بسم الله الرحمن الرحيم
أبجديات حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين
• الإسلام وفلسطين والجهاد: المحور المقدس
• فلسطين القضية المركزية لماذا؟
• فلسطين قضية مركزية أممية: كيف؟
• حركة الجهاد والمشروع الوطني الفلسطيني
• صراع "التمثيل" و "الشرعية" بين المصالحة الوطنية والمصلحة الفلسطينية
• «م.ت.ف» وحركة الجهاد: فشل الاستيعاب
• من جماعة الإسلامية إلى الجماعة الوطنية
• موجبات العقيدة
• ضرورات الاجتماع المقاوم
• التمثيل الإسلامي للجماعة الوطنية
• "الجهاد" و "حماس" وتدافع الشرعية الإسلامية
• السلام وخيار المواجهة
• حركة الجهاد والسلطة الفلسطينية
• الجهاد المسلح الخيار الاستراتيجي
شكل الموقف من القضية الفلسطينية في أيديولوجيا حركة الجهاد أم بواعث الانطلاقة، ومبررات التفاضل عن القوى الوطنية والإسلامية السائدة، وصلب الحراك الثقافي والسياسي والعسكري لحركة الجهاد الى يومنا هذا.
وقد مر الوعي «الجهادي» بالقضية الفلسطينية بدوائر ثلاث هي: الإدانة، فالقراءة التاريخية، فالتأصيل الإسلامي.
في الدائرة الأولى كانت واقعة افتراق الحركة الإسلامية الفلسطينية، وغيابها عن مباشرة الشأن الفلسطيني سياسيا وعسكريا مبعث دهشة واستغراب وتساؤل حركة الجهاد منذ مرحلتها الرؤيوية في مصر، فقام المؤسسون الأوائل بإدانة واقعة الافتراق هذه بين الدور التاريخي الذي على الإسلاميين أن يقوموا به وبين الوطن الذي تقدس في نص الوحي المنزل. واعتبروا أن هذه الواقعة تعبر عن جهل «الإسلاميين» بالمرحلة المعاشة، وجهلهم بجواهر الصراع الدائر على أرض الوطن الإسلامي، قبل جهلهم بالقضية الفلسطينية وموقعها من المرحلة، ومن دائرة الصراع، وهم بذلك يجهلون جهتي العلاقة الواجبة الربط والأداء، وهي مهمات الحركة الإسلامية المعاصرة وأصول القضية الفلسطينية.(1)
لم يقتصر موقف الإدانة هذا على «الإسلاميين» الذين غيبوا فلسطين من برامجهم طوال سنوات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، بل شمل الحركة الوطنية الفلسطينية، ممثلة بقوى وفصائل «م. ت. ف» التي استبعدت الإسلام من محتواها الفكري والنضالي، مشكلا هذا الاستبعاد «أخطر نقاط ضعف المشروع الوطني الفلسطيني».(2)
اعتمد موقف الإدانة السابق في مبناه على القراءة التاريخية، التي تؤكد وحدة البعدين الديني والوطني في أهداف وبرامج الحركة الفلسطينية، التي قادت النضال ضد الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية حتى العام 1948.
كانت دائرة القراءة التاريخية(2) التي لجأت إليها «الطلائع الإسلامية» محاولة لاستبصار جذور القضية الفلسطينية، وعلاقتها بأزمة الوطن الإسلامي ككل، وسبيلا لوعي المرحلة والأهداف والأدوات التي أرادتها حركة الجهاد «لمشروع الوعي والثورة»، والذي أرادت بعثه في فلسطين، فاهتدت ضمن هذه القراءة الى تجربتين اسلاميتين تعاملتا مع القضية الفلسطينية، وهما تجربة مرشد عام «الإخوان المسلمين» الإمام حسن البنا وتجربة الشيخ عز الدين القسام.
من ناحية أخرى كانت القراءة التاريخية لهزيمتي العامين 1948، و1967 تجليا آخر لهذه القراءة، التي تم التوسل بها لرفض أيديولوجيا الهزيمتين، والتمسك بالخيار الإسلامي سبيلا للثورة ضد الاحتلال.
تتمثل التجربة التاريخية الأولى في الجماعة الجهادية للشيخ القسام،(3) التي كانت النموذج الأبرز محل الدرس والاقتداء والتمثل لدى حركة الجهاد الإسلامي، فقامت الحركة بإعادة قراءة التجربة القسامية(1919 ـ 1935) لتصوغ رؤيتها الجهادية الراهنة، التي ترتكز منهجيا على مقولات الإيمان والوعي والثورة، وكما عبر عنها وجسدها وكان رمزا لها الشيخ القسام، رمزا إيمانيا باعتباره «عالما مسلما مؤمنا»(4) يستلهم قيم الإسلام وآيات الجهاد والتضحية القرآنية في معركته ضد الاحتلال، ولاختياره المسجد كمنطلق، ولاختياره أصحابه من «أهل الدين والعقيدة الصحيحة»، ورمزا للوعي «يتمتع برؤية ناضجة وواضحة على المستوى الاجتماعي والمستوى السياسي»(5). ورمزا للثورة ـ في علاقتها الجدلية بالوعي ـ بتأسيسه لتنظيم ثوري صلب قاد جهادا مسلحا، فضلا عن صياغته لنظرية ثورية اتسمت «بالنضوج الفكري ووضوح الرؤية»، فحلل المجتمع وظروفه السياسية بشكل متقدم، وحدد كلا من العدو والحليف، كما حدد طبيعة المعركة ومهام ومراحل النضال التي قادها حتى استشهاده في العام 1935(6).
ركزت حركة الجهاد أيضا في قراءتها للتجربة القسامية، التي اعتبرتها «أول بداية للعمل المسلح الثوري والمنظم» القائم على عقيدة الإسلام، على ما اعتبرته عوامل التميز التأسيسية، وأهمها موقفه المخالف للحركة الوطنية، حين اعتبر أن بريطانيا هي العدو الرئيسي، وأن الصهيونية تابعة لها، مناديا بمقاومة الاثنين معا، ومباشرة الكفاح المسلح أسلوبا للنضال بدلا من النضال السياسي السلبي، واهتمامه بفئات العمال والفلاحين والفقراء باعتبارها «أصدق الفئات وأكثرها استعدادا للبذل والتضحية»(7).
كان القسام بأوجه التميز و«التفرد» تلك نموذجا لعالم الدين المجاهد والثوري البسيط والعادي والقادر في الوقت نفسه على القيادة والبعث والإلهام، وكان ـ وفق نزوع حركة الجهاد في استلهامها للعناصر الثورية من التاريخ الإسلامي ـ وريثا للنهج الحسيني، حين خاض معاركه مع «قلة مؤمنة في مواجهة جيوش جرارة..(منتصرا) للواجب المقدس في صراع الواجب والإمكان»(8).
وتمثلت التجربة التاريخية الثانية في قرار الإمام حسن البنا مؤسس ومرشد عام «الإخوان المسلمين» بإرسال كتائب «الإخوان» لتقاتل في فلسطين في الفترة ما بين 1947 ـ 1948، الأمر الذي عكس بحسب «الجهاد» وعي البنا و«الإخوان» بمركزية القضية الفلسطينية للحركة الإسلامية(9). كما مثل هذا القرار «الموقف الأصيل» في تراث الحركة الإسلامية، ووصف الموقف بالأصيل هو إشارة إدانة الى ما لحق بالتيار الديني من عطالة في عدم تواصله مع هذا الميراث وانصرافه الى التوسع الأفقي، هذا التوسع الذي أسس البنا بعقمه، فأسس الجهاز الخاص «ليكون طليعة المد الإسلامي»، وقام بإرسال طلائع «الإخوان» من سوريا والأردن ومصر، حين أصبح واضحا أن التحدي الغربي الحديث يحاول إدخال المنطقة الى الحقبة الإسرائيلية(10).
وتأكيدا على التوجه الجهادي للموقف «الإخواني» القديم، وإبرازا له ودفاعا عنه، فإن حركة الجهاد وقفت ضد ما أشيع في الخمسينات والستينات ـ وتم تكراره في الثمانينات ـ (11) داخل الأوساط الإخوانية في مصر وفلسطين من أن البنا «وافق على إرسال مجاهدي الإخوان الى فلسطين تحت ضغط قواعد الجماعة (من الشباب المتحمس والعاطفي)، بينما هو شخصيا كان يفضل الحفاظ على قوى الإخوان استعدادا للمعركة الداخلية في مصر»(12).
وفندت حركة الجهاد هذا الموقف مؤكدة على أصالة موقف البنا، واهتمامه بفلسطين التي اختارها لنشر المشروع الإخواني قبل أي قطر عربي آخر، وأن تاريخ «الإخوان» يبين كيف أنهم لم يتركوا فرصة سياسية أو عسكرية حتى استغلوها للعمل على الساحة الفلسطينية، الى أن وضعوا كل جهدهم العسكري في غمار معاركها، واعتبرت «الجهاد» أن «مساهمة الإخوان المسلمين في الحرب الفلسطينية الأولى أهم حدث شهده تاريخ القضية الفلسطينية الحديث منذ المؤتمر الإسلامي العام 1931. وذلك من حيث الأثر على وحدة الأمة الاسلامية حول فلسطين»(13).
ساهم الجانب الآخر من القراءة التاريخية والخاص بهزيمة العامين 1948 و1967 في تمسك المؤسسين الأوائل «للجهاد» بالحل الإسلامي، كخيار حتمي استراتيجي ومنقذ لقضية فلسطين، وهي هزيمة نظر لها قادة«الجهاد» على أنها هزيمة أفكار واتجاهات قادت الأمة في صراعها مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين بعيدا عن الإسلام. فكانت نكبة 1948 هي هزيمة للفكر الليبرالي العربي، وإعلان صارخ بخطأ الاتجاه الذي حمله، كما كانت نكبة 1967 هزيمة ما سمي بالفكر الاشتراكي الثوري واتجاهه، و«كلاهما هزيمة لتيار التغريب وقيادته السياسية».(14) وعليه فالهزيمة «ليست هزيمة شعب ولا جيش بل هزيمة هذا الفكر وقيادته السياسية»(15).
وخلصت حركة الجهاد في قراءتها للنكبتين، وفق ما قامت به من ربط جدلي بين النكبة والفكر الى حقيقة «أن الإسلام والإسلام وحده كدين وحضارة هو الشرط الوحيد لبقائنا واستمرارنا كأمة وثقافة في وجه التحدي الغربي الحديث السياسي والثقافي منه على السواء»(16) والوجود الصهيوني اليهودي في فلسطين هو تجسيد للتحدي الغربي الحديث، ودليل على أنه ما يزال قائما.
وانطلاقا من هذه القراءة التي أكدت أن أقصاء الإسلام عن ساحة الصراع والمواجهة مع التحدي الغربي الحديث والكيان الصهيوني، كان سببا مباشرا للهزيمة ولسقوط فلسطين، فإن حركة الجهاد دأبت على إدانة أية تجربة للمقاومة تسلك نفس الاتجاه، وعى رأس هذه التجارب تجارب فصائل وقوى «م.ت.ف».
سعت حركة الجهاد إثر جهدها في استيعاب الحركة التاريخية للتجربة الإسلامية والوطنية الى التأصيل الإسلامي للشعار الذي طرحته، ودعت الى تبنيه فكرا وممارسة، وهو شعار: «القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للحركة الإسلامية والأمة الإسلامية». والإجابة على طرفي الإشكالية التي واجهتها حيث «وطنيون بلا إسلام، وإسلاميون بلا فلسطين»(17)، مشكلة بهذا التأصيل هوية «الجهاد الإسلامي» وأبعادها الإسلامية والوطنية. إسلاميا كانت الحركة «الإجابة على السؤال الفلسطيني إسلاميا»، ووطنيا جسدت الحركة النموذج الإسلامي المقاتل أمام الحركة الوطنية التي استبعدت الإسلام(18).
فلسطين القضية المركزية.. لماذا؟
خاض المؤسسون الأوائل لحركة الجهاد محاولات واسعة من البحث والتأمل والتفكير سعيا للتأصيل الإسلامي لقضية فلسطين، الى أن «اكتشفوا» كلمة السر في الإجابة على سؤالهم/الإشكالية المتعلق بعلاقة الإسلام بفلسطين، وموقع فلسطين من الإسلام، فوجودها في مقدمة سورة الإسراء القرآنية، وفي التاريخ القديم والمعاصر، كما في الواقع المعاش، وطبيعة التدافع بين قوى الصراع الدائر في فلسطين ومن حولها. وتأكدت مركزية فلسطين ضمن هذه الدوائر وابعاد الثلاثة، وأجابت بذلك على شطري سؤال المركزية لماذا؟ وكيف؟
نلاحظ من المعطى الفكري والسياسي لحركة الجهاد تركيزه على أبعاد ثلاثة، في سياق الإجابة على الشطر الأول لسؤال المركزية، والمتعلق ببيان الأسباب والمبررات التي دفعت الحركة منجيا الى تبني هذا الشعار في تعاملهم مع القضية الفلسطينية(19) وهذه الابعاد هي:
البعد القرآني20)
الذي أعطى لفلسطين مكانة بارزة وأهمية خاصة، من خلال حادثة الإسراء والمعراج، ومباركته وتقديسه لأرض فلسطين في أكثر من موطن في القرآن. إضافة لما جاءت به الأحاديث النبوية والتراث الإسلامي في شأن بيت المقدس ومكانته ومنزلته الرفيعة عند الله، وما أوردته الأحاديث عن عظم أجر الرباط والجهاد في بلاد الشام.
وحظيت مقدمة سورة الإسراء (= بني إسرائيل) بأهمية بالغة في تفسير هذا البعد القرآني لقضية فلسطين من قبل حركة الجهاد، التي لا تعتبر القرآن الكريم مصدرا للتشريع أو القواعد الأخلاقية فحسب، بل تعتبره متضمنا لمنهج شامل وكلي، على المسلمين أن يتبعوه في شتى مناحي الحياة.
رأت حركة الجهاد أن مرتي العلو والإفساد اللتين سيقوم بهما بنو إسرائيل كما جاءتا في النص القرآني سيكن مركزيهما في بلاد المسلمين، فالعلو والإفساد الإسرائيلي الأول وقع في الجزيرة العربية زمن البعثة الإسلامية، وهذا العلو والإفساد كان قد قضى عليه «عباد الرحمن» من صحابة رسول الله(ص). وأما العلو والإفساد الإسرائيلي الثاني، الذي مساه القرآن «وعد الآخرة» فهو القائم اليوم في فلسطين ممثلا باغتصاب الحركة الصهيونية لأرض فلسطين، وإقامة دولة إسرائيل العبرية اليهودية عليها.
وترى الحركة ان النص القرآني يقرر تقريرا ربانيا طبيعية الصراع بين إسرائيل والمسلمين، وصراع سينتصر فيه المسلمون، وسيقضون على دولة إسرائيل، حيث العلو والإفساد في دورته الثانية. وسيبدأ أهل الإسلام عالميتهم الإسلامية الثانية، التي لن يمكن لها تمام التمكين إلا بالقضاء على الظاهرة الإسرائيلية الإفسادية في الأرض كل الأرض، فتحرير القدس هو البداية لظهور الإسلام وانتصاره على الدين كله، وانتشاره في كل الأرض.
ومع اشتغال الحركة على الوقائع الزمنية والمكانية لمرتي العلو والإفساد الإسرائيلي، لتأكيد مركزية فلسطين في فكر واهتمامات وبرامج المسلمين في سياق صراعهم مع إسرائيل، فإنها اهتمت أيضا بقضية «المنهج» التي أولتها اهتماما خاصا، أي المنهج الواجب الاتباع خلال عملية الصراع مع بني إسرائيل كما تضمنته وأظهرته مقدمة سورة الإسراء، وكافة الآيات التي تتناول العلاقة بين اليهود والمسلمين، وخاصة في حالات الصراع والحرب وإشاعة الفساد من قبل اليهود.
ورسمت «الجهاد» منهج الصراع هذا من خلال تأكيدها على طبيعة الصراع، كصراع بين منهج الحق ومنهج الباطل، بين الإسلام وقواه والكفر وقواه، ويمثل اليهود ومن ورائهم الغرب مركزية منهج الباطل والصراع، وفي المقابل يمثل الإسلام المنهج الإلهي، منهج الحق والوحدة.
وبينت «الجهاد» صفات الطرف الإسلامي المتأهل لخوض هذا الصراع، والقادر على خوضه ضد بني إسرائيل، وهم «عباد الله» أولى البأس الشديد، ممن لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يضرهم من خافهم، متمسكين بحقهم مستمرين في جهادهم دون وهن أو ضعف أو استكانة.
وهكذا تذهب حركة الجهاد الى أن «البعد القرآني للقضية الفلسطينية (يؤكد) بما لا يقبل الشك خصوصية هذه الأرض (فلسطين)، وخصوصية هذه القضية، وبالتالي مركزيتها ي فكر وممارسة الحركة الإسلامية»(21).
البعد التاريخي:
لم تر حركة الجهاد في القضية الفلسطينية حدثا تاريخيا معاصرا جاء نتيجة لنكبة العام 1948 أو هزيمة الخامس من حزيران (يونيو) 1967، بل ربطت بدايات ظهور القضية الفلسطينية بمجموع المتغيرات التي كانت تجري منذ أواخر القرن التاسع عشر داخل المنطقة الإسلامية. وعلى وجه الخصوص ذلك الصراع الذي كان يحتدم ويزداد بين المشروع الغربي الاستعماري وبين النظام السياسي الإسلامي ممثلا بالدولة العثمانية.
كان الغرب يتحرك منذ القرن التاسع عشر باتجاه الوطن الإسلامي، مدفوعا «بكل ثقل حقده الصليبي القديم، بالاضافة الى ثقل العوامل الاقتصادية والسياسية»(22)، فاصطدم بالجدار الإسلامي (= الدولة العثمانية والشعوب الإسلامية) فعمد الى تدميره مبتدئا بتوسيع قاعدة التغريب بين أبناء الجدار الإسلامي، وتحالف الجميع الغرب واليهود من جانب وتيار التغريب من جانب آخر، ليسقطوا الدولة العثمانية فيقلبوا بذلك موازين القوى، ويغيروا خريطة المنطقة السياسية والفكرية. وتم بذلك هزيمة الكتلة الإسلامية عسكريا وثقافيا وحضاريا. وتم تقسيم بلاد المسلمين واحتلالها. ونجح المشروع الاستعماري بعد قرن ونصف من وجوده في المنطقة في إقامة إسرائيل، أهم الأدوات وأخطرها وأكثرها فاعلية في عملية قطع التواصل الحضاري والتاريخي للأمة(23).
وفق هذا التحليل التاريخي لولادة القضية الفلسطينية تتضح فكرة المركزية التي يؤكدها هذا البعد للقضية الفلسطينية عربيا وإسلاميا، فإسرائيل تمثل قلب الهجمة الاستعمارية وضمانة استمراريتها وهيمنتها على المنطقة، ومن الصعب على المسلمين أن يحققوا أهدافهم في مواجهة آثار ونتائج الهجمة الغربية من تجزئة وتغريب وتبعية وإلحاق من دون مواجهة قلب هذه الهجمة ورأس حريتها.
البعد الواقعي:
ويتم شرحه من قبل حركة الجهاد ببيان الدور المناط بإسرائيل. وبيان الأبعاد الشاملة للخطر الإسرائيلي كما تطبق وتمارس على الأرض. فكون إسرائيل هي الجزء المركزي في الهجمة الغربية المتواصلة ضد الوطن الإسلامي، فذلك يعني أنها لابد أن تؤدي دورا مركزيا في العمل لتحقيق أهداف هذه الهجمة، «كعزل الإسلام بعيدا عن الحياة والحكم. ومواصلة العمل لتدميره على كل المستويات. والتحرك الدائم باتجاه المحافظة الشاملة على كل مصالح الغرب في المنطقة»(24).
وأما مظاهر الخطر الإسرائيلي التي توردها حركة الجهاد في سياق حديثها عن البعد الواقعي لمقولة المركزية فهي تعكس موقف الحركة من الحركة الصهيونية، ومن إسرائيل كظاهرة إفسادية عالمية تهدد المسلمين في كل مكان. تطرح «الجهاد» أبعاد ومظاهر الخطر الإسرائيلي ضمن أبعاد شتى، منها الديني ومنها السياسي ومنها الاجتماعي ومنها الاقتصادي، وهي بذلك لا تنحو منحى بعض الحركات الإسلامية التي تعطي لمعركتها مع إسرائيل طابعا دينيا صرفا، من خلال تركيزها على سيرة اليهود في التاريخ كما يعرضها القرآن الكريم. مثل إفسادهم في الأرض، وقتلهم للأنبياء، ونقضهم للعهود والمواثيق، وتحريفهم لكلام الله، ومحاربتهم للرسل. مكتفين بالصورة التاريخية الدينية الموروثة عنهم، وهي الصورة التي يتم تكرارها والتذكير بها لحشد المسلمين وتحريضهم ضد إسرائيل، وضمن هذا التصور يسم البعض الصراع مع إسرائيل «بالصراع العقائدي».
وتعرض حركة الجهاد لأبرز مظاهر الخطر الإسرائيلي على النحو التالي25)
«1 ـ تجسد إسرائيل وبشكل واقعي ذروة المنهج الوضعي الصراعي المضاد للإسلام: دين السلام والحق والكرامة، الذي يحترم الإنسان ويعطيه قيمة مميزة منبثقة عن الله. وهي تصعيد مستمر لمنهجية الصراع والباطل، من حيث كونها دولة الحلم اليهودي الزائف كوطن لشعب الله المختار، وكون هذا الشعب المختار مميزا عن البشر ومنفصلا عنهم...
2 ـ تمثل إسرائيل خطرا مباشرا ويوميا على الشعب الفلسطيني الذي اغتصب ارضه وتشرد...، ويعاني يوميا من الاضطهاد المستمر م قبل رجال الأمن، وجنود الجيش والمستوطنين...، ومحاولات التدمير الأخلاقي والفكري والأمني والسياسي، التي تمارسها السلطة، والتي لا تقف عند حد، وباختصار فإن المواطن الفلسطيني محاصر بالخطر الصهيوني المباشر واليومي، الذي يحصي عليه أنفاسه ويمنعه بالقوة من ممارسة حياة كريمة.
3 ـ يتجاوز حدود تأثير إسرائيل على المسلم الفلسطيني الى كل المسلمين والعرب من حول فلسطين... (كما في لبنان وسوريا والأردن ومصر... الخ).
4 ـ كما تشكل إسرائيل خطرا حقيقيا على كل أبناء الأمة الإسلامية....، من خلال وعي اليهود بالإسلام كنقيض أساسي وكامل لهم، مما يدفعهم الى ملاحقة المسلمين في كل مكان....
5 ـ ويتعدى هذا الخطر حتى يصل الى كل المستضعفين في العالم، فعلاقة إسرائيل الوثيقة بقوى الاستكبار الدولي، ومساعدتها للحكومات العنصرية والأنظمة الديكتاتورية في أفريقيا وغيرها، يؤكد خطرها على مستقبل المستضعفين في العالم إضافة الى المسلمين.
6 ـ تقوم إسرائيل...، بدور هام في تكريس واقع التجزئة القائم...، وتأكيده والدفع باتجاه مزيد من التفتت على المستوى القومي والإقليمي والوطني والمذهبي....
7 ـ تمثل إسرائيل أيضا الركيزة للهجمة الغربية، وأداة لاستمرار هذه الهجمة الغربية لتحقيق أفضل نتائجها. وأهم وسائل الهجمة الغربية يأتي من تدمير البعد الأيديولوجي للإنسان المسلم...، والثقافة الإسرائيلية...، تعتبر أهم أدوات التغريب وتدمير الانتماء الإسلامي...
8 ـ وعلى المستوى الاقتصادي تستمر اسرائيل كحارسة لمصالح الاستعمار والاستكبار العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ومستخدمة أداتها العسكرية وتهديدها السياسي، لاستمرار عملية النهب الاقتصادي لثروات الوطن الإسلامي ومواده الخام من نفط ومواد زراعية... .»
إن الصراع في فلسطين ومن حولها، وضمن الأبعاد التي ترسمها حركة الجهاد للقضية الفلسطينية لا يتوقف عند البعد الوطني الفلسطيني، مع أهمية إعادة هذا البعد الى دائرة الحراك الإسلامي في فلسطين، بل يتجاوزه ليتحول الى صراع شمولي بين المشروع الغربي الاستعماري من ناحية والمشروع الإسلامي من ناحية أخرى، وهو صراع لا يستهدف ـ وفق عقيدة «الجهاد» ـ الإنسان الفلسطيني أو الجغرافيا الفلسطينية فحسب، إنه يستهدف كل أشكال الوجود الفلسطيني والعربي والإسلامي والإنساني، وبكافة مستويات هذا الوجود على سبيل التغريب والإلحاق والهيمنة.
وترتكز شمولية المعركة بل وعالميتها في فلسطين على ثلاث مرتكزات تتكرر في خطاب حركة الجهاد وأدبياتها. وهذه المرتكزات هي:
أولا – أهمية فلسطين الحضارية في بعديها الديني والتاريخي، حيث كانت مسرحا للديانات الثلاث الكبرى، وتقدست عند المسلمين مذ كانت قبلتهم الأولى، حتى وصفها الشقاقي بأنها «آية من الكتاب، وفوق أنها جغرافيا تبقى رمز عقيدة وحضارة وتاريخ»(26) و«أن التفريط في فلسطين كالتفريط في فرضية الصلاة»(27)، وتحول الصراع في فلسطين في أيديولوجيا «الجهاد» الى بوابة الإسلام المركزية في صراعه ضد الغرب وكافة القوى التي توصف بالتغريبية، وتحولت الجغرافيا الفلسطينية الى «قطب الصراع الكوني ومحوره، وأصبحت فلسطين عنوانا للمشروع الإسلامي المعاصر، وذروة صعوده وتجليه وبالتالي هويته، وبينت «الجهاد» أن هذا المشروع لا يمكن أن يحسم مهماته الأخرى على مستوى الفكر والجغرافيا بدون أن تكون فلسطين في القلب منه(28).
