟ .

                فقال : أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ؛ ولكنني أبكي على بعد السفر ، وقلة الزاد ، لقد وقفت في نهاية طريق ينتهي بي إلى الجنة أو النار ، ولا أدري في أيهما أكون .

                ثم قال : اللهم إني أحب لقاءك ، فأحبب لقائي ، وعجل لي فيه .

                رحم الله أبا هريرة ؛ فقد حفظ للمسلمين الكثير من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                فجزاه الله عن المسلمين خير الجزاء .


                *****
                القناعة كنز لا يفنى

                تعليق


                • #38
                  الصحابي عمير بن سعد

                  ـ عاش عمير بن سعيد يتيماً منذ نعومة أظفاره ؛ فقد مات أبوه دون أن يترك مالاً أو مُعيلاً، لكن أمه ما لبثت أن تزوجت أحد أثرياء الأوس ، اسمه الجلاس بن سويد ، فكفل ابنها عميراً وضمه إليه .


                  ـ وقد أسلم الفتى عمير بن سعيد ، وهو صغير لم يجاوز العاشرة من عمره إلا قليلاً ، وكان على حداثة سنه لا يتأخر عن صلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت أمه تغمرها الفرحة كلما رأته ذاهباً إلى المسجد أو راجعاً منه ، تارةً مع زوجها ، وتارة وحده .


                  ـ ثم إن عميراً تعرض لتجربة قاسية جداً : ففي السنة التاسعة للهجرة أعلن الرسول صلوات الله وسلامه عليه عزمه على غزو الروم في تبوك وأمر المسلمين أن يستعدوا لذلك .

                  وكان الحرُّ قد اشتدَّ ، والثمار قد أينعت ، والنفوس قد ركنت إلى التكاسل ، على الرغم من ذلك كله فقد لبى المسلمون دعوة نبيهم ، وأخذوا يستعدون .


                  وفي يوم من الأيام التي سبقت رحيل الجيش ، عاد الغلام عمير بن سعد إلى بيته بعد أداء الصلاة في المسجد ، وقد امتلأت نفسه بطائفة مشرقة من صور بذل المسلمين ؛ فقد رأى نساء الأنصار والمهاجرين يقبلن على رسول الله ، وينزعن حليِّهنَّ ويلقينه في يديه ليجهز بثمنه الجيش الغازي في سبيل الله .

                  ورأى عثمان بن عفان يأتي بجراب فيه ألف دينار ذهباً ، ويقدِّمه للنبي عليه صلوات الله وسلامه ... وغيرها كثير .


                  وكأنما أراد عمير أن يستثير همة الجلاس ، ويبعث الحمية في نفسه فأخذ يقص عليه أخبار ما سمع ورأى ، .. لكن الجلاس ما كاد يسمع من عمير ما سمع حتى نطق بكلمة إطارت صواب الفتى المؤمن .

                  إن كان محمد صادقاً فيما يدعيه من النبوة فنحن شر من الحمير ...

                  وكان على الفتى أن يختار بين أمرين ، أحلاهما مُرٌّ . وسرعان ما اختار فقال للجلاس : والله يا جلاس ، ما كان على ظهر الأرض بعد محمد أحب إلي منك ، ولقد قلت مقالة إن ذكرتها فضحتك ، وإن أخفيتها خنت أمانتي ، وأهلكت نفس وديني . وقد عزمتُ على أن أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلتَ ، فكن على بينة من أمرك .

                  مضى عمير إلى النبي ، وأخبره بما سمع من الجلاس ، فاستدعى النبي الجلاس وقال له :

                  ما مقالة سمعها منك عمير بن سعد ؟ .

                  فقال : كذب عليَّ يا رسول الله وافترى ، فما تفوهت بشيء من ذلك .

                  والتفت رسول الله إلى عمير فرأى وجهه قد احتقن بالدم ، والدموع تتحدر مدراراً من عينيه، وهو يقول :

                  اللهم أنزل على نبيك بيان ما تكلمت به .

                  فقال الجلاس : إني أحلف بالله إني ما قلتُ شيئاً مما نقله لك عمير .

                  فما إن انتهى من حلفه ، وأخذت عيون الناس تنتقل عنه إلى عمير بن سعد حتى نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

                  وهنا ظهر الخوف على وجه الجلاس ، وبدا التلهف على وجه عمير ، وظل الجميع كذلك حتى ذهب الوحي عن رسول الله ، فتلا قوله الله عز وجل :



                  [سورة التوبة]

                  فارتعد الجلاس من هول ما سمع ، وقال : بل أتوب يا رسول الله .. بل أتوب . صدق عمير وكنتُ من الكاذبين ، اسألِ الله أن يقبل توبتي يا رسول الله .

                  عاد الجلاس إلى الإسلام وحسن إسلامه ، وكان يقول كلما ذُكر عمير: جزاه الله عني خيراً، فقد أنقذني من الكفر ، وأعتق رقبتي من النار .


                  ****
                  القناعة كنز لا يفنى

                  تعليق


                  • #39
                    عمير بن سعد 2

                    ـ كان أهل حمص شد يدي التذمر من ولا تهم ، فعزم الفاروق على أن يبعث عليهم بوالٍ لا يجدون فيه مطعناً ، فوقع اختياره على عمير بن سعد .

                    وعلى الرغم من أن عميراً كان إذ ذاك يضرب في الأرض مجاهداً في سبيل الله ، فقد دعاه أمير المؤمنين ، وعَهِد إليه بولاية حمض .


