[
B]
بسم الله لرحمن الرحيم
( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير )
إن الحديث عن الرحلة السماوية لأكرم خلق الله يغرفنا في نشوة لا يمكن لنا أن نفيق منها إلا بدراسة أبعادها والخوض في غمارها والوقوف على معالمها والتدقيق في ملامحها الواصلة بين أرض الله وسمائه والعاقدة بين عالم المادة وعالم الروح لترسم لنا صورة نورانية صيغت خيوطها من الجمال والبهاء وكللها الجلال والسمو ،صورة لا يسع من أحياها في قلبه إلا الارتقاء من الذات الأرضية للمصاف الأسمى ، رحلة إلهية معالمها ودروسها تضع أقدامنا على طريق الله هذا الطريق الذي يبدأ من حيث نحن موجودون بفلسطين صعوداً إلى سدرة المنتهى وجنة المأوى 0
إن معجزة الإسراء والمعراج منحة إلهية لصفيه من خلقه وحبيبه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) التي ما طلعت الشمس على خير منه وهي معجزة مزجت بين ملمسها المادي وسموها الروحي لتظل وهجاً يزيح عتمة الدرب لتضح معالمه وتكسوا السالكين فيه ضياء لا يناله إلا من علم أبعاد هذه المعجزة الجليلة وخرج منها بزادٍ يعينه على مشقة الرحلة وأعباء الوصول 0
كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعيش أوجاع فراق الأحبة والمواسين من أهله وأول الناس إيماناً ، ويقاسي من عنت الغلاظ وحقد البائسين وخاصة بعد ما أصابه أذىً شديد من أهل الطائف ، فأكرمه الله بالصعود الإلهي إلى حيث لم يرتق مخلوق ، ولا وصل ملك مقرب ، أصعده الله بعد أن أسرى به إلى بيت المقدس موطن الإيمان ومركز النور فمن جهته تتنزل ملائكة الله من البيت المعمور إلى الأرض ومن جهته صعود الطهر إلى عالمه ، صلة وثقها الخالق فمن بيته الحرام إلى البيت المقدس إلى السماوات العلى وصولاً إلى سدرة المنتهى في موكب إلهي مفرداته أنبياء الله وملائكته ، ومشاهداته دروس للمؤمنين تكشف الأسس التي بني عليها دين الله الذي ارتضاه لعباده إصلاحاً لمعاشهم وآخرتهم ولا يعي هذه المكاشفات إلا من سمع وآمن ثم أعقب ذلك تدبراً وعملاً .
إن هذه المعجزة بشقيها الأرضي والسماوي لتعطي دلالات عظيمة في نفسها فالأمر يتعدى كونها تسلية للنبي الكريم بعدما أحاط به العناد والكفر والجهل والبطش من قومه ، فدلالات ودروس هذه المعجزة تملأ علينا حدود المعلوم والمعقول فهي تلك الرحلة التي إن عشنا لحظاتها بصدق فكأنه يسرى بنا ثم يعرج في ملكوت الله حيث استبصاراً لا يعقبه الا مزيداً من الاستبصار ومكاشفات لا ينالها إلا من سكنه الحب الإلهي فتصفوا روحه و يتحلل من أعباء الجسد ويصل للأنس الإلهي ويغمره الشوق الرباني.
دروس عظيمة تلك التي رآها الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بداية من قداسة المكان الذي أسري إليه ومروراً بالمحطات السماوية التي مر عليها في السماوات السبع يلقى الأحبة الذين هم الخلاصة البشرية من أنبياء الله ورسله ووصولاً لعرض نماذج من الأعمال البشرية الصالحة والطالحة وبيان المثوبة و العقاب ليتعظ من سكن الإيمان قلبه ، وزين الوعي عقله.