ثانيا – إن الهجمة التي تعرضت لها الأمة الإسلامية من قبل الغرب هي هجمة شاملة، وأن قيام دولة إسرائيل يمثل أهم وأخطر أشكال الحرب الشاملة. «والمعركة ليست فقط بين الشعب الفلسطيني والكيان الصهيوني فحسب، إنها معركة كل الأمة ضد الغرب المستعمر..، ومسألة تحرير فلسطين هي مسألة مشروع ينظم إمكانات الأمة، ويرد على حرب العدو الشاملة بحرب شاملة ثقافية وفكرية واقتصادية وأمنية وعسكرية»(29).
وفي السياق ذاته ربطت حركة الجهاد انتصار وتقدم المشروع الإسلامي المعاصر، والنهضة الشاملة التي ترومها الأمة ربطا مركزيا بمقدار التقدم نحو فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، لأنها تعتبر أن التجزئة وتكريس التبعية والتغريب ما كان لها أن تتكرس إلا بوجود الكيان الصهيوني، وهو نفسه ضمانة استمرار التجزئة والتغيب والتبعية والإلحاق. وهو الذي يحارب ويحبط مسألة النهضة بأبعادها في الاستقلال والحرية والتقدم، كما يعمل على إحباط كل محاولات التقدم والتحول نحو الإسلام. ويصبح بذلك ارتباط مسألة النهضة بمواجهة المشروع الصهيوني مسألة حتمية، وإن انتصار الإسلام عالميا مرتبط بانتصار الأمة في فلسطين، وإنه ما من سبيل لصعود وهيمنة المنهج الإلهي إلا بإسقاط العلو والإفساد اليهودي المعاصر(30).
ثالثا – مما ساهم في شمولية المواجهة في فلسطين طبيعة الأحكام التشريعية التي يتضمنها الدين الإسلامي، والتي يتم استثمارها من قبل حركات المقاومة وعلى رأسها حركة الجهاد. وأهم هذه الأحكام هو حكم الجهاد ضد المغتصب لأرض المسلمين، الذي يتحول من فرض الكفاية المتعلق ببعض المسلمين الى رض عين على كل المسلمين، لعدم كفاية هذا البعض ـ وهم أهل فلسطين ـ من رد هذا الاعتداء والاحتلال. ويحفل الدين الإسلامي في هذا السياق بنصوص واحاديث كثيرة حول عظم أجر المجاهد ودرجته ومكانته، وكذلك التحريض على الاستشهاد كأرفع حالات الصدق وأعلاها عند الله. وهناك مباحث ومسائل شرعية أخرى تعزز من مسؤولية المسلمين تجاه فلسطين، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودفع المغتصب والصائل، ومواجهة الفساد ومحاربة الظلم... الخ.
فلسطين: قضية مركزية أممية. كيف؟
بعد أن أجابت حركة الجهاد على شطر سؤال المركزية الأول، المتعلق بإقامة البرهان على هذه المركزية، طرحت الإجابة على شطر السؤال الثاني المتعلق بالكيفية. أي: كيف يبدأ العمل لتحقيق هذا الفهم الإسلامي للقضية الفلسطينية؟.
لا نجد فيما قدمته حركة الجهاد في إجاباتها على سؤال «الكيف» برنامج عمل تفصيلي، يحدد المراحل التي تود الحركة اجتيازها وقطعها مرحلة تلو أخرى، كما لم تشتغل الحركة في سياق مواجهتها للاحتلال بمقولتي التكتيكي والاستراتيجي وجدل العلاقة بينهما، كما هو الحال لدى الحركة الوطنية الفلسطينية بفصائلها المختلفة.(31) ولم تقدم برامج سياسية مرحلية، مكتفية بما تقدمه من دراسات تنظيرية حول القضايا الكبرى التي تشتغل عليها وتحدد لها هويتها، وهي الإسلام وفلسطين والجهاد، ومكتفية بما تعلنه من مواقف سياسية تجاه مجريات الأحداث وتطوراتها الخاصة بالقضية الفلسطينية وبالعالمين العربي والإسلامي، وذلك عبر بياناتها أو المقابلات الصحفية التي تجرى مع قادتها.
وعدا بعض التفصيل الذي ذكره الشقاقي في إجاباته على سؤال «الكيف»، ممثلا بمحور الصراع الواجب إشعاله إسلاميا في مواجهة الاحتلال،(32) لا نجد إلا إجابات عامة، هي أقرب الى توصيات للعمل وتوجيهات فكرية وسياسية وعسكرية منها الى برنامج تفصيلي لمرحل العمل(33).
ويلاحظ بعض التباين في الإجابات المقدمة على سؤال كيفية العمل لتحقيق مركزية القضية الفلسطينية وأمميتها بين إجابة وأخرى، في حين شكلت مقولات المحور، والوحدة، والجهاد القواسم المشتركة بين كافة مقاربات الإجابة على السؤال المتقدم.
ونجد تباينا ـ أو تطويرا ـ للجهة التي تناط بها مهمة العمل في النصوص المقدمة، بين من يعلقها بالإسلاميين الثوريين والثورة الإيرانية، أو الحركة الإسلامية عامة، أو الأمة الإسلامية، ولاحقا توسيع دائرة التحالف في مواجهة المشروع الغربي الصهيوني لتشمل القوى العروبية والقومية.
قدم أحمد صادق أحد منظري «الجهاد» القدامى أولى الإجابات في دراسته المنشورة في مجلة الطليعة الإسلامية بعنوان «الإسلام والقضية الفلسطينية»(34) وأناط مسؤولية تحقيق المركزية بفئتين اثنتين هما «الإسلاميون داخل التجمعات الحركية الثورية الإسلامية» والثورة الإسلامية في إيران. هاتان الفئتان تشكلان معا ما أطلق عليه «محور طهران ـ القدس»، وهذا المحور يجب أن تلتف حوله جماهير الامة باعتباره «محور الصراع العالمي في السنوات التالية (نشرت الدراسة في يناير 1983)، والالتفاف حوله و التوجه الصحيح لحل كل إشكاليات الامة»، مقررا أن هذا ما يفهم من التاريخ وما يقرره الوعي القرآني.
وأناط صادق بهذا المحور مهمتين اثنتين هما:
الأولى: «تكريس الوعي الإسلامي الصحيح للقضية الفلسطينية داخل تجمعاتهم وبين الجماهير الإسلامية»، ويتم ذلك بالإجماع على ثلاثة أفكار وإشاعتها هي:
« 1 ـ المشكلة أساسا في الهجمة التاريخية ضد الإسلام.
2 ـ إن إسرائيل هي مركز هذه الهجمة، وهي في نفس الوقت نواة المشروع اليهودي الكبير.
3 ـ إن أهم أدوات الهجمة «الغربية ـ اليهودية» هو واقع التجزئة، والذي يكرس بالإبتعاد عن الإسلام».
الثانية: إقامة «الجبهة الإسلامية المتحدة بين كافة الإسلاميين في العالم». وهذه الجبهة هي الكفيلة بـ:
«1 ـ إعطاء الإسلام دوره الأساسي كنقيض كامل للهجمة، وكضمان لمواصلة الصراع حتى النصر والصعود بإذنه تعالى.
2 ـ أن تكون الحكومة الإسلامية في أي بقعة من الوطن الاسلامي هي مركزية المد الإسلامي المعاصر في مواجهة المركزية الإسرائيلية.
3 ـ أن الجبهة الإسلامية المتحدة هي وحدة الأداة الكفيلة بتوحيد الأمة، والقضاء على واقع التجزئة، ومواجهة الهجمة الشاملة ضد الإسلام والأمة بحرب شاملة ضد الغرب وأدواته وعملائه ومركزيته في إسرائيل».
قدم الشقاقي إجابة أخرى على سؤال كيفية العمل لتحقيق مركزية القضية الفلسطينية تلت ما قدم صادق، وكتبها الشقاقي نهاية عام 1986 خلال فترة اعتقاله في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وهي الإجابة التي تم تداولها ونشرها داخل وخارج حركة الجهاد، وسميت بـ«المنهج».
قبل تقديم الإجابة التي أسماها الشقاقي بـ«الحل الإسلامي الجهادي» استعرض الفكر السياسي الذي سبق وأن تعامل مع الموضوع الفلسطيني، وتناول بالدرس والنقد والتفنيد ما طرحته تيارات هذا الفكر السياسي واتجاهاته في معالجتها للقضية الفلسطينية، كالطرح الإسلامي التقليدي، والطرح الوطني الفلسطيني، وطرح الأنظمة العربية.
وذهب الشقاقي الى أن كل هذه الطروحات، ورغم اختلاف المنطلقات والدوافع فيما بينها، أخطأت في تحديد طبيعة المشكلة الأساسية، وأخطأت في تفسير «الظاهرة الإسرائيلية»، وبالتالي لم تستطع تحيد أبعادها التاريخية والحضارية الشاملة. ونظر كل طرف الى جانب واحد من المشكلة، وأغفل الجانب الآخر(35)،«فجاءت الرؤية لدى كل منهم رؤية ميكانيكية بسيطة لا تبصر العلاقة الجدلية القائمة بين الوضع العربي ـ أنظمة الدولة القومية ـ وبين إسرائيل وموقع هذه العلاقة على خارطة المشروع الاستعماري»(36).
ونترك هذا السجال الذي سنعود له عند الحديث عن علاقة «الجهاد» بأطراف الاجتماع الوطني الفلسطيني وموقفها من الأنظمة العربية، لنعرض لـ«الحل الإسلامي الجهادي» الذي طرحه الشقاقي للإجابة على سؤال «الكيفية» المتقدم.
بالرغم من تأكيد حركة الجهاد دوما على أن المعركة في فلسطين هي معركة الأمة كلها، وأن الانتصار النهائي في فلسطين لن يتم بإمكانات حزب أو منظمة بل بإمكانات الأمة بأكملها، فإن الحركة حتى تاريخ كتابة «المنهج» وبعده بسنوات بقيت تعلق مهمة التغيير والتثوير على الحركة الإسلامية، وبقى الخطاب المتعلق ببرامج العمل موجها الى الحركة الإسلامية على وجه الخصوص، ولم يتعداه الى التيار الوطني أو العروبي أو القومي إلا في فترة متأخرة نسبيا.
يعتبر الشقاقي نقطة الانطلاقة في الحل الجهادي هي إنجاز مشروع الحركة الإسلامية الواحدة التي يجب أن تمتلك:
– تصورا واحدا للمشكلة يشمل فهم طبيعة المشكلة، وتاريخها، وأبعادها الشاملة، ومراحل تطورها، ونتائجها، ومضاعفاتها، والبدائل والاطروحات والحلول التي تعاملت معها، ومحاولات الدفاع الإسلامية في المراحل المختلف لتطور المشكلة.
– ميثاق عمل إسلامي يستند الى منهج واضح، ويضع حلولا عملية مرحليا واستراتيجيا(37).
حافظ الشقاقي على فكرة المحور الواجب إشعال، في مواجهة أطراف الصراع المناهضة لنهضة الأمة، لتحقيق أكبر إسناد لحالة الجهاد الفلسطيني، ولكنه لم يذهب مذهب صادق في رسمه للمحور بين طهران والقدس، بل اعتمد في بيان طرفي المحور على العمق العربي الإسلامي الأقرب الى فلسطين. وانطلق الشقاقي في شرحه لفكرة المحور الذي يتبناه، مما يسميه بـ«شكل النضال الأمثل»، الذي يجب أن تقوده الحركة الإسلامية، ضد ثلاثة أطراف مجتمعة دون تجزئة أو تأجيل وهي: إسرائيل، وأنظمة التجزئة، والغرب معا. فبهذا الشكل من النضال «يتحقق الواجب الشرعي بالجهاد لإسقاط الأنظمة الطاغوتية، وإقامة دولة الإسلام على أنقاضها، ويتحقق الواجب الشرعي بالجهاد ضد إسرائيل مركزية الهجمة الغربية ضد الوطن الإسلامي، وحارسة كل مصالح الغرب في المنطقة»(38).
حدد الشقاقي نقطة المحور الأولى والمركزية في القدس(س)، وأما النقطة الثانية، والتي ستشكل مع القس محور المواجهة والجهاد، فيتم اختيارها من العواصم المجاورة والقريبة، بعد دراسة شاملة وعميقة لطبيعة الأنظمة المحيطة. وفي الوقت الذي تختار الحركة الإسلامية في العاصمة المختارة(أ) شكل النضال الأنسب في مواجهتها للنظام التجزئة، فإن شكل النضال الدائم في النقطة(س) ـ القدس ـ هو الجهاد المسلح(39).
إن هذا الطرح المقدم في إجابتي كل من صادق والشقاقي يشكل حركة حسم على صعيد التصورات الأقرب الى الأمنية منها الى الواقع المعاش، فموضوعة الوحدة إن في صورتها الجبهوية كما يدعو صادق، أو في صورة الحركة الواحدة كما يدعو الشقاقي، أمر لا يستند إلا الى فلسفة الواجب ولا الى الإمكان ومدى طاقة الواقع الاستيعابية لهكذا طرح. فالحركة الإسلامية في البلدان العربية هي حركة مأزومة لجهة خياراتها السياسية والاجتماعية في مواجهة نظام الدولة الحديثة، والثورة الإسلامية انتظمت على إيقاع الضرورة السياسية في العلاقات الإقليمية والدولية التي يفرضها منطق الدولة. وأمر توحيد الحركة الإسلامية على خطة عمل لتحقيق مركزية فلسطين وأمميتها يفترض وحدة التصور للمشكلة نفسها، وهو أمر غير متحصل بل ومتعذر، لأسباب عدة لا تقل الأسباب الفكرية أهمية عن الواقعية منها إن لم تفوقها.
أدى هذا الواقع الحركي الإسلامي والمجتمعي العربي بحركة الجهاد الى التجاوز العملي للأطروحتين السابقتين. فلم يعد الانهيار في المنطقة الإسلامية نتاج العنف الغربي وعلاقات القوة والسيطرة وحدها، بل ساهمت فيها الذات العربية الإسلامية حين غيبت ما هو عقلاني من وعيها الجمعي، وحين أهملت الجانب التكنولوجي. وأخذت الحركة في تناول الواقع العربي والإسلامي وبيان علله، ومظاهر تبعيته، وتخلفه، ومشروعه النهضوي الاستقلالي بكافة أبعاده بمزيد من التفصيل والواقعية. وأصبحت قضايا مثل: التنمية والصناعة والاستقلال والوحدة العربية والديمقراطية والسوق المشتركة، من القضايا المتداولة في الخطب الجهادي.
وتحول الموقف من الثورة على الواقع الى محاولة لإصلاحه والبناء على ما هو إيجابي فيه، حتى وإن كان إنجازا حكوميا رسميا(40).
وعلى صعيد الأطراف المناط بها التغيير والمواجهة أصبحت الحركة تدعو الى تحالف شعبي يشمل كل القوى المعادية للمشروع الإمبريالي الصهيوني، بغض النظر عن التباينات الأيديولوجية بينهما، بل وطالبت التيار الإسلامي بإعادة تقييم موقفه من التجارب القومية والعلمانية، وتعميق تحالفاته مع القوى الوطنية لأجل خلق جبهة وطنية عريضة(41).
حركة الجهاد والمشروع الوطني الفلسطيني:
جاءت حركة الجهاد الإسلامي باعتبارها محاولة إسلامية جديدة في الإجابة على موقع الإسلام المقاوم من الصراع الرائد في فلسطين، بعد غياب للإسلاميين قرابة عقدين من الزمن من انطلاقة المشروع الوطني الفلسطيني الحديث، ممثلا بمنظمة التحرير الفلسطينية، وقواها السياسية، وقواتها العسكرية.
ولم تكن حركة الجهاد مقتنعة ـ فيما يبدو ـ بأهلية المشروع الوطني، أو قدرته على إتمام هدف التحرير، وتحقيق كامل الأهداف الوطنية. وكانت انطلاقتها إجابة تطبيقية لهذه القناعة، كموقف متجاوز للمشروع الوطني، تماما كما هو موقف متجاوز للمشروع الإسلامي التقليدي، الذي كانت تقوده حركة الإخوان المسلمين.
ولكن حركة الجهاد، ولطابعها الكفاحي، وبالرغم من نزعة التجاوز والإدانة تلك، لم تقم بإدانة ومصادرة كامل المشروع الوطني منذ بداياتها، بل أقرت ما فيه من جوانب إيجابية حرصت على إبرازها وتبيانها والتذكير بها دوما، مع عدم إسقاطها في لوقت نفسه لملاحظاتها النقدية التي طالت نقاطا وجوانب سلبية اعتبرتها «الجهاد» سببا مباشرا في تعثر المسيرة التاريخية للثورة الفلسطينية، وما آل إليه المشروع الوطني من «مواته وانتهاء مشروعيته».
ضمن هذا السياق وقفت «الجهاد» من انطلاقة الثورة الفلسطينية مطلع العام 1965 موقفا تبجيليا، حين اعتبرت هذه الانطلاقة نقطة تحول هامة وبداية تطور برز في تاريخ الشعب الفلسطيني الحديث والمعاصر ومسيرته النضالية (42).
وهذا التقييم الإيجابي لانطلاقة الثورة بني على ما قامت عليه الثورة، وما رفعته من أهداف، وما حققته آنذاك. ومثال ذلك:
– إن الثورة جاءت «تحت ضغط فلسطيني بحثا عن التمثيل وإبراز الهوية الوطنية»(43)، وأعطت الفلسطينيين شعورا قويا بالذات دفعهم للتضحية من أجل قضيتهم(44).
– إن المقاومة الفلسطينية مثلت في تلك المرحلة «أهم إشارات النهوض الجماهيري»(45) العربي والفلسطيني. هذا النهوض الذي كان لصالح الجماهير، التي انتظمت في قطاعات سياسية وعسكرية ضخمة، انتزعت القضية الفلسطينية من أيدي النظام العربي وهيمنته(46).
– أن المقاومة التي استطاعت ان تمسك بالقضية الفلسطينية بعيدا عن هيمنة النظام العربي، أجبرت هذا النظام أن يتعايش مع الوضع الثوري الجديد ليحافظ على بقائه، كما أجبرته «على اتخاذ موقف معقول من قضية الصراع ضد إسرائيل، وأن تمنع دعاوى الاستسلام من أن تأخذ طريقها»(47).
ـ تمسك المقاومة بالشرعية الثورية ومواجهتها العسكرية لإسرائيل، ورفعها «لشعارها وبرنامجها الذي يتوجه نحو فلسطين (من النهر الى البحر)، في وقت واحد مع السلاح الفلسطيني المستقل كأداة للتحرير»(48)، وتأكيدها القاطع على رفض كل مشاريع التسوية للقضية الفلسطينية.
يعزى التقييم الإيجابي لانطلاقة الثورة الفلسطينية الى الوحدة الكفاحية التي جمعت كلا من حركة الجهاد والثورة الفلسطينية، اضافة الى الاهتمام الذي أولته حركة الجهاد في قراءتها لتجربة المشروع الوطني الى حركة فتح كبرى فصائل الثورة وعمودها الفقري، والتي كانت الحامل الرئيسي للمقاومة، وذلك للأصول الإسلامية (الإخوانية) للعديد من قادة حركة فتح، وحفاظها على سمت إسلامي لم تكن قد غادرته بعد، كما لم يكن نجم اليسار داخلها وداخل «م.ت.ف» قد صعد، هذا فضلا عن أن «فتح» والثورة الفلسطينية عموما التزمت في بداياتها بما تعتبره حركة الجهاد ثوابت فلسطينية وطنية، وعلى رأسها التمسك بخيار الكفاح المسلك كسبيل وحيد لتحرير فلسطين، ورفض وإدانة الحلول السلمية.
إلا أن هذا التقييم الإيجابي لم يتجاوز لحظت الانطلاق الأولى، والذي تذكره حركة الجهاد على الدوام، في إشارة الى «الانحراف» الذي سار فيه المشروع الوطني لاحقا، ومغايرته لأصوله الأولى ومنطلقاته الأساسية، والذي فقد مبرر وجوده وشرعيته الثورية الوطنية المستمدة من التمسك بهذه الأصول والمنطلقات.
تقيم حركة الجهاد أطراف الاجتماع الوطني الفلسطيني، وتحدد مواقفها منه ومن قواه السياسية المختلفة، سواء تلك التي يضمنها إطار «م.ت.ف»، أو «قوى جبهة الإنقاذ»، أو القوى الإسلامية، بقضايا محددة (=ثوابت) أساسية يتكشف عنها خطابها الفكري والسياسي، وأهم هذه المحددات هي:
1 ـ الموقف من الإسلام، من جهة تبنيه ورفضه، والموقف من قواه السياسي والاجتماعية محليا وإقليميا ودوليا.
2 ـ برامج ومشاريع هذه الأطراف الخاصة بالقضية الفلسطينية. وأهم قضايا هذه المشاريع التي تتوقف عندها حركة الجهاد هي:
أ ـ التصور المقدم في فهم المشروع الصهيوني، والموقف من إسرائيل ومن الاعتراف بها.
ب ـ الموقف من الكفاح المسلح.
ج ـ الموقف من مشاريع السلام.
3 ـ طبيعة الموقف والعلاقة بالنظام العربي الرسمي.
تمسكت حركة الجهاد في مواقفها وعلاقاتها مع كافة القوى الفلسطينية بهذه المحددات الثلاثة، وعلى رأس هذه القوى منظمة التحرير الفلسطينية.
* ذهبت «الجهاد» في بيان موقف «م.ت.ف» من الإسلام الى أن عموم فصائل المنظمة قامت باستثناء الإسلام، سواء بعدم تبنيه وإدارة الظهر له، أو بمحاربته، واعتبرت «الجهاد» أن هذا الموقف مثل خطأ كبيرا ارتكبته هذه الفصائل.(49) وأن يوم الوفاة الحقيقي للمشروع الوطني كان «يوم أدارت الحالة الفلسطينية ظهرها لعقيدة الأمة وتاريخها وتراثها،... ويم كانت قيم الإسلام ومثله محل سخرية القيادات الثورية والكادرات الثورية، بل كان البعض معنيا بالتثقيف ضد القيم الدينية (الرجعية) أكثر مما كان معنيا بمواجهة العدو»(50).
ولم تذهب «الجهاد» في بيان حال فصائل الثورة في تعاملها مع الإسلام، وموقفها منه ومن قواه المختلفة الى حد اللغة الشرعية الفقهية، كإطلاق أحكام الردة أو الكفر أ» الفسق، وإن وصفت بعض القراءات هذه التنظيمات بـ«الجاهلية». وبقي الحديث في إطار اللغة السياسية، وإظهار عظم الخسارة وفداحتها من جراء استثناء الإسلام أو محاربته، واتصف اغلب الحديث ببيان أهمية «الاستثمار» الوظيفي للإسلام كأيديولوجيا ثورية، تساهم في العلمية الثورية التي تخوضها المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل، معتبرة أن الإسلام هو أهم وأمضى سلاح من الأسلحة في الصراع، فهو «عقيدة الأمة ومحور تاريخها وتراثها»،(51) والإسلام «بما يملك من مخزون روحي هائل، وطاقة إيمانية جبارة تعين الإنسان ليس على الصمود والممانعة فقط، بل تدفعه الى الانفجار في وجه الانهيار، وهذا ما يفعله الاستشهاديون في فلسطين»،(52) و«م.ت.ف» أخطأت عندما تصورت أن الجماهير العربية يمكن أن تتحرك وتنتفض بغير الإسلام،(53) ويعتبر رمضان عبد الله أن الإسلام مع «ذروة سنامه الجهاد» يمثل المقدس الديني الذي لا يمكن التفريط فيه، كما حصل مع «المقدس الوطني» أو «المقدس القومي» بدعوى «المصلحة الوطنية».(54)
وفي غياب هذا المقدس اعتبر الشقاقي أنه كان من السهل «أن نقدم التنازل تلو التنازل، وان نتحول من حركة ثورية يمكن أن تستقطب كل طاقات الأمة، الى قوة رسمية تتأقلم مع النظام الدولي والنظام الإقليمي والنظام العربي»(55).
وأما الأيديولوجيا والاطروحات التي تبنتها فصائل «م.ت.ف»، سواء ليبرالية أو اشتراكية أو وطنية أو قومية، فأكدت «الجهاد» أنها جميعها «لا تملك تناقضا جوهريا وحقيقيا مع الكيان الصهيوني»(56). لأنها اطروحات «ولدت بشكل أو بآخر من رحم الهيمنة الفكرية والسياسية للغرب»(57) إلا أن «الجهاد» وفي مرحلة لاحقة لم تعد تنظر الى الأطروحتين الوطنية والقومية هذه النظرة، معتبرة وعلى لسان أمينها العام رمضان عبد الله أن شعار إسلامية المعركة الذي تطرحه وتنادي به الحركة لا يطرح «كنقيض لشعار وطنية أو قومية المعركة، بمعنى أنه لا يلغي البعد الوطني أو القومي للمعركة بل ويتكامل معها. فهي معركة وطنية قومية إسلامية»(58).
ونذكر أن موقف «الجهاد» امتد الى الاعتراض على سياسات «م.ت.ف» وإدانتها، تجاه حركات وشعوب إسلامية مختلفة. ومنها إدانة مواقف المنظمة وتأييدها للاجتياح السوفييتي لأفغانستان، وموقفها من انتفاضة المسلمين في أذربيجان والجمهوريات الإسلامية (في الاتحاد السوفييتي سابقا)، وموقف المنظمة وتأييدها للحكومة الفلبينية ضد ثوار «مورو» المسلمين(59)، إضافة لموقف المنظمة من إيران، ووقوفها مع العراق في حربها ضد الثورة الإسلامية الإيرانية، ووصول هذه العلاقة الى العداء في الفترة الأخيرة.
* اعتمدت حركة الجهاد منطلقا ومحددا ثانيا في تحديد موقفها وعلاقتها بقوى الاجتماع الوطني الفلسطيني، ومارست من خلاله النقد والمعارضة، ويتمثل في البرنامج الخاص بالقضية الفلسطينية، وما يتضمنه من فهم للمشروع الصهيوني، والموقف من الكفاح المسلح ومشاريع الإسلام.