                    ـ قضى عمير بن سعد عاماً كاملاً في حمص ، لم يكتب خلاله لأمير المؤمنين كتباً ، ولم يبعث إلى بيت مال المسلمين درهماً ولا ديناراً ، فشك عمر فيه ، وبعث إليه رسالة يأمره فيها بالحضور إليه .


                    ـ تلقى عمير بن سعد كتاب عمر رضي الله عنه ، فأخذ كيس طعامه ، وحمل على عاتقه قصعته ووعاء وضوئه ، وأمسك بيده حربته ، وأنطلق ما شياً إلى المدينة .

                    فما كاد يبلغ المدينة حتى كان قد شحب لونه ، وهزل جسمه ، وطال شعره .. دخل عمير على أمير المؤمنين ، فدُهش من حاله ، وقال : ما بك يا عمير ؟ .

                    قال : ما بي من شيء ، فأنا صحيح معافى ، أحمل معي الدني كلها ، وأجرها من قرنيها . فقال عمر : وما معك من الدنيا ؟ ـ وهو يظن أنه يحمل مالاً لبيت مال المسلمين .

                    فقال : معني كيسي وقد وضعت فيه زادي . ومعي قصعتي آكل فهيا ، وأغسل عليها رأسي وثيابي . ومعي قِربة لوضوئي وشرابي .

                    ثم إن الدنيا كلها ـ يا أمير المؤمنين ـ تبع لمتاعي هذا ، وفضلة لا حاجة لي فيها .

                    فقال عمر : وهل جئت ما شياً ؟ . قال : نعم يا أمير المؤمنين .

                    فقال : أما أُعطيت من الإمارة دابة تربكها ؟ . قال : هم لم يعطوني ، وأنا لم أسألهم .

                    فقال عمر : وأين ما أتيت به لبيت المال ؟ . قال : لم آت بشيء .

                    قال : ولمَ ؟ . فقال : لما وصلت إلى حمص ، جمعتُ صلحاء أهلها ، ووليتهم جمع المال ، فكانوا كلما جمعوا شيئاً منه ، استشرتهم في أمره ووضعته في مواضعه ، وأنفقته على المستحقين منهم .

                    فقال عمر لكاتبه : جدِّد عهداً لعمير على ولاية حمص .

                    فقال عمير : هيهات ... فإن ذلك شيء لا أريده ، ولن أعمل لك ولا لأحدٍ بعدك يا أمير المؤمنين .

                    ثم استأذنه بالذهاب إلى قرية في ضواحي المدين يقيم بها أهله .


                    ـ بعد وقت قصير أراد عمر الفاروق أن يختبر عميراً ، وأن يستوثق من أمره ؛ فقال لواحد من ثقاته يُدعى الحارث : انطلق يا حارث إلى عمير بن سعد ، وأنزل به كأنك ضيف ، فإن رأيت عليه آثار نعمة فعد كما أتيت ، وإن وجدتَ حالاً شديدة فأعطه هذه الدنانير ...

                    أقام الحارث في ضيافة عمير بن سعد ثلاث ليالٍ ، فكان يُطعمه في كل ليلة قرصاً من الشعير ؛ عند ذلك أخرج الحارث الدنانير وأعطاها لعمير ،قال عمير : ما هذه ؟ . قال الحارث: بعث بها إليك أمير المؤمنين . فقال : ردَّها إليه ، وقل له لا حاجة لعمير بها ، فصاحت امرأته : خذها يا عمير ، فإن احتجت إليها أنفقتها ، إلا وضعتها في موضعها ، فالمحتاجون هنا كثير .

                    وهذا ما كان فقد قسم عمير المال بين فقراء الناس .


                    ـ عاد الحارث إلى المدينة فقال له عمر : ما رأيت يا حارث ؟ .

                    فقال : حالاً شديدة يا أمير المؤمنين ، فقال : أدفعت إليه الدنانير ؟ قال: نعم قال عمر : وما صنع بها ؟ قال : لا أدري ، وما أظنه يُبقي لنفسه درهماً واحداً .

                    فكتب الفاروق إلى عمير يأمر بالحضور إليه .. فلما دخل عليه ، سلم عليه عمر ، وجلس قريباً منه ، وقال له : ما صنعت بالدنانير يا عمير ؟ قال : وما عليك منها يا عمر بعد أن خرجتَ لي عنها ؟ . قال عمر : عزمتُ عليك أن تخبرني بما صنعت .

                    فقال عمير : ادخرتها لنفسي يوم لا ينفع مال ولا بنون .

                    فدمعت عينا عمر ، وقال : أشهد أنك من الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ثم أمر له بطعام كثير ، وثوبين ، فقال عمير : أما الطعام فلا حاجة لنا به يا أمير المؤمنين ، فقد تركت عند أهلي صاعين من شعير ، وإلى أن نأكلها يكون الله عز وجل قد جاءنا بالرزق ... وأما الثوبان فآخذهما لأم فلان (يعني زوجته) فقد بليَ ثوبها .


                    ـ ولم يمض وقت طويل بعد ذلك حتى لحق عمير بن سعد بربه قرير العين .

                    فلما بلغ عمر بن الخطاب نبأ وفاته ، حزن حزناً شديداً وقال : وددت لو أن لي رجالاً مثل عمير بن سعد أستعين بهم في أعمال المسلمين .




