وهذه المسألة من مسائل الإجماع, والأدلة عليها واضحة وصريحة, ولا يتعامى عنها إلا من أعمى الله بصيرته وصرفه عن الحق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه, وحرم الحلال المجمع عليه, أو بدل الشرع المجمع عليه, كان كافرا مرتدا باتفاق الفقهاء"(1).(مجموع الفتاوى)
و قال الإمام ابن كثير رحمه الله " فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء, وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه, من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين "(2) (البداية والنهاية)
وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ}، وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ}، وألفاظ الكفر, والظلم, والفسق تأتي في الكتاب والسنة, ويراد بها في مواطن الكفر الأكبر, والظلم الأكبر, والفسق الأكبر, وكلها مما يخرج من الملة, وتأتي في مواطن, ويراد بها الكفر الأصغر, والظلم الأصغر, والفسق الأصغر, وهي لا تخرج من الملة.
فإذا كان الحاكم لا يحكم بما أنزل الله, وقد بدل شرع الله, وسن القوانين الكفرية, وتحاكم إلى غير الله تعالى, فهذا كفره, وظلمه, وفسقه, مما يخرج من الملة، وأما الكفر دون كفر, أو الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة, فهو الحكم في قضية معينة بغير ما أنزل الله, لقرابة, أو لرشوة, أو لهوى, كالحاكم المسلم الذي يحكم بالإسلام في جميع شؤون الحياة, ولا يتحاكم لغير شرع الله من القوانين, أو الهيئات أو غيرها, ولكنه حكم في قضية معينة بغير ما أنزل الله, ولم يسن قانونا لهذه القضية, أو غيرها, ولم يستحل هذا الجور في الحكم الذي ارتكبه, وإنما حمله هواه على ترك الحكم بما أنزل الله في هذه القضية المعينة, فهذا قد ارتكب كفرا أصغر لا يخرجه من الملة.وقال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً. أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً. فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}, فجعل الله تعالى الرد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عند التنازع شرطا في الإيمان, وذكر كلمة {شَيْءٍ} وهي نكرة في سياق الشرط, فتعم كل ما تنازع فيه المتنازعون في جميع شؤون الحياة, وبين تعالى أن التحاكم إلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, هو خير في الدنيا والآخرة, وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة, ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ}, وهي صيغة تعجب من حال المنافقين وتناقضهم, فهم يزعمون الإيمان بما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما أنزل من قبله, ثم يخالفون هذا الزعم بإرادتهم التحاكم إلى الطاغوت, فهذا تناقض ونقض لما يدعون من الإيمان, كقوله تعالى في الآية الأخرى: {وَيِقُولُونَ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ}, فإن الإيمان يقتضي التحاكم إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والكفر بالطاغوت وليس التحاكم إليه, ولهذا قال تعالى: {وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}, وإنما ضلوا هذا الضلال البعيد لشركهم وكفرهم بالله تعالى, كما قال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً}.
والطاغوت مشتق من الطغيان, قال الإمام ابن جرير رحمه الله في تعريفه: " والصواب من القول عندي في الطاغوت أنه كل ذي طغيان على الله, فيعبد من دونه, إما بقهر منه لمن عبده, وإما بطاعة ممن عبد له, إنسانا كان ذلك المعبود, أو شيطانا, أو وثنا, أو كائنا ما كان من شيء "(1).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله " والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده, من معبود, أو متبوع, أو مطاع, فطاغوت كل قوم, من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, أو يعبدونه من دون الله, أو يتبعونه على غير بصيرة من الله, أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله.فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها, وتأملت أحوال الناس معها, رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت, وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التحاكم إلى الطاغوت, وعن طاعته ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الطاغوت ومتابعته "(1)، فالإيمان لا يتحقق إلا بالكفر بالطاغوت, كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ}, والعروة الوثقى هي الإسلام, وشهادة أن لا إله إلا الله، والشهادة: نفي وإثبات, والنفي هو "لا إله"و هو الكفر بالطاغوت, والإثبات "إلا الله" وهو الإيمان بالله تعالى, فدل على أن من لم يكفر بالطاغوت كالديمقراطية, أو الهيئات والبرلمانات التشريعية, أو غيرها من الطواغيت, أنه لم يؤمن بالله ولم يحقق شهادة أن لا إله إلا الله, ثم قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} أي يعرضون إعراضا عن التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}, أي فكيف إذا حلت بهم مصيبة بسبب ذنوبهم, وإعراضهم عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، {ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}, أي إن أردنا إلا الإحسان والتوفيق بين الإسلام والأنظمة المخالفة له, والإيمان يقتضي الكفر بالأنظمة المخالفة للإسلام, وليس التوفيق والجمع بينها وبين الإسلام, وهذا كحال من يسعى من الأفراد أو الأحزاب إلى التوفيق بين الإسلام وبين الديمقراطية أو غيرها من الطواغيت.