وفي هذه السطور نحاول أن نعايش بروحنا ونتلمس بحواسنا معالم رحلة الإسراء والمعراج آملين أن يكسبنا ذلك قوة تعيننا على غربة ملأت علينا حياتنا وحيرة أصبحت عنواناً لكل ما نراه ، نحاول أن نقتبس الأنوار من هذه الرحلة الإلهية التزاماً بواجبنا وتكليفنا الشرعي الذي يأمرنا بالنظر والتدبر لا الاكتفاء بالنظرة السطحية والقشور الخارجية ، ذلك التفكر الذي يوقد فينا جذوة البحث عن الحقيقة والجوهر للدين العظيم الذي إن وعيناه وطبقنا روحه فسوف نغير ما بنا وننفض عنا كل الأزمات والمصائب فنسد ثغورنا ونعيد توازننا ونصحح مسارنا ونأخذ مكاننا ودورنا الريادي للعالمين وبغير ذلك سنظل
نراوح مكاننا ونعيش الهزائم والنكسات المتتابعة ، إلا أن يخرج فينا ثلة يسكنها الإيمان والوعي وتسلك طريق الثورة على كل أشكال الظلم والاستكبار والجهل والتبعية .
وقبسات هذه الليلة المتفجرة طهراً و إمتزاجاً بين خيوط النور كثيرة وجليلة نحاول أن نبرز بعضها وأهمها في نظرنا لارتباطها بالواقع وإلحاحها على الفكر المستوحى من هذه الآية العظيمة والمعجزة الفريدة :-
1- أن خصوصية بيت المقدس العقائدية تتخطى الزمن فقد عبر القرآن عن الأقصى بكونه مسجداً قبل حتى أن يكون للإسلام دولة وسيادة على أي بقعة جغرافية وربطه بالمسجد الحرام الذي كان المسلمون من حوله يعيشون حالة الاستضعاف ، فكان الإسراء بشارة غيبية إلهية بالنصر والتمكين ونسج إيماني بين المسجدين والبقعتين المباركتين و تفصيل لمكانة حازها الأقصى على امتداد الرسالات السماوية و تبياناً لأدوار قادمة في تاريخ الأمة ، فبيت المقدس قبلة المسلمين الأولى هو نفسه قضيتهم المركزية في مقابل العلو والإفساد الثاني لبني إسرائيل ، ففلسطين آية من القرآن ومن طواها أو استبدلها فقد حاد عن الجادة وتنكب الدرب وتردى للهاوية والعلاقة الجدلية بين أرض الله المباركة والسماء هي علاقة لا انفصام فيها وقد وردت النصوص الشرعية تلو بعضها تثبيتاً وتوطيداً لأركان هذه العلاقة قال تعالى ( ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) وقول الرسول : ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى ) ويقول في موضع آخر : (ألا إن عقر دار المؤمنين الشام ) ويقول أيضاً :( أهل الشام سوط الله في أرضه ، ينتقم بهم ممن يشاء كيف يشاء ) ويقول الرسول تكريماً للشام : ( طوبى للشام فقلنا لأي ذلك يا رسول الله ؟ قال: لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها ) . ولا يمكن لأي قضية أن توحد الأمة وتستنهضها كقضية فلسطين فهي شرف الأمة وطهرها ومجدها وعنفوانها و كلمة السر للفجر القادم من حلكة الليل .
2- عالمية الإسلام كمنهج رباني شامل يحيا فيه الإنسان حراً و كريماً و عزيزاً ، فالرسل جميعاً هم حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض هذه هي دعوتهم التي دفعوا في سبيلها كل غالٍ ونفيس وواجهوا من خلالها كل المستكبرين والمتغطرسين من المتألهين وأتباعهم . و ليلة الإسراء والمعراج كانت تجسيداً لوحدة الرسالات السماوية ونبي الحق يصلي بأنبياء الله ورسله في الأقصى العظيم مؤكداً عالمية هذا الدين وانتسابه المطلق للحق وأهله من أول التاريخ الإنساني ، فالإسلام لا يطمح بصب الناس في قوالب جامدة بل يطلب من الإنسان إعمال عقله والتدبر في نفسه والكون وصولاً للحقيقة دون ضغط وإكراه وقسر قال تعالى :(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي )، الإسلام لم يأت إلا لخير الإنسان بالمفهوم المطلق للإنسان بعيداً عن التوزيع الجغرافي والموروث الديني والتقسيم العرقي ، فهود دين البشرية جمعاء يحيا في ظله أصحاب الأديان والأفكار أحراراً ولكن دون انتقاص من الآخر في عالم ينهض بالإنسان ويحرره من نير المتسلطين وأصفاد الشياطين فهو الخير المطلق الذي ينشر الحب والتعايش والترقي والصعود الدائم الذي لا تردي فيه .
