ضوابط العمل الصالح
في توجه العبد المؤمن إلى ربه ، وفي سيره وانقطاعه إليه يحتاج إلى ما يضبط سلوكه ويزن أفعاله حتى لا يحيد عن الطريق ولا يخطئ الجادة . لذلك ذكرسلفنا الصالح شروطاً وضوابط للعمل الصالح باستقراء نصوص الكتاب والسنة وبدون هذه الشروط والضوابط يكون العمل معرضاً للخلل والنقصان ؛ بل والرد على صاحبه فلا يجني من عمله إلا التعب والمشقة .
ونذكر فيما يلي أهم هذه الشروط :
الأول : الإخلاص لله عز وجل . الثاني : متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- .
فلا بد من إخلاص النية لله في أي عمل يعمله العبد . قال تعالى : [ ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ][البينة : 5] ، وقال -صلى الله عليه وسلم- : » إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى « [1] ؟ وقال -صلى الله عليه وسلم- : » قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ؛ من عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه ؛ وهو كله للذي أشرك « [2] .
ولا بد في إخلاص العمل من أن يكون هذا العمل مما شرعه الله على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- يقول تعالى : [ قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ][آل عمران : 31] ويقول -صلى الله عليه وسلم- : » من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد « [3] وفي لفظ . » من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد « . وبهذين الشرطين يتحصن المسلم من ألد أعدائه ألا وهو الرياء والبدعة والشرك . يقول ابن أبي العز الحنفي رحمه الله :( فهما توحيدان ، لا نجاه للعبد من عذاب الله إلا بهما : توحيد المرسل ، وتوحيد متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ) [4] .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان ،أحدهما : أن لا نعبد إلا الله . والثاني : أن لا نعبده إلا بما شرع. لا نعبده بعبادة مبتدعة . وهذان الأصلان هما تحقيق ( شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ) كما قال تعالى : [ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ]. قال الفضيل بن عياض : أخلصه وأصوبه . قالوا . يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل ، وإن كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً . والخالص أن يكون لله ، والصواب أن يكون على السنة . وذلك تحقيق قوله تعالى : [ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ولا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ][5] .
ويقول ابن القيم رحمه الله : ( فلا يكون العبد متحققاً بـ [ إيَّاكَ نَعْبُدُ ]إلا بأصلين عظيمين : أحدهما : متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- . والثاني : الإخلاص للمعبود [6] .
والعمل - بالمشروع يحصن المؤمن من الوقوع في المبتدع من الأعمال ويغنيه عنه . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( وكذلك العباد : إذا تعبدوا بما شرع من الأقوال والأعمال ظاهراً وباطناً ، وذاقوا طعم الكلم الطيب ، والعمل الصالح الذي بعث الله به رسوله ، وجدوا في ذلك من الأحوال الزكية ، والمقامات العلية ، والنتائج العظيمة ، ما يغنيهم عما قد يحدث في نوعه ، كالتغبير ونحوه ، من السماعات المبتدعة ، الصارفة عن سماع القرآن ، وأنواع من الأذكار والأوراد ، لفقهاء بعض الناس . أو في قدره ، كزيادة من التعبدات ، أحدثها من أحدثها لنقص تمسكه بالمشروع منها ) [7] .
ومن الضوابط المهمة التي ذكرها أهـل السنة في شأن الأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله تعالى : القصد . والمداومة . قال تعالى : [ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ][البقرة : 185] ، وقال تعالى : [ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ][الحج : 78] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم- لن ينجي أحداً منكم عمله . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمته . سددوا وقاربوا ، واغدوا وروحوا ، وشيء من الدلجة ، والقصد القصد تبلغوا [8] . وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : »سددوا وقاربوا ، واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة ، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل « [9] .
وعنها رضي الله عنها قالت : سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- : أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : أدومها وإن قل . وقال . اكلفوا من الأعمال ما تطيقون [10] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال : »إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا ، وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة « [11] .
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث الثاني : ( ثم ختم ذلك بأن المداومة على عمل من أعمال البر ولو كان مفضولاً أحب إلى الله من عمل يكون أعظم أجراً لكن ليس فيه مداومة ) [12] .
