معالم في الطريق
أ. خالد سيف الدين
كلمة لابد منها:
يعتبر كتاب "معالم في الطريق" من أفضل كتب الفكر الإسلامي التي قرأتها على الإطلاق، فهو ليس كتابا عاديا يعتمد فيه الكاتب ـ مثل بقية الكتّاب والباحثين ـ على النقل والاقتباس، والإغراق في سرد الأحداث التاريخية ـ كما هي ـ دون تفحيص وتمحيص، أو شرح وتفسير. فإذا استدعى الأمر الاستعانة والاسترشاد بحدث تاريخي قدّم له رؤية تحليلية جديدة؛ غير التي تعودنا على قراءتها من الكتّاب الآخرين، فهو يبيّن أين مواطن القوة والضعف في الرواية، ويشرح الحدث كأنه يعايشه ويشارك فيه. ولم يسرف في استدعاء آراء وأقوال الآخرين ليزيد بها عدد صفحات الكتاب، أو ليدعم فكرة ضعيفة عنده. إنما كان يعتمد في المقام الأول في تأليفه لهذا الكتاب على ما وهبه الله من أسلوب أدبي رائع في طرح أفكاره وإيصال رسالته، فهو يسترسل في طرح أفكاره بشكل منطقي سلس مترابط، ويبقى القارئ متواصلا في قراءة الكتاب، وقد يقطع جزء كبيرا من صفحات الكتاب وهو لا يشعر؛ كون أنه مندمج ومتفاعل مع الطرح الرائع والأسلوب الأروع الذي اتبعه الكاتب. أي أن القارئ لا يمل من أسلوب الكتابة ولا طريقة الطرح. أضف إلى ذلك قوة النظر والحجة والإقناع التي يتمتع بها الكاتب، وقراءة ما بين السطور واستشراف المستقبل، ورؤيته لِمَا لم يره الكتاب "الإسلاميين" السطحيين ـ التقليديين.
هذا الكتاب هو بمثابة "نظرية إسلامية ثورية"، يستند عليها كل "إسلامي ثائر" في وقتنا المعاصر، وكل من يريد إطارا مرجعيا إسلاميا يستند ويتكئ عليه في محاربته للطاغوت والجاهلية المعاصرة.
من يقرأ هذا الكتاب ـ بدون مبالغة ـ يشعر بالفخر والعز أن مَنَّ الله عليه بالانتماء إلى أمة الإسلام العظيم، من خلال هذا الكتاب تفهم "الإسلام" برؤية جديدة ـ غير تقليدية ـ، يمنحك رؤية تجديدية للإسلام، بحيث لم تعد تشعر بأن إسلامك وراثيا ـ منقول من السلف إلى الخلف ـ، ولم تعد الصورة قاصرة لديك بأن الإسلام مقتصر على شعائر وعبادات وطقوس دينية (صلاة، صيام، زكاة، حج).
أول عهدي بكتاب "المعالم"، منذ اللحظات الأولى لالتحاقي بـ "حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين". لمّا قرأت الكتاب في المرة الأولى ـ حقيقة ـ لم أستوعب كل الأفكار التي طرحها وتناولها قطب، بل احتاج مني قراءة ثانية وثالثة. وكل مرة أقرأ فيها الكتاب أكتشف أشياء لم أكن اكتشفتها في المرات السابقة. وكل مرة أقرأ فيها الكتاب أشعر؛ كأني أقرأه للمرة الأولى.
وأن أفكاره ليست جامدة ومتحجرة، بل تتمتع بدرجة عالية من المرونة، وكأنه ـ رحمه الله تعالى ـ يعيش بين ظهرانينا يتحدث الآن مباشرةً إلى "جيل الطليعة المرجوة"، يخاطب شباب التيار الإسلامي الثوري الذين يقضّون مضاجع الظلم والجاهلية والطاغوت في كل بقاع الأرض.
كيف لا، وهو يقول: "إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئا كثيرا، ولكن بشرط واحد: أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم. أن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم، أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق، ويقدموا دمائهم فداء لكلمة الحق.
إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة؛ حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء".
إن أسلوب سيد قطب في كتابته للمعالم تميز بالاختصار غير المخل (المركّز ـ المضغوط). بمعنى أن الصفحة الواحدة تحتاج إلى شروح وتأني وتدبر في القراءة، أي أنك لا تستطيع أن تفهم الكتاب وتدرك كنهه بمجرد قراءتك له قراءة سريعة.. "قراءة جرائد"، لابد وأنت تقرأ الكتاب أن تكون صاحب ذهن ومزاج صافي وعقلية متفتحة، حتى تستطيع أن تسبح في ثنايا صفحات الكتاب، وتغرف من شهده. إن شرح وتبسيط أفكار وأطروحات كتاب "المعالم" تحتاج إلى كتاب آخر بجانبه.
ويعتبر كتاب "المعالم" من أول الكتب التي تتلمذ عليها الجيل المؤسس لحركة الجهاد الإسلامي، بل أن هذا الكتاب هو الذي شكّل نقلة نوعية في فكرة وثقافة ووعي الدكتور فتحي الشقاقي ـ رحمه الله تعالى ـ.
الكل يعلم أن الشقاقي كان في فترة "المراهقة" ناصريا، كون أن التوجه الناصري هو الاتجاه الفكري السائد والغالب في المجتمع العربي، ولمّا وقعت هزيمة 1967م فقد الشقاقي الثقة بالناصرية وأطروحاتها الزائفة المتعلقة بـ (تحرير الوطن العربي من الاستعمار الصهيوني، وإلقاء إسرائيل في البحر ، والقضاء على الثالوث الخطِر: "الفقر والجهل والأمية"، وتحقيق العدالة الاجتماعية).