وقال تبارك وتعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}, فنفى الإيمان عمن لم يتحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, وأكد النفي بتكرار أداة النفي وبالقسم، ولم يقتصر على مجرد التحاكم بل ضم إليه انتفاء الحرج من الحكم والانقياد والتسليم له، وقد ذكر البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال " من الله الرسالة, ومن الرسول البلاغ, وعلينا التسليم ".
وقال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى ٱلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ. فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}, فهؤلاء ارتدوا عن الإسلام لقولهم "سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ" فإذا كفر هؤلاء بمجرد الوعد بالطاعة سرا وإن لم يفعلوا, فكيف بمن أطاعهم واستجاب لهم, وحكّم قوانينهم في بلاد المسلمين, وحماها, وألزم الناس بها, وتحاكم إلى هيئاتهم, ومحاكمهم, وبدل أحكام الله وغير مناهج التعليم طلبا لمرضاتهم، فلا شك أن ردته من باب أولى.فمن تحاكم إلى غير الله تعالى, واتخذ غير الله حكما ومشرعا, فقد أشرك بالله شركا أكبر يخرج من ارتكبه من الإسلام, كما قال تعالى: {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً}, وفي قراءة: {وَلاَ تُشْرِك فِي حُكْمِهِ أَحَداً}، بصيغة النهي عن الإشراك بالله تعالى في الحكم والتشريع, وهذه الآية كقوله تعالى: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا}, فالشرك في التشريع والتحاكم هو من الشرك في العبادة, فإن التحاكم من العبادة, كما قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.
و قال الإمام ابن كثير رحمه الله " فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء, وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه, من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين "(2) (البداية والنهاية)
وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ}، وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ}، وألفاظ الكفر, والظلم, والفسق تأتي في الكتاب والسنة, ويراد بها في مواطن الكفر الأكبر, والظلم الأكبر, والفسق الأكبر, وكلها مما يخرج من الملة, وتأتي في مواطن, ويراد بها الكفر الأصغر, والظلم الأصغر, والفسق الأصغر, وهي لا تخرج من الملة.
فإذا كان الحاكم لا يحكم بما أنزل الله, وقد بدل شرع الله, وسن القوانين الكفرية, وتحاكم إلى غير الله تعالى, فهذا كفره, وظلمه, وفسقه, مما يخرج من الملة، وأما الكفر دون كفر, أو الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة, فهو الحكم في قضية معينة بغير ما أنزل الله, لقرابة, أو لرشوة, أو لهوى, كالحاكم المسلم الذي يحكم بالإسلام في جميع شؤون الحياة, ولا يتحاكم لغير شرع الله من القوانين, أو الهيئات أو غيرها, ولكنه حكم في قضية معينة بغير ما أنزل الله, ولم يسن قانونا لهذه القضية, أو غيرها, ولم يستحل هذا الجور في الحكم الذي ارتكبه, وإنما حمله هواه على ترك الحكم بما أنزل الله في هذه القضية المعينة, فهذا قد ارتكب كفرا أصغر لا يخرجه من الملة.وقال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً. أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً. فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}, فجعل الله تعالى الرد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عند التنازع شرطا في الإيمان, وذكر كلمة {شَيْءٍ} وهي نكرة في سياق الشرط, فتعم كل ما تنازع فيه المتنازعون في جميع شؤون الحياة, وبين تعالى أن التحاكم إلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, هو خير في الدنيا والآخرة, وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة, ثم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ}, وهي صيغة تعجب من حال المنافقين وتناقضهم, فهم يزعمون الإيمان بما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما أنزل من قبله, ثم يخالفون هذا الزعم بإرادتهم التحاكم إلى الطاغوت, فهذا تناقض ونقض لما يدعون من الإيمان, كقوله تعالى في الآية الأخرى: {وَيِقُولُونَ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ}, فإن الإيمان يقتضي التحاكم إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والكفر بالطاغوت وليس التحاكم إليه, ولهذا قال تعالى: {وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}, وإنما ضلوا هذا الضلال البعيد لشركهم وكفرهم بالله تعالى, كما قال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً}.