وقال ابن حجر في شرح ( واكلفوا ، من الأعمال ما تطيقون) : ( ما تطيقون ) أي قدر طاقتكم ، والحاصل أنه أمر بالجد في العبادة والإبلاغ بها إلى حد النهاية لكن بقيد ما لا تقع معه المشقة المفضية إلى السآمة والملال ) [13] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( فإن المشروع المأمور به الذي يحبه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- هو الاقتصاد في العبادة ) [14] إلى أن قال : فمتى كانت العبادة توجب له ضرراً يمنعه عن فعل واجب أنفع له منها ، كانت محرمة ، مثل أن يصوم صومأ يضعفه عن الكسب الواجب أو يمنعه عن العمل أو الفهم الواجب ، أو يمنعه عن الجهاد الواجب . وكذلك إذا كانت توقعه في محل محرم لا يقاوم مفسدته مصلحتها ، مثل أن يخرج ماله كله ، ثم يستشرف إلى أموال الناس ، ويسألهم. وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها ، وأوقعته في مكروهات ، فإنها مكروهة ) [15] .
وأورد قول ابن مسعود : ( إني إذا صمت ضعفت عن قراءة القرآن ، وقراءة القرآن أحب إلي ) [16] . وذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله في معرض شرحه للأحاديث المذكورة السابقة أن فيها إشارة إلى أن أحب الأعمال إلى الله عز وجل شيئان : أحدهما : ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلاً ، وهكذا كان عمل النبي - صلى الله عليه وسلم- وعمل آله وأزواجه من بعده . وكان ينهى عن قطع العمل [17] .
والثاني : أن أحب الأعمال إلى الله ما كان على وجه السداد والاقتصاد والتيسير دون ما كان على وجه التكلف والاجتهاد والتعسير [18] .
وقال ابن رجب رحمه الله في تفسير ( سددوا وقاربوا ) : المراد بالتسديد : العمل بالسداد ، وهو القصد ، والتوسط في العبادة فلا يقصر فيما أمر به ، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه [19] .
وحول معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- » وأبشروا « قال : يعني أن من مشى في طاعة الله على التسديد والمقاربة فليبشر ، فإنه يصل ويسبق الدائب المجتهد في الأعمال . فإن طريق الاقتصاد والمقاربة أفضل من غيرها ، فمن سلكها فليبشر بالوصول فإن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في غيرها . وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- فمن سلك طريقه كان أقرب إلى الله من غيره . وليست الفضائل بكثرة الأعمال البدنية ، لكن بكونها خالصة لله عز وجل صواباً على متابعة السنة وبكثرة معارف القلوب وأعمالها . فمن كان بالله أعلم وبدينه وأحكامه وشرائعه ، وله أخوف وأحب وأرجى فهو أفضل ممن ليس كذلك وإن كان أكثر منه عملاً بالجوارح ) [20] .
ومما يتعلق بهذا الباب ما ثبت في الصحيح من نصح النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله ابن عمرو بن العاص بأن يقرأ القرآن في كل شهر مرة ، وبأن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام عندما رآه مقبلاً على الطاعة والعبادة وقال له : » إن لنفسك عليك حقاً ، وإن لزوجك عليك حقاً ، وإن لزورك عليك حقاً ، فائت كل ذي حق حقه « . فينبغي مراعاة الواجبات والموازنة بينها وأن لا يجتهد المؤمن في جانب ويترك جوانب أخرى من الواجبات التي عليه . لذلك نرى ابن القيم قد قسم الناس في العبادة إلى أربعة أصناف ، ثم رجح الصنف الرابع الذين : قالوا : إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته [21] .
وليعلم المؤمن أن المشقة ليست مقصودة في التكليف كما قرره علماء الأصول من أهـل السنة بل الأصل هو رفع الحرج والعنت عن الناس . فليس لأحد أن يقصد المشقة طالباً بذلك الأجر . قال الشاطبي -رحمه الله-(أصل آخر : وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظراً إلى عظم أجرها، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل ) [22].