                    *****
                    القناعة كنز لا يفنى

                    تعليق


                    • #40
                      أبو طلحة الأنصاري
                      بدأت قصة إسلام أبي طلحة يوم أراد أن يخطب أم سُليم ، حيث ذهب إليها فلما بلغ منزلها ، واستأذن إليها ، فعرض نفسه عليها .

                      ـ فقالت : إن مثلك يا أبا طلحة لا يُرد ، ولكني لن أتزوجك فأنت رجل كافر .

                      ـ فقال : والله ما هذا الذي يمنعكِ مني يا أم سليم .

                      ـ قالت : فماذا إذاً ؟!

                      ـ قال : الذهب والفضة . " يعني أنها آثرت غيره عليه أكثر غنىً منه " .

                      ـ قالت : بل إني أشهِدك يا أبا طلحة ، وأشهد الله ورسوله ؛ أنك إن أسلمت رضيت بك زوجاً ، وجعلت إسلامك لي مهراً .

                      فلما سمع أبو طلحة كلام أم سليم ، انصرف ذهنه إلى صنمه الذي اتخذه من الخشب ، يتوجه إليه بالعبادة .

                      ـ هنا قالت أم سليم : ألست تعلم يا أبا طلحة أن إلهك الذي تعبده من دون الله قد نبت من الأرض؟!

                      ـ فقال : بلى .

                      ـ قالت : ألا تشعر بالخجل وأنت تعبد جزع شجرة ، جعلت بعضه لك إلهاً، بينما جعل غيرك بعضه الآخر وقوداً يخبز عليه عجينه ؟!

                      ـ قال : ومَن لي الإسلام ؟ .

                      ـ قالت : أنا أعلمك كيف تدخل فيه : تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، ثم تذهب إلى بيتك فتحطم صنمك وترمي به .

                      ففعل أبو طلحة كل ذلك .. ثم تزوَّج من أم سليم . فكان المسلمون يقولون :

                      " ما سمعنا بمهر قط كان أكرم من مهر أم سليم ، فقد جعلت مهرها الإسلام".

                      أحب أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، فكان يديم النظر إليه ولا يرتوي من الاستماع إلى عذب حديثه .

                      فلما كان يوم أُحد ؛ انكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ، فنفذ إليه المشركون من كل جانب ، فكسروا رَباعيته ، وشجوا جبينه ، وجرحوا شفته ، وأسالوا الدم على وجهه .

                      انتصب أبو طلحة أمام رسول الله كالجبل الراسخ ، ووقف عليه الصلاة والسلام خلفه يتترس به ، وأخذ أبو طلحة يرمي سهامه على جنود المشركين واحداً بعد واحد ، وما زال أبو طلحة ينافح عن رسول الله حتى كسر ثلاث أقواس ، وقتل كثيراً من جند المشركين ...

                      كان أبو طلحة جواداً بنفسه في ساعات البأس ، وكان جواداً بماله في مواقف البذل :

                      * من ذلك أنه كان له بستان من نخيل وأعناب لم تعرف المدينة بستاناً أعظم منه شجراً ، ولا أطيب ثمراً ، ولا أعذب منه ماءً .

                      * وبينما كان أبو طلحة يصلي في بستانه ، أثار انتباهه طائر أخضر اللون ، أحمر المنقار ، فأعجبه منظره ، وشرد عن صلاته بسببه ، فلم يدرِ كم صلى ثلاثاً أم أربعاً . فلما فرغ من صلاته ذهب إلى رسول الله ، وشكا له نفسه التي شغلها البستان والطائر عن الصلاة ، ثم قال : أشهد يا رسول الله أني جعلت هذا البستان صدقة لله تعالى ، فضعه حيث يحب الله ورسوله .

                      * عاش أبو طلحة حياته صائماً مجاهداً ، فقد أثر عنه أنه بقي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم نحواً من ثلاثين عاماً صائماً ، لم يفطر إلا حيث يَحرم الصوم .

                      * ولما عزم المسلمون على أن يغزوا في البحر في خلافة عثمان رضي الله عنه ، أخذ أبو طلحة يجهز نفسه للخروج مع المسلمين ، فقال له أبناؤه :

                      " يرحمك الله يا أبانا ، لقد صرت شيخاً كبيراً ، وقد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ، فهلا رَكَنتَ إلى الراحة ، وتركتنا نغزوا عنك " .

                      ـ فقال : إن الله عزَّ وجل يقول

                      http://www.nabulsi.com/************/...ra/Image36.gif


                      فهو قد استنفرنا جميعاً شيوخاً وشباباً .. ثم أبى إلا الخروج .

                      * وبينما كان أبو طلحة على ظهر السفينة مع جند المسلمين في وسط البحر ، مرض مرضاً شديداً فارق على إثره الحياة .

                      * وأخذ المسلمون يبحثون له عن جزيرة ليدفنوه فيها ، فلم يجدوا طلبهم إلا بعد سبعة أيام .

                      ** وفي عرض البحر ـ بعيداً عن الأهل والوطن ـ دُفِنَ أبو طلحة . وماذا يضره بُعدهُ عن الناس ما دام قريباً من الله عزَّ وجل ؟ .

                      والحمد لله رب العالمين
                      القناعة كنز لا يفنى

                      تعليق


                      • #41
                        البراء بن مالك الأنصاري

                        إنه البطل المقدام الذي كتب الفاروق بشأنه إلى عماله في الآفاق :

                        " لا تولوا البراء جيشاً من جيوش المسلمين ؛ خوفاً من أن يهلكهم بإقدامه ".