3- كانت العروض والصور المرئية التي أراها الله للرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ترسيخاً لأسس أخلاقية وتعبدية تحدد للمتوثبين لتحقيق الإسلام في حياتهم ملامح الذات المنشودة في الإسلام وتصل بهم للوعي بالذات والموضوع وتسلخهم من حالة التبعية والانسياق والتقليد الأعمى ، فزكاة النفوس بالصدقات وطهارة الأجساد باستدامة الصلوات ونهوض الهمم بالجهاد والبذل و حياة المجتمع بالبعد عن الفواحش في الأفعال والأقوال . إن الإسراء والمعراج هو ذاك الطهر الذي أراده الله لعباده المؤمنين و هي تلك الزكاة التي يجب أن نمارسها في الحياة ليتشكل وعينا القائم على المعرفة وعملنا المستند على العلم والتزامنا بالتواصل الحسن مع الآخر ضمن المعايير الأخلاقية الاسلامية .
4- في ليلة الإسراء والمعراج كنا على موعد مع أكبر عنصر وحدوي سيظل يجمع أبناء هذه الأمة المحمدية ، كنا على موعد مع فرض عزيز على قلوب المؤمنين شديدين الالتصاق به ، ألا وهو الصلاة التي هي عمود الدين وأساسه المتين فالصلاة هي ذاك الينبوع الذي يمدنا بالطاقة ،ويديم اتصالنا بخالقنا، ويسموا بنا فتصفوا القلوب وتنجلي الهموم ،ويكسبنا زاداً يعيننا على السير في طريق ذات الشوكة التي عاهدنا الله على خوضها وتحمل مشاقها أملاً في رضا الله وتحقيقاً للغاية الإلهية من خلقنا وشوقاً لما عند الله و ثقة بوعد الإله الحق في جنان ونعيم وخلاصاً من غواية الشيطان الرجيم .
5- تفرد الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذه الاستضافة الربانية و هذا الخروج الفذ والمعجز فأُسرى بِه الله تعظيماً لروحه المقدسة وإكراماً لجسده المطهر بعد أن واجه رحلة المستضعف البشري في الطائف ، وعرج به إبرازاً للمنزلة العظيمة والدرجة الرفيعة التي حازها عند المولى عزوجل من بين خلقه فأوصله لسدرة المنتهى في اتصال هو الأسمى بين مخلوق وخالقه ترسيخاً في الأنفس شرف الانتساب لمحمد( صلى الله عليه وآله وسلم ) والانحياز لأمته ، فمن أعظم دلالات وإشارات هذه المعجزة أن نتعرف أكثر على رسولنا الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) والذي طالما غيبناه وانسلخنا من إرثه وآثرنا غيره وحرفنا قوله ،إسراء النبي ومعراجه يزيد العشاق توهجاً والمصطفين خلف رايته تألقاً ،فالخيارات سقطت والأفكار تهاوت إلا النهج النبوي المحمدي الأصيل الذي إن وعيناه حملنا في سفينة النجاة وحال دون التيه الذي يراد لنا وبعث فينا خيراً لا ينضب وعصمنا من الشرور والآثام ووطن فينا إيماناً لا يحمله أحد على وجه هذه الأرض .