وحكم هذا المحدد علاقة «الجهاد» بالمشروع الوطني الفلسطيني منذ تأسيسه والى الآن. ففي النظر الى البدايات التأسيسية للمشروع الوطني كانت «الجهاد» تقيم إيجابيا هذه الانطلاقة وهذا التأسيس، باعتبار ما أقرته المواثيق الفلسطينية المختلفة التي صيغت آنذاك، من ثوابت وأسس جامعة للشعب الفلسطيني، تحفظ له حقه وتسدد طريقه في مواجهة إسرائيل. من ميثاق فلسطين الصادر عن المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في غزة في مطلع أكتوبر (تشرين الأول) 1948، الى الميثاق القومي الفلسطيني المقر في 28 مايو (أيار) 1964، الى الميثاق الوطني الفلسطيني المقر في 17 يوليو (تموز) 1968.
ولكن «الجهاد» سرعان ما تسلحت بهذه المواثيق، لتوجه النقد الى الفكر السياسي للمشروع الوطني ومسيرته البرامجية، معتبرة أن المشروع الوطني كان يتراجع على الدوام عما حوته هذه المواثيق من أسس وثوابت، وهو تراجع بقي عنوانا في خطاب «الجهاد» على فشل الحركة الوطنية في تحقيق أهدافها وتراجعها عن هذه الأهداف.(60)
وتمثلت اولى بذور هذا التراجع في مسار الحركة الوطنية كما تطرحه «الجهاد» وتسميه بـ«مسلسل التنازلات» هي قبول المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثامنة في القاهرة (28/2 الى 5/3/1971) بفكرة «الدولة الفلسطينية الديمقراطية» والتي اعتبرته «الجهاد» قبول بفكرة «التعايش مع اليهود في فلسطين ديمقراطية»(61).
وأما حجر الزاوية الذي أسس بصورة واضحة الانهيار في المشروع الوطني، وافتتح «مسلسل التنازلات» التي جرت وتجري الى الآن، فهو ما أقرته منظمة التحرير في الدورة الثامنة للمجلس الوطني الذي عقد في القاهرة (من1/6 الى 8/6/1974)، وهو «البرنامج المرحلي المعروف بالنقاط العشر التي تحدث عن نضال منظمة التحرير الفلسطينية بكافة الوسائل، وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية ،وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة، على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها»(62).
وشكل مشروع البرنامج المرحلي أو النقاط العشر دلالة هامة عند «الجهاد»، ليس فقط على انحراف في مسيرة «م.ت.ف» ومشروعها الوطني فحسب، بل دلالة مبكرة على ما ستؤول إليه المنطقة في برامجها الوطنية، فقد رأت في تنبيه «أن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لم تعد تثق بدور أو قدرة الجماهير في حرب التحرير المسلحة، وأعطت الأولوية للعمل السياسي والدبلوماسي»(63)، كما رأت أن بتبني المنظمة لهذا البرنامج تم تحويلها من «قوة شعبية تتحرك ضمن توجهات النهضة الشاملة حتى التحرير الكامل، الى مجرد إطار ضيق لهوية وطنية فلسطينية محددة»(64).
وتشير الحركة الى أن القرار العربي بإعطاء المنظمة صفة «الممثل الشرعي والوحيد»، وخطاب عرفات من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 سبتمبر (أيلول) 1974،كان مكافأة لها على هذا التحول المتمثل في برنامج النقاط العشر في وسائل وأهداف واستراتيجيات المشروع الوطني الفلسطيني، الذي أصبح اعتماده الرئيسي في نضاله السياسي على معادلات القوة العربية والدولية.(65).
ولئن كانت حركة الجهاد قد أشارت الى برنامج النقاط العشر كبرنامج افتتاح «مسلسل التنازلات»، فإنها تؤكد الآن على مصداقية هذه الرؤية بعد اتفاقيات اوسلو وما تلاها، وخاصة مع تأكيد قادة «م.ت.ف» أن هذه الاتفاقيات مبنية على ما تبنته المجالس الوطنية الفلسطينية منذ العام 1974.
وتتبعت «الجهاد» ضمن حركتها النقدية للمشروع الوطني، كافة مقررات المجالس الوطنية، التي اعتبرتها استكمالا «مسلسل التنازلات» منذ دورتيه في العام 1971 والعام 1974 ـ كما مر معنا ـ وصولا الى آخر المجالس الوطنية، التي عقدت داخل منطقة الحكم الذاتي الفلسطيني في قطاع غزة.
وتم تتبع هذه المقررات وإدانتها بما اشتملت عليه من قبول المرحلية، والاعتراف بالقرارات الدولية حول فلسطين، والاعتراف الضمني فالصريح بإسرائيل، وإدانة العمل المسلح، والشروع في مفاوضات السلاح، بدءا من مدريد وانتهاء بواي بلانتيشن، وإلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني.(66)
واعتبرت «الجهاد» أن قرارات المجالس المختلفة اعلنت عن نهاية مرحلة كاملة قادها المشروع الوطني، مرحلة كان عنوانها «المناورات الدبلوماسية كطريق لتحرير فلسطين»(67)، وأن هذا المجلس استنفذ اغراضه ومبرر انعقاده«عندما تنازل عن كل شيء من الأيديولوجيا الى التاريخ إلى الجغرافيا الى الأمن»(68)، وأن القيادة الفلسطينية فقدت مصداقيتها ومبرر وجودها التاريخي كممثل شرعي للشعب الفلسطيني.(69)
وضمن المحدد الثاني انتقدت «الجهاد» الحركة الوطنية الفلسطينية في نظرتها للحركة الصهيونية ودولة إسرائيل، وتذهب الى أن الحركة الوطنية «أخطأت في تفسير «الظاهرة الإسرائيلية»، وبالتالي لم تستطع تحديد أبعادها التاريخية والحضارية، فلم تتجاوز إسرائيل في نظرهم كونها كيانا استيطانا عنصريا أو أنها حاملة طائرت أميركية ثابتة في الشرق الأوسط، أو شركة وكيلة عن الرأسمالية الغربية، وأن هدفها ضرب القوى القومية والثورية التقدمية.. الخ»(70). وهذا النقد مبناه أن الحركة الوطنية نظرت الى «الظاهرة الإسرائيلية»، تحب أن تؤكد «الجهاد» الأبعاد الدينية والحضارية الشاملة الموصولة بالتاريخ القديم، كما هي موصولة بالحاضر، «فالجهاد» تشير الى أن إسرائيل هي «إفراز وتجسيد لمنهجية عالمية كاملة الأبعاد ومضادة لمنهجية الحق الإلهي، بل هي أعنف أشكالها، وهي ماضية الى تدمير كل مقومات الوجود الإسلامي والعربي، يدعمها العالم الغربي «الكافر»»(71).
وترجع حركة الجهاد عدم وعي «م.ت.ف» للمشروع الصهيوني وطبيعته الى أسباب أيديولوجية صرفة تمثلت بحمل المنظمة لاطروحات أيديولوجية قاصرة عن إدراك الأبعاد الحقيقية للمشروع الصهيوني، من ليبرالية وقومية ووطنية ويسارية، وهذه الاطروحات هي طروحات أفرزتها الحضارة الغربية، التي هي ذاتها أفرزت الحركة الصهيونية وترعرعت داخلها وحضنتها ودعمتها لاحقا، وذلك ضمن تحولات الحضارة الغربية وسيرورتها، وعليه فإن «الجهاد» لا ترى أن الحركة الوطنية يمكنها أن تواجه بهذه الاطروحات التغريبية الكيان الصهيوني، أو أن تشكل تناقضا كاملا ونهائيا معه، وبالتالي أن تحسم الصراع معه لصالح الأمة الإسلامية.(72)
* أما البعد والمحدد الثالث الذي نظرت «الجهاد» من خلاله الى المشروع الوطني و«م.ت.ف» فهو موقفها وعلاقاتها بالأنظمة العربية، إذ اعتبرت «الجهاد» أن المنظمة (بكافة فصائلها) أغفلت «وضع النظام العربي في موضعه الصحيح، كنظام متقاطع مع المشروع الغربي ومرتبط به، وبالتالي غير قادر على خوض الصراع الى نهايته ضد العدو الصهيوني»(73)، فالطرح الوطني رأى أن إسرائيل هي المشكلة الأساسية التي يجب مواجهتها، ورفع شعار «عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية»، وقسم الأنظمة الى ثورية حليفة، ورجعية يمكن الاستفادة من دعمها ومعوناتها. هذا الطرح الوطني اعتبرته «الجهاد» خللا في فكر المشروع الوطني، مشيرة الى أن الحركة الوطنية تعرضت لأعنف الضربات على يد الأنظمة التي رفضت التدخل في شؤونها، أو التعاون معها، أو الدخول ضمن استراتيجيتها.(74) ويرى الشقاقي أن هذا الموقف من الأنظمة وقفته كافة الفصائل الوطنية، من يمينية أو يسارية، سواء فتح أو الجبهتان: الشعبية والديمقراطية، فالشعبية التي أقرت بتناقض ما مع الأنظمة العربية الرجعية، اكتفت على المستوى الواقعي بالتنديد الضمني بهذه الأنظمة، وأما الجبهة الديمقراطية بقيادة حواتمة، والتي كان مبرر انشقاقها عام 1969 عن الجبهة الشعبية هو رفع الشعبية لشعار عدم التدخل في الأوضاع العربية، فإنها أيضا لم تتدخل على أرض الواقع في أي شأن عربي، «وكانت ي الغالب استجابة وترديد صدى لحركة فتح، بحثا عن مكاسب سياسية، وبرهنت على أنها أكثر براغماتية، رغم أنها وصفت «فتح» باليمين ارجعي الفلسطيني»(75).
نلاحظ أن النقد المتقدم لموقف وعلاقة «م.ت.ف» بالنظام العربي فيه من التسرع الشيء الكثير، وهي محاكمة سيقت في ضوء رؤية حركة الجهاد لطبيعة السياق التاريخي لتكون النظام العربي، دون أن تلحظ هذه القراءة وقائع وإشكالات هذه العلاقة التاريخية، التي لم تخل من صراعات وتدخلات من قبل الطرفين، فالمنظمة لم تكن أمنية لشعارها الخاص بالنظم العربية على الدوام، كما أن الأنظمة لم تكن عدائية على الدوام. كما لم تلحظ الفوارق بين موقف تنظيم وآخر، والذي تراوحت بين العداء الى الولاء الاستخباري، وبقيت تلك الرؤية المتقدمة على تعميم أقل بالتقييم.
كما أغفلت هذه القراءة العوامل الموضوعية التي حكمت علاقة «م.ت.ف» بالأنظمة العربية وأحاطت بها، ولم تنظر الى المقاومة كحركة واقعية تحتاج «لوجستيا» الى محيط للإسناد بكافة صوره، يجبرها في النهاية الى آلية في التعاطي، تتجاوز الشعارات الثورية والحلول الجذرية بحسب تطور الصراع وحركيته المتغيرة، وهو أمر انتهت حركة الجهاد الى استيعابه لاحقا، كما سنبينه عند الحديث عن موقف وعلاقة «الجهاد» بالنظام العربي
صراع «التمثيل» و«الشرعية» بين المصالحة الوطنية والمصلحة الفلسطينية
لم تكن تكفي ـ فيما يبدو ـ تلك المنطلقات والمحددات الثلاثة السابقة التي تمسكت بها حركة الجهاد، تجاه رسم مواقفها وعلاقاتها بالمشروع الوطني، وعلى رأسه «م.ت.ف» في التحديد النهائي لشكل هذه العلاقة وتلك المواقف، بالرغم من بقاء تلك المحددات الحاضر الأقوى في خطاب الحركة السياسية تجاه المشروع الوطني برمته. وذلك لأن «م.ت.ف» كانت قد فرضت موضوعيا تحديا خاصا على القوى الإسلامية الناهضة لجهة موقف هذه القوى من المنظمة «كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني»، ومدى قابلية واستعداد هذه القوى للانخراط في مؤسسات المنظمة التشريعية والتنفيذية.
وفي قراءتنا لخطاب حركة الجهاد في شقه المتعلق باستجابته لتحدي «التمثيل» و«الشرعية» الذي فرضته «م.ت.ف» والمشروع الوطني، نجده قد مر بأطوار مختلفة، وتباين واختلف من طور لآخر، بحسب التطور الحاصل في الحراك النضالي لحركة الجهاد وفكرها السياسي، الى جانب التحولات السياسية العامة في مسار القضية الفلسطينية.
* ويمكننا أن نصف الطور الأول في الموقف من مسألتي «التمثيل» و«الشرعية» بالإهمال والتجاوز، وقوام هذا الموقف الذي امتد في استقرائنا لخطاب«الجهاد» الى العام 1990، أي طوال مرحلتي: التأسيس والانطلاق، قوامه حفاظ الحركة على بيان وتزكية المنطلقات الإيجابية للثورة الفلسطينية المعاصرة ـ كما مر سابقا ـ دون أن تشغل بمسألة التمثيل أو الإطار أو الدخول في المؤسسات الرسمية الفلسطينية، معزية ذلك الى طبيعة حركة الجهاد، بما تمثله من جزء عضوي من مشروع إسلامي عالمي، له قواعده المركزية في الحركة الجهادية في بلدان عديدة، وهو مشروع وإن تقاطع مع المشروع الوطني في محاربة المؤسسة الصهيونية، إلا أن حركة الجهاد ـ وانسجاما مع الأجزاء الأخرى في المشروع الإسلامي ـ كانت تنظر للوجود في مؤسسات أخرى إسلامية، تنسجم مع رسالتها الإسلامية(76).
وانطلاقا مع الرؤية الإسلامية فوق القطرية لدور حركة الجهاد في فلسطين وانشدادها حتى ذلك الوقت للخارج الإسلامي، بقدر اشتغالها على الداخل الوطني، دعت «الجهاد» بوضوح الى ربط نضال الشعب الفلسطيني بمشروع اسلامي فلسطيني مرتبط بالمشروع الإسلامي العام «مشروع توحيدي.. يستهدي برؤية إسلامية.. ومرتكزا على الجماهير وقطاعاتها الإسلامية، ومستقلا عن النظام العربي الرسمي وعن الشرعية الدولية»(77).
وضمن هذا التوجه المشاريعي المستقل عن أطر الحركة الوطنية رأت «الجهاد» آنذاك أن الطاقة الاستيعابية لأطر «م.ت.ف» أعجز وأضعف من أن تنهض بمشروع مقاوم بحجم تحرير فلسطين، وبحجم الصراع مع العدو، وعليه فقد اعتبرت أن فتح معركة التمثيل والشرعية غير ذات جدوى للاعتبارات المتقدمة، ولأنها معركة لا تحسم بالشعارات وضمن المؤسسات، بقدر ما تحسم بالفعل في ساحة معركة الشعب والأمة، ومواجهتها للعدو المركزي.(78)
ونتيجة لهذا الموقف المعلن آنذاك، ولعدم مصارعة «الجهاد» ومنافستها للمنظمة في أي من أنشطتها أو مؤسساتها، وإعراضها عن الدخول في صرع نفوذ داخل المجتمع الفلسطيني، ولطبيعة العمليات العسكرية الجريئة التي قامت بها حرك الجهاد خلال تلك الفترة، واتي شارك فيها عناصر ذات علاقات تنظيمية وطنية سابقا، وما أشيع خلال السنوات الأولى للانتفاضة من أن حركة الجهاد عضو في القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، التي تضم ممثلين عن فصائل «م.ت.ف»، نتيجة لكل ذلك شاع في أوساط إعلامية وسياسية وبحثية عدة أن علاقة ما تجمع حركة الجهاد و«م.ت.ف»، أكدها بعض كبار المسؤولين في المنظمة، وعلى رأسهم ياسر عرفات، فقامت الحركة طوال هذا الطور بتكرار نفيها لهذه العلاقة في كل مناسبة وفي أكثر من بيان وموقف، مؤكدة أن حركة الجهاد ليس لها أي ارتباط أو علاقة بمنظمة التحرير، ولا بالقيادة الموحدة للانتفاضة، ولا بالمجلس الوطني الفلسطيني وأجهزة المنظمة.(79)
* مع الشيوع المتزايد للوطنية العملانية في حراك «الجهاد»، في مقابل انحسار الخطاب الإسلامي الشمولي، وتزايد المشاركة الميدانية سياسيا وعسكريا لحركة الجهاد، تحول موقفها من الإهمال والتجاوز لـ«م.ت.ف» ومسألتي التمثيل والشرعية الى التحفظ السلبي والتعاطي المشروط.
فموقف الحركة السابق، والذي عبرت عنه الحركة علنا بقولها: «لا يوجد في أدبيات حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين ما يشير الى أنها طرحت نفسها بديلا عن منظمة التحرير الفلسطينية»(80) هو تعبير صحيح، لجهة ما كانت تحمله من مشروع مغاير تماما للمشروع الوطني، قوامه مشروع الثورة الإسلامية، والسعي لخلق «الجبهة الإسلامية المتحدة بين الإسلاميين»(81)، التي تضم كافة القوى الرافضة لمشاريع السلام.
ولكن في المقال نفسه الذي كتب في العام 1992 حول موقف «الجهاد» من المنظمة، عبرت «الجهاد» عن طور جديد في موقفها حين قالت: إنه «لا يوجد في أدبياتها معارضة واضحة لإمكانية اعتبار المنظمة إطارا جامعا لقوى شعبنا السياسي»(82) ولكنه طور في الموقف مشروط بشروط عدة، يلخصها ما جاء في نشرة المجاهد، لسان حال «الجهاد» قائلا:
«إن رفض الاعتراف بشرعية العدو الصهيوني على أي شبر من فلسطين، واعتبار الكفاح المسلح والجهاد المسلح طريقا لتحرير فلسطين، وعدم التنازل عن الميثاق الوطني، والذي أكد على حق الشعب الفلسطيني في كامل وطنه، وإعادة الاعتبار الى الإسلام كإطار لصراعنا الحضاري ضد الهجمة الصهيونية، هي الشرط التي تراها حركة الجهاد الإسلامي ضرورية للتعاون مع كافة القوى الفلسطينية ضم إطار جامع كمنظمة التحرير»(83).
هذا الاشتراط الفرضي، مع ما فيه من التسامح تجاه قبول الميثاق الوطني الفلسطيني، الذي لم تساهم في صياغته القوى الإسلامية، ومع ما لها من التحفظات تجاهه، إلا أنه اشتراط يعيد صياغة «م.ت.ف» وفق منطلقات جديدة لم تأخذ بها المنظمة نفسها عند انطلاقتها الأولى. إنه اشتراط يحول «م.ت.ف» الى إطار اسلامي قائم وفق متطلبات الحركة الإسلامية ومنطلقاتها وأهدافها.
ولكن هذه الاشتراطات لم تدفع حركة الجهاد للاهتمام فعلا بأطر ومؤسسات «م.ت.ف»، ولكنها اشتراطات نزعت من الإطار والمؤسسة أهميتها لصالح المضمون والمحتوى، وهو التوجه الذي حافظت على بيانه الحركة في معرض توضيح موقفها من مسألتي: التمثيل والشرعية، وهو توجه استمر حتى العام 1993 وكان عنوانه «جدل الإطار والمنهج».
لم تعر حركة الجهاد موضوعة الإطار الفلسطيني الرسمي وشرعيته ووحدانية تمثيله للشعب الفلسطيني خلال هذا الطور (1991 ـ 1993) الاهتمام الكبير، بقدر تركيزها على المنهج، ممثلا في النهج الأيديولوجي والبرنامج السياسي. وهي وإن لم تنف شرعية التمثيل عن«م.ت.ف» فإنها في المقابل لم تعرف بشرعيتها طوال تاريخها والى الآن. وبقيت مسألة التمثيل الحيز المسكوت عنه في خطاب حركة الجهاد. ويحمل هذا السكوت عنه من التحفظ و«الرفض» أكثر مما يحمل من القبول والإيجاب. وعندما تجبه «الجهاد» بسؤال التمثيل والشرعية فإنها تلجا الى ما يمكن تسميته بـ«الشرعية التمثيلية للنهج والبرنامج»، مركزة على المحتوى والمضمون، وفي الوقت الذي كانت فيه المنظمة تستمر في قبول مشاريع السلام كان الشقاقي يعزو عدم التمثيل الى مشروع المنظمة وبرنامجها بقوله في العام 1991: «إن المشروع الوطني الفلسطيني الذي تقوده «م.ت.ف»... لم يعد يمثل الشعب الفلسطيني... ولم يعد قادرا على تحقيق وحدة الشعب، ولا إنجاز مشروع التحرير، ولم يعد قادرا على قيادة حالة نهوض عربي، ولا قادرا على تحقيق تواصل مع الأمة الإسلامية»(84)، متجنبا الحديث عن تمثيل الإطار السياسي والتنظيمي.
وإضافة لنفي الحركة المشروعية والتمثيل عن المشروع الوطني، كان خطابها ينفي المشروعية أيضا عن المجلس الوطني وقراراته المؤيدة للحلول السلمية،(85) وتحول التساؤل القديم حول «شرعية قيادة المؤسسة الفلسطينية القائمة، ومقدار تعبيرها عن موقف الجماهير الفلسطينية، ناهيك عن جماهير الأمة الإسلامية جمعاء»(86) الى التأكيد على أن هذه القيادة الفلسطينية وفريق المفاوضات لم تعد تمثل الشعب الفلسطيني ولا تمثل إلا مصالحها الخاصة.(87) وفي كل حالات نفي التمثيل، إن عن المشروع الوطني، أو المجلس الوطني، أو القيادة الفلسطينية، لم يتم التعرض مباشرة لـ«م.ت.ف» لتجنب «الجهاد» حصرا أوسع، وحربا أشمل، كان يمكن أن تتعرض لها لو اتخذت هذا الموقف، ولأن «الجهاد» اعتبرت «أن قوة ومصداقية وشرعية «م.ت.ف» كإطار سياسي وتنظيمي جامع لا يتأتى مع انتشارها دوليا، أو من تواجدها في المحافل الدبلوماسية، بل من نهجها الخاص بتصعيد الكفاح المسلح، وتجسيد وحدة الأمة وتعبئة طاقاتها وقواها المجاهدة، كشرط لازم لكسر وتجاوز توازن القوى الظالم»(88).
* استمر موقف «الجهاد» على هذه الشاكلة من التحفظ السلبي، والتعاطي المشروط تجاه إطار «م.ت.ف»، ونقديا هجوميا تجاه برامجها وسياساتها، ليتحول هذا التحفظ تجاه الإطار وشرعيته الى هجوم نقدي واضح ضد كل من الإطار والمنهج على السواء، وبخاصة مع استمرار المنظمة في مفاوضات السلام وإيغالها أكثر في العلاقة بإسرائيل والاعتراف بها، وبدأ موقف «الجهاد» هذا مع مطلع العام 1993 بالتساؤل حول مبرر وبقاء «م.ت.ف»، معتبرة أن سبب وجودها قد التغى، وأن ليس أمام القيادة الفلسطينية سوى أن تقدم استقالتها بعد أن تم تفريغ «م.ت.ف»، من مضمونها الكفاحي، وتحويلها الى مجرد هيئة سياسية تخدم السياسات الأميركية والإسرائيلية(89).
وكلما كانت مفاوضات السلام تذهب قدما كان خطاب «الجهاد» يزداد حدة(90)، حتى إذا ما تم التوقيع على اتفاق أوسلو كانت «الجهاد» تنتهي بموقفها الى الإعلان عن موت منظمة التحرير الفلسطينية واستنفاذها لأغراضها، وهو الموقف الذي مازالت تحافظ عليه حركة الجهد الى الآن، حيث صرح رمضان شلح قائلا: «إن منظمة التحرير التي أنشئت لهدف تحرير فلسطين ومنه تستمد أسمها، قد انتهت وأصبحت في ذمة التاريخ، لقد كتب عرفات شهادة وفاتها فيما سمي «رسائل الاعتراف المتبادل بينه وبين رابين»(91).
عكست حركة الجهاد انسجاما بين موقفها السياسي السابق من «م.ت.ف»، وبين كافة الدعوات التي وجهت لها، لدخول المنظمة والتمثل في مؤسساتها، وعلى رأسها المجلس الوطني الفلسطيني. فقد وجهت لها الدعوة للمشاركة والتمثل في دورة المجلس الوطني العشرين الذي عقد في الجزائر بتاريخ 23/1/1991، ولكن «الجهاد» رفضت ذلك(92)، وذكرت أنها «ترفض أن تكون غطاء للتصالح مع الكفر الصهيوني»(93)، ولأنها اعتبرت أن المجلس مدعو لإقرار المشاركة في مؤتمر السلام، والقبول بالمشروع الأميركي الصهيوني. وقدمت «الجهاد» نفس الاشتراطات التي ذكرت سابقا لقبول إطار «م.ت.ف»، كجامع لقوى الشعب الفلسطيني قائلة «إن دفع الإسلاميين الى إطار «م.ت.ف» فيظل برنامج وخط سياسي تفريطي ومضطرب لن تكون نتائجه إلا اهتزاز حائط شعبنا الأخير، وإضعاف قوى صموده الأساسية»(94). وأبدت عدم اكتراث بعدد المقاعد والضمانات الإدارية المعروضة عليها، إذ أن المسألة الأساسية التي طرحتها هي «صلابة الخط الجهادي وبرنامج النضال»(95)، وهي بذلك لم تذهب مذهب حركة حماس، التي طالبت بالحصول «على حقها المتناسب مع حجمها وثقلها في جميع مؤسسات المنظمة وأجهزتها» والذي حدته بنسبة تراوحت بين 40ـ50% من مجموع أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني،(96) واكتفت «الجهاد» بتوجيه رسالة الى المجلس دعته فيها الى التمسك بالثوابت، وطرح برنامج للصمود والنهضة قائم على رفض التسوية مع الكيان الصهيوني أو الاعتراف به، وانتهاج الكفاح المسلح كطريق لتحرير ودعم الانتفاضة(97).
«م.ت.ف» وحركة الجهاد: فشل الاستيعاب
دفعت الخلفية الإسلامية لمعظم مؤسسي حركة «فتح»،(98) وعدم حمل الحركة لأيديولوجيا معادية للدين، ودعوى حركة فتح حملها لمسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية الحديثة، التي لم تفارق الإسلام في أهدافها وشعاراتها ورموزها، دفع كل ذلك «فتح» الى عدم الدخول في صراع مع التيارات الدينية، رغم ما قامت به بعد فترة وجيزة من التأسيس من تغييب لدور الدين في معركة التحرير، ورسمت «فتح» سياساتها على استيعاب القوى الإسلامية وتجنيدها لتطوير النضال الوطني، والحيلولة دون نشوء عنصر مستقل ومنافس خارج دائرة نفوذ «م.ت.ف».