                        إنه البراء بن مالك الأنصاري ، أخو أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إننا لو رحنا نستقصي أخبار بطولات البراء لطال الكلام كثيراً ، لذلك نكتفي بقصة واحدة تقاس عليها جميع مواقفه .

                        * تبدأ هذه القصَّة منذ الساعات الأولى لوفاة النبي الكريم ، حيث خرجت قبائل العرب من دين الله أفواجاً ، صمد الصديق رضي الله عنه لهذه الفتنة صمود الجبال الراسيات ، وجهز أحد عشر جيشاً ليعيد المرتدين عن دين الله إلى سبيل الهدى والحق ، وكان أقوى المرتدين عدداً ، وأقواهم بأساً ، بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب ، فقد اجتمع له من قومه أربعون ألفاً من أشداء المحاربين .

                        هزم مسيلمةُ أولَ جيش من المسلمين ، فأرسل الصدِّيق له جيشاً ثانياً بقيادة خالد بن الوليد ، وكان من عِداد هذا الجيش بطل قصتنا ... البراء .

                        التقى الجيشان على أرض اليمامة ، فما هو إلا قليل حتى رجحت كفة مسيلمة وأصحابه ، عند ذلك شعر المسلمون بالخطر الداهم ، وأدركوا أنهم إن يُهزموا أمام مسيلمة فلن تقوم للإسلام قائمة بعد اليوم ، ولن يُعبد الله وحده في جزيرة العرب .

                        وهب خالد إلى جيشه فأعاد تنظيمه ، وتجهيزه ، ودارت بين الفريقين معركة لم تعرف حروب المسلمين لها نظيراً ، وثبت قوم مسيلمة في ساحات الوغى ثبات الجبال ، وأبدى المسلمون من البطولات ما أذهل أعداءهم ، ولكن جميع بطولاتهم تتضاءل أمام بطولة البراء بن مالك رضي الله عنهم جميعاً !

                        وذلك أن خالداً حين رأى وطيس المعركة قد اشتد ، التفت إلى البراء وقال : " إليهم يا فتى الأنصار " .

                        فالتفت البراء إلى قومه وقال : " يا معشر الأنصار لا يفكِّرن أحد منكم بالرجوع إلى المدينة ، فلا مدينة لكم بعد اليوم ، وإنما هو الله وحده ثم الجنة " .

                        ثم حمل على المشركين وحملوا معه ، وانبرى يشق صفوف المشركين ، ويُعمل السيف في رقاب أعداء الله ، حتى انكسر مسيلمة وأصحابه ، فهربوا إلى الحديقة التي عرفت فيما بعد بحديقة الموت لكثرة ما قتل فيها في ذلك اليوم .

                        * كانت حديقة الموت رحبة الأرجاء ، عالية الجدران ، فأغلق المشركون عليهم بابها وجعلوا يمطرون المسلمين بنبالهم فتسقط عليهم كالمطر ، عند ذلك : تقدم مِغوار المسلمين البراء بن مالك وقال :

                        " يا قوم ضعوني على ترسٍ ، وارفعوا الترس على الرماح ، ثم اقذفوني إلى الحديقة قريباً من بابها ، فإما أن أُستشهد وإما أن أفتح لكم الباب " .

                        وبالفعل هذا ما كان ، فقد نزل البراء عليهم نزول الصاعقة ، وما زال يجالدهم بسيفه حتى قتل منهم عشرة ، وفتح الباب وفي جسده بضع وثمانون جراحة ، ما بين رمية بسهم أو ضربة بسيف ، وقاتل المسلمون أعداء الله حتى هزموهم ، ووصلوا إلى مسيلمة وقتلوه وأنهوا أمره .

                        * ظل البراء بن مالك يتوق إلى الشهادة ، وأخذ يخوض المعارك شوقاً إلى تحقيق أمنيته ، حتى جاء يوم فتح مدينة " تُستر " الفارسية ، حيث حاصر المسلمون هذه المدينة حصاراً طويلاً ، فلما اشتد البلاء على الفرس، جعلوا يدلُّون من فوق أسوار القلعة سلاسل من حديد علقت بها كلاليب حميت بالنار ، حتى غدت أشد توهجاً من الجمر ، فكانت تعلَق في أجساد المسلمين فتحرق أجسادهم وتقتلهم ، فعلَق واحد منها بأنس بن مالك ، أخي البراء بن مالك ، فوثب البراء على جدار الحصن ، وأمسك بالسلسلة التي تحمل أخاه ، وجعل يعالج الكُلاَّب ليخرجه من جسده ، فأخذت يده تحترق وتدخن فلم يأبه لها ، حتى أنقذ أخاه ، وهبط إلى الأرض بعد أن صارت يده عظاماً ليس عليها لحم .

                        * وفي هذه المعركة دعا البراء بن مالك الأنصاري الله أن يرزقه الشهادة ، فأجاب الله دعاه؛ حيث خَرَّ شهيداً مغتبطاً بلقاء الله .

                        نضّر الله وجهه في الجنة ، وأقر عينه بصحبة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام .

                        والحمد لله رب العالمين

                        * * *
                        القناعة كنز لا يفنى

                        تعليق


                        • #42
                          أبو ذر الغفاري

                          كان جندب بن جنادة المكنى بأبي ذر يمتاز بجرأة القلب ، ورجاحة العقل ، وبعد النظر ، وكان يضيق أشد الضيق بهذه الأوثان التي يعبدها قومه من دون الله .