وختاماً /إخواني وأخواتي
إن سيرة الرسول العطرة وفصولها المشرقة ومحطاتها المتألقة نوراً وضياءاً كانت بمثابة المعيار الواقعي الحياتي لتطبيق الإسلام وترجمته عقيدة وشريعة وأخلاقاً في المجتمع البشري ، وكانت ليلة الإسراء والمعراج ليلة من عمر الزمان أعطت للمجاهدين زخماً وبسالة ليتقدموا نحو القدس في كل الأزمان فالإسلام أعطى لفلسطين وبيت المقدس قيمة عظيمة وبركة مخصوصة ظهرت جلياً منذ سنوات الدعوة الأولى قبل حتى أن يطأ المسلمون هذه الأرض و قبل أن يكون للإسلام دولة ، فيا أبناء الأرض المباركة هل أحييتم هذه البركة في ضمائركم وقلوبكم هل وعيتم القيمة الجليلة لمكان سكناكم وأديتم دوركم وما كرمتم بحمل أمانته بحق ، يا أهل فلسطين يا سوط الله في أرضه يا حملة الإيمان والصبر على البلاء حققوا في أنفسكم حديث نبيكم الصادق وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيكم : ( لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا أصابهم من البلاء حتى يأتي أمر الله وهم كذلك قالوا :يارسول الله ، وأين هم ؟ قال في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس )هذه ملامح ذاتكم التي يجب أن تكونوا عليها وهي نفسها عناوين لفصول الحياة الأجمل في كنف الله ورضاه ، فتسربلوا بالدم القاني زحفاً نحو القدس (فبوصلة لا تشير إلا القدس مشبوهة )والفظوا كل أماني الساسة والمقامرين وعيشوا لدينكم ولا تلتفتوا للمتساقطين من حولكم لتستضيفوا أمر الله ونصره وحينها يفرح المؤمنون ، وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى ، والحمد لله على نعمه والشكر له على آياته التي تبث فينا إيماناً يضيئ أبصارنا ويعيننا على كلفة المسير ويصل بنا للمبتغى رضى من الله ونصر عزيز .
[/B]( سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير )
إن الحديث عن الرحلة السماوية لأكرم خلق الله يغرفنا في نشوة لا يمكن لنا أن نفيق منها إلا بدراسة أبعادها والخوض في غمارها والوقوف على معالمها والتدقيق في ملامحها الواصلة بين أرض الله وسمائه والعاقدة بين عالم المادة وعالم الروح لترسم لنا صورة نورانية صيغت خيوطها من الجمال والبهاء وكللها الجلال والسمو ،صورة لا يسع من أحياها في قلبه إلا الارتقاء من الذات الأرضية للمصاف الأسمى ، رحلة إلهية معالمها ودروسها تضع أقدامنا على طريق الله هذا الطريق الذي يبدأ من حيث نحن موجودون بفلسطين صعوداً إلى سدرة المنتهى وجنة المأوى 0
إن معجزة الإسراء والمعراج منحة إلهية لصفيه من خلقه وحبيبه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) التي ما طلعت الشمس على خير منه وهي معجزة مزجت بين ملمسها المادي وسموها الروحي لتظل وهجاً يزيح عتمة الدرب لتضح معالمه وتكسوا السالكين فيه ضياء لا يناله إلا من علم أبعاد هذه المعجزة الجليلة وخرج منها بزادٍ يعينه على مشقة الرحلة وأعباء الوصول 0
كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعيش أوجاع فراق الأحبة والمواسين من أهله وأول الناس إيماناً ، ويقاسي من عنت الغلاظ وحقد البائسين وخاصة بعد ما أصابه أذىً شديد من أهل الطائف ، فأكرمه الله بالصعود الإلهي إلى حيث لم يرتق مخلوق ، ولا وصل ملك مقرب ، أصعده الله بعد أن أسرى به إلى بيت المقدس موطن الإيمان ومركز النور فمن جهته تتنزل ملائكة الله من البيت المعمور إلى الأرض ومن جهته صعود الطهر إلى عالمه ، صلة وثقها الخالق فمن بيته الحرام إلى البيت المقدس إلى السماوات العلى وصولاً إلى سدرة المنتهى في موكب إلهي مفرداته أنبياء الله وملائكته ، ومشاهداته دروس للمؤمنين تكشف الأسس التي بني عليها دين الله الذي ارتضاه لعباده إصلاحاً لمعاشهم وآخرتهم ولا يعي هذه المكاشفات إلا من سمع وآمن ثم أعقب ذلك تدبراً وعملاً .