في سنوات الثمانينات كان لصعود تيارات الإسلام السياسي في الضفة وغزة، وانتشارها في الشارع الفلسطيني، أن أحال قضية علاقة الوطنية الفلسطينية بالإسلام من قضية قيمية ثقافية الى قضية سياسية ـ عملانية من الدرجة الأولى، وقامت «م.ت.ف» بسياسة تحبيط واحتواء للإسلام الراديكالي الصاعد، ممثلا في حركة الجهاد من جهة، وضرب نفوذ «الإخوان المسلمين» من جهة أخرى، وتوسلت لتحقيق ذلك بمجالين:
1 ـ عملياتي:
وذلك بإقامة خلايا إسلامية سرية ذات ولاء فتحاوي، وضمن هذا المجال يمكن أن نذكر حزب الله المقدسي ـ الكتائب الإسلامية لتحرير فلسطين، وأمينه العام الشيخ عبد الله سعد الدين القدومي، الذي أصدر البيانات ي الدفاع عن «م.ت.ف» وعرفات(99) والحركة الإسلامية الفلسطينية العسكرية(العودة)(100): ومن الشخصيات غازي الحسيني، الذي أطلق لحيته وأصدر مجلة دعا فيها الى تأييد «م.ت.ف»، داعيا الى الحرب ضد اسرائيل، باعتبارها فريضة دينية بدلا من كونها واجبا قوميا.(101)
2 ـ رمزي:
وذلك من خلال استخدام واسع ومشدد للمصطلحات والرموز الإسلامية، أثناء الاجتماعات الرسمية لـ«م.ت.ف» وبياناتها وتصريحات زعمائها. وأحد التجليات البارزة لرغبة «م.ت.ف» في الحصول على غطاء ديني، كان عند اختيار الشيخ عبد المجيد السائح رئيسا للمجلس الوطني الفلسطيني، الذي عقد في نيسان 1987 في عمان(102). وضمن هذا المجال الرمزي نذكر أسماء بعض المجموعات «الفتحاوية» التي نشطت إبان الانتفاضة الفلسطينية، والتي حرصت على الصيغة الإسلامية في نعت نفسها، كالفاتحون (كتائب النصر)، المنتصرون، العائدون، المرابطون، المعتصمون.(103) في محاولة منها لتأكيد إسلاميتها في مواجهة الإسلاميين.
ضمن السياسات السابقة كان أول تقاطع لـ«م.ت.ف» مع حركة الجهاد الإسلامي، عبر تلك المجموعة من الفتحاويين ذوي الميول الإسلامية من «المتدينين التقليديين»، أو بعض «الإسلاميين» الذين بقوا داخل «فتح»، والذين انتظموا مطلع الثمانينات في سرايا الجهاد الإسلامي، كإطار يمارسون من خلاله الكفاح المسلح، وبتوجهات إسلامية واضحة، دون أن يقطعوا علاقاتهم «اللوجستية» بحركة فتح.
مع صعود نجم حركة الجهاد، وما لاقته من تعاطف وتأييد متزايدين من السكان، نتيجة تميز خطابها الوطني الإسلامي، وحراكها السياسي ولإعلامي النشط، مع ما قامت به من عمليات عسكرية اتسمت بالجرأة والشجاعة، قامت سرايا الجهاد بالتنسيق مع حركة الجهاد ونفذا أهم عملياتها، وهي عملية «باب المغاربة». ولكن سرعان ما بدأ التنسيق والتعاون العسكري المذكور بينهما يخف تدريجيا، مع ذيوع شبهة العلاقة بـ«فتح» العلمانية، إذ أعلنت أوساط من «فتح» عن تبنيها لعملية «باب المغاربة»، كالمتحدث باسم«م.ت.ف» في القاهرة، مدعيا ان العملية قامت بها إحدى الوحدات التابعة لـ«فتح»(104). وزعم عرفت لاحقا أن منظمة الجهاد الاسلامي التي قامت بعملية باب المغاربة «تنظيم ديني تابع لحركة فتح، وأسس هذا التنظيم بقصد الجهاد»(105). من الناحية الأخرى كانت أوساطا رسمية واستخبارية إسرائيلية تعلن عن اكتشاف تنسيق بين حركة الجهاد والمجموعة التي نفذت العملية، فذهب وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك اسحاق رابين الى حد القول: إن «الجهاد الإسلامي هي ذراع سري لحركة فتح»، وكذلك أعلن الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي: «إن تنفيذ عدة عمليات عسكرية تم بتنسيق مشترك بين «فتح» والجهاد الاسلامي»(106).
هذه الأجواء دفعت حركة الجهاد الإسلامي الى نفي العلاقة بـ«م.ت.ف» وكافة فصائلها، والتأكيد على استقلالها، مؤكدة أن الحركة «لم تخرج من فتح»(107)، فـ«الجهاد» التي تحمل مشروعا إسلاميا لفلسطين، وترفض ما آل إليه المشروع الوطني من حلول سلمية للقضية، رأت أن هذه الشبهة لا تنسجم وجذريتها الإسلامية ومواقفها السياسية.
بالرغم من النفي المتكرر من قبل «الجهاد» لعلاقتها بـ«م.ت.ف»، استمرت قيادات المنظمة بادعاء العلاقة والترحيب بحركة الجهاد داخل الساحة الفلسطينية، ولكن لم يثمر هذا الترحيب في استيعابها داخل أطرها، أو استثمار حراكها السياسي والعسكري لصالح النهج الرسمي للقيادة الفلسطينية.
ومع قيام الانتفاضة الفلسطينية، وبروز الدور المتعاظم للإسلاميين من «حماس» و«الجهاد»، وما أشاعته ونقلته وسائل الإعلام المختلفة عن دور رئيس لـ«الأصوليين» في تفجير الإنتفاضة، عاد قادة المنظمة لمحاولة احتضان هذه التوجهات الجديدة، واعتبر خليل الوزير (أبو جهاد) حديث الإعلام عن دور «الأصوليين»، و«أن الانتفاضة من صنع التيار الديني»، هي محاولة من الأجهزة المعادية لتسليط الأضواء على صراعات بين صفوف الشعب لأسباب أيديولوجية، «بهدف استفزاز جهات أوروبية وخارجية وإثارة مخاوفهما، حتى تصمت على إجراءات العدو الانتقامية في فلسطين وضد شعبها»(108) في حين ذهب صلاح خلف(أبو إياد) الى أن ممثلي هذا الاتجاه موجودون في المجلس الوطني، والمجلس المركزي، وأن التيار الديني «لا يعمل بعيدا عن الحركة الوطنية الفلسطينية، وليس بديلا عنها»(109). وصرح عرفات أيضا أن الإسلاميين جزء من «م.ت.ف»، وانهم ممثلون في المجلسين: الوطني والمركزي، إضافة الى اللجنة الطارئة للانتفاضة، مؤكدا «أنهم ليسوا ضد منظمة التحرير الفلسطينية... إنهم منظمة التحرير الفلسطينية»(110).
لم تفلح هذا المواقف في ردم الهوة بين «الجهاد» والمنظمة، والتي كانت تتسع مع تسارع وقع مباحثات السلام والقبول بها من قبل «م.ت.ف» كسبيل لاسترجاع الحقوق الفلسطينية، وبعد رفض قيادات «الجهاد» ـ التي أبعدت الى الخارج، وعلى رأسهم فتحي الشقاقي ـ لقاء ياسر عرفات، ورفض الدعوة التي وجهت «للجهاد» للمشاركة في اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني، الذي عقد في الجزائر بتاريخ 23/1/1991، كانت العلاقات تسير نحو القطيعة، ويتصاعد التوتر بين الطرفين، وبخاصة مع قيام عرفات بإدخال ممثلين عن بعض المجموعات الجهادية الصغيرة، التي تحمل نفس الإسم الى المجلس الوطني الفلسطيني، كحركة الجهاد الاسلامي ـ بيت المقدس ـ التي يتزعمها أسعد بيوض التميمي، وكحركة الجهاد الإسلامي ـ كتائب الأقصى ـ التابعة لفايز الأسود وإبراهيم سربل. وأراد عرفات بذلك تكريس قيادته كمرجعية لا تتجاوزها الحالات الإسلامية الجهادية، ضمن دعوى «الديمقراطية الفلسطينية»، وطارحا بذلك نماذج في مواجهة «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، ينبغي الاقتداء بها على صعيد العلاقة بـ«م.ت.ف»
واعتبرت «الجهاد» أن سياسة عرفات هذه هدفها «دعم المجموعات والشلل الهادفة لخلق الشقاقات في صفوف الحركة ومواقفها الثورية المميزة، وذلك عن طريق سيل الأموال، وشراء المرتزقة لحساباته الشخصية… (وحمل «الجهاد») …. المسؤولية للجهات التي مولت هذه المجموعات لحسابات الحلول التصفوية، وتشويه صورة الجهاد الإسلامي»(111).
وهاجمت حركة الجهاد عرفات بسبب ما أسمته «استدراج الشيخ التميمي الى المجلس الوطني... كي يمرر... على كتفه مشاريع التسوية» وقالت: إنه يقوم بذلك بعد أن فشل في تركيع قيادة «الجهاد»، وبعد حوالي ثلاثة أعوام من تآمره على «الجهاد» في لبنان وفلسطين، وبعد فشله في ان يتغطى بالقوى الإسلامية المجاهدة، مشددة على أن «الشيخ التميمي لا يملك إلا نفسه وأولاده»(112).
استمرت قيادة «م.ت.ف» رغم هذا التصعيد في محاولاتها التواصل مع «الجهاد». وتذكر حركة الجهاد أن عضوا قيادة «فتح» أبو الأديب وعباس زكي وقعا اتفاقا مع حركة الجهاد الإسلامي، اثناء انعقاد مؤتمر دعم الانتفاضة في طهران بتاريخ تشرين أول (اكتوبر)1991، «يؤكد احترام كل طرف لفعاليات الطرف الآخر، ضم حركة الانتفاضة، ويؤكد على حل المشاكل العالقة في سجون الوطن المحتل». وتكررت زيارات وفد اللجنة المركزية برئاسة نصر يوسف لحركة الجهاد في دمشق بتاريخ25/7/1992، وبتاريخ8/12/1992 وفي إبريل (نيسان) من العام نفسه(113) الى اتهام حركة الجهاد وزعيمها فتحي الشقاقي بالعمالة للمخابرات الإيرانية. وانها جزء من المخابرات الإيرانية، وأن إيران تقوم بتدريب عناصر من «الجهاد» أسمها بـ«المنشقة» بهدف شق صفوف المنظمة(114). وردا على هذا التصعيد من قبل عرفات قامت «الجهاد» بنفي تهم عرفات مؤكدة «أنها ليست عميلة لأحد»(115)، وأن عرفات «يريد أن تكون حركة الجهاد الإسلامي أداة في يده»(116)، وأنه مارس ضغوطات عدة لتحقيق هذا الهدف في المي والجزائر ومناطق أخرى وفشل. وأن ما أورده ليست إلا «أغاليط ستكون مدخلا لتقديم المزيد من التنازلات المجانية للعدو، وخدمة النظام الدولي الذي يسعى لشطب الإسلاميين من المنطقة»(117).
كان الاحترام المتبادل الذي حققته الوحدة النضالية بين «الجهاد» و«م.ت.ف»، عند انطلاقة حركة الجهاد واندلاع الانتفاضة الفلسطينية يتبدد مع كل تقدم في مسيرة السلام، حتى جاء توقيع اتفاق أوسلو من قبل المنظمة وإقامة سلطة الحكم الذاتي، لتقضي على هذه الوحدة النضالية تماما، ولتتأسس علاقة جديدة مع السلطة الفلسطينية، قوامها القطعية والمواجهة والتحفز الدائم، وهو ما سيتبين عند تناولنا لعلاقة «الجهاد» بسلطة الحكم الذاتي.
من الجماعة الإسلامية الى الجماعة الوطنية
موجبات العقيدة:
احتوى الفكر السياسي لحركة الجهاد على تحولات هامة، على صعيد موقفها من التعددية السياسية وقبول التعايش معها، وارتبطت هذه التحولات الى حد كبير بضرورات الاجتماع السياسي، وموجبات الكفاح الوطني ضد الاحتلال الإسرائيلي، أكثر من ارتباطها بالمشروعية الدينية والتأسيس الفقهي لها.
وضمت «الجهاد» ضمن هذه التحولات ثلاثة اتجاهات عامة. الاتجاه الأول: حمل رؤية أيديولوجية خالصة، تأسست على موجبات العقيدة كما يفهمها، من ضرورة قيام التجمع الإسلامي على رابطة العقيدة. وإقامة العلاقات مع الآخرين وفقا لقاعدة الولاء والبراء، كما عرفت في المدونات العقيدية الإسلامية. ومفاصلة أهل الشرك والنفاق، ومناصرة أهل الإسلام. وعدم جواز التجمع والقتال تحت راية «عميه جاهلية». ويلخص هذه الرؤية مفهوم الجماعة الإسلامية «الآمرة بالمعروف، الناهية عن المنكر»، كما هو في الفقه السياسي الإسلامي التقليدي، واعتقاد المسلمين العام.
كانت هذه الرؤية هي الاتجاه السائد داخل حركة الجهاد، منذ تأسيسها حتى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية. وهي رؤية كانت فيما يبدو حاجة تأسيسية لتجربة وليدة، تمنحها أصالة التكون الديني الشرعي، الموصول بأسس الدين كما اشتهرت. كما تمنحها عصبية حركية في مواجهة كافة الحركات والتنظيمات، تشد من لحمتها وتحق وحدتها الداخلية. وهي رؤية جاءت مع خصوصية التشكل الفكري والتاريخي التي مرت بها «الجهاد». ففكريا كان تشكلها مفارقا لحركة الإخوان المسلمين، تلك الحركة التي كانت قد استوت في الاجتماع السياسي العربي العام، وأصبحت أكثر تسامحا و«براغماتية» تجاه التيارات والأحزاب «اللاإسلامية»، وموصولا بالتيار الجهادي المصري وجماعاته، التي كانت تخوض حربا ضد نظام الحكم وتيارات التغريب المختلفة.
وتاريخيا، كانت لحظة التشكل الأولى لحركة الجهاد في أواخر السبعينات تشهد حالة من الانتشاء والفخر والعصبية الإسلامية، نتيجة لصمود حركات الإحياء الإسلامي في أكثر من مكان، وانتصار الثورة الإسلامية في ايران، وهو صعود وانتصار كان مفهوما لدى الإسلاميين كعنوان على فشل وهزيمة كافة البدائل والحلول العلمانية من ليبرالية ويسارية.
تتضح رؤية هذا الاتجاه من موقفه من قوى منظمة التحرير الفلسطينية، وبخاصة بعد أن أصبح سؤال الموقف او العلاقة بالأخيرة سؤالا مفروضا على القوى الإسلامية، بعد أن استوت هذه القوى في الخارطة السياسية الفلسطينية، كطرف رئيسي من أطراف الاجتماع الوطني الفلسطيني.
رأى اتجاه الجماعة الإسلامية أن جميع قوى «م.ت.ف» «قوى جاهلية»(118)، من خليط علماني بين ليبرالية واشتراكية ووطنية وقومية.(119) وأن قيادات هذه القوى التي قادت العمل السياسي الفلسطيني طوال عقود هي «نخب مفصولة عن الجماهير، و«تعاني من خلل بنيوي يجعلها غير قادرة على الاستبصار والرؤية الصحيحة»(120). وجعل هذا الاتجاه من الإسلام المحدد الرئيسي لموقفه من هذه القوى.(121) مؤكدا ان مشروعه الذي يحمله يختلف عن المشروع الوطني الذي تحمله منظمة التحرير الفلسطينية «منهجا وطريقا»(122). داعيا المنظمة الى تبني الإسلام، و«إعادة بناء المشروع الثوري الفلسطيني على أسس ربانية نقية فدائية واستشهادية، الأمر الذي لابد مه لكي تستعيد هذه الثورة نفسها وحيويتها ودورها المفقود وهيبتها الضائعة»(123). وبخاصة بعد فشل كافة البدائل العلمانية التي تبنتها فصائل «م.ت.ف»، والتي أودت بها الى هذا السقوط وهذه النتائج(124).
ورأى اتجاه الجماعة الإسلامية أن موضوعة «الوحدة الوطنية»، كما هي مطروحة في الساحة الفلسطينية، جاءت فيظل الهجمة الغربية، وفي ظل محاولات مستمرة لتفريغ المعركة من بعدها الحضاري والعقائدي، وذريعة لاستبعاد واستثناء الإسلام، وبالرغم من ذلك فإن الفصائل الوطنية الفلسطينية لم تحقق «الوحدة الوطنية»، بل ازداد التشرذم تعمقا بين هذه الفصائل، كما لم تبرز موضوعة «الوحدة الوطنية» إلا في ظل الهزيمة الروحية والسياسية والعسكرية.(125) واستغلت دوما «لإسكات الصوت المعارض، وغطاء ينشر بالقسر على كل مخالف للتفريط بفلسطين تحت حجج واختلافات»(126).
في المقابل طرح هذا الاتجاه الوحدة الإسلامية مع القوى الإسلامية، ورفع شعار «الوحدة من من خلال التعدد»، وأراده وحدة التيارات الإسلامية على اختلافها وتعددها، وهو شعار طرح قبل اندلاع الانتفاضة وأضفى من خلاله مشروعية التعددية السياسية ومشروعية الاختلال الشرعي المبني على الاجتهاد في الدائرة الاسلامية فقط.
ولكن اتجاه الجماعة الإسلامية في رؤيته السابقة حافظ على الخلاف مع القوى الوطنية الفلسطينية في دائرة الرأي والموقف الفكري. ولم يتعداه الى صرع مادي، مؤكدا على أن الخلاف الذي أسماه بـ«الجوهري» ليس مبررا للاقتتال أو الصراع، وأن «الموقف من سياسة هذا التنظيمات العلمانية لا ينسحب على التعامل اليومي مع الأفراد»، وأنه يحترم كل جهد يقدم من أجل فلسطين.(127)
وما أبدته هذه الرؤية من مرونة لجهة التعامل اليومي مع الأفراد، أو حصرها للصراع بالصراع الفكري والسياسي دون المادي، لم يتطور عند هذا الإتجاه الى قبول مسألة التحالف مع هذه القوى «الجاهلية والعلمانية»(128)، وهي المسألة التي قبلت بها حركة الجهاد لاحقا، مع شيوع الاتجاه اللاحق في تطور فكرها السياسي، الاتجاه الذي أضفى المشروعية السياسية والاجتماعية على التعددية السياسية الفلسطينية.
ضرورات الاجتماع المقاوم:
إن اتجاه الجماعة الإسلامية السابق، وبالرغم من تقديمه لموجبات العقيدة على ضرورات الاجتماع، الإ أنه في إبقائه لموقفه في الدائرة النظرية، وتقديره لجهد التيار الوطني النضالي بمقاتليه وشهدائه ومعتليه، كان قد ساهم في التحول الذي طرأ على فكر «الجهاد» لجهة قبول التعددية السياسية.
هذا إضافة الى عوامل أخرى، منها: ازدياد وتصاعد المشاركة السياسية والعسكرية «للجهاد» في التحرر الوطني ضد الاحتلال الإسرائيلي، وما تعرضت له جراء ذلك من قمع إسرائيلي، أسس شراكة نضالية، ومعاناة مشتركة بينها وبين القوى الوطنية. ونضيف لذلك عدم دخول «الجهاد» في صراع مع الآخرين حول هوية الدولة الفلسطينية المنشودة، وتركيزهم على القضية الفلسطينية كقضية مركزية وهدف مقاومة الاحتلال، وتخليص المجتمع الفلسطيني منه، وهو أمر ساهم في زيادة نقاط الالتقاء والتقاطع مع القوى الوطنية.
ومن العوامل الهامة الأخرى التي دفعت «بالجهاد» لقبول التعددية السياسية «الإسلامية»، تسارع القبول بمشاريع السلام، والاعتراف بإسرائيل، وإغلاق باب الصراع، الأمر الذي رأت فيه«الجهاد» اتجاها سياسيا كارثيا يحيط بالقضية الفلسطينية، ويدفعها الى تأجيل أي خلا أيديولوجي وفكري لصالح مناهضة هذا التوجه وتقويضه، أو الحد من مخاطره، فتم الالتقاء بالقوى الوطنية الرافضة لهذا النهج السلمي.
ويعبر الشقاقي بوضوح عن هذا التحول في الفكر السياسي «للجهاد» قائلا:
«بعد حرب الخليج، ورؤيتنا المزيد من الانهيارات، ورؤيتنا أن الجميع مستهدف، حصل تطور في الفكر السياسي الإسلامي، سواء فيما يخص حركة الجهاد الإسلامي، أو فيما يخص رؤية الأخوة في حركة حماس أيضا، ودار حوار حول إمكانية مشاركة الإسلاميين في منظمة التحرير الفلسطينية عبر المجلس الوطني. وكان هذا بعد إقرارنا بأن هناك تعددية سياسية على الساحة الفلسطينية يجب احترامها، وبعد إقرارنا أن مسألة الطرح الأيديولوجي هي مسألة يجب أن لا يكون فيها إكراه، ولكن فلسطين هي القاسم المشترك، إذا لم تكن فلسطين هي القاسم المشترك فعلى ماذا سوف نتفق؟»(129).
وخطاب الشقاقي المتسامح والمعترف بالتعددية، هو الاتجاه السائد داخل حركة الجهاد منذ العام 1990 وحتى الآن، وما تزال «الجهاد» تعمق هذا التوجه وتؤصل لمشروعيته السياسية والاجتماعية والدينية، وما يزال يحكم خارطة التحالفات والعلاقات التي بنتها وتبنيها «الجهاد».
كانت بداية هذا التحول باتجاه هذا الخيار السياسي يأخذ شكل التعاون والتنسيق الميداني، سواء في الانتفاضة وفعالياتها اليومية داخل فلسطين، أو في التنسيق السياسي مع القوى الوطنية خارج فلسطين. ثم بدأ خطاب الحركة، وعلى إثر جملة العوامل التي ذكرت يأخذ منحى التأصيل الشرعي للموقف الجديد، إلا أنه لم يبلغ حد المباحث الشرعية المتخصصة، وهو تأصيل عمدت له «الجهاد» داخل الإسلام، وداخل التاريخ الإسلامي، لإضفاء المشروعية الدينية على هذا التوجه، فقد جاء في كلمة المجاهد التي عنونت بجزء من آية قرآنية تقول: «تعالوا الى كلمة سواء» ما نصه: «الإسلام لا ينطلق من موقع العداء للآخر، وإنما من موقع الالتقاء والتعاون على الهدى والتغيير والنهي عن المنكر، ولا منكر أعظم من بيع الأوطان، والتغرير بالشعوب، واستلاب هويتها، وسرقة تضحياتها»(130). وتعتبر المقالة نفسها وفي سياق دفاعها عن التعددية، وجواز الالتقاء بالآخرين من المخالفين، أن الخطاب الإسلامي السائد الذي يعتقد «أنه لا يجوز لحركة إسلامية أن تتحالف مع حركة غير إسلامية، مهما كانت عناصر الالتقاء بينهما» إنما يصدر عن «فهم عجيب»(131)، مستشهدة بالأية التي جعلت عنوانا لتخلص، الى «أن واجب المسلم أن يبحث عن نقاط الالتقاء بين الناس، ليقيم عليها مشروعية حركيته الإنسانية، من خلال فهم حركية النص»(132).
ولكن هذا الجهد الذي حاولته «الجهاد» في تأكيد مشروعية التعددية السياسية وطنيا وإسلاميا لم يبق بلا قيد، بل بقي مشروطا بما تقدم من شروط، ولكنه لم يعد يركز على الهوية الأيديولوجية للقوى الوطنية كشرط سابق أو لازم، بل أصبحت تطالب بم تسميه بالحد الأدنى كما ورد في هذا النص: «على القوى الإسلامية، وهي تلحظ التعددية التنظيمية، أن تؤكد على قاسم مشترك يمثل الحد الأدنى من طموحاتها ومن برنامجها في هذه المرحلة، يؤكد على عدم الاعتراف بأي شرعية للوجود الصهيوني على أي جزء من فلسطين، وحشد كافة القوى الفلسطينية لأجل التحرير، وعدم التنازل عن الميثاق الوطني الفلسطيني»(133).
التمثيل الإسلامي للجماعة الوطنية
طرحت «الجهاد» في نهاية اتجاه الجماعة الإسلامية، الذي تشكل وفق موجبات العقيدة، وبداية اتجاه التعددية السياسية، الذي تشكل وفق ضرورات الاجتماع المقاوم، اجتهادا رؤيويا يتجاوز كونه تطويرا للاتجاه الأول أو تجديدا له، كما يتجاوز الاتجاه الثاني الى محاولة تأسيسية جديدة لشكل علاقات الإسلاميين مع أطراف الاجتماع الوطني، داخل مجتمعاتهم المحلية القائمة، وفق قواعد التجزئة والقطرية.
إنها محاولة تأسيسية عمدت في تقديرنا الى تجاوز مسائل تقليدية هامة لدى الإسلاميين، تحكمت في علاقاتهم السياسية والاجتماعية مع الأطراف «اللاإسلامية»، وما زالت تتحكم في القطاع الأوسع من حركاتهم، وتنظيماتهم وتجمعاتهم. ومنها:
– اعتبار الانتماء الديني المرجع الوحيد في تحديد شكل العلاقات مع الآخرين المخالفين لهم دينا وسياسة.
– عدم الاعتبار لأي تجمع أو شكل وحدوي أو ائتلافي إلا وفق مفهوم الجماعة الإسلامية، ورابطة العقيدة، واعتماد الوحدة والائتلاف فقط مع أطراف الاجتماع الإسلامي، ممثلا في القوى الإسلامية السياسية منها والاجتماعية.