                          ويستنكر ما وجد عليه العرب من فساد الدين ، وتفاهة المعتقد . ثم تناهت أخبار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي ذر ، فتزود أبو ذر لنفسه، وحمل قربة ماء صغيرة ، واتجه إلى مكة يريد لقاء النبي ، بلغ أبو ذر مكة وهو متوجس خيفة من أهلها ، فقد سمع بأذى قريش لكل مَن تحدثه نفسه باتباع محمد ، لذا كره أن يسأل أحداً عن محمد ، ولما أقبل الليل اضجع في المسجد ، فمر عليه علي بن أبي طالب ، فعرف أنه غريب فقال : هلم إلينا أيها الرجل ، فمضى معه وبات ليلته عنده .

                          ـ قال علي لصاحبه : ألا تحدثني عما أقدمك إلى مكة ؟

                          ـ فقال أبو ذر : لقد قصدت مكة من أماكن بعيدة ، أبتغي لقاء النبي الجديد ، وسماع شيء مما يقول .

                          فانفرجت أسارير علي ، وقال : والله إنه لرسول الله ، وإنه ... وإنه ... فإذا أصبحنا فاتَّبعني حيثما سرت ، حتى تدخل مدخلي .

                          فلما دخلا على النبي عليه الصلاة والسلام ، قال أبو ذر : السلام عليك يا رسول الله . فقال الرسول :

                          " وعليك سلام الله ورحمته وبركاته " .

                          فكان أبو ذر أول من حَيَّا بتحية الإسلام ، ثم شاعت وعمَّت بعد ذلك .

                          أقبل رسول الله على أبي ذر يدعوه إلى الإسلام ، ويقرأ عليه القرآن ، فما لبث أن أعلن كلمة الحق ، ودخل في الدين الجديد ، ولنترك الكلام لأبي ذر يحدث عن نفسه ، قال :

                          أقمتُ بعد ذلك في مكة مع رسول الله ، فعلمني الإسلام ، وأقرأني شيئاً من القرآن ، ثم قال لي : لا تخبر أحداً بإسلامك في مكة ؛ فإني أخاف عليك أن يقتلوك . فقلتُ : والذي نفسي بيده لا أبرح مكة حتى آتي المسجد، وأصرخ بدعوة الحق بين ظهراني قريش . فسكت الرسول ، فجئت المسجد، وناديت بأعلى صوتي :

                          يا معشر قريش : إني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله . فما كادت كلماتي تلامس القوم حتى ذعروا جميعاً ، وقالوا : عليكم بهذا الصابئ . وقاموا إلي وجعلوا يضربونني لأموت ، فأدركني العباس عمَّ النبي ، وأكبَّ عليَّ ليحميني منهم ، ثم أقبل عليهم وقال : أتقتلون رجلاً من غِفار وممر قوافلكم عليهم !! فتركوني ، ولما أفقتُ جئت إلى رسول الله ، فلما رأى ما بي قال :

                          " ألم أنهك من إعلان إسلامك ؟ " .

                          ـ فقلتُ : يا رسول الله كانت حاجة في نفسي فقضيتها .

                          ـ فقال : " إلْحق بقومك ، وخبرهم بما رأيت وسمعت ، وادعهم إلى الله لعل الله ينفعهم بك ويؤجرك فيهم " .

                          ـ قال ابو ذر : فانطلقت حتى أتيت منازل قومي ، فلقيني أخي ، فقال : ما صنعت ؟ .

                          ـ قلت : أسلمتُ وصدَّقت .

                          ـ فقال : مالي رغبة عن دينك فإني أسلمتُ وصدقتُ أيضاً .

                          ثم أتينا أمنا فدعوناها إلى الإسلام فقالت : مالي رغبة عن دينكما وأسلمتْ أيضاً .

                          ومنذ ذلك اليوم انطلقت الأسرة المؤمن تدعو إلى الله في غِفار ، لا تكل عن ذلك ، ولا تمل حتى أسلم من غِفار خلق كثير ، وأقيمت الصلاة فيهم ، فلما أتى رسول الله المدينة أقبلت إليه قبيلة غِفار مسلمة ، فقال رسول الله :

                          " غِفار غفر الله لها ، وأسلم سالمها الله " .

                          ولما لحق الرسول الكريم بربه لم يُقم أبو ذر في المدينة ، فرحل إلى بادية الشام وأقام فيها مدة خلافة الصديق والفاروق ، وفي خلافة عثمان نزل في دمشق فرأى من إقبال المسلمين على الدنيا فأنكر عليهم ذلك ، فاستدعاه عثمان إلى المدينة فقدم إليها ، ولكنه ما لبث أن ضاق برغبة الناس في الدنيا ، وضاق الناس بشدته ، فأمره عثمان بالانتقال إلى الرَّبذة ، وهي قرية صغيرة في المدينة .

                          دخل عليه رجل ذات يوم ، فجعل ينظر في بيته فلم يجد فيه متاعاً، فقال : يا أبا ذر أين متاعكم ؟

                          ـ فقال : لنا بيت هناك ( يعني الآخرة ) نرسل إليه صالح متاعنا .

                          ـ ففهم الرجل مراده وقال له : ولكن لا بد من متاع ما دمت في هذه الدار (يعني الدنيا ) .

                          ـ فأجاب : ولكن صاحب المنزل لا يتركنا فيه .

                          ـ وبعث إليه أمير الشام بثلاثمائة دينار ، وقال له : استعن بها على قضاء حاجتك .

                          ـ فردَّها إليه وقال : أما وجد أمير الشام عبداً لله أهون عليه مني ؟!