أول ما قرأ الشقاقي من كتب الفكر الإسلامي هو كتاب "معالم في الطريق" إلى جانب كتب أخرى مثل: (أخلاق المسلم، الحركة الإسلامية بين النكبتين)، الذي شكل انقلابا وتغييرا جذريا في فكر وشخصية الشقاقي وتعاطيه مع قضايا الوطن الإسلامي.
إن من يقرأ ويتتلمذ على كتابات سيد قطب، يستهين ويستقل ويستخف بكل أساليب الكتابة الموجودة عند الآخرين التي تقوم على القراءة السطحية.
ومن شدة هيام الشقاقي وحبه وإعجابه بهذا الكتاب قام بإعداد دراسة عنه، وكان مما كتبته في مقدمة هذه الدراسة:
"كانت الجماهير تبحث عنه [كتاب معالم في الطريق] كخبزها اليومي، وكان ورثة البوليس السياسي يطاردونه كشبح يقض مضاجعهم، كان الشباب المؤمن يحملونه تحت ثيابهم.. في جيوبهم وتحت وسائدهم، وكانت الصحافة المأجورة تنشر صورته (مطلوبا حيا أو ميتا)... كأنه أي بطل وطني مطارد، كان المؤمنون يتناقلون كلماته همسا، وكان صوت المذياع الفاجر يتوعد من شاهده ولم يبلّغ بالويل والثبور.. إنه واحد من أخطر الكتب الإسلامية في القرن الأخير [يقصد القرن العشرين]، وكان ولا يزال وسيبقى إلى فترة طويلة من أشد الكتب تأثيرا على مسيرة الحركة الإسلامية في هذه المنطقة، إنه الكتاب الذي قتل رجلا كتبه، وأحيا جيلا تربى عليه.. إنه معالم في الطريق آخر ما كتب الإمام الشهيد سيد قطب".
حقا سيدي، إن كتاب "المعالم" كان ولا زال يمثل دستورا وموجها للحركة الإسلامية "الثورية"، ولازال أيضا من أخطر كتب الفكر الإسلامي ليس في المنطقة فحسب، بل اكتسب صفة "العالمية"، بحيث أصبح الجميع يسترشد ويستنير بأفكاره وأطروحاته الإسلامية الثورية.
ومما قاله الشقاقي ـ عليه رحمة الله تعالى ـ في حق سيد قطب: "رحلة الدم التي هزمت السيف".
ويستحضرني أيضا قول الشقاقي في رثاء عباس الموسوي ـ الأمين العام السابق لحزب الله اللبناني ـ في حفل تأبينه، إذا قال: "إن حركة يستشهد أمينها العام لا يمكن أن تنكسر أو تنهزم".
في كلا العبارتين، كأن الشقاقي ـ رحمه الله ـ كان يرثي نفسه. ولم يجد أهل البلاغة والفصاحة أفضل مما قاله الشقاقي في حق غيره ليرثوه بها، فأطلقت نفس العبارات في رثاء الشقاقي.
فما كان من الباحث القدير/ رفعت سيد أحمد، إلا أن أطلق على موسوعته "الأعمال الكاملة للشهيد الدكتور فتحي الشقاقي"، اسم (رحلة الدم الذي هزم السيف).
كذلك الشيخ/ حسن نصر الله لم يجد أبلغ تعبيرا وقولا في رثاء الشقاقي ـ في حفل تأبينه ـ من قوله: "إن حركة يستشهد أمينها العام لا يمكن أن تنكسر أو تنهزم".
وكلمة أخيرة بها أختم، أن هذا الكتاب (المعالم) يعد من الكتب الممنوعة والمحظور تدريسها في جلسات الأسر الإخوانية، لأنه يمثل فكرا ثوريا، وهو ما لم تعد تهتم به كثيرا المدرسة الإخوانية، ولم يعد يمثل الفكر الثوري شيئا في اهتماماتها وأولوياتها، إذ أصبح جل همها الأول والأخير الوصول إلى السلطة من خلال مداهنة ومغازلة الأنظمة الحاكمة، وهذا ما وقعت به كل التشكيلات الإخوانية في أغلب الأقطار العربية، كان آخرها "الصيحة الحمساوية في فلسطين".
ويعد هذا الكتاب من الكتب الأشد حرمة ومنعا عند حماس، وحتى يتم التحايل على أبناء حماس قام "المقادمة" بتأليف كتاب تحت عنوان "معالم على الطريق"، ليحاكي ويغازل معالم قطب، ولكن شتان بين الثرى والثريا.. شتان بين معالم قطب ومعالم المقادمة!!
الأول هو نظرية ثورية يسترشد بها كل إسلامي ثائر، أما معالم المقادمة تناولت بعض المصطلحات السياسية: (الاشتراكية، الرأسمالية، الاستشراق... إلخ)، والقضية الفلسطينية بأبعادها: (الديني، التاريخي، السياسي)، اختزلها واختصرها في صفحات قليلة جدا، لم تف الموضوع حقه.
والطامة حينما تسأل أبناء حماس عن معالم قطب، يحمر وجهه، ويتلعثم لسانه، ويهرب من الموضوع، فهو لم يعرف عنه شيئا، إنما كل ما يعرفه "معالم المقادمة"، وليس هناك كبير اهتمام لكتب قطب عند حماس عدا الأجزاء الخمسة الأخيرة من تفسير الظلال.
يتبع في الحلقة القادمة
...
تعليق