إن هذه المعجزة بشقيها الأرضي والسماوي لتعطي دلالات عظيمة في نفسها فالأمر يتعدى كونها تسلية للنبي الكريم بعدما أحاط به العناد والكفر والجهل والبطش من قومه ، فدلالات ودروس هذه المعجزة تملأ علينا حدود المعلوم والمعقول فهي تلك الرحلة التي إن عشنا لحظاتها بصدق فكأنه يسرى بنا ثم يعرج في ملكوت الله حيث استبصاراً لا يعقبه الا مزيداً من الاستبصار ومكاشفات لا ينالها إلا من سكنه الحب الإلهي فتصفوا روحه و يتحلل من أعباء الجسد ويصل للأنس الإلهي ويغمره الشوق الرباني.
دروس عظيمة تلك التي رآها الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بداية من قداسة المكان الذي أسري إليه ومروراً بالمحطات السماوية التي مر عليها في السماوات السبع يلقى الأحبة الذين هم الخلاصة البشرية من أنبياء الله ورسله ووصولاً لعرض نماذج من الأعمال البشرية الصالحة والطالحة وبيان المثوبة و العقاب ليتعظ من سكن الإيمان قلبه ، وزين الوعي عقله.
وفي هذه السطور نحاول أن نعايش بروحنا ونتلمس بحواسنا معالم رحلة الإسراء والمعراج آملين أن يكسبنا ذلك قوة تعيننا على غربة ملأت علينا حياتنا وحيرة أصبحت عنواناً لكل ما نراه ، نحاول أن نقتبس الأنوار من هذه الرحلة الإلهية التزاماً بواجبنا وتكليفنا الشرعي الذي يأمرنا بالنظر والتدبر لا الاكتفاء بالنظرة السطحية والقشور الخارجية ، ذلك التفكر الذي يوقد فينا جذوة البحث عن الحقيقة والجوهر للدين العظيم الذي إن وعيناه وطبقنا روحه فسوف نغير ما بنا وننفض عنا كل الأزمات والمصائب فنسد ثغورنا ونعيد توازننا ونصحح مسارنا ونأخذ مكاننا ودورنا الريادي للعالمين وبغير ذلك سنظل
نراوح مكاننا ونعيش الهزائم والنكسات المتتابعة ، إلا أن يخرج فينا ثلة يسكنها الإيمان والوعي وتسلك طريق الثورة على كل أشكال الظلم والاستكبار والجهل والتبعية .