                          وفي السنة الثانية والثلاثين لحق أبو ذر بربه عزَّ وجل ، مات العابد الزاهد الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام :

                          " ما أقلت الغبراء ، ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر " .

                          والحمد لله رب العالمين
                          القناعة كنز لا يفنى

                          تعليق


                          • #43
                            صُهيب الرومي

                            قبل البعثة بحوالي عِقدين من الزمان كان يتولى مدينة (لأُبُلَّة) سنان بن مالك النميري من قِبل كسرى ملك الفرس . وكان أحب أولاده إليه طفل لم يجاوز الخامسة من عمره دعاه صهيباً ... مضت أم صهيب مع طفلها الصغير وطائفة من حشمها وخدمها إلى إحدى القرى طلباً للراحة والاستجمام ، فأغارت عليهم سرية من جيش الروم ، فوقع صهيب في الأسر ..


                            ـ بيع صهيب في أسواق الرقيق ببلاد الروم ، وجعلت تتداوله الأيدي فينتقل من خدمة سيد إلى خدمة آخر .. وقد أتاح ذلك لصهيب أن ينفذ إلى أعماق المجتمع الرومي ، ورأى ما فيه من الرذائل والموبقات ، وكان يقول في نفسه : إن مجتمعاً كهذا لا يطهره إلا الطوفان .


                            ـ سمع صهيب من كاهن نصراني بأنه قد حان وقت ظهور نبي آخر الزمان ، يصدِّق رسالة عيسى بن مريم ، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور ..

                            ثم أتيحت الفرصة لصهيب فولى هارباً من رقِّ أسياده ، وأتجه صوب مكة ، ولما وصل إليها أطلق الناس عليه اسم صهيب الرومي ، للَكْنَة لسانه ، وحمرة شعره .


                            وقد عَمل صهيب بالتجارة مع سيد من سادات مكة ، وهو عبد الله بن جدعان ، فدرَّت الخير والمال الوفير ، غير أنه لم يكن لينسى حديث الكاهن النصراني عن ظهور النبي .


                            وفي ذات يوم عاد صهيب إلى مكة من إحدى رحلاته ، فقيل له إن محمداً بن عبد الله قد بُعث ، وقام يدعو الناس إلى الإيمان بالله وحده ، ويحضهم على العدل والإحسان ، وينهاهم عن الفحشاء والمنكر ...

                            فقال : أليس هو الذي يلقبونه بالأمين ؟ ‍‍‍‍.


                            فقيل له : بلى .. ولكن حذار من أن يراك أحد من قريش ، فإن علموا بك آذوك ، وأنت رجل غريب لا عصبة لك تحميك ، ولا عشيرة لك تنصرك ..


                            ـ شهد صهيب أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، ثم بدأ صهيب يتحمل نصيبه من أذى قريش ، ما لو نزل بجبل لهدَّه ، فتلقى ذلك كله بنفس راضية ؛ لأنه كان يعلم أن طريق الجنة محفوفة بالمكاره .


                            ولما أذِن الرسول لأصحابه بالهجرة إلى المدينة عزم صهيب على أن يهاجر مع رسول الله وأبي بكر ، ولكن قريشاً شعرت به فمنعته من ذلك وظل بعد ذلك يتحين الفرص للحاق بهم فلم يفلح ، فلم يجد سبيلاً غير اللجوء إلى الحيلة :


                            في ذات ليلة باردة أكثر صهيب من الخروج إلى الخلاء ، كأنه يقضي حاجته ، فقال بعض رقبائه لبعض : طيبوا نفساً فإن اللاة والعزى شغلاه ببطنه . ثم استسلموا للنوم .. فتسلل صهيب من بينهم ، وتوجه إلى المدينة ... لم يمض غير قليل حتى فطن له رقباؤه ، فهبوا من نومهم مذعورين ، فلحقوا به حتى أدركوه .. فلما أحسَّ بهم وقف على مكان عال ، وأخرج قوسه وسهامه وقال :


                            يا معشر قريش : لقد علمتم والله إني من أرمى الناس .. ووالله لا تصلون إلىَّ حتى أقتل بكل سهم معي رجلاً منكم ، ثم أضربكم بسيفي حتى يفلَّ .

                            فقالوا له : والله لا ندعك تهرب منا بنفسك ومالك ..

                            فقال : أرأيتم إن تركت لكم مالي ، أتخلُّون سبيلي ؟ فقالوا : نعم .

                            فدلهم على موضع ماله في بيته في مكة ، فمضوا إليه وأخذوه منه ثم تركوه ، واتجه صهيب بعد ذلك مسرعاً إلى المدينة ، هارباً بدينه إلى الله غير آسف على المال الذي أنفق في جنيه زهرة العمر ..

                            فلما بلغ قُباء رآه الرسول صلوات الله وسلامه عليه مقبلاً ، ففرح به وقال : ربح البيع أبا يحيى ... ربح البيع أبا يحيى " .

                            فَعَلتِ الفرحة وجه صهيب وقال :

                            والله ما سبقني إليك أحد يا رسول الله . وما أخبرك به إلا جبريل .
                            القناعة كنز لا يفنى

                            تعليق


                            • #44
                              أبو عبيدة بن الجراح

                              كان وضيء الوجه ، بهي الطلعة ، نحيل الجسم ، وكان جم التواضع ، شديد الحياء ، لكنه كان إذا جدَّ الجِدُّ يغدو وكأنه الليث عادياً .