ثم زاد الأمر توضيحًا فقال : ( فإذا كان مقصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع ، من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة ، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل) [23] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق ، حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل ، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة ، في كل شيء ، لا ! ولكن الأجر على قدر منفعة العمل ، ومصلحته ، وفائدته ، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله . فأي العملين كان أحسن ، وصاحبه أطوع ، وأتبع ، كان أفضل . فإن الأعمال . لا تتفاضل بالكثرة ، وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل )
في توجه العبد المؤمن إلى ربه ، وفي سيره وانقطاعه إليه يحتاج إلى ما يضبط سلوكه ويزن أفعاله حتى لا يحيد عن الطريق ولا يخطئ الجادة . لذلك ذكرسلفنا الصالح شروطاً وضوابط للعمل الصالح باستقراء نصوص الكتاب والسنة وبدون هذه الشروط والضوابط يكون العمل معرضاً للخلل والنقصان ؛ بل والرد على صاحبه فلا يجني من عمله إلا التعب والمشقة .
ونذكر فيما يلي أهم هذه الشروط :
الأول : الإخلاص لله عز وجل . الثاني : متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- .
فلا بد من إخلاص النية لله في أي عمل يعمله العبد . قال تعالى : [ ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ][البينة : 5] ، وقال -صلى الله عليه وسلم- : » إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى « [1] ؟ وقال -صلى الله عليه وسلم- : » قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ؛ من عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه ؛ وهو كله للذي أشرك « [2] .
ولا بد في إخلاص العمل من أن يكون هذا العمل مما شرعه الله على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- يقول تعالى : [ قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ][آل عمران : 31] ويقول -صلى الله عليه وسلم- : » من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد « [3] وفي لفظ . » من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد « . وبهذين الشرطين يتحصن المسلم من ألد أعدائه ألا وهو الرياء والبدعة والشرك . يقول ابن أبي العز الحنفي رحمه الله :( فهما توحيدان ، لا نجاه للعبد من عذاب الله إلا بهما : توحيد المرسل ، وتوحيد متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ) [4] .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان ،أحدهما : أن لا نعبد إلا الله . والثاني : أن لا نعبده إلا بما شرع. لا نعبده بعبادة مبتدعة . وهذان الأصلان هما تحقيق ( شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ) كما قال تعالى : [ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ]. قال الفضيل بن عياض : أخلصه وأصوبه . قالوا . يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل ، وإن كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً . والخالص أن يكون لله ، والصواب أن يكون على السنة . وذلك تحقيق قوله تعالى : [ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ولا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ][5] .
ويقول ابن القيم رحمه الله : ( فلا يكون العبد متحققاً بـ [ إيَّاكَ نَعْبُدُ ]إلا بأصلين عظيمين : أحدهما : متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- . والثاني : الإخلاص للمعبود [6] .
والعمل - بالمشروع يحصن المؤمن من الوقوع في المبتدع من الأعمال ويغنيه عنه . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( وكذلك العباد : إذا تعبدوا بما شرع من الأقوال والأعمال ظاهراً وباطناً ، وذاقوا طعم الكلم الطيب ، والعمل الصالح الذي بعث الله به رسوله ، وجدوا في ذلك من الأحوال الزكية ، والمقامات العلية ، والنتائج العظيمة ، ما يغنيهم عما قد يحدث في نوعه ، كالتغبير ونحوه ، من السماعات المبتدعة ، الصارفة عن سماع القرآن ، وأنواع من الأذكار والأوراد ، لفقهاء بعض الناس . أو في قدره ، كزيادة من التعبدات ، أحدثها من أحدثها لنقص تمسكه بالمشروع منها ) [7] .
ومن الضوابط المهمة التي ذكرها أهـل السنة في شأن الأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله تعالى : القصد . والمداومة . قال تعالى : [ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ][البقرة : 185] ، وقال تعالى : [ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ][الحج : 78] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم- لن ينجي أحداً منكم عمله . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمته . سددوا وقاربوا ، واغدوا وروحوا ، وشيء من الدلجة ، والقصد القصد تبلغوا [8] . وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : »سددوا وقاربوا ، واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة ، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل « [9] .
وعنها رضي الله عنها قالت : سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- : أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : أدومها وإن قل . وقال . اكلفوا من الأعمال ما تطيقون [10] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال : »إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا ، وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة « [11] .
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث الثاني : ( ثم ختم ذلك بأن المداومة على عمل من أعمال البر ولو كان مفضولاً أحب إلى الله من عمل يكون أعظم أجراً لكن ليس فيه مداومة ) [12] .