وقبسات هذه الليلة المتفجرة طهراً و إمتزاجاً بين خيوط النور كثيرة وجليلة نحاول أن نبرز بعضها وأهمها في نظرنا لارتباطها بالواقع وإلحاحها على الفكر المستوحى من هذه الآية العظيمة والمعجزة الفريدة :-
1- أن خصوصية بيت المقدس العقائدية تتخطى الزمن فقد عبر القرآن عن الأقصى بكونه مسجداً قبل حتى أن يكون للإسلام دولة وسيادة على أي بقعة جغرافية وربطه بالمسجد الحرام الذي كان المسلمون من حوله يعيشون حالة الاستضعاف ، فكان الإسراء بشارة غيبية إلهية بالنصر والتمكين ونسج إيماني بين المسجدين والبقعتين المباركتين و تفصيل لمكانة حازها الأقصى على امتداد الرسالات السماوية و تبياناً لأدوار قادمة في تاريخ الأمة ، فبيت المقدس قبلة المسلمين الأولى هو نفسه قضيتهم المركزية في مقابل العلو والإفساد الثاني لبني إسرائيل ، ففلسطين آية من القرآن ومن طواها أو استبدلها فقد حاد عن الجادة وتنكب الدرب وتردى للهاوية والعلاقة الجدلية بين أرض الله المباركة والسماء هي علاقة لا انفصام فيها وقد وردت النصوص الشرعية تلو بعضها تثبيتاً وتوطيداً لأركان هذه العلاقة قال تعالى ( ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ) وقول الرسول : ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى ) ويقول في موضع آخر : (ألا إن عقر دار المؤمنين الشام ) ويقول أيضاً :( أهل الشام سوط الله في أرضه ، ينتقم بهم ممن يشاء كيف يشاء ) ويقول الرسول تكريماً للشام : ( طوبى للشام فقلنا لأي ذلك يا رسول الله ؟ قال: لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها ) . ولا يمكن لأي قضية أن توحد الأمة وتستنهضها كقضية فلسطين فهي شرف الأمة وطهرها ومجدها وعنفوانها و كلمة السر للفجر القادم من حلكة الليل .
2- عالمية الإسلام كمنهج رباني شامل يحيا فيه الإنسان حراً و كريماً و عزيزاً ، فالرسل جميعاً هم حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض هذه هي دعوتهم التي دفعوا في سبيلها كل غالٍ ونفيس وواجهوا من خلالها كل المستكبرين والمتغطرسين من المتألهين وأتباعهم . و ليلة الإسراء والمعراج كانت تجسيداً لوحدة الرسالات السماوية ونبي الحق يصلي بأنبياء الله ورسله في الأقصى العظيم مؤكداً عالمية هذا الدين وانتسابه المطلق للحق وأهله من أول التاريخ الإنساني ، فالإسلام لا يطمح بصب الناس في قوالب جامدة بل يطلب من الإنسان إعمال عقله والتدبر في نفسه والكون وصولاً للحقيقة دون ضغط وإكراه وقسر قال تعالى :(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي )، الإسلام لم يأت إلا لخير الإنسان بالمفهوم المطلق للإنسان بعيداً عن التوزيع الجغرافي والموروث الديني والتقسيم العرقي ، فهود دين البشرية جمعاء يحيا في ظله أصحاب الأديان والأفكار أحراراً ولكن دون انتقاص من الآخر في عالم ينهض بالإنسان ويحرره من نير المتسلطين وأصفاد الشياطين فهو الخير المطلق الذي ينشر الحب والتعايش والترقي والصعود الدائم الذي لا تردي فيه .
3- كانت العروض والصور المرئية التي أراها الله للرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ترسيخاً لأسس أخلاقية وتعبدية تحدد للمتوثبين لتحقيق الإسلام في حياتهم ملامح الذات المنشودة في الإسلام وتصل بهم للوعي بالذات والموضوع وتسلخهم من حالة التبعية والانسياق والتقليد الأعمى ، فزكاة النفوس بالصدقات وطهارة الأجساد باستدامة الصلوات ونهوض الهمم بالجهاد والبذل و حياة المجتمع بالبعد عن الفواحش في الأفعال والأقوال . إن الإسراء والمعراج هو ذاك الطهر الذي أراده الله لعباده المؤمنين و هي تلك الزكاة التي يجب أن نمارسها في الحياة ليتشكل وعينا القائم على المعرفة وعملنا المستند على العلم والتزامنا بالتواصل الحسن مع الآخر ضمن المعايير الأخلاقية الاسلامية .