                              ذلك هو أمين أمة محمد : أبو عبيدة بن الجراح .


                              ـ عاش أبو عبيدة تجربة المسلمين القاسية في مكة منذ بدايتها إلى نهايتها ، وعانى مع المسلمين السابقين من عنفها وضراوتها ، فثبت للابتلاء ، وصدق الله ورسوله في كل موقف .


                              ـ لكن محنة أبي عبيدة يوم بدر فاقت خيال المتخيلين :

                              انطلق أبو عبيدة يوم بدر يصول بين الصفوف صولة من لا يهاب الموت ، فهابه المشركون ... لكن رجلاً واحداً منهم جعل يبرز لأبي عبيدة في كل اتجاه ، فكان أبو عبيدة يتحاشى لقاءه ... ولكن الرجل لجَّ في الهجوم ، وسد على أبي عبيدة الطرق ، فلما ضاق به ذرعاً ضرب رأسه بالسيف ضربة فلقت هامته ، وخرَّ صريعاً ، وقد يتصدع رأسك إذا عرفت أن الرجل الصريع هو والد أبي عبيدة ، فأنزل الله عز وجل في شأنه قرآناً ، قال تعالى
                              http://www.nabulsi.com/************/...ra/Image39.gif

                              لقد شهد أبو عبيدة مع رسول الله المشاهد كلها منذ صحبه إلى أن مات ، ثم بويع بعد ذلك لأبي بكر الصديق ، فكان أبو عبيدة خير نصيح له في الحق ، ثم جاء من بعده الفاروق فدان له أبو عبيدة بالطاعة ، ولم يعصه في أمر إلا مرة واحدة .. لقد وقع ذلك حين كان أبو عبيدة في بلاد الشام ، يقود جيوش المسلمين من نصرٍ إلى نصر ، حتى فتح الله عليه بلاد الشام كلها ... عند ذلك دهم بلاد الشام طاعون ما عرف الناس مثله قط ، فجعل يحصد الناس حصداً ... فما كان من عمر بن الخطاب إلا أن وجه رسالة لأبي عبيدة يقول فيها : إذا أتاك كتابي ليلاً فإني أعزم عليك ألا تصبح حتى تأتيني .. فما أخذ أبو عبيدة كتاب الفاروق قال له في رسالة بعثها إليه :

                              يا أمير المؤمنين إني قد عرفت حاجتك إلي ، وإني في جند من المسلمين ولا أجد نفسي رغبة عن الذي يصيبهم ... ولا أريد فراقهم حتى يقضي الله فيهم وفيَّ أمراً ، فإذا أتاك كتابي هذا فحللني من عزمك وائذن لي بالبقاء .

                              فلما قرأ عمر الكتاب بكى حتى فاضت عيناه ، فقال له مَن عنده لشدة ما رأوا من بكائه أمات أبو عبيدة يا أمير المؤمنين ؟ .

                              فقال لا ولكنه قريب من الموت ... ولم يكذب ظن الفاروق إذ ما لبث أبو عبيدة أن أصيب بالطاعون ، فلما حضرته الوفاة أوصى جنده فقال : أقيموا الصلاة ، وصوموا رمضان ، وتصدقوا ، وحجوا ، واعتمروا ، وتواصوا ، وانصحوا لأمرائكم ولا تغشوهم ، ولا تلهكم الدنيا فإن المرء لو عُمِّر ألف حول ما كان له بد عن أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون .

                              والسلام عليكم ورحمة الله .

                              ثم التفت إلى معاذ وقال : يا معاذ صل بالناس ... ثم فاضت روحه الطاهرة .

                              فقام معاذ وقال :

                              أيها الناس إنكم قد فجعتم برجل ـ والله ـ ما أعلم أني رأيت رجلاً أبر صدراً ، ولا أشد حباً للعاقبة ، ولا أنصح للعامة منه ، فترحموا عليه يرحمكم الله .


                              *****
                              القناعة كنز لا يفنى

                              تعليق


                              • #45
                                سلمان الفارسي

                                ـ قصتنا هي قصة الساعي وراء الحقيقة ، سلمان الفارسي رضي الله عنه .. ولنترك الكلام لسلمان يروي قصة هدايته ، قال سلمان :

                                كنتُ فتىً فارسياً من أهل أصبهان ، وكنتُ أحبَّ الخلق إلى أبي منذ ولدتُ ، ثم مازال حبه لي يشتد ويزداد على الأيام ، حتى حبسني في البيت خشية عليَّ .

                                وقد اجتهدت في المجوسية حتى صرت قيِّم النار التي كنا نعبدها ... وكان لأبي ضيعة عظيمة تدرُّ علينا غلة كبيرة ، وفي ذات يوم شغله عن القرية شاغل ، فقال :

                                إني ـ يا بني ـ قد شُغلت عن الضيعة فاذهب إليها وتول اليوم عني شأنها ... فخرجتُ أقصد ضيعتنا ، وفيما أنا في بعض الطريق مررت بكنيسة من كنائس النصارى ، فسمعت أصواتهم وهم يصلون ، فلفت ذلك انتباهي ، ولم أكن أعلم شيئاً من أمر النصارى ، فلما تأملتهم أعجبتني صلاتهم ، ورغبتُ في دينهم وقلتُ : والله هذا خير من الذي نحن عليه . ثم إني سألتهم : أين أصل هذا الدين ؟ قالوا في بلاد الشام ...