– نبذ وإدانة الانتماء الوطني القطري أو القومي العربي لصالح الانتماء للجماعة – الأمة.
– القفز عن واقع التجزئة القطرية، وعدم الاعتراف به، أو التعاطي معه إيجابيا، والتمرس خلف شعار الوحدة ضد التجزئة، بما هي وحدة إسلامية تتجاوز الحدود القطرية.
وتقوم هذه الرؤية التأسيسية على ما دشنته من مفهوم مركزي يتلخص بمقولة: «تمثيل الجماعة الوطنية»، ويشمل هذا المفهوم مسألة العلاقة مع «م.ت.ف»، ومسالة العمل المسلح، وتحمل مسؤوليات العمل الجماهيري، إضافة الى موقع غير المسلمين، أو المسلمين غير المنضوين في تنظيمات الحركة الإسلامية، من ساحة الجهاد والعمل السياسي والنضالي.(134)
وتذهب هذه الرؤية الى أن بروز «الجماعة الوطنية» كان بعد انهيار الدولة العثمانية، وتراجع فكرة الجماعة الإسلامية ورض التجزئة، ونتيجة قسرية ولدت مع حركات النضال ضد الاستعمار الأجنبي في القرن العشرين، حينما ارتبطت مسألة الاستقلال الوطني بقضية إنهاء الاحتلال الأجنبي في كل قطر. واختلفت «الجماعة الوطنية» من ثم حسب السمات الخاصة لكل قطر وهمومه وإشكالياته المطالبة بالإجابة عليها.(135)
وبذلك فمفهوم «الجماعة الوطنية» ولد كنتيجة لحالة التوازن «بين إطار الأمة في سياقها التاريخي القديم، وبين حالة التجزئة المفروضة، وتشكلت الجماعة الوطنية بين القطبين، بين ما هو تاريخي وما هو واقع مفروض»(136).
وطرح مفهوم «الجماعة الوطنية» وتمثيلها من قبل الإسلاميين، أراد أن يخرج من حالة الفصام الواقعة بها الحركة الإسلامية، بين ادعائها المشروعية بتمثيلها للنموذج التاريخي الإسلامي للأمة، القائم على مفهوم الجماعة ـ الأمة، ومفهوم الخلافة الموحدة للمسلمين في كافة بلدانهم. وبين الواقع «اللاإسلامي» المفروض، القائم وفق قواعد التجزئية القطرية بعد انهيار وحدة الأمة والجماعة، والذي تحكمه سلطات سياسية تتوزع على هذه الأقطار، فضلا عن قيام دولة الكيان الصهيوني.
وحلا لهذه الإشكالية ووفقا لهذا المفهوم، فإن «الجهاد» رأت «أن قوى الحركة الإسلامية السياسية لا تستطيع أن تصل لأهدافها في إقامة النظام الإسلامي، أو قيادة المشروع التحريري في حالة فلسطين من دون أن تكون ممثلة للجماعة الوطنية»(137)، الأمر الذي لن يتحقق بدعاوى الحركة الإسلامية التقليدية في التمحور حول فكرة الجامعة الإسلامية، خلافة ووحدة شاملة، بل يتحقق بتمثيل كافة فئات الشعب. سواء أبناء الطوائف غير الإسلامية، أو القوى والتيارات الاجتماعية التي أصابتها حركة التغريب، من دون أن تحولها لقوى معادية للإسلام، والحركة الإسلامية. كما لن يتحقق هذا التمثيل دون أن يتم تبني مشروع وطني جماعي يتصدى عمق وأبرز هموم وإشكايات الجماعة. ويبقى من ثم تحقيق نهوض الأمة الواحدة هدفا بعيدا يستحيل بلوغه، دون أن تصعد القوى الإسلامية الى مستوى تمثيلها لجماعاتها الوطنية.(138)
بالرغم من الارتكاز التبشيري لهذا المفهوم على السياق التاريخي، وفق ما آلت إليه المنطقة من تطورات، إذا أنه تم التنظير له حين انتقلت «الجهاد» من مستوى التبشير الأيديولوجي والعمل العسكري المحدود، الى طور المشاركة الشعبية والجماهيرية في الانتفاضة، وتحول الاهتمام بالعلاقة من القوى السياسية أو أطر منظمة التحرير، الى العلاقة مع كافة الأطراف، من قوى سياسية واجتماعية وأهلية وتجمعات جبهوية وعشائرية ومناطقية وغيرها.
من ناحية أخرى تم التنظير لهذا المفهوم مع ما واجهه الإسلاميون من صعوبة في «تحويل صعودهم الى مشروع بديل، والحصول على شرف تمثيل أغلبية قطاعات الشعب وإن لم يكن كلها»(139)، كما تقر حركة الجهاد، الأمر الذي يفسر لنا موضوعة «تمثيل الجماعة الوطنية» كمشروع بديل طرحته حركة الجهاد على القوى الإسلامية، مشروع إسلامي على قاعدة وطنية بديلا للمشروع القومي والمشروع الوطني، دون أن ينفي أو يطرد أيا منهما، بل مشروع يتحول من علاقة الطرد والاتهام الى علاقة الاستيعاب والتجاوز، ومن علاقات الضرورة (ضرورة الواقع والقاسم المشترك) الى علاقات الاعتراف الضمني، وإن كان المشروع بني في ظاهره على قاعدة المشاركة لا قاعدة الهيمنة، إلا أن هذه المشاركة ـ فيما نراه ـ مرحلة انتقالية للتمثيل الإسلامي لكل قطاعات الإجماع الوطني.
عانت هذه الرؤية الطامحة لتحقيق التمثيل الإسلامي للجماعة الوطنية، وبعد عقد من زمن طرحها من ظروف وعوامل أدت الى تعثرها ومنها:
– بعض الأطراف أصبحت ـ كما ترى «الجهاد» ـ حليفا للكيان الصهيوني، وحارسا لمصالحه وأمنه، الأمر الذي حال دون الالتقاء معها، وعلى رأسها سلطة الحكم الذاتي، وأطراف أخرى راوحت بين رفض أوسلو وإقامة العلاقات مع سلطة الحكم الذاتي، ودعوتها لتحسين شروط عملية السلام، كالجبهتين: الشعبية والديمقراطية، مما أخرجهما من تحالف «العشرة»، تحالف القوى الفلسطينية المناهض لأوسلو والداعي لإسقاطه.
– التمثيل الإسلامي للجماعة الوطنية يلزمه ويشترط له وحدة الطرف الإسلامي، ممثلا في حركة المقاومة الإسلامية «حماس» وحركة الجهاد الإسلامي، وهذه الوحدة أو العمل الجبهوي المشترك لم يتحقق الى الآن.
– الاختلال الحاد في موازين القوى إثر حرب الخليج الثانية، وما أدى إليه من تنشيط مشاريع اسلام التي بدأت بمدريد وانتهت بأوسلو وغيرها من الاتفاقيات اللاحقة. ودخول سلطة الحكم الذاتي الى مناطق الضفة وغزة أدى الى إضعاف قوى الرفض الفلسطينية، ومحاصرتها إقليميا ودوليا.
– واقع الفصائل الفلسطينية الوطنية المعارضة، والمتمثل بالمركزية القيادية، والترهل التنظيمي، وتراجع الفعالية السياسية، والعمل المسلح، وجغرافية الوجود في قطر دون آخر، وصراع النفوذ والمحاصصة بين هذه الفصائل في كل تحالف أو عمل جبهوي أو مؤسسي، كل ما تقدم أضعف قدرة كل من «حماس» و«الجهاد» على التحرك الوحدوي أو المناورة السياسية، فضلا عن التمثيل الوطني الجامع.
لم يحل التعثر في مشروع تمثيل الجماعة الوطنية دون مساهمة حركة الجهاد في تحالفات مناهضة للاحتلال الإسرائيلي ولمشاريع التسوية السلمية، بل استمرت في نهجها الذي أكد على مشروعية التعددية السياسية، واستعدادها للتنسيق والتعاون مع أي فصيل فلسطيني، مهما اختلفت مشاربه وإيديولوجيته، داعية الى الوحدة ورص الصفوف، ونبذ الفرقة والاختلافات.
وضمن هذا التوجه الفكري والتطور السياسي في أيديولوجيا حركة الجهاد، ونظرتها الجديدة الى أطراف الاجتماع الوطني، جاءت مشاركتها التحالفية الأولى في تاريخها بانخراطها في تحالف الفصائل الفلسطينية العشرة(140)، الذي أجمع على التصدي للحكم الإداري الذاتي، ومناهضة مشروع أوسلو، باعتباره مشروعا يستهدف تصفية القضية الفلسطينية المقدسة، وإضفاء الشرعية على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وأكد التحالف في بيانه الأول أن الوفد المفاوض لا يمثل الشعب الفلسطيني، وغير مخول بالتوقيع باسم الشعب على اية وثيقة أو مشروع ينتقص من الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني.(141)
واعتبرت «الجهاد» التحالف الجديد خطوة مهمة في صياغة مرحلة جديدة في تاريخ النضال الفلسطيني الحديث، تتمثل باجتماع الوطنيين والإسلاميين، حيث ضم التحالف جميع حركات المقاومة من وطنية ويسارية وإسلامية، على أرضية الرفض المطلق لاتفاقية الحكم الذاتي
كما وحمل «التحالف» أكبر إدانة لسياسة «م.ت.ف» التي تقود المفاوضات في واشنطن، وإن ما حمله «التحالف» من برنامج يمكنه إذا جرى تنفيذه وتعميق محتواه، أن ينقذ الشعب الفلسطيني من الأزمة التي تمر بها القضية الفلسطينية، وأن ينقذ الانتفاضة من محاولة قتلها، باعتبارها حاملة الجهاد الفلسطيني الراهن.(142)
كما واعتبرت «الجهاد» أن نجاح الإضراب الاول الذي دعت له الفصائل العشرة، والتزام الشعب به داخل فلسطين وخارجها، تأكيدا على نجاح القوى المعارضة للحكم الاداري الذاتي، وتفاعل الجماهير معها و«مكذبا دعاة الهزيمة والاستسلام، والقائلين باليأس، وبأن قدرة شعبنا على العطاء شارفت على النهايات»(143)، وكشف النجاح الذي حققه الاضراب ايضا عن تلهف الشعب الى البديل المناضل للقيادة الذاهبة الى المفاوضات(144).
وطالبت حركة الجهاد منذ البداية في محاولة تحذيرية مما قد يؤول اليه التحالف، بعد الاكتفاء بإصدار البيانات، والاكتفاء بالتصريحات الكلامية، والانتقال للعمل، لأن «الاكتفاء بكتابة البيانات يلقي بالاوراق في سلاسل اللاجدوى والعبث»(145). كما طالبت «الجهاد» في خطابها الخاص الموجه للفصائل وعلى الدوام برفع سقف التحالف، والقيام بعمليات عسكرية تعطي مفاتيح الثقة بالقوى الرافضة، وتساهم في استمرار الانتفاضة وتطويرها.(146)
إن دراسة أولية لمجموع القوى التي تشكل منها تحالف العشرة، ولبرامجهم السياسية، مع قبول «الجهاد» مشاركتها هذا التحالف، الذي لا يتعدى سقفه مناهضة اتفاق أوسلو، والسعي لاسقاطه يشير الى تغيير جديد طرأ على شروط «الجهاد» في قبول التعددية السياسية والتحالف معها. وقاعدة هذا التغيير تتلخص في أن حركة الجهاد، وكلما زادت استهدافات إسرائيل لقوى المقاومة، وزادت المخاطر المحيطة بالقضية الفلسطينية، مع تقدم مشاريع السلام، تنازلت «الجهاد» عن المزيد من شروطها في التحالف مع القوى الأخرى.
فبعد أن غضت الطرف عن شرط «اعادة الاعتبار للاسلام» ـ الشرط الذي لم تحدد تماما طبيعته وكيفيته ـ متجاوزة الأيديولوجيا العلمانية من وطنية وقومية ويسارية، غضت الطرف عن شرط آخر ـ بقبول الانضمام لتحالف فيه الجبهة الديمقراطية ـ وهو العمل على تحرير فلسطين من النهر الى البحر.
وبمعنى آخر فبعد ان كانت القواسم المشتركة هي ثوابت الإجماع الفلسطيني التاريخية، كما نصت عليها كافة المواثيق الفلسطينية، أصبح من الممكن الالتقاء على قواسم مرحلية، وليست استراتيجية، كإسقاط اتفاق أوسلو أو مناهضته، أو الوقوف ضد الغاء الميثاق الوطني الفلسطيني، كما حصل عند مشاركة «الجهاد» في المؤتمر الوطني الفلسطيني، الذي عقد في دمشق لهذا الغرض بتاريخ 10 –12/1998، وأصبحت علاقات «الجهاد» مع القوى «اللاإسلامية» تدور مدار الحراك السياسي اليومي، وما يفرضه من تحديات تهدد مستقبل القضية الفلسطينية.
لم تكن علاقات «الجهاد» التحالفية هذه، أو هذا التطور والتغيير في رؤيتها السياسية السابقة براغماتيا مصلحيا، أو مهادنا لأطراف التحالف، بل استمرت في جذرية خطابها النقدي تجاه المشروع الوطني، والتحالفات الجديدة، ومنها تحالف القوى الفلسطينية، الذي تعرض في أدائه لنقد المبكر جدا من قبل حركة الجهاد، سعيا وراء تطوير هذه الصياغة، وتجنيب التحالف الصراع الفصائلي القائم على المكاسب الذاتية، واعتبرت «الجهاد» ان الخطوة الاهم التي يجب ان يوليها التحالف اهتمامه في تطوير العمل النضالي والجهادي، كهدف استراتيجي، لا يخضع للتكتيكات، ومتجاوزا الاختلافات في وجهات النظر، وفي المعتقدات والمبادئ(147). وهاجمت «الجهاد» بعد توقيع اتفاق غزة ـ أريحا بعض الفصائل ـ لم تسمها ـ لأنها بقيت «أسيرة لمشاريعها الخاصة والضيقة، ولم تدرك حجم التغييرات الهائلة التي حدثت في المنطقة.. وإن الاستغراق في الخلافات حول هذه الصيغة السياسية أو التنظيمية أو تلك، يؤكد على عدم الجدية في الإنجاز من جهة، ويفقد جزءا كبيرا من المصداقية أمام الجماهير»(148).
ولكن النقد الذي كان سعيا لتطوير الأداء تحول الى نقد شديد جذري وشامل، بعد مرور عامين على تشكيل التحالف.. وذلك حين اعتبر الشقاقي «أن الفصائل في مجملها تعاني من ضعف داخلي تنامى عبر سنوات طويلة من البيروقراطية والعسكرتاريا والاستبداد والفهلوة»(149)، وأن كافة الفصائل تعاني من أزمة الثقة فيما بينها، وان النزاعات الفردية نمت على حساب المصلحة العامة(150).
واستمر نقد «الجهاد» لأزمة التحالف، التي اعتبرها رمضان عبد الله شلح أزمة ذاتية أكثر منها موضوعية، أزمة تتعلق برهان البعض على معطيات التسوية، وأن شعار التحالف الذي رفعه ضد أوسلو وهو «فلسطين هي الأيديولوجيا والقاسم المشترك الأعظم»(151) لم يتحقق، و«أن الروحية والعقلية السائدة في أوساط المعارضة الفلسطينية لا ترشحها كي تكون بديلا قويا متماسكا... وما لم يكن هناك قفزة وتعال عن الهموم الحزبية الضعيفة من قبل هذا الفصيل أو ذاك، ويتم فعلا تغليب مصلحة الشعب والأمة على كل الصائر.. سيبقى واقع المعارضة الفلسطينية يتراوح مكانه»(152).
ولكن «الجهاد» التي كانت أكثر الفصائل نقدا لأداء هذا التحالف، لم تخرج منه وبقيت ممثلة في، لأنها لم تره واستنفذ أغراضه، ويمكنه أن يبحث معوقاته ويتجاوزها(153)، ولأنه يمثل برنامج الحد الأدنى الأكثر انسجاما مع طموحات الشعب في مواجهة مشروع عرفات(154). وإضافة لذلك فإن خطاب «الجهاد» أصبح يلحظ الواقع الموضوعي المحيط بالقضية الفلسطينية، مع نقده الذاتي المستمر لقوى التحالف،فالتحالف يفتقد الركيزة والحاضنة التي تؤازره ضد التحالف الإسرائيلي، و«هذه الحاضنة يجب أن تكون دولة أو مجموعة دول عربية وإسلامية تتبنى هذا المشروع البديل وتوفر له الدعم والإسناد في مواجهة ما يملكه المشروع الآخر من دعم إقليمي ودولي كبير»(155).
إن ما يفسر بقاء «الجهاد» في تحالف القوى الفلسطينية رغم نقدها المتقدم له، وإضافة الى وعيها الموضوعي الخاص بأزمة الواقع العربي الفلسطيني المحيط بالجميع، هو أنها فيما يبدو تفتقد الخيارات البديلة عن هذا التحالف في المستوى السياسي، وانه ما من قوى فلسطينية خارج هذه القوى يمكن الرهان عليها، وبخاصة مع فشل كافة الجهود لإيجاد شراكة تحالفية أو جبهوية ما مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
«الجهاد» و«حماس» وتدافع الشرعية الإسلامية
مثلث ولادة حركة حماس مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، ودخولها ميدان المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني، تأسيسا لعلاقة مختلفة مع «الجهاد الإسلامي»، عن تلك العلاقة المتوترة والصراعية مع تيار المجمع الإسلامي المنتمي تقليديا لتنظيم الإخوان المسلمين، وهي العلاقة التي كان فيها الصراع الفكري والسياسي على أشده منذ افتراق المجموعة الجهادية الأولى، التي غيرت قناعاتها «الإخوانية». وهو الافتراق الذي أسس علاقة غير ودية، «أساسها نظرة «الإخوان» الى «الجهاد» كمجموعة منشقة عن التنظيم الأم، ونظرة «الجهاد» الى «الإخوان» في المقابل كجماعة كبيرة، لكنها مترددة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي بالكفاح المسلح»(156).
ونلخص نقاط الخلاف الأساسية بين التيار الإسلامي الثوري الوليد (الجهادي)، وبين تيار المجمع الإسلامي (الإخواني)، كما صاغتها حركة الجهاد في النقاط التالية157).
– تأجيل «الإخوان المسلمين» للكفاح المسلح ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وإهمالهم للقضية الفلسطينية.
– مهادنة «الإخوان» للأنظمة العربية والاشتراك في برلماناتها وعدم مجابهتها. وهو المنهج الذي أيده وناصره «المجمع الإسلامي» داخل فلسطين.
– اعتمد «الإخوان» لنهج تروبي سلبي سكوني، رأت فيه «الجهاد» نهجا تربويا يبعد الأفراد عن مواطن الصراع ويشيع أجواء السمع والطاعة والتقليد، ويقتل الإبداع، ويغيب النقد والنقد الذاتي.
– علاقة «الإخوان» الصدامية مع الحركة الوطنية الفلسطينية (قبل نشوء «حماس».
– تشكك «الإخوان» وطعنها بمشروعية الجماعات الإسلامية التي تخالفها الرأي.
– موقف «الإخوان» (داخل فلسطين) المعادي للثورة الإسلامية في إيران، وشن تيار المجمع الإسلامي حملة تكفيرية ضد الشيعة الإمامية.
همشت انطلاقة حركة حماس بعض دواعي ومبررات النقد المتقدم «للإخوان المسلمين». إذ أضحت «حماس» طرفا في الصراع الوطني ضد الاحتلال سياسيا وعسكريا، وأكدت في ميثاقها على أهمية وقدسية القضية الفلسطينية(158).
هذا التحول «الإخواني» خفف من العلاقة الصدامية مع «الجهاد»، وبدد نقاط خلاف عديدة، منها الموقف من الثورة الإسلامية في ايران، ذلك ان تحول تيار «المجمع» الى حركة سياسية نشطة دفعه الى علاقات اقليمية واسلامية مع أطراف عدة، ومنها الجمهورية الاسلامية الايرانية، فاختفى الخطاب التكفيري للشيعة والمعادي للثورة. وأما موقف «حماس» من الأنظمة العربية، فقد حافظت على الموقف الإخواني التقليدي العام، ولكن في ضوء خصوصية المعركة التي تخوضها «حماس» في فلسطين وحاجتها للدعم العربي. وفي مقابل هذا الموقف البراغماتي «لحماس» حافظت «الجهاد» على نظرتها الراديكالية أيديولوجيا للأنظمة العربية، مع واقعية جديدة لجهة التصنيف السياسي للأنظمة، دفعها إليه انتشار الحركة خارج فلسطين.
قرب اهتزاز نقاط الخلاف السابقة، وانتفاء معظمها مع مشاركة «حماس» في الصراع، المسافة بين الحركتين، فأخذت حركة الجهاد تكرر دعوتها الى الوحدة الاسلامية التي اعتبرتها ثابتا من ثوابتها(159). ودعت الى تشكيل قيادة إسلامية موحدة للانتفاضة تضم «حماس» و«الجهاد»، باعتبار هذه القيادة «مطلبا ربانيا وتاريخيا»، وهي القادرة على قيادة جماهير الانتفاض(160). كما دعت «الجهاد» الى تشكيل جبهة اسلامية للتصدي لجهود «م.ت.ف» السلمية(161). وحافظت حركة الجهاد في كافة البيانات التي تصدرها على تأكيد هذه الدعوة الى الوحدة الاسلامية، باعتبارها خيار المواجهة المستمرة مع العدو، وإسقاط خيارات التسوية. ولكن حركة حماس في المقابل لم تأت على ذكر الجهاد الاسلامي في أغلب بياناتها الرسمية، وفي مقابلات قادتها مع الإعلام، وانطبعت نظرة «حماس» الى «الجهاد» واسلوب تعاملها معها بشعور التعالي والفوقية، وبقيت .حماس، تؤكد على ضرورة عودة «المجموعة المنشقة، الى تنظيمها الأم»(162). وفي الوقت الذي اعتبرت حركة حماس منظمة التحرير الفلسطينية «من أقرب المقربين الى حركة المقاومة الاسلامية»، وإن موقفها من المنظمة هو «موقف الابن من أبيه، والأخ من أبيه، والقريب من قريبه»(163)، فقد نظرت الى علاقاتها بالحركات الاسلامية الأخرى نظرة استدراكية تشككية، فهي تنظر اليها كاجتهادات مشروعة ولكن مشروطة بـ«توافر النوايا السليمة والإخلاص لله. وما دامت تصرفاتها في حدود الدائرة الإسلامية»(164) كما و«تعتبر حركة المقاومة الإسلامية تلك الحركات رصيدا لها»(165) سائلة الله الهداية والرشاد للجميع.
ودأب قادة «حماس» ـ حتى فترة متأخرة ـ من التقليل من شأن حركة الجهاد ووزنها في الأرض المحتلة(166)، ومبرر ومشروعية استمرارها، بعد ان تبنت «حماس» النهج المسلح، «الأمر الذي ادى الى تفسخات في صفوف الجهاد الى عدة أنواع ومسميات، بينما بقيت حماس واحدة»(167).
اتسمت علاقة الحركتين في العامين 1992، 1993 بالتوتر الشديد داخل الأراضي المحتلة، وبخاصة في قطاع غزة، ووصل الامر الى حد المواجهة، فحركة الجهاد اتهمت «حماس» بممارسات عدائية تجاهها، منها تمزيق بيانات الجهاد وملصقاتهم، ومصادرة منشوراتهم من المساجد، والاعتداء على المساجد التي يديرونها، سعيا لانهاء نفوذهم فيها، ومحاولات اغتيال بعض كوادرها ونشطائها، وملاحقة نشطاء الجهاد في الانتفاضة وضربهم ونزع أقنعتهم، اضافة الى اتهامهم بالتشيع. وتبني «حماس» للعديد من العمليات العسكرية التي تقوم بها «الجهاد»(168). ووصل الأمر في نيسان (إبريل) من العام 1992 الى وقوع صدامات بين انصار الحركتين، جرح على أثرها اثنا عشر شخصا من الطرفين في مواجهات دارت بينهما، «عندما أراد اعضاء من «حماس» إرغام اعضاء من الجهاد الاسلامي على وقف تلاوة القرآن في مسجد صلاح الدين في حي الزيتون»(169)، في صراع بين الجماعتين على بسط نفوذهما داخل المسجد. كان يقابل حالة الصراع الحاد في الداخل علاقات التواصل والبحث عن مشاريع مشتركة في الخارج، إذ عقدت الحركتين لقاءات مشتركة منذ العام 1991، كان أولها في الخرطوم، تلاه لقاء آخر في طهران، توصل خلاله الطرفان الى جملة من الاتفاقيات والخطط العامة لاجل التنسيق والتعاون، على أمل الوصول الى الوحدة الكاملة في المستقبل كما عبر الشقاقي.(170)
وقد توصل الطرفان لما أسموه بـ«ميثاق الأخوة والتعاون»، وأكدا وحدتهما على الثوابت الاسلامية تجاه فلسطين، وحرمة استخدام العنف أو القتل في رفض الخلافات أو إنهاء النزاعات، و«العمل لإيجاد اطر تعاون وتنسيق مشتركة في النشاط النقابي والطلابي» وغيره من النشاطات، ومواصلة الانتفاضة، وإسنادها، و«إنشاء لجنة تنسيق مشتركة في الداخل والخارج للتنسيق بين الحركتين في المستجدات والاحداث التي تطرأ»، والتعاهد على أن تكون الوحدة هي الخيار الوحيد الذي يسعى اليه المجاهدون «فالعدو واحد والمعركة واحدة، ولابد أن تكون الصفوف واحدة»(171). لم تغير اللقاءات السابقة بين الحركتين وكافة اللقاءات اللاحقة أيضا، مع ما أبدته قيادات الحركتين في الخارج، من عدم التعرض لبعضهما، وحرصهما على التشاور والتنسيق المستمرين في جوهر موقف كل منهما من الآخر، وبخاصة داخل الأراضي المحتلة، الامر الذي يفسر انفراد مبعدو «حماس» بأنشطتهم عن أنشطة «الجهاد»، وعدم مشاركتهم بها، أثناء عملية الإبعاد لـ400 من قيادات ونشطاء الطرفين الى لبنان في العام1992.(172).