والطاغوت مشتق من الطغيان, قال الإمام ابن جرير رحمه الله في تعريفه: " والصواب من القول عندي في الطاغوت أنه كل ذي طغيان على الله, فيعبد من دونه, إما بقهر منه لمن عبده, وإما بطاعة ممن عبد له, إنسانا كان ذلك المعبود, أو شيطانا, أو وثنا, أو كائنا ما كان من شيء "(1).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله " والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده, من معبود, أو متبوع, أو مطاع, فطاغوت كل قوم, من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, أو يعبدونه من دون الله, أو يتبعونه على غير بصيرة من الله, أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله.فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها, وتأملت أحوال الناس معها, رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت, وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التحاكم إلى الطاغوت, وعن طاعته ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الطاغوت ومتابعته "(1)، فالإيمان لا يتحقق إلا بالكفر بالطاغوت, كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ}, والعروة الوثقى هي الإسلام, وشهادة أن لا إله إلا الله، والشهادة: نفي وإثبات, والنفي هو "لا إله"و هو الكفر بالطاغوت, والإثبات "إلا الله" وهو الإيمان بالله تعالى, فدل على أن من لم يكفر بالطاغوت كالديمقراطية, أو الهيئات والبرلمانات التشريعية, أو غيرها من الطواغيت, أنه لم يؤمن بالله ولم يحقق شهادة أن لا إله إلا الله, ثم قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} أي يعرضون إعراضا عن التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}, أي فكيف إذا حلت بهم مصيبة بسبب ذنوبهم, وإعراضهم عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، {ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}, أي إن أردنا إلا الإحسان والتوفيق بين الإسلام والأنظمة المخالفة له, والإيمان يقتضي الكفر بالأنظمة المخالفة للإسلام, وليس التوفيق والجمع بينها وبين الإسلام, وهذا كحال من يسعى من الأفراد أو الأحزاب إلى التوفيق بين الإسلام وبين الديمقراطية أو غيرها من الطواغيت.
وقال تبارك وتعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}, فنفى الإيمان عمن لم يتحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, وأكد النفي بتكرار أداة النفي وبالقسم، ولم يقتصر على مجرد التحاكم بل ضم إليه انتفاء الحرج من الحكم والانقياد والتسليم له، وقد ذكر البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال " من الله الرسالة, ومن الرسول البلاغ, وعلينا التسليم ".
وقال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرْتَدُّواْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْهُدَى ٱلشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ. فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ ٱللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}, فهؤلاء ارتدوا عن الإسلام لقولهم "سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ ٱلأَمْرِ" فإذا كفر هؤلاء بمجرد الوعد بالطاعة سرا وإن لم يفعلوا, فكيف بمن أطاعهم واستجاب لهم, وحكّم قوانينهم في بلاد المسلمين, وحماها, وألزم الناس بها, وتحاكم إلى هيئاتهم, ومحاكمهم, وبدل أحكام الله وغير مناهج التعليم طلبا لمرضاتهم، فلا شك أن ردته من باب أولى.فمن تحاكم إلى غير الله تعالى, واتخذ غير الله حكما ومشرعا, فقد أشرك بالله شركا أكبر يخرج من ارتكبه من الإسلام, كما قال تعالى: {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً}, وفي قراءة: {وَلاَ تُشْرِك فِي حُكْمِهِ أَحَداً}، بصيغة النهي عن الإشراك بالله تعالى في الحكم والتشريع, وهذه الآية كقوله تعالى: {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا}, فالشرك في التشريع والتحاكم هو من الشرك في العبادة, فإن التحاكم من العبادة, كما قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}.
تعليق