وقال ابن حجر في شرح ( واكلفوا ، من الأعمال ما تطيقون) : ( ما تطيقون ) أي قدر طاقتكم ، والحاصل أنه أمر بالجد في العبادة والإبلاغ بها إلى حد النهاية لكن بقيد ما لا تقع معه المشقة المفضية إلى السآمة والملال ) [13] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( فإن المشروع المأمور به الذي يحبه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- هو الاقتصاد في العبادة ) [14] إلى أن قال : فمتى كانت العبادة توجب له ضرراً يمنعه عن فعل واجب أنفع له منها ، كانت محرمة ، مثل أن يصوم صومأ يضعفه عن الكسب الواجب أو يمنعه عن العمل أو الفهم الواجب ، أو يمنعه عن الجهاد الواجب . وكذلك إذا كانت توقعه في محل محرم لا يقاوم مفسدته مصلحتها ، مثل أن يخرج ماله كله ، ثم يستشرف إلى أموال الناس ، ويسألهم. وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها ، وأوقعته في مكروهات ، فإنها مكروهة ) [15] .
وأورد قول ابن مسعود : ( إني إذا صمت ضعفت عن قراءة القرآن ، وقراءة القرآن أحب إلي ) [16] . وذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله في معرض شرحه للأحاديث المذكورة السابقة أن فيها إشارة إلى أن أحب الأعمال إلى الله عز وجل شيئان : أحدهما : ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلاً ، وهكذا كان عمل النبي - صلى الله عليه وسلم- وعمل آله وأزواجه من بعده . وكان ينهى عن قطع العمل [17] .
والثاني : أن أحب الأعمال إلى الله ما كان على وجه السداد والاقتصاد والتيسير دون ما كان على وجه التكلف والاجتهاد والتعسير [18] .
وقال ابن رجب رحمه الله في تفسير ( سددوا وقاربوا ) : المراد بالتسديد : العمل بالسداد ، وهو القصد ، والتوسط في العبادة فلا يقصر فيما أمر به ، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه [19] .
وحول معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- » وأبشروا « قال : يعني أن من مشى في طاعة الله على التسديد والمقاربة فليبشر ، فإنه يصل ويسبق الدائب المجتهد في الأعمال . فإن طريق الاقتصاد والمقاربة أفضل من غيرها ، فمن سلكها فليبشر بالوصول فإن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في غيرها . وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- فمن سلك طريقه كان أقرب إلى الله من غيره . وليست الفضائل بكثرة الأعمال البدنية ، لكن بكونها خالصة لله عز وجل صواباً على متابعة السنة وبكثرة معارف القلوب وأعمالها . فمن كان بالله أعلم وبدينه وأحكامه وشرائعه ، وله أخوف وأحب وأرجى فهو أفضل ممن ليس كذلك وإن كان أكثر منه عملاً بالجوارح ) [20] .
ومما يتعلق بهذا الباب ما ثبت في الصحيح من نصح النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله ابن عمرو بن العاص بأن يقرأ القرآن في كل شهر مرة ، وبأن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام عندما رآه مقبلاً على الطاعة والعبادة وقال له : » إن لنفسك عليك حقاً ، وإن لزوجك عليك حقاً ، وإن لزورك عليك حقاً ، فائت كل ذي حق حقه « . فينبغي مراعاة الواجبات والموازنة بينها وأن لا يجتهد المؤمن في جانب ويترك جوانب أخرى من الواجبات التي عليه . لذلك نرى ابن القيم قد قسم الناس في العبادة إلى أربعة أصناف ، ثم رجح الصنف الرابع الذين : قالوا : إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته [21] .
وليعلم المؤمن أن المشقة ليست مقصودة في التكليف كما قرره علماء الأصول من أهـل السنة بل الأصل هو رفع الحرج والعنت عن الناس . فليس لأحد أن يقصد المشقة طالباً بذلك الأجر . قال الشاطبي -رحمه الله-(أصل آخر : وهو أن المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظراً إلى عظم أجرها، وله أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل ) [22].
ثم زاد الأمر توضيحًا فقال : ( فإذا كان مقصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع ، من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة ، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل) [23] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق ، حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل ، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة ، في كل شيء ، لا ! ولكن الأجر على قدر منفعة العمل ، ومصلحته ، وفائدته ، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله . فأي العملين كان أحسن ، وصاحبه أطوع ، وأتبع ، كان أفضل . فإن الأعمال . لا تتفاضل بالكثرة ، وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل )
تعليق