إن أزمة العلاقة المستمرة بين الحركتين الاسلاميتين ذات المرجعية الدينية الواحدة، وبالرغم من حجم التقارب الذي حصل بينهما، يمكن ان ترد الى حرص حركة حماس على أن تكون ممثلة الحالة الاسلامية الفلسطينية، هذا التمثيل تنازعها فيه حركة اسلامية اخرى، تحمل نفسه ادعاءات المشروعية ومقوماتها الاسلامية والوطنية. فمفاصلة «حماس» ونزعتها التفاضلية تجاه الاطراف الوطنية يمكن استيعابها للاختلاف الأيديولوجي أو السياسي مع هذه الاطراف، ولكن تبريرها يبقى صعبا تجاه اسلاميين آخرين، يحملون ذات التوجه الأيديولوجي والسياسي. وهو الأمر نفسه الذي تعانيه «الجهاد» امام بعض الاصوات التي تتساءل عن مبررات الاستمرار، مع وجود حركة اوسع انتشارا وأكبر حجما، وتمارس العمل المسلح، وما زالت تتمسك بكافة الثوابت الدينية والوطنية.
ومن هذه الاصوات حركة حماس نفسها، التي تعتبر «الجهاد» فاقدة لمبرر قيامها بعد مباشرة «حماس» للكفاح المسلح: المطلب التأسيسي لحركة الجهاد، وافتراقها عن «التنظيم الأم»(173).
اما حركة الجهاد وفي مواجهة موقف «حماس» وادعائها تمثيل الاسلام، ونفيها عن «الجهاد» مبرر استمرارها، فتذهب الى انها هي السباقة في إعادة واحياء دور الاسلام المقاوم في فلسطين، وانها في طرحها لقضية الوحدة الاسلامية اثبتت «تفوقا ونزاهة وثباتا على المواقف»(174)، وتشير «الجهاد» الى ان مهماتها تتجاوز الساحة الفلسطينية لتعيد التواصل للتاريخ الاسلامي، والتكامل لجغرافيا الامة الاسلامية، وانها وجدت ايضا لتعيد التواصل بين الحاضر والماضي، ولتربط المسلم بمجتمعه، وتعيد تشكيل العقل الإسلامي، ليقفز الى عالميته القادمة، وتعيد للمسلمين نظامهم السياسي، والتصدي للتغريب وحشد الامة من حول فلسطين، والعمل على نهضتها(175).
يتضح أن «الجهاد» في مواجهتها لسؤال «الشرعية» و«مبرر الوجود» تذكر بدائرة أهدافها الواسعة، والتي تطال قضايا الامة الاسلامية والتحديات المفروضة عليها، ولا تحصر نفسها في حدود المعطى الوطني الخاص، وكما تشير ايضا في موطن آخر الى أن خلافها مع «حماس» هو جوهر خلافها مع حركة الإخوان المسلمين، والذي لا يقتصر على موضوعة الكفاح المسلح(176). وهنا تعود «الجهاد» لتصطف ضمن التيار الاسلامي الثوري، المواجه للتيار الاسلامي التقليدي، في العالمين العربي والإسلامي، مع ما يحملان من خيارات ومناهج متباينة، تجاه وسائل التغيير والدعوة.
ولكن «الجهاد» وضمن التعرض «لمبرر الوجود» في حدود المعطى الوطني الخاص، والمتعلق أكثر ما يكون بالكفاح المسلح، فإنها ومع اعترافها بما حققته «حماس» من فعل نضالي داخل فلسطين إلا أنها تتساءل ردا على من يسأل عن مبرر التعددية الاسلامية، ومن يدعون الى ان تحل حركة الجهاد نسها قائلة: «فإن هي فعلت ذلك فما الذي يضمن ثبات الآخرين على نفس الطريق؟»(177). وهي إشارة الى تخوف «الجهاد» من علاقات «حماس» الإقليمية التي أخذت تتسع، وأثر هذه العلاقات في تحويل «حماس» الى قوة تحت الضبط والسيطرة من قبل هذه الاطراف، وبخاصة العربية منها، كالأردن والسعودية، ودخول «حماس» في التوازنات القائمة، والحسابات التي ستكبح في النهاية اتجاهات العمل العسكري، وتضبطه وفق هذه التوازنات وحساباتها، وهو الأمر الذي أشارت اليه «الجهاد» في العام 1983 عند حديثها عن «الإخوان المسلمين»، واحترامهم اللعبة الدولية، ودخولهم التحالفات، ومسلكهم وعلاقاتهم الليبرالية، إضافة الى القوة المالية والإعلامية والجاه والسطوة، والنفوذ الذي قد يحل كبديل عن الجهاد المتواصل المعتمد على اله وعلى قوة الجماهير المسلمة الواعية(178).
بالرغم من بعض التصريحات التي يطلقها الطرفان عن علاقاتهم الحسنة، واستعدادهم للوحدة والتقارب والعمل المشترك(179)، وبالرغم من تصاعد التنسيق بينهما، على صعيد الانتخابات النقابية في الجامعات وبعض النقابات المهنية، إلا أن العلاقات بينهما ستبقى محددة بالمصلحة الحزبية أو الوطنية لا بالقناعة الأيديولوجية، وبخاصة في ظل ازمة الحركة الاسلامية عموما، مع بعض الاستثناءات التي لم تقبل بعد ـ وبشكل واضح وصريح ـ مشروعية التعددية داخل الإسلام الواحد، وتحديدا التعددية ذات الطابع الاجتماعي والسياسي، وليس التعددية ذات الطابع الفقهي المذهبي.
السلام وخيار المواجهة
دأبت حركة الجهاد الإسلامي على رفض كافة مشاريع التسوية السياسية التي طرحت لحل وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي لأنها تحمل مخاطر عديدة منها180)
– أنها تعمل على تصفية القضية الفلسطينية نهائيا، وتثبت الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، وتضفي عليه الشرعية القانونية عبر الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود.
– التخلي عن حق شعب فلسطين في كامل فلسطين بحدودها التاريخية.
– التفريط بالقدس، وتعطل إمكانات حشد الامة حول فلسطين.
– ستؤدي الى تقسيم وتجزئة قوى الشعب الفلسطيني، وستؤجج الصراعات الداخلية.
– تتجاهل وتتخلى عن حقوق ومصير ما يزيد عن أربعة ملايين فلسطيني في الشتات.
– تجهض ثورة الشعب الفلسطيني، وتلغي حقه في مقاومة الاحتلال وحقه في تقرير مصيره.
– تعمل على استمرار الاستيطان، وتزيد من خطر التهويد، ومن ضياع القدس.
– تجزىء وحدة الموقف العربي الاسلامي من حول فلسطين، وتأجج الخلافات العربية الفلسطينية، والعربية العربية، والعربية الإسلامية.
– تلغي وجود الامة كأمة عربية إسلامية، لتصبح شيئا آخر فاقد الصلة بهويته «وكينونته الاصلية»
– تجعل من الكيان الإسرائيلي جزءا من نسيج المنطقة، وثقافتها وتكوينها ومقدراتها، وشريك في صنع مستقبلها على حساب الفلسطينيين والأمة. ويتحقق بذلك حلم إسرائيل الكبرى، بمعنى أن اسرائيل التي احتلت فلسطين كقاعدة للوثوب على بقية الامة يجب أن تحتل بقية اجزاء الوطن العربي باعتباره المجال الحيوي للأطماع الصهيونية، وإن لم يكن بالمعنى الجغرافي فبالمعنى الاقتصادي والثقافي.
– إنها مشاريع ستحول الشعب الفلسطيني الى جسر لعبور إسرائيل، ولتوسع المشروع الصهيوني، الى كل العواصم ليفرض كامل هيمنته على المنطقة وعلى الأمة.
إن رفض «الجهاد» لكافة الحلول السلمية لا يقتصر على مخاطره السياسية فحسب بل هو رفض «يقرره منطق التاريخ، كما يفرضه منطق الوطن والاستراتيجيا ومنطق العقل والفكر السياسي السليم»(181). وإضافة لذلك ترى «الجهاد» ان الرفض هو واجب اسلامي يفرضه منطق الاسلام(182) وأن أي صلح أو تفاوض مع اليهود «خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين»(183) و«كل من يدعو له فهو خائن وآثم»(184)، وأن أي عقد أو اتفاق مع إسرائيل ليس إلا عقد باطل وحرام. وإن اقتسام الوطن مع العدو والاعتراف بشرعيته مخالف لأمر الله ولفتاوى علماء المسلمين، التي جعلت من يفعل ذلك في حكم الخارج عن الملة والعقيدة والإسلامية»(185).
ونساجا مع هذا الموقف الشرعي أو ما تعتبره الرفض القائم مع أساس عقائدي(186) دأبت حركة الجهاد على البراءة ـ الى اله من هذه الاتفاقيات(187)، وإنها اتفاقيات لا تلزم الفلسطينيين والمسلمين بشيء. وإن فلسطين «إرث للإسلام والمسلمين كما نص القرآن... والتفريط فيها أو في أي جزء منها تفريط بنص القرآن»(188).
ولا ترى حركة الجهاد في تبدل الظروف الدولية والاقليمية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وبعد حرب الخليج، وما آل اليه الوضع من خلل استراتيجي في ميزان القوى لصالح اسرائيل وأمريكا، سببا كافيا يدفع دعاة السلام الى التوقيع على هذه المعاهدة لأن «الأمة تملك من القوة الكثير، منها المقومات البشرية والإمكانيات المادية، والمواقع الجغرافية... وتملك من الأيديولوجيا الحية والمستقرة، وما علينا سوى ترجمة هذه المقومات واستثمارها في استراتيجية فاعلة»(189).
وكان آخر ما رفضته «الجهاد» من مشاريع السلام اتفاقيات اوسلو، بدءا من اتفاق غزة ـ اريحا وما تبعه من اتفاقيات جزئية في القاهرة وطابا والخليل وبلانتيشن وغيرها. واعتبرتها جميعا اتفاقيات تكرس الاحتلال وتفرط بحقوق الشعب الفلسطيني، وهي اتفاقيات تتجاوز فلسطين لإنشاء شرق أوسط جديد تكون فيه اسرائيل الجزء المركزي المسيطر والمهيمن(190).
واعتبرت حركة الجهاد أن «اي اتفاق يعترف بالكيان الصهيوني ويتنازل عن أي جزء من وطننا المقدس غير شرعي وباطل ومحرم سياسيا ودينيا»(191).
ونشير في هذا السياق الى رفض حركة الجهاد المبكر لمشروع الدولة الفلسطينية الذي أصبح شعارا «وطنيا» وهدفا سياسيا استراتيجيا تسعى له قيادة «م.ت.ف» وسلطة الحكم الذاتي فيما بعد، ويستند هذا الرفض الى معطى تاريخي تركز عليه «الجهاد». وهو أن الدولة القومية المعاصرة ودول التجزئة في العالم الاسلامي التي أنشأت جراء سايكس بيكو «لم تكن نتاجا لتطور سياق تاريخي وعوامل داخلية، بل كانت جزء من مشروع استعماري عربي عالمي، فرضت بالعنف وقوة السلاح وسلمت مقاليدها بشكل صوري قبل وبعد مرحلة الاستعمار المباشرة لنخبة متغربة فرضت سلطتها على الجماهير في معظم الأوقات بالعنف، عنف الدولة العربية وقوتها المركزية الممثلة بأجهزتها وأدواتها القمعية»(192).
ويستند هذا الرفض في المستوى الفلسطيني على مبررات منها: أن «مثل تلك الدولة إن قامت فستنقل المعركة من معركة ضد العدو الى معركة على الساحة الفلسطينية... وأن هذه الدولة لن تتخلى فقط عن بقية فلسطين ان قامت، بل لن تكون ايضا دولة لكل الشعب الفلسطيني في الخارج، أو في داخل المنطقة المحتلة عام 1948... كما أنها لن تكون قادرة على الصمود. إلا في إطار الإلحاق والتبعية والخضوع للقوى الكبرى، بل والصغرى ايضا... ولن تؤدي إلا الى تفجير صراع داخلي أردني ـ فلسطيني... كما أنها سترفع من حدة التوتر على كل مستوى بلاد الشام... وتلك الدولة ستصبح جسرا حقيقيا لتوسع المشروع الصهيوني الحضاري والثقافي والاقتصادي نحو كل المنطقة العربية، بل والعالم الإسلامي بأجمعه»(193).
ومازال مشروع الدولة الفلسطينية مرفوضا من قبل حركة الجهاد الى الآن لجملة الأسباب والمبررات المتقدمة، ولما طرأ على واقع القضية الفلسطينية بعد إقامة سلطة الحكم الذاتي، واختلال موازين القوى بشكل حاد لصالح إسرائيل.
حركة الجهاد والسلطة الفلسطينية
لم يكن التحدي الذي فرضته «م.ت.ف» ومشروعها الوطني على حركة الجهاد في الموقف والعلاقة، بحجم وثقل التحدي الذي فرضته سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني التي أقيمت في قطاع غزة والضفة الغربية. إذ كانت إجابة «الجهاد» في مستوى الخطاب والموقف السياسي وما رافقهما من عمل نضالي كافيا فيما يبدو للتعامل مع هذا التحدي. أما مسألة شرعية التمثيل الفلسطيني التي امتلكتها «م.ت.ف» إنها لم تشكل مأزقا حقيقيا «للجهاد» التي لم تكن لها علاقات تذكر مع الأنظمة العربية أو القوى الدولية، فضلا أنها كانت تسقط هذه الاطراف من حساباتها وبرامجها باعتبارها قوى معادية في المرحلة الأولى. أما علاقة «الجهاد» مع فصائل المنظمة داخل فلسطين فكانت علاقة جيدة لما تمتعت به «الجهاد» من براغماتية في العلاقات فرضتها الشراكة النضالية مع قوى المعارضة، وانحصار راديكالية خطابها الأيديولوجي تجاه الاحتلال فقط.
ولكن التحدي الجديد الذي بدأ مع تحول قيادات وكوادر القطاع المركزي الرئيسي في المشروع الوطني الى داخل فلسطين اثر توقيع اتفاقيات أوسلو، وإقامة سلطة الحكم الإداري الذاتي الفلسطيني. لم تكن تكف معه الإجابات والمواقف القديمة. فقد كان التحدي يأخذ طابعا مختلفا تماما، انه تحدي الواقع بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأصبحت حركة الجهاد والحركة الاسلامية عموما أما مواقع مختلف تماما لم تمر به القضية الفلسطينية منذ بداياتها. فبعد ان كانت سلطة الاحتلال الإسرائيلي هي السلطة الوحيدة داخل الحدود التاريخية لفلسطين، أصبحت هناك سلطتان، سلطة الاحتلال، وسلطة يقوم عليها فلسطينيون يتحدثون باسم الشعب ويدعون تمثيله.
وترجع طبيعة وخصوصية هذا التحدي الذي فرض على «الجهاد» الى أن الخطاب الديني الذي تم التأسيس عليه هو خطاب في مواجهة احتلال إسرائيلي فقط، ولم يكن خطاب موجه لسلطة أشبه ما تكون بسلطة النظم العربية.
كما أن الوجود الرئيسي لحركة الجهاد وجسمها المركزي كان داخل فلسطين ولم يكن خارجها (كمعظم فصائل المعارضة الفلسطينية)، الأمر الذي وضع حركة الجهاد ميدانيا وجها لوجه أمام ما انتهى اليه المشروع الوطني من اقامة سلطة حكم ذاتي، وليس في المستوى السياسي فحسب، بل شراكة مجتمعية على كافة المستويات.
فكيف تعاملت حركة الجهاد مع هذه السلطة وهل استطاعت ان تجترح إجابة على ولادة هذه السلطة وأن تخرج من مأزق مواجهة الاحتلال وقطيعة السلطة؟.
رفضت «الجهاد» منذ البداية السلطة الوطنية الفلسطينية والتعامل معها أو الاعتراف بمشروعيتها، لرفضها كما تقدم لكل ما تمخضت عنه اتفاقيات اوسلو والاتفاقيات التي تلتها وتحت أية ذريعة أو حجة(194).
وأكدت انها لن تقبل بأي سلطة كانت ولو «سلطة وطنية» على أي جزء من فلسطين «طالما انها تعترف للعدو بشرعية وجوده في جزئها الباقي»(195). وذهب عبد الله الزق (احد مبعدي «الجهاد» الى مرج الزهور) ان السلطة لا تمثل الشعب الفلسطيني بل تمثل اجتهادا سياسيا لفصيل محدد(196). وكانت «الجهاد» قد حذرت من قدوم عرفات الى غزة، مذكرة بالمصير الذي لقاه السادات بعد توقيع اتفاقية «كامب ديفيد»، وانه بما وقعه من اتفاقيات يسير في الطريق ذاته وقد يجد المصير نفسه «على يد أشراف من الأمة»(197).
بعد قيا السلطة كان خطاب «الجهاد» يركز على البعد الأمني الذي تقوم به سلطة الحكم الذاتي وإنها تحولت الى «ذراع أمني لليهود تبذل كل الجهد لحفظ أمن الاحتلال والاستيطان على حساب شعبنا وأمته»(198) و«أنها أصبحت أداة بيد الاحتلال لا هم لها سوى ملاحقة المجاهدين ومنعهم بكل الوسائل من مقاومتهم للاحتلال»(199).
وكانت حركة الجهاد من أولى قوى المعارضة التي تمت ملاحقتها واعتقال عناصرها من قبل السلطة الفلسطينية، بل اتهمت «الجهاد» السلطة بأنها ساهمت في اغتيال أحد زعماء جناحها العسكري «قسم» هاني عابد، بعدما غفلت عن عملاء الاحتلال وسهلت لهم تحركاتهم.
وانطلاقا من هذا الموقف من السلطة فقد رفضت «الجهاد» الدخول في أية ترتيبات تنجم عن اتفاق أوسلو، ورفضت أية مشاركة في السلطة سواء في «الهيئات» والتشكيلات الوزارية، أو المجلس التشريعي التي جرت انتخاباته بعد قدوم السلطة لأنها انتخابات «تقوم على تشكيل هيئة تنفيذ اتفاق اوسلو» الذي تعتبره باطلا، وبالتالي فإن اعلان مقاومة الاتفاق لا تنسجم مع إمكانية المشاركة في الانتخابات ضمن سياق اتفاق أوسلو.
ورفضت «الجهاد» الدخول في أي حوار سياسي مع سلطة الحكم الذاتي لأنه «لا جدوى من قيام حوار سياسي». وقبلت ـ بحكم الواقع ـ بإجراء حوارات ميدانية للحيلولة دون الصدام مع السلطة، مع نفيها لأية صفة سياسية لهذه اللقاءات الميدانية(200).
كما رفضت «الجهاد» تشكيل حزب سياسي كبقية الفصائل الموجودة داخل الأراضي المحتلة معتبرة أن الحزب يلزمه سيادة وطنية وهو أمر غير موجود، وهي ـ بدعواها ـ لا تريد أن تعطي انطباعا انه يمكن استيعابها سياسيا(201).
عدم إقرار الجهاد بشرعية سلطة الحكم الذاتي، واستمرار عملياتها المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي ونضالها السياسي ضد السلطة، ورفضها للحوار السياسي معها، ومقاطعتها لجميع لقاءات الحوار الوطني التي دعا لها عرفات، ورفضها المشاركة في اجتماعات المجلس الوطني الذي ألغى الميثاق، ورفضها تلبية الدعوة لحضور اجتماعات المجلس المركزي الذي عقد للبحث في موضوع الدولة، كل هذه المواقف جعلت من «الجهاد» أكثر الفصائل المعارضة تشدا في موقفها من السلطة، الأمر الذي أدى الى مواجهات سياسية وأمنية متكررة ومستمرة مع سلط الحكم الذاتي التي قامت على الدوام وبين فترات مختلفة باعتقالات في صفوف «الجهاد» بعد كل عملية عسكرية ضد إسرائيل، كما قامت بإغلاق المؤسسات التابعة «للجهاد»، ومنع أنشطتها في المساجد، وقيادة حملة إعلامية ضدها على قاعدة اتهامها بالتمول المالي والسياسي من دول خارجية كإيران وسوريا.
واستمر نهج القطيعة تجاه سلطة الحكم الذاتي التي بادلت هذا النهج بالقمع والمطاردة والتضييق، في حين كان حصار السلطة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية يزداد على التحركات العسكرية «للجهاد» الأمر الذي ترك أثره على عملها المسلح تجاه الاحتلال الإسرائيلي ليتراجع بشكل ملحوظ بعد أن تصاعد بشكل كبير بعد توقيع اتفاقية أوسلو.
الجهاد المسلح، الخيار الاستراتيجي
في مواجهة مشاريع السلام طرحت حركة الجهاد خيار الجهاد المسلح كطريق وحيد نحو الحرية والاستقلال والوحدة والنهضة. وطرحت قضية الجهاد كقضية مركزية «في كل استراتيجية إسلامية طامحة الى جعل كلمة الله هي العليا في حكم الأمة وفي مختلف شؤون حياتها»(202).
وبنت «الجهاد» موقفها وخيارها هذا وفق التصور الديني الذي يعتبر الجهاد في حالة فلسطين في حكم «فرض العين» الواجب أدائه على كل مسلم، و«أن من لا يمارس هذا الجهاد المقدس ولا يدعمه ولا يفكر فيه مات ميتة جاهلية أو على شعبة من النفاق... وأن القعود عن الجهاد بدافع الخوف على لقمة العيش مناف لعقيدة الإيمان»(203).
وكررت «الجهاد» دوما تأكيدها على نهج الكفاح المسلح كخيار استراتيجي ووحيد في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي (204)، ذلك أن هذا الاحتلال قام على العنف والإرهاب، وغطرسة القوة وانه «لا يفهم سوى لغة القوة والجهاد المقدس»(205)، كما أن هذا الخيار الاستراتيجي هو الكفيل بإسقاط مشاريع «الاستسلام»(206) وتفجير طاقات الأمة وحشدها نحو المعركة الفاصلة في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس(207).
وعملا بهذا النهج واصلت حركة الجهاد نشاطها العسكري فبلغت عدد عملياتها العسكرية التي نفذت ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 1984 حتى العام 1999 قرابة 196 عملية عسكرية(208). وكما يوضح جدول العمليات أن مجموع العمليات التي نفذت داخل قطاع غزة بلغت 57% من مجموع العمليات، الأمر الذي يشير الى مناطق الانتشار الأساسية «للجهاد» وفاعلية جهازها العسكرية. كما أن 70% من العمليات نفذت داخل المناطق المحتلة منذ العام 1967(209)، الامر الذي يعزى الى سهولة التنقل والحركة (وذلك قبل إقامة سلطة الحكم الذاتي) داخل الضفة والقطاع مع صعوبة اختراق الاحتياطات الأمنية الإسرائيلية والدخول للمناطق المحتلة منذ العام 1948، فضلا عما يكلف الحركة من شهداء لصعوبة انسجامهم، بخلاف ما عليه الأمر في مناطق الوجود الفلسطيني.
وإذا نظرنا الى طبيعة ونوع العمليات التي نفذت، نلاحظ أن العمليات تزداد كلما كان تنفيذها أيسر، وتقل مع صعوبة التنفيذ، ففي حين تبلغ عمليات اطلاق النار 39% من مجموع العمليات، لا تتجاوز عمليات الخطف والقتل الـ1%.
كما يلاحظ أن العمليات «الإستشهادية» تم اعتمادها منذ العام 1993، وقد بلغت هذه العمليات الاستشهادية ذات الطابع الاقتحامي الذي يحمل فيها المقتحم حزاما ناسفا ويجر نفسه، عشر عمليات(5% من مجموع العمليات العسكرية)، كانت أخطرها وأهمها العملية المزدوجة التي نفذها الإستشهاديان صلاح شاكر، وأنور سكر في محطة باصات للجنود الإسرائيليين في بيت ليد، وأودت بحياة 22 إسرائيليا وجرح أكثر من 75 وجميعهم من الجنود.
ونفذت جميع العمليات منذ منتصف العام1993 تحت إشراف القوى الإسلامية المجاهدة (قسم). وهو الاسم الذي اختاره الجناح العسكري لحركة الجهاد، بعد ان كان ينفذ عملياته تحت اسماء مختلفة منها «كتائب سيف الإسلام»، و«عشاق الشهادة» و«مجموعة شهداء الشجاعية» و«شهداء فلسطين»
أبجديات حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين
• الإسلام وفلسطين والجهاد: المحور المقدس
• فلسطين القضية المركزية لماذا؟
• فلسطين قضية مركزية أممية: كيف؟
• حركة الجهاد والمشروع الوطني الفلسطيني
• صراع "التمثيل" و "الشرعية" بين المصالحة الوطنية والمصلحة الفلسطينية
• «م.ت.ف» وحركة الجهاد: فشل الاستيعاب
• من جماعة الإسلامية إلى الجماعة الوطنية
• موجبات العقيدة
• ضرورات الاجتماع المقاوم
• التمثيل الإسلامي للجماعة الوطنية
• "الجهاد" و "حماس" وتدافع الشرعية الإسلامية
• السلام وخيار المواجهة
• حركة الجهاد والسلطة الفلسطينية
• الجهاد المسلح الخيار الاستراتيجي
شكل الموقف من القضية الفلسطينية في أيديولوجيا حركة الجهاد أم بواعث الانطلاقة، ومبررات التفاضل عن القوى الوطنية والإسلامية السائدة، وصلب الحراك الثقافي والسياسي والعسكري لحركة الجهاد الى يومنا هذا.
وقد مر الوعي «الجهادي» بالقضية الفلسطينية بدوائر ثلاث هي: الإدانة، فالقراءة التاريخية، فالتأصيل الإسلامي.