4- في ليلة الإسراء والمعراج كنا على موعد مع أكبر عنصر وحدوي سيظل يجمع أبناء هذه الأمة المحمدية ، كنا على موعد مع فرض عزيز على قلوب المؤمنين شديدين الالتصاق به ، ألا وهو الصلاة التي هي عمود الدين وأساسه المتين فالصلاة هي ذاك الينبوع الذي يمدنا بالطاقة ،ويديم اتصالنا بخالقنا، ويسموا بنا فتصفوا القلوب وتنجلي الهموم ،ويكسبنا زاداً يعيننا على السير في طريق ذات الشوكة التي عاهدنا الله على خوضها وتحمل مشاقها أملاً في رضا الله وتحقيقاً للغاية الإلهية من خلقنا وشوقاً لما عند الله و ثقة بوعد الإله الحق في جنان ونعيم وخلاصاً من غواية الشيطان الرجيم .
5- تفرد الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذه الاستضافة الربانية و هذا الخروج الفذ والمعجز فأُسرى بِه الله تعظيماً لروحه المقدسة وإكراماً لجسده المطهر بعد أن واجه رحلة المستضعف البشري في الطائف ، وعرج به إبرازاً للمنزلة العظيمة والدرجة الرفيعة التي حازها عند المولى عزوجل من بين خلقه فأوصله لسدرة المنتهى في اتصال هو الأسمى بين مخلوق وخالقه ترسيخاً في الأنفس شرف الانتساب لمحمد( صلى الله عليه وآله وسلم ) والانحياز لأمته ، فمن أعظم دلالات وإشارات هذه المعجزة أن نتعرف أكثر على رسولنا الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) والذي طالما غيبناه وانسلخنا من إرثه وآثرنا غيره وحرفنا قوله ،إسراء النبي ومعراجه يزيد العشاق توهجاً والمصطفين خلف رايته تألقاً ،فالخيارات سقطت والأفكار تهاوت إلا النهج النبوي المحمدي الأصيل الذي إن وعيناه حملنا في سفينة النجاة وحال دون التيه الذي يراد لنا وبعث فينا خيراً لا ينضب وعصمنا من الشرور والآثام ووطن فينا إيماناً لا يحمله أحد على وجه هذه الأرض .
وختاماً /إخواني وأخواتي
إن سيرة الرسول العطرة وفصولها المشرقة ومحطاتها المتألقة نوراً وضياءاً كانت بمثابة المعيار الواقعي الحياتي لتطبيق الإسلام وترجمته عقيدة وشريعة وأخلاقاً في المجتمع البشري ، وكانت ليلة الإسراء والمعراج ليلة من عمر الزمان أعطت للمجاهدين زخماً وبسالة ليتقدموا نحو القدس في كل الأزمان فالإسلام أعطى لفلسطين وبيت المقدس قيمة عظيمة وبركة مخصوصة ظهرت جلياً منذ سنوات الدعوة الأولى قبل حتى أن يطأ المسلمون هذه الأرض و قبل أن يكون للإسلام دولة ، فيا أبناء الأرض المباركة هل أحييتم هذه البركة في ضمائركم وقلوبكم هل وعيتم القيمة الجليلة لمكان سكناكم وأديتم دوركم وما كرمتم بحمل أمانته بحق ، يا أهل فلسطين يا سوط الله في أرضه يا حملة الإيمان والصبر على البلاء حققوا في أنفسكم حديث نبيكم الصادق وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيكم : ( لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا أصابهم من البلاء حتى يأتي أمر الله وهم كذلك قالوا :يارسول الله ، وأين هم ؟ قال في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس )هذه ملامح ذاتكم التي يجب أن تكونوا عليها وهي نفسها عناوين لفصول الحياة الأجمل في كنف الله ورضاه ، فتسربلوا بالدم القاني زحفاً نحو القدس (فبوصلة لا تشير إلا القدس مشبوهة )والفظوا كل أماني الساسة والمقامرين وعيشوا لدينكم ولا تلتفتوا للمتساقطين من حولكم لتستضيفوا أمر الله ونصره وحينها يفرح المؤمنون ، وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى ، والحمد لله على نعمه والشكر له على آياته التي تبث فينا إيماناً يضيئ أبصارنا ويعيننا على كلفة المسير ويصل بنا للمبتغى رضى من الله ونصر عزيز .
تعليق