                                ولما أقبل الليل عدتُ إلى بيتنا ، فتلقاني أبي يسألني عما صنعتُ ، فقلت يا أبت إني مررتُ بأناس يصلون في كنيسة فأعجبني دينهم ... فذُعر أبي ، وقال : أي بني ليس في ذلك الدين خير .. دينك ودين آبائك خير منه ، قلت : كلا والله ما هم عليه خير مما نحن عليه ... فخاف أبي مما أقول ، وخشي أن أرتدَّ عن ديني ، وحبسني بالبيت ، ووضع قيداً على رجلي .. ولما أتيحت لي الفرصة بعثت إلى النصارى أقول لهم : إذا قدم عليكم ركب يريد الذهاب إلى الشام فأعلموني ، فما هو إلا قليل حتى أعلموني ، فهربت من قيدي ولحقت بهم حتى بلغنا بلاد الشام ، فلما نزلنا فيها قلتُ مَن أفضل رجل من أهل هذا الدين ؟ قالوا : الأسقف راعي الكنيسة ، فجئته فقلت : إني قد رغبت في النصرانية ، وأحببتُ أن ألزمك ، وأخدمك ، وأتعلم منك ، فقال : ادخل ، فدخلت وجعلت أخدمه .. فوجدته رجل سوء ، يأمر الناس بالصدقة ويأخذها لنفسه ... ثم ما لبث هذا الرجل أن مات فأخبرت الناس بخبره ، ودللتهم على ماله ..

                                ثم نصَّبوا بعد ذلك رجلاً مكانه فلزمته ، فما رأيت رجلاً أزهد منه في الدنيا ، ولا أرغب منه في الآخرة ، فأحببته ولزمته ، فلما حضرته الوفاة قلت له : يا فلان إلى من توصي بي أن أكون بعدك ؟ فقال : يا بني لا أعلم أحداً على ما كنت عليه إلا رجلاً بالموصل ، هو فلان ، فالحق به .. فلما مات صاحبي لحقتُ بالرجل في الموصل ، فأقمتُ عنده فوجدته على خير حال .. ثم إنه لم يلبث أن مات ، فلما حضرته الوفاة قلت له : إلى مَن توصي بي بعدك؟ ومَن تأمرني باللحاق به ؟ فقال : يا بني والله ما أعلم أن رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلاً بنصيبين فالحق به . فلما مات الرجل لحقت بمن أوصاني به وأخبرته خبري ، فوجدته على ما كان عليه صاحباه من الخير ، فوالله ما لبث أن مات ، فلما حضرته الوفاة قلتُ يا فلان : وإلى مَن توصي بي بعدك ، قال يا بني : إني ما أعلم أحداً بقي على أمرنا إلا رجلاً بعمورية وهو فلان فالحق به .. فلحقت به ، وأخبرته خبري ولزمتُه ، فما لبث أن حضرته الوفاة ، فسألته بمن ألحق بعدك ؟ فقال : يا بني ما أعلم أحداً بقي مستمسكاً بما كنا عليه ، ولكنه قد جاء زمان يخرج فيه بأرض العرب نبي يبعث بدين إبراهيم وله علامات لا تخفى : فهو لا يأكل الصدقة، ويأكل الهدية وبين كتفيه خاتم النبوة . فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل .. ثم وافاه الأجل ، فمكثت بعده بعمورية زمناً إلى أن مَرَّ بها نفر من تجار العرب ، فقلتُ لهم : إن حملتموني معكم إلى أرض العرب أعطيتكم بقراتي وغنمي ، فقالوا : نعم نحملك ، فغدروا بي في الطريق ، وباعوني لرجل من اليهود ، فالتحقت به لخدمته ، ثم ما لبث أن زاره ابن عم له فاشتراني منه ، وكان من بني قريظة ، وحملني معه إلى يثرب فرأيت النخل الذي ذكره لي صاحبي ، وعرفت المدينة كما وصفها لي ، فأقمت بها معه .. وكان النبي حينئذ يدعو قومه في مكة ، ثم ما لبث أن هاجر إلى يثرب .

                                ـ ولما كان المساء أخذت شيئاً من تمر كنت جمعته ، وتوجهت به إلى حيث ينزل الرسول فدخلت عليه وقلت : إنه قد بلغني أنك رجل صالح ، ومعك أصحاب لك غرباء ذووا حاجة ، وهذا شيء كان عندي للصدقة ، فرأيتكم أحق به من غيركم فقربته إليه .. فقال لأصحابه كلوا ولم يأكل .

                                ثم انصرفتُ وجئته في اليوم الثاني ببعض التمر ، وقلتُ له : إني رأيتك لا تأكل الصدقة ، وهذه هدية أكرمتك بها ، فأكلَ منها ، وأمر أصحابه فأكلوا معه .. ثم جئت رسول الله فسلمت عليه ، ثم استدرت أنظر إلى ظهره لعلي أرى الخاتم الذي وصفه لي صاحبي في عمورية ، فلما رآني النبي أنظر إلى ظهره عرف غرضي ، فألقى رداءه عن ظهره ، فنظرت فرأيت الخاتم فعرفته ، فانكببت عليه أقبله وأبكي ، فقال عليه الصلاة والسلام : ما خبرك ؟‍ . فقصصت عليه قصتي ، فاعجب بها ، وسرَّه أن يسمعها أصحابه مني ، فأسمعتهم إياها ، وسُروا بها أعظم السرور .


                                *****
                                القناعة كنز لا يفنى

                                تعليق

                                يعمل...
                                X