في الدائرة الأولى كانت واقعة افتراق الحركة الإسلامية الفلسطينية، وغيابها عن مباشرة الشأن الفلسطيني سياسيا وعسكريا مبعث دهشة واستغراب وتساؤل حركة الجهاد منذ مرحلتها الرؤيوية في مصر، فقام المؤسسون الأوائل بإدانة واقعة الافتراق هذه بين الدور التاريخي الذي على الإسلاميين أن يقوموا به وبين الوطن الذي تقدس في نص الوحي المنزل. واعتبروا أن هذه الواقعة تعبر عن جهل «الإسلاميين» بالمرحلة المعاشة، وجهلهم بجواهر الصراع الدائر على أرض الوطن الإسلامي، قبل جهلهم بالقضية الفلسطينية وموقعها من المرحلة، ومن دائرة الصراع، وهم بذلك يجهلون جهتي العلاقة الواجبة الربط والأداء، وهي مهمات الحركة الإسلامية المعاصرة وأصول القضية الفلسطينية.(1)
لم يقتصر موقف الإدانة هذا على «الإسلاميين» الذين غيبوا فلسطين من برامجهم طوال سنوات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، بل شمل الحركة الوطنية الفلسطينية، ممثلة بقوى وفصائل «م. ت. ف» التي استبعدت الإسلام من محتواها الفكري والنضالي، مشكلا هذا الاستبعاد «أخطر نقاط ضعف المشروع الوطني الفلسطيني».(2)
اعتمد موقف الإدانة السابق في مبناه على القراءة التاريخية، التي تؤكد وحدة البعدين الديني والوطني في أهداف وبرامج الحركة الفلسطينية، التي قادت النضال ضد الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية حتى العام 1948.
كانت دائرة القراءة التاريخية(2) التي لجأت إليها «الطلائع الإسلامية» محاولة لاستبصار جذور القضية الفلسطينية، وعلاقتها بأزمة الوطن الإسلامي ككل، وسبيلا لوعي المرحلة والأهداف والأدوات التي أرادتها حركة الجهاد «لمشروع الوعي والثورة»، والذي أرادت بعثه في فلسطين، فاهتدت ضمن هذه القراءة الى تجربتين اسلاميتين تعاملتا مع القضية الفلسطينية، وهما تجربة مرشد عام «الإخوان المسلمين» الإمام حسن البنا وتجربة الشيخ عز الدين القسام.
من ناحية أخرى كانت القراءة التاريخية لهزيمتي العامين 1948، و1967 تجليا آخر لهذه القراءة، التي تم التوسل بها لرفض أيديولوجيا الهزيمتين، والتمسك بالخيار الإسلامي سبيلا للثورة ضد الاحتلال.
تتمثل التجربة التاريخية الأولى في الجماعة الجهادية للشيخ القسام،(3) التي كانت النموذج الأبرز محل الدرس والاقتداء والتمثل لدى حركة الجهاد الإسلامي، فقامت الحركة بإعادة قراءة التجربة القسامية(1919 ـ 1935) لتصوغ رؤيتها الجهادية الراهنة، التي ترتكز منهجيا على مقولات الإيمان والوعي والثورة، وكما عبر عنها وجسدها وكان رمزا لها الشيخ القسام، رمزا إيمانيا باعتباره «عالما مسلما مؤمنا»(4) يستلهم قيم الإسلام وآيات الجهاد والتضحية القرآنية في معركته ضد الاحتلال، ولاختياره المسجد كمنطلق، ولاختياره أصحابه من «أهل الدين والعقيدة الصحيحة»، ورمزا للوعي «يتمتع برؤية ناضجة وواضحة على المستوى الاجتماعي والمستوى السياسي»(5). ورمزا للثورة ـ في علاقتها الجدلية بالوعي ـ بتأسيسه لتنظيم ثوري صلب قاد جهادا مسلحا، فضلا عن صياغته لنظرية ثورية اتسمت «بالنضوج الفكري ووضوح الرؤية»، فحلل المجتمع وظروفه السياسية بشكل متقدم، وحدد كلا من العدو والحليف، كما حدد طبيعة المعركة ومهام ومراحل النضال التي قادها حتى استشهاده في العام 1935(6).
ركزت حركة الجهاد أيضا في قراءتها للتجربة القسامية، التي اعتبرتها «أول بداية للعمل المسلح الثوري والمنظم» القائم على عقيدة الإسلام، على ما اعتبرته عوامل التميز التأسيسية، وأهمها موقفه المخالف للحركة الوطنية، حين اعتبر أن بريطانيا هي العدو الرئيسي، وأن الصهيونية تابعة لها، مناديا بمقاومة الاثنين معا، ومباشرة الكفاح المسلح أسلوبا للنضال بدلا من النضال السياسي السلبي، واهتمامه بفئات العمال والفلاحين والفقراء باعتبارها «أصدق الفئات وأكثرها استعدادا للبذل والتضحية»(7).
كان القسام بأوجه التميز و«التفرد» تلك نموذجا لعالم الدين المجاهد والثوري البسيط والعادي والقادر في الوقت نفسه على القيادة والبعث والإلهام، وكان ـ وفق نزوع حركة الجهاد في استلهامها للعناصر الثورية من التاريخ الإسلامي ـ وريثا للنهج الحسيني، حين خاض معاركه مع «قلة مؤمنة في مواجهة جيوش جرارة..(منتصرا) للواجب المقدس في صراع الواجب والإمكان»(8).
وتمثلت التجربة التاريخية الثانية في قرار الإمام حسن البنا مؤسس ومرشد عام «الإخوان المسلمين» بإرسال كتائب «الإخوان» لتقاتل في فلسطين في الفترة ما بين 1947 ـ 1948، الأمر الذي عكس بحسب «الجهاد» وعي البنا و«الإخوان» بمركزية القضية الفلسطينية للحركة الإسلامية(9). كما مثل هذا القرار «الموقف الأصيل» في تراث الحركة الإسلامية، ووصف الموقف بالأصيل هو إشارة إدانة الى ما لحق بالتيار الديني من عطالة في عدم تواصله مع هذا الميراث وانصرافه الى التوسع الأفقي، هذا التوسع الذي أسس البنا بعقمه، فأسس الجهاز الخاص «ليكون طليعة المد الإسلامي»، وقام بإرسال طلائع «الإخوان» من سوريا والأردن ومصر، حين أصبح واضحا أن التحدي الغربي الحديث يحاول إدخال المنطقة الى الحقبة الإسرائيلية(10).
وتأكيدا على التوجه الجهادي للموقف «الإخواني» القديم، وإبرازا له ودفاعا عنه، فإن حركة الجهاد وقفت ضد ما أشيع في الخمسينات والستينات ـ وتم تكراره في الثمانينات ـ (11) داخل الأوساط الإخوانية في مصر وفلسطين من أن البنا «وافق على إرسال مجاهدي الإخوان الى فلسطين تحت ضغط قواعد الجماعة (من الشباب المتحمس والعاطفي)، بينما هو شخصيا كان يفضل الحفاظ على قوى الإخوان استعدادا للمعركة الداخلية في مصر»(12).
وفندت حركة الجهاد هذا الموقف مؤكدة على أصالة موقف البنا، واهتمامه بفلسطين التي اختارها لنشر المشروع الإخواني قبل أي قطر عربي آخر، وأن تاريخ «الإخوان» يبين كيف أنهم لم يتركوا فرصة سياسية أو عسكرية حتى استغلوها للعمل على الساحة الفلسطينية، الى أن وضعوا كل جهدهم العسكري في غمار معاركها، واعتبرت «الجهاد» أن «مساهمة الإخوان المسلمين في الحرب الفلسطينية الأولى أهم حدث شهده تاريخ القضية الفلسطينية الحديث منذ المؤتمر الإسلامي العام 1931. وذلك من حيث الأثر على وحدة الأمة الاسلامية حول فلسطين»(13).
ساهم الجانب الآخر من القراءة التاريخية والخاص بهزيمة العامين 1948 و1967 في تمسك المؤسسين الأوائل «للجهاد» بالحل الإسلامي، كخيار حتمي استراتيجي ومنقذ لقضية فلسطين، وهي هزيمة نظر لها قادة«الجهاد» على أنها هزيمة أفكار واتجاهات قادت الأمة في صراعها مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين بعيدا عن الإسلام. فكانت نكبة 1948 هي هزيمة للفكر الليبرالي العربي، وإعلان صارخ بخطأ الاتجاه الذي حمله، كما كانت نكبة 1967 هزيمة ما سمي بالفكر الاشتراكي الثوري واتجاهه، و«كلاهما هزيمة لتيار التغريب وقيادته السياسية».(14) وعليه فالهزيمة «ليست هزيمة شعب ولا جيش بل هزيمة هذا الفكر وقيادته السياسية»(15).
وخلصت حركة الجهاد في قراءتها للنكبتين، وفق ما قامت به من ربط جدلي بين النكبة والفكر الى حقيقة «أن الإسلام والإسلام وحده كدين وحضارة هو الشرط الوحيد لبقائنا واستمرارنا كأمة وثقافة في وجه التحدي الغربي الحديث السياسي والثقافي منه على السواء»(16) والوجود الصهيوني اليهودي في فلسطين هو تجسيد للتحدي الغربي الحديث، ودليل على أنه ما يزال قائما.
وانطلاقا من هذه القراءة التي أكدت أن أقصاء الإسلام عن ساحة الصراع والمواجهة مع التحدي الغربي الحديث والكيان الصهيوني، كان سببا مباشرا للهزيمة ولسقوط فلسطين، فإن حركة الجهاد دأبت على إدانة أية تجربة للمقاومة تسلك نفس الاتجاه، وعى رأس هذه التجارب تجارب فصائل وقوى «م.ت.ف».
سعت حركة الجهاد إثر جهدها في استيعاب الحركة التاريخية للتجربة الإسلامية والوطنية الى التأصيل الإسلامي للشعار الذي طرحته، ودعت الى تبنيه فكرا وممارسة، وهو شعار: «القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للحركة الإسلامية والأمة الإسلامية». والإجابة على طرفي الإشكالية التي واجهتها حيث «وطنيون بلا إسلام، وإسلاميون بلا فلسطين»(17)، مشكلة بهذا التأصيل هوية «الجهاد الإسلامي» وأبعادها الإسلامية والوطنية. إسلاميا كانت الحركة «الإجابة على السؤال الفلسطيني إسلاميا»، ووطنيا جسدت الحركة النموذج الإسلامي المقاتل أمام الحركة الوطنية التي استبعدت الإسلام(18).
فلسطين القضية المركزية.. لماذا؟
خاض المؤسسون الأوائل لحركة الجهاد محاولات واسعة من البحث والتأمل والتفكير سعيا للتأصيل الإسلامي لقضية فلسطين، الى أن «اكتشفوا» كلمة السر في الإجابة على سؤالهم/الإشكالية المتعلق بعلاقة الإسلام بفلسطين، وموقع فلسطين من الإسلام، فوجودها في مقدمة سورة الإسراء القرآنية، وفي التاريخ القديم والمعاصر، كما في الواقع المعاش، وطبيعة التدافع بين قوى الصراع الدائر في فلسطين ومن حولها. وتأكدت مركزية فلسطين ضمن هذه الدوائر وابعاد الثلاثة، وأجابت بذلك على شطري سؤال المركزية لماذا؟ وكيف؟
نلاحظ من المعطى الفكري والسياسي لحركة الجهاد تركيزه على أبعاد ثلاثة، في سياق الإجابة على الشطر الأول لسؤال المركزية، والمتعلق ببيان الأسباب والمبررات التي دفعت الحركة منجيا الى تبني هذا الشعار في تعاملهم مع القضية الفلسطينية(19) وهذه الابعاد هي:
البعد القرآني20)
الذي أعطى لفلسطين مكانة بارزة وأهمية خاصة، من خلال حادثة الإسراء والمعراج، ومباركته وتقديسه لأرض فلسطين في أكثر من موطن في القرآن. إضافة لما جاءت به الأحاديث النبوية والتراث الإسلامي في شأن بيت المقدس ومكانته ومنزلته الرفيعة عند الله، وما أوردته الأحاديث عن عظم أجر الرباط والجهاد في بلاد الشام.
وحظيت مقدمة سورة الإسراء (= بني إسرائيل) بأهمية بالغة في تفسير هذا البعد القرآني لقضية فلسطين من قبل حركة الجهاد، التي لا تعتبر القرآن الكريم مصدرا للتشريع أو القواعد الأخلاقية فحسب، بل تعتبره متضمنا لمنهج شامل وكلي، على المسلمين أن يتبعوه في شتى مناحي الحياة.
رأت حركة الجهاد أن مرتي العلو والإفساد اللتين سيقوم بهما بنو إسرائيل كما جاءتا في النص القرآني سيكن مركزيهما في بلاد المسلمين، فالعلو والإفساد الإسرائيلي الأول وقع في الجزيرة العربية زمن البعثة الإسلامية، وهذا العلو والإفساد كان قد قضى عليه «عباد الرحمن» من صحابة رسول الله(ص). وأما العلو والإفساد الإسرائيلي الثاني، الذي مساه القرآن «وعد الآخرة» فهو القائم اليوم في فلسطين ممثلا باغتصاب الحركة الصهيونية لأرض فلسطين، وإقامة دولة إسرائيل العبرية اليهودية عليها.
وترى الحركة ان النص القرآني يقرر تقريرا ربانيا طبيعية الصراع بين إسرائيل والمسلمين، وصراع سينتصر فيه المسلمون، وسيقضون على دولة إسرائيل، حيث العلو والإفساد في دورته الثانية. وسيبدأ أهل الإسلام عالميتهم الإسلامية الثانية، التي لن يمكن لها تمام التمكين إلا بالقضاء على الظاهرة الإسرائيلية الإفسادية في الأرض كل الأرض، فتحرير القدس هو البداية لظهور الإسلام وانتصاره على الدين كله، وانتشاره في كل الأرض.
ومع اشتغال الحركة على الوقائع الزمنية والمكانية لمرتي العلو والإفساد الإسرائيلي، لتأكيد مركزية فلسطين في فكر واهتمامات وبرامج المسلمين في سياق صراعهم مع إسرائيل، فإنها اهتمت أيضا بقضية «المنهج» التي أولتها اهتماما خاصا، أي المنهج الواجب الاتباع خلال عملية الصراع مع بني إسرائيل كما تضمنته وأظهرته مقدمة سورة الإسراء، وكافة الآيات التي تتناول العلاقة بين اليهود والمسلمين، وخاصة في حالات الصراع والحرب وإشاعة الفساد من قبل اليهود.
ورسمت «الجهاد» منهج الصراع هذا من خلال تأكيدها على طبيعة الصراع، كصراع بين منهج الحق ومنهج الباطل، بين الإسلام وقواه والكفر وقواه، ويمثل اليهود ومن ورائهم الغرب مركزية منهج الباطل والصراع، وفي المقابل يمثل الإسلام المنهج الإلهي، منهج الحق والوحدة.
وبينت «الجهاد» صفات الطرف الإسلامي المتأهل لخوض هذا الصراع، والقادر على خوضه ضد بني إسرائيل، وهم «عباد الله» أولى البأس الشديد، ممن لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يضرهم من خافهم، متمسكين بحقهم مستمرين في جهادهم دون وهن أو ضعف أو استكانة.
وهكذا تذهب حركة الجهاد الى أن «البعد القرآني للقضية الفلسطينية (يؤكد) بما لا يقبل الشك خصوصية هذه الأرض (فلسطين)، وخصوصية هذه القضية، وبالتالي مركزيتها ي فكر وممارسة الحركة الإسلامية»(21).
البعد التاريخي:
لم تر حركة الجهاد في القضية الفلسطينية حدثا تاريخيا معاصرا جاء نتيجة لنكبة العام 1948 أو هزيمة الخامس من حزيران (يونيو) 1967، بل ربطت بدايات ظهور القضية الفلسطينية بمجموع المتغيرات التي كانت تجري منذ أواخر القرن التاسع عشر داخل المنطقة الإسلامية. وعلى وجه الخصوص ذلك الصراع الذي كان يحتدم ويزداد بين المشروع الغربي الاستعماري وبين النظام السياسي الإسلامي ممثلا بالدولة العثمانية.
كان الغرب يتحرك منذ القرن التاسع عشر باتجاه الوطن الإسلامي، مدفوعا «بكل ثقل حقده الصليبي القديم، بالاضافة الى ثقل العوامل الاقتصادية والسياسية»(22)، فاصطدم بالجدار الإسلامي (= الدولة العثمانية والشعوب الإسلامية) فعمد الى تدميره مبتدئا بتوسيع قاعدة التغريب بين أبناء الجدار الإسلامي، وتحالف الجميع الغرب واليهود من جانب وتيار التغريب من جانب آخر، ليسقطوا الدولة العثمانية فيقلبوا بذلك موازين القوى، ويغيروا خريطة المنطقة السياسية والفكرية. وتم بذلك هزيمة الكتلة الإسلامية عسكريا وثقافيا وحضاريا. وتم تقسيم بلاد المسلمين واحتلالها. ونجح المشروع الاستعماري بعد قرن ونصف من وجوده في المنطقة في إقامة إسرائيل، أهم الأدوات وأخطرها وأكثرها فاعلية في عملية قطع التواصل الحضاري والتاريخي للأمة(23).
وفق هذا التحليل التاريخي لولادة القضية الفلسطينية تتضح فكرة المركزية التي يؤكدها هذا البعد للقضية الفلسطينية عربيا وإسلاميا، فإسرائيل تمثل قلب الهجمة الاستعمارية وضمانة استمراريتها وهيمنتها على المنطقة، ومن الصعب على المسلمين أن يحققوا أهدافهم في مواجهة آثار ونتائج الهجمة الغربية من تجزئة وتغريب وتبعية وإلحاق من دون مواجهة قلب هذه الهجمة ورأس حريتها.
البعد الواقعي:
ويتم شرحه من قبل حركة الجهاد ببيان الدور المناط بإسرائيل. وبيان الأبعاد الشاملة للخطر الإسرائيلي كما تطبق وتمارس على الأرض. فكون إسرائيل هي الجزء المركزي في الهجمة الغربية المتواصلة ضد الوطن الإسلامي، فذلك يعني أنها لابد أن تؤدي دورا مركزيا في العمل لتحقيق أهداف هذه الهجمة، «كعزل الإسلام بعيدا عن الحياة والحكم. ومواصلة العمل لتدميره على كل المستويات. والتحرك الدائم باتجاه المحافظة الشاملة على كل مصالح الغرب في المنطقة»(24).
وأما مظاهر الخطر الإسرائيلي التي توردها حركة الجهاد في سياق حديثها عن البعد الواقعي لمقولة المركزية فهي تعكس موقف الحركة من الحركة الصهيونية، ومن إسرائيل كظاهرة إفسادية عالمية تهدد المسلمين في كل مكان. تطرح «الجهاد» أبعاد ومظاهر الخطر الإسرائيلي ضمن أبعاد شتى، منها الديني ومنها السياسي ومنها الاجتماعي ومنها الاقتصادي، وهي بذلك لا تنحو منحى بعض الحركات الإسلامية التي تعطي لمعركتها مع إسرائيل طابعا دينيا صرفا، من خلال تركيزها على سيرة اليهود في التاريخ كما يعرضها القرآن الكريم. مثل إفسادهم في الأرض، وقتلهم للأنبياء، ونقضهم للعهود والمواثيق، وتحريفهم لكلام الله، ومحاربتهم للرسل. مكتفين بالصورة التاريخية الدينية الموروثة عنهم، وهي الصورة التي يتم تكرارها والتذكير بها لحشد المسلمين وتحريضهم ضد إسرائيل، وضمن هذا التصور يسم البعض الصراع مع إسرائيل «بالصراع العقائدي».
وتعرض حركة الجهاد لأبرز مظاهر الخطر الإسرائيلي على النحو التالي25)
«1 ـ تجسد إسرائيل وبشكل واقعي ذروة المنهج الوضعي الصراعي المضاد للإسلام: دين السلام والحق والكرامة، الذي يحترم الإنسان ويعطيه قيمة مميزة منبثقة عن الله. وهي تصعيد مستمر لمنهجية الصراع والباطل، من حيث كونها دولة الحلم اليهودي الزائف كوطن لشعب الله المختار، وكون هذا الشعب المختار مميزا عن البشر ومنفصلا عنهم...
2 ـ تمثل إسرائيل خطرا مباشرا ويوميا على الشعب الفلسطيني الذي اغتصب ارضه وتشرد...، ويعاني يوميا من الاضطهاد المستمر م قبل رجال الأمن، وجنود الجيش والمستوطنين...، ومحاولات التدمير الأخلاقي والفكري والأمني والسياسي، التي تمارسها السلطة، والتي لا تقف عند حد، وباختصار فإن المواطن الفلسطيني محاصر بالخطر الصهيوني المباشر واليومي، الذي يحصي عليه أنفاسه ويمنعه بالقوة من ممارسة حياة كريمة.
3 ـ يتجاوز حدود تأثير إسرائيل على المسلم الفلسطيني الى كل المسلمين والعرب من حول فلسطين... (كما في لبنان وسوريا والأردن ومصر... الخ).
4 ـ كما تشكل إسرائيل خطرا حقيقيا على كل أبناء الأمة الإسلامية....، من خلال وعي اليهود بالإسلام كنقيض أساسي وكامل لهم، مما يدفعهم الى ملاحقة المسلمين في كل مكان....
5 ـ ويتعدى هذا الخطر حتى يصل الى كل المستضعفين في العالم، فعلاقة إسرائيل الوثيقة بقوى الاستكبار الدولي، ومساعدتها للحكومات العنصرية والأنظمة الديكتاتورية في أفريقيا وغيرها، يؤكد خطرها على مستقبل المستضعفين في العالم إضافة الى المسلمين.
6 ـ تقوم إسرائيل...، بدور هام في تكريس واقع التجزئة القائم...، وتأكيده والدفع باتجاه مزيد من التفتت على المستوى القومي والإقليمي والوطني والمذهبي....
7 ـ تمثل إسرائيل أيضا الركيزة للهجمة الغربية، وأداة لاستمرار هذه الهجمة الغربية لتحقيق أفضل نتائجها. وأهم وسائل الهجمة الغربية يأتي من تدمير البعد الأيديولوجي للإنسان المسلم...، والثقافة الإسرائيلية...، تعتبر أهم أدوات التغريب وتدمير الانتماء الإسلامي...
8 ـ وعلى المستوى الاقتصادي تستمر اسرائيل كحارسة لمصالح الاستعمار والاستكبار العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ومستخدمة أداتها العسكرية وتهديدها السياسي، لاستمرار عملية النهب الاقتصادي لثروات الوطن الإسلامي ومواده الخام من نفط ومواد زراعية... .»
إن الصراع في فلسطين ومن حولها، وضمن الأبعاد التي ترسمها حركة الجهاد للقضية الفلسطينية لا يتوقف عند البعد الوطني الفلسطيني، مع أهمية إعادة هذا البعد الى دائرة الحراك الإسلامي في فلسطين، بل يتجاوزه ليتحول الى صراع شمولي بين المشروع الغربي الاستعماري من ناحية والمشروع الإسلامي من ناحية أخرى، وهو صراع لا يستهدف ـ وفق عقيدة «الجهاد» ـ الإنسان الفلسطيني أو الجغرافيا الفلسطينية فحسب، إنه يستهدف كل أشكال الوجود الفلسطيني والعربي والإسلامي والإنساني، وبكافة مستويات هذا الوجود على سبيل التغريب والإلحاق والهيمنة.
وترتكز شمولية المعركة بل وعالميتها في فلسطين على ثلاث مرتكزات تتكرر في خطاب حركة الجهاد وأدبياتها. وهذه المرتكزات هي:
أولا – أهمية فلسطين الحضارية في بعديها الديني والتاريخي، حيث كانت مسرحا للديانات الثلاث الكبرى، وتقدست عند المسلمين مذ كانت قبلتهم الأولى، حتى وصفها الشقاقي بأنها «آية من الكتاب، وفوق أنها جغرافيا تبقى رمز عقيدة وحضارة وتاريخ»(26) و«أن التفريط في فلسطين كالتفريط في فرضية الصلاة»(27)، وتحول الصراع في فلسطين في أيديولوجيا «الجهاد» الى بوابة الإسلام المركزية في صراعه ضد الغرب وكافة القوى التي توصف بالتغريبية، وتحولت الجغرافيا الفلسطينية الى «قطب الصراع الكوني ومحوره، وأصبحت فلسطين عنوانا للمشروع الإسلامي المعاصر، وذروة صعوده وتجليه وبالتالي هويته، وبينت «الجهاد» أن هذا المشروع لا يمكن أن يحسم مهماته الأخرى على مستوى الفكر والجغرافيا بدون أن تكون فلسطين في القلب منه(28).
ثانيا – إن الهجمة التي تعرضت لها الأمة الإسلامية من قبل الغرب هي هجمة شاملة، وأن قيام دولة إسرائيل يمثل أهم وأخطر أشكال الحرب الشاملة. «والمعركة ليست فقط بين الشعب الفلسطيني والكيان الصهيوني فحسب، إنها معركة كل الأمة ضد الغرب المستعمر..، ومسألة تحرير فلسطين هي مسألة مشروع ينظم إمكانات الأمة، ويرد على حرب العدو الشاملة بحرب شاملة ثقافية وفكرية واقتصادية وأمنية وعسكرية»(29).
وفي السياق ذاته ربطت حركة الجهاد انتصار وتقدم المشروع الإسلامي المعاصر، والنهضة الشاملة التي ترومها الأمة ربطا مركزيا بمقدار التقدم نحو فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، لأنها تعتبر أن التجزئة وتكريس التبعية والتغريب ما كان لها أن تتكرس إلا بوجود الكيان الصهيوني، وهو نفسه ضمانة استمرار التجزئة والتغيب والتبعية والإلحاق. وهو الذي يحارب ويحبط مسألة النهضة بأبعادها في الاستقلال والحرية والتقدم، كما يعمل على إحباط كل محاولات التقدم والتحول نحو الإسلام. ويصبح بذلك ارتباط مسألة النهضة بمواجهة المشروع الصهيوني مسألة حتمية، وإن انتصار الإسلام عالميا مرتبط بانتصار الأمة في فلسطين، وإنه ما من سبيل لصعود وهيمنة المنهج الإلهي إلا بإسقاط العلو والإفساد اليهودي المعاصر(30).
ثالثا – مما ساهم في شمولية المواجهة في فلسطين طبيعة الأحكام التشريعية التي يتضمنها الدين الإسلامي، والتي يتم استثمارها من قبل حركات المقاومة وعلى رأسها حركة الجهاد. وأهم هذه الأحكام هو حكم الجهاد ضد المغتصب لأرض المسلمين، الذي يتحول من فرض الكفاية المتعلق ببعض المسلمين الى رض عين على كل المسلمين، لعدم كفاية هذا البعض ـ وهم أهل فلسطين ـ من رد هذا الاعتداء والاحتلال. ويحفل الدين الإسلامي في هذا السياق بنصوص واحاديث كثيرة حول عظم أجر المجاهد ودرجته ومكانته، وكذلك التحريض على الاستشهاد كأرفع حالات الصدق وأعلاها عند الله. وهناك مباحث ومسائل شرعية أخرى تعزز من مسؤولية المسلمين تجاه فلسطين، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودفع المغتصب والصائل، ومواجهة الفساد ومحاربة الظلم... الخ.
فلسطين: قضية مركزية أممية. كيف؟
بعد أن أجابت حركة الجهاد على شطر سؤال المركزية الأول، المتعلق بإقامة البرهان على هذه المركزية، طرحت الإجابة على شطر السؤال الثاني المتعلق بالكيفية. أي: كيف يبدأ العمل لتحقيق هذا الفهم الإسلامي للقضية الفلسطينية؟.
لا نجد فيما قدمته حركة الجهاد في إجاباتها على سؤال «الكيف» برنامج عمل تفصيلي، يحدد المراحل التي تود الحركة اجتيازها وقطعها مرحلة تلو أخرى، كما لم تشتغل الحركة في سياق مواجهتها للاحتلال بمقولتي التكتيكي والاستراتيجي وجدل العلاقة بينهما، كما هو الحال لدى الحركة الوطنية الفلسطينية بفصائلها المختلفة.(31) ولم تقدم برامج سياسية مرحلية، مكتفية بما تقدمه من دراسات تنظيرية حول القضايا الكبرى التي تشتغل عليها وتحدد لها هويتها، وهي الإسلام وفلسطين والجهاد، ومكتفية بما تعلنه من مواقف سياسية تجاه مجريات الأحداث وتطوراتها الخاصة بالقضية الفلسطينية وبالعالمين العربي والإسلامي، وذلك عبر بياناتها أو المقابلات الصحفية التي تجرى مع قادتها.
وعدا بعض التفصيل الذي ذكره الشقاقي في إجاباته على سؤال «الكيف»، ممثلا بمحور الصراع الواجب إشعاله إسلاميا في مواجهة الاحتلال،(32) لا نجد إلا إجابات عامة، هي أقرب الى توصيات للعمل وتوجيهات فكرية وسياسية وعسكرية منها الى برنامج تفصيلي لمرحل العمل(33).
ويلاحظ بعض التباين في الإجابات المقدمة على سؤال كيفية العمل لتحقيق مركزية القضية الفلسطينية وأمميتها بين إجابة وأخرى، في حين شكلت مقولات المحور، والوحدة، والجهاد القواسم المشتركة بين كافة مقاربات الإجابة على السؤال المتقدم.
ونجد تباينا ـ أو تطويرا ـ للجهة التي تناط بها مهمة العمل في النصوص المقدمة، بين من يعلقها بالإسلاميين الثوريين والثورة الإيرانية، أو الحركة الإسلامية عامة، أو الأمة الإسلامية، ولاحقا توسيع دائرة التحالف في مواجهة المشروع الغربي الصهيوني لتشمل القوى العروبية والقومية.
قدم أحمد صادق أحد منظري «الجهاد» القدامى أولى الإجابات في دراسته المنشورة في مجلة الطليعة الإسلامية بعنوان «الإسلام والقضية الفلسطينية»(34) وأناط مسؤولية تحقيق المركزية بفئتين اثنتين هما «الإسلاميون داخل التجمعات الحركية الثورية الإسلامية» والثورة الإسلامية في إيران. هاتان الفئتان تشكلان معا ما أطلق عليه «محور طهران ـ القدس»، وهذا المحور يجب أن تلتف حوله جماهير الامة باعتباره «محور الصراع العالمي في السنوات التالية (نشرت الدراسة في يناير 1983)، والالتفاف حوله و التوجه الصحيح لحل كل إشكاليات الامة»، مقررا أن هذا ما يفهم من التاريخ وما يقرره الوعي القرآني.
وأناط صادق بهذا المحور مهمتين اثنتين هما:
الأولى: «تكريس الوعي الإسلامي الصحيح للقضية الفلسطينية داخل تجمعاتهم وبين الجماهير الإسلامية»، ويتم ذلك بالإجماع على ثلاثة أفكار وإشاعتها هي:
« 1 ـ المشكلة أساسا في الهجمة التاريخية ضد الإسلام.
2 ـ إن إسرائيل هي مركز هذه الهجمة، وهي في نفس الوقت نواة المشروع اليهودي الكبير.
3 ـ إن أهم أدوات الهجمة «الغربية ـ اليهودية» هو واقع التجزئة، والذي يكرس بالإبتعاد عن الإسلام».
الثانية: إقامة «الجبهة الإسلامية المتحدة بين كافة الإسلاميين في العالم». وهذه الجبهة هي الكفيلة بـ:
«1 ـ إعطاء الإسلام دوره الأساسي كنقيض كامل للهجمة، وكضمان لمواصلة الصراع حتى النصر والصعود بإذنه تعالى.
2 ـ أن تكون الحكومة الإسلامية في أي بقعة من الوطن الاسلامي هي مركزية المد الإسلامي المعاصر في مواجهة المركزية الإسرائيلية.
3 ـ أن الجبهة الإسلامية المتحدة هي وحدة الأداة الكفيلة بتوحيد الأمة، والقضاء على واقع التجزئة، ومواجهة الهجمة الشاملة ضد الإسلام والأمة بحرب شاملة ضد الغرب وأدواته وعملائه ومركزيته في إسرائيل».
قدم الشقاقي إجابة أخرى على سؤال كيفية العمل لتحقيق مركزية القضية الفلسطينية تلت ما قدم صادق، وكتبها الشقاقي نهاية عام 1986 خلال فترة اعتقاله في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وهي الإجابة التي تم تداولها ونشرها داخل وخارج حركة الجهاد، وسميت بـ«المنهج».
قبل تقديم الإجابة التي أسماها الشقاقي بـ«الحل الإسلامي الجهادي» استعرض الفكر السياسي الذي سبق وأن تعامل مع الموضوع الفلسطيني، وتناول بالدرس والنقد والتفنيد ما طرحته تيارات هذا الفكر السياسي واتجاهاته في معالجتها للقضية الفلسطينية، كالطرح الإسلامي التقليدي، والطرح الوطني الفلسطيني، وطرح الأنظمة العربية.
وذهب الشقاقي الى أن كل هذه الطروحات، ورغم اختلاف المنطلقات والدوافع فيما بينها، أخطأت في تحديد طبيعة المشكلة الأساسية، وأخطأت في تفسير «الظاهرة الإسرائيلية»، وبالتالي لم تستطع تحيد أبعادها التاريخية والحضارية الشاملة. ونظر كل طرف الى جانب واحد من المشكلة، وأغفل الجانب الآخر(35)،«فجاءت الرؤية لدى كل منهم رؤية ميكانيكية بسيطة لا تبصر العلاقة الجدلية القائمة بين الوضع العربي ـ أنظمة الدولة القومية ـ وبين إسرائيل وموقع هذه العلاقة على خارطة المشروع الاستعماري»(36).
ونترك هذا السجال الذي سنعود له عند الحديث عن علاقة «الجهاد» بأطراف الاجتماع الوطني الفلسطيني وموقفها من الأنظمة العربية، لنعرض لـ«الحل الإسلامي الجهادي» الذي طرحه الشقاقي للإجابة على سؤال «الكيفية» المتقدم.
بالرغم من تأكيد حركة الجهاد دوما على أن المعركة في فلسطين هي معركة الأمة كلها، وأن الانتصار النهائي في فلسطين لن يتم بإمكانات حزب أو منظمة بل بإمكانات الأمة بأكملها، فإن الحركة حتى تاريخ كتابة «المنهج» وبعده بسنوات بقيت تعلق مهمة التغيير والتثوير على الحركة الإسلامية، وبقى الخطاب المتعلق ببرامج العمل موجها الى الحركة الإسلامية على وجه الخصوص، ولم يتعداه الى التيار الوطني أو العروبي أو القومي إلا في فترة متأخرة نسبيا.
يعتبر الشقاقي نقطة الانطلاقة في الحل الجهادي هي إنجاز مشروع الحركة الإسلامية الواحدة التي يجب أن تمتلك:
– تصورا واحدا للمشكلة يشمل فهم طبيعة المشكلة، وتاريخها، وأبعادها الشاملة، ومراحل تطورها، ونتائجها، ومضاعفاتها، والبدائل والاطروحات والحلول التي تعاملت معها، ومحاولات الدفاع الإسلامية في المراحل المختلف لتطور المشكلة.
– ميثاق عمل إسلامي يستند الى منهج واضح، ويضع حلولا عملية مرحليا واستراتيجيا(37).
حافظ الشقاقي على فكرة المحور الواجب إشعال، في مواجهة أطراف الصراع المناهضة لنهضة الأمة، لتحقيق أكبر إسناد لحالة الجهاد الفلسطيني، ولكنه لم يذهب مذهب صادق في رسمه للمحور بين طهران والقدس، بل اعتمد في بيان طرفي المحور على العمق العربي الإسلامي الأقرب الى فلسطين. وانطلق الشقاقي في شرحه لفكرة المحور الذي يتبناه، مما يسميه بـ«شكل النضال الأمثل»، الذي يجب أن تقوده الحركة الإسلامية، ضد ثلاثة أطراف مجتمعة دون تجزئة أو تأجيل وهي: إسرائيل، وأنظمة التجزئة، والغرب معا. فبهذا الشكل من النضال «يتحقق الواجب الشرعي بالجهاد لإسقاط الأنظمة الطاغوتية، وإقامة دولة الإسلام على أنقاضها، ويتحقق الواجب الشرعي بالجهاد ضد إسرائيل مركزية الهجمة الغربية ضد الوطن الإسلامي، وحارسة كل مصالح الغرب في المنطقة»(38).
حدد الشقاقي نقطة المحور الأولى والمركزية في القدس(س)، وأما النقطة الثانية، والتي ستشكل مع القس محور المواجهة والجهاد، فيتم اختيارها من العواصم المجاورة والقريبة، بعد دراسة شاملة وعميقة لطبيعة الأنظمة المحيطة. وفي الوقت الذي تختار الحركة الإسلامية في العاصمة المختارة(أ) شكل النضال الأنسب في مواجهتها للنظام التجزئة، فإن شكل النضال الدائم في النقطة(س) ـ القدس ـ هو الجهاد المسلح(39).
إن هذا الطرح المقدم في إجابتي كل من صادق والشقاقي يشكل حركة حسم على صعيد التصورات الأقرب الى الأمنية منها الى الواقع المعاش، فموضوعة الوحدة إن في صورتها الجبهوية كما يدعو صادق، أو في صورة الحركة الواحدة كما يدعو الشقاقي، أمر لا يستند إلا الى فلسفة الواجب ولا الى الإمكان ومدى طاقة الواقع الاستيعابية لهكذا طرح. فالحركة الإسلامية في البلدان العربية هي حركة مأزومة لجهة خياراتها السياسية والاجتماعية في مواجهة نظام الدولة الحديثة، والثورة الإسلامية انتظمت على إيقاع الضرورة السياسية في العلاقات الإقليمية والدولية التي يفرضها منطق الدولة. وأمر توحيد الحركة الإسلامية على خطة عمل لتحقيق مركزية فلسطين وأمميتها يفترض وحدة التصور للمشكلة نفسها، وهو أمر غير متحصل بل ومتعذر، لأسباب عدة لا تقل الأسباب الفكرية أهمية عن الواقعية منها إن لم تفوقها.
أدى هذا الواقع الحركي الإسلامي والمجتمعي العربي بحركة الجهاد الى التجاوز العملي للأطروحتين السابقتين. فلم يعد الانهيار في المنطقة الإسلامية نتاج العنف الغربي وعلاقات القوة والسيطرة وحدها، بل ساهمت فيها الذات العربية الإسلامية حين غيبت ما هو عقلاني من وعيها الجمعي، وحين أهملت الجانب التكنولوجي. وأخذت الحركة في تناول الواقع العربي والإسلامي وبيان علله، ومظاهر تبعيته، وتخلفه، ومشروعه النهضوي الاستقلالي بكافة أبعاده بمزيد من التفصيل والواقعية. وأصبحت قضايا مثل: التنمية والصناعة والاستقلال والوحدة العربية والديمقراطية والسوق المشتركة، من القضايا المتداولة في الخطب الجهادي.
وتحول الموقف من الثورة على الواقع الى محاولة لإصلاحه والبناء على ما هو إيجابي فيه، حتى وإن كان إنجازا حكوميا رسميا(40).
وعلى صعيد الأطراف المناط بها التغيير والمواجهة أصبحت الحركة تدعو الى تحالف شعبي يشمل كل القوى المعادية للمشروع الإمبريالي الصهيوني، بغض النظر عن التباينات الأيديولوجية بينهما، بل وطالبت التيار الإسلامي بإعادة تقييم موقفه من التجارب القومية والعلمانية، وتعميق تحالفاته مع القوى الوطنية لأجل خلق جبهة وطنية عريضة(41).
حركة الجهاد والمشروع الوطني الفلسطيني:
جاءت حركة الجهاد الإسلامي باعتبارها محاولة إسلامية جديدة في الإجابة على موقع الإسلام المقاوم من الصراع الرائد في فلسطين، بعد غياب للإسلاميين قرابة عقدين من الزمن من انطلاقة المشروع الوطني الفلسطيني الحديث، ممثلا بمنظمة التحرير الفلسطينية، وقواها السياسية، وقواتها العسكرية.
ولم تكن حركة الجهاد مقتنعة ـ فيما يبدو ـ بأهلية المشروع الوطني، أو قدرته على إتمام هدف التحرير، وتحقيق كامل الأهداف الوطنية. وكانت انطلاقتها إجابة تطبيقية لهذه القناعة، كموقف متجاوز للمشروع الوطني، تماما كما هو موقف متجاوز للمشروع الإسلامي التقليدي، الذي كانت تقوده حركة الإخوان المسلمين.
ولكن حركة الجهاد، ولطابعها الكفاحي، وبالرغم من نزعة التجاوز والإدانة تلك، لم تقم بإدانة ومصادرة كامل المشروع الوطني منذ بداياتها، بل أقرت ما فيه من جوانب إيجابية حرصت على إبرازها وتبيانها والتذكير بها دوما، مع عدم إسقاطها في لوقت نفسه لملاحظاتها النقدية التي طالت نقاطا وجوانب سلبية اعتبرتها «الجهاد» سببا مباشرا في تعثر المسيرة التاريخية للثورة الفلسطينية، وما آل إليه المشروع الوطني من «مواته وانتهاء مشروعيته».
ضمن هذا السياق وقفت «الجهاد» من انطلاقة الثورة الفلسطينية مطلع العام 1965 موقفا تبجيليا، حين اعتبرت هذه الانطلاقة نقطة تحول هامة وبداية تطور برز في تاريخ الشعب الفلسطيني الحديث والمعاصر ومسيرته النضالية (42).
وهذا التقييم الإيجابي لانطلاقة الثورة بني على ما قامت عليه الثورة، وما رفعته من أهداف، وما حققته آنذاك. ومثال ذلك:
– إن الثورة جاءت «تحت ضغط فلسطيني بحثا عن التمثيل وإبراز الهوية الوطنية»(43)، وأعطت الفلسطينيين شعورا قويا بالذات دفعهم للتضحية من أجل قضيتهم(44).
– إن المقاومة الفلسطينية مثلت في تلك المرحلة «أهم إشارات النهوض الجماهيري»(45) العربي والفلسطيني. هذا النهوض الذي كان لصالح الجماهير، التي انتظمت في قطاعات سياسية وعسكرية ضخمة، انتزعت القضية الفلسطينية من أيدي النظام العربي وهيمنته(46).
– أن المقاومة التي استطاعت ان تمسك بالقضية الفلسطينية بعيدا عن هيمنة النظام العربي، أجبرت هذا النظام أن يتعايش مع الوضع الثوري الجديد ليحافظ على بقائه، كما أجبرته «على اتخاذ موقف معقول من قضية الصراع ضد إسرائيل، وأن تمنع دعاوى الاستسلام من أن تأخذ طريقها»(47).
ـ تمسك المقاومة بالشرعية الثورية ومواجهتها العسكرية لإسرائيل، ورفعها «لشعارها وبرنامجها الذي يتوجه نحو فلسطين (من النهر الى البحر)، في وقت واحد مع السلاح الفلسطيني المستقل كأداة للتحرير»(48)، وتأكيدها القاطع على رفض كل مشاريع التسوية للقضية الفلسطينية.
يعزى التقييم الإيجابي لانطلاقة الثورة الفلسطينية الى الوحدة الكفاحية التي جمعت كلا من حركة الجهاد والثورة الفلسطينية، اضافة الى الاهتمام الذي أولته حركة الجهاد في قراءتها لتجربة المشروع الوطني الى حركة فتح كبرى فصائل الثورة وعمودها الفقري، والتي كانت الحامل الرئيسي للمقاومة، وذلك للأصول الإسلامية (الإخوانية) للعديد من قادة حركة فتح، وحفاظها على سمت إسلامي لم تكن قد غادرته بعد، كما لم يكن نجم اليسار داخلها وداخل «م.ت.ف» قد صعد، هذا فضلا عن أن «فتح» والثورة الفلسطينية عموما التزمت في بداياتها بما تعتبره حركة الجهاد ثوابت فلسطينية وطنية، وعلى رأسها التمسك بخيار الكفاح المسلك كسبيل وحيد لتحرير فلسطين، ورفض وإدانة الحلول السلمية.
إلا أن هذا التقييم الإيجابي لم يتجاوز لحظت الانطلاق الأولى، والذي تذكره حركة الجهاد على الدوام، في إشارة الى «الانحراف» الذي سار فيه المشروع الوطني لاحقا، ومغايرته لأصوله الأولى ومنطلقاته الأساسية، والذي فقد مبرر وجوده وشرعيته الثورية الوطنية المستمدة من التمسك بهذه الأصول والمنطلقات.
تقيم حركة الجهاد أطراف الاجتماع الوطني الفلسطيني، وتحدد مواقفها منه ومن قواه السياسية المختلفة، سواء تلك التي يضمنها إطار «م.ت.ف»، أو «قوى جبهة الإنقاذ»، أو القوى الإسلامية، بقضايا محددة (=ثوابت) أساسية يتكشف عنها خطابها الفكري والسياسي، وأهم هذه المحددات هي:
1 ـ الموقف من الإسلام، من جهة تبنيه ورفضه، والموقف من قواه السياسي والاجتماعية محليا وإقليميا ودوليا.
2 ـ برامج ومشاريع هذه الأطراف الخاصة بالقضية الفلسطينية. وأهم قضايا هذه المشاريع التي تتوقف عندها حركة الجهاد هي:
أ ـ التصور المقدم في فهم المشروع الصهيوني، والموقف من إسرائيل ومن الاعتراف بها.
ب ـ الموقف من الكفاح المسلح.
ج ـ الموقف من مشاريع السلام.
3 ـ طبيعة الموقف والعلاقة بالنظام العربي الرسمي.
تمسكت حركة الجهاد في مواقفها وعلاقاتها مع كافة القوى الفلسطينية بهذه المحددات الثلاثة، وعلى رأس هذه القوى منظمة التحرير الفلسطينية.
* ذهبت «الجهاد» في بيان موقف «م.ت.ف» من الإسلام الى أن عموم فصائل المنظمة قامت باستثناء الإسلام، سواء بعدم تبنيه وإدارة الظهر له، أو بمحاربته، واعتبرت «الجهاد» أن هذا الموقف مثل خطأ كبيرا ارتكبته هذه الفصائل.(49) وأن يوم الوفاة الحقيقي للمشروع الوطني كان «يوم أدارت الحالة الفلسطينية ظهرها لعقيدة الأمة وتاريخها وتراثها،... ويم كانت قيم الإسلام ومثله محل سخرية القيادات الثورية والكادرات الثورية، بل كان البعض معنيا بالتثقيف ضد القيم الدينية (الرجعية) أكثر مما كان معنيا بمواجهة العدو»(50).
ولم تذهب «الجهاد» في بيان حال فصائل الثورة في تعاملها مع الإسلام، وموقفها منه ومن قواه المختلفة الى حد اللغة الشرعية الفقهية، كإطلاق أحكام الردة أو الكفر أ» الفسق، وإن وصفت بعض القراءات هذه التنظيمات بـ«الجاهلية». وبقي الحديث في إطار اللغة السياسية، وإظهار عظم الخسارة وفداحتها من جراء استثناء الإسلام أو محاربته، واتصف اغلب الحديث ببيان أهمية «الاستثمار» الوظيفي للإسلام كأيديولوجيا ثورية، تساهم في العلمية الثورية التي تخوضها المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل، معتبرة أن الإسلام هو أهم وأمضى سلاح من الأسلحة في الصراع، فهو «عقيدة الأمة ومحور تاريخها وتراثها»،(51) والإسلام «بما يملك من مخزون روحي هائل، وطاقة إيمانية جبارة تعين الإنسان ليس على الصمود والممانعة فقط، بل تدفعه الى الانفجار في وجه الانهيار، وهذا ما يفعله الاستشهاديون في فلسطين»،(52) و«م.ت.ف» أخطأت عندما تصورت أن الجماهير العربية يمكن أن تتحرك وتنتفض بغير الإسلام،(53) ويعتبر رمضان عبد الله أن الإسلام مع «ذروة سنامه الجهاد» يمثل المقدس الديني الذي لا يمكن التفريط فيه، كما حصل مع «المقدس الوطني» أو «المقدس القومي» بدعوى «المصلحة الوطنية».(54)
وفي غياب هذا المقدس اعتبر الشقاقي أنه كان من السهل «أن نقدم التنازل تلو التنازل، وان نتحول من حركة ثورية يمكن أن تستقطب كل طاقات الأمة، الى قوة رسمية تتأقلم مع النظام الدولي والنظام الإقليمي والنظام العربي»(55).
وأما الأيديولوجيا والاطروحات التي تبنتها فصائل «م.ت.ف»، سواء ليبرالية أو اشتراكية أو وطنية أو قومية، فأكدت «الجهاد» أنها جميعها «لا تملك تناقضا جوهريا وحقيقيا مع الكيان الصهيوني»(56). لأنها اطروحات «ولدت بشكل أو بآخر من رحم الهيمنة الفكرية والسياسية للغرب»(57) إلا أن «الجهاد» وفي مرحلة لاحقة لم تعد تنظر الى الأطروحتين الوطنية والقومية هذه النظرة، معتبرة وعلى لسان أمينها العام رمضان عبد الله أن شعار إسلامية المعركة الذي تطرحه وتنادي به الحركة لا يطرح «كنقيض لشعار وطنية أو قومية المعركة، بمعنى أنه لا يلغي البعد الوطني أو القومي للمعركة بل ويتكامل معها. فهي معركة وطنية قومية إسلامية»(58).
ونذكر أن موقف «الجهاد» امتد الى الاعتراض على سياسات «م.ت.ف» وإدانتها، تجاه حركات وشعوب إسلامية مختلفة. ومنها إدانة مواقف المنظمة وتأييدها للاجتياح السوفييتي لأفغانستان، وموقفها من انتفاضة المسلمين في أذربيجان والجمهوريات الإسلامية (في الاتحاد السوفييتي سابقا)، وموقف المنظمة وتأييدها للحكومة الفلبينية ضد ثوار «مورو» المسلمين(59)، إضافة لموقف المنظمة من إيران، ووقوفها مع العراق في حربها ضد الثورة الإسلامية الإيرانية، ووصول هذه العلاقة الى العداء في الفترة الأخيرة.
* اعتمدت حركة الجهاد منطلقا ومحددا ثانيا في تحديد موقفها وعلاقتها بقوى الاجتماع الوطني الفلسطيني، ومارست من خلاله النقد والمعارضة، ويتمثل في البرنامج الخاص بالقضية الفلسطينية، وما يتضمنه من فهم للمشروع الصهيوني، والموقف من الكفاح المسلح ومشاريع الإسلام.
وحكم هذا المحدد علاقة «الجهاد» بالمشروع الوطني الفلسطيني منذ تأسيسه والى الآن. ففي النظر الى البدايات التأسيسية للمشروع الوطني كانت «الجهاد» تقيم إيجابيا هذه الانطلاقة وهذا التأسيس، باعتبار ما أقرته المواثيق الفلسطينية المختلفة التي صيغت آنذاك، من ثوابت وأسس جامعة للشعب الفلسطيني، تحفظ له حقه وتسدد طريقه في مواجهة إسرائيل. من ميثاق فلسطين الصادر عن المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في غزة في مطلع أكتوبر (تشرين الأول) 1948، الى الميثاق القومي الفلسطيني المقر في 28 مايو (أيار) 1964، الى الميثاق الوطني الفلسطيني المقر في 17 يوليو (تموز) 1968.
ولكن «الجهاد» سرعان ما تسلحت بهذه المواثيق، لتوجه النقد الى الفكر السياسي للمشروع الوطني ومسيرته البرامجية، معتبرة أن المشروع الوطني كان يتراجع على الدوام عما حوته هذه المواثيق من أسس وثوابت، وهو تراجع بقي عنوانا في خطاب «الجهاد» على فشل الحركة الوطنية في تحقيق أهدافها وتراجعها عن هذه الأهداف.(60)
وتمثلت اولى بذور هذا التراجع في مسار الحركة الوطنية كما تطرحه «الجهاد» وتسميه بـ«مسلسل التنازلات» هي قبول المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثامنة في القاهرة (28/2 الى 5/3/1971) بفكرة «الدولة الفلسطينية الديمقراطية» والتي اعتبرته «الجهاد» قبول بفكرة «التعايش مع اليهود في فلسطين ديمقراطية»(61).
وأما حجر الزاوية الذي أسس بصورة واضحة الانهيار في المشروع الوطني، وافتتح «مسلسل التنازلات» التي جرت وتجري الى الآن، فهو ما أقرته منظمة التحرير في الدورة الثامنة للمجلس الوطني الذي عقد في القاهرة (من1/6 الى 8/6/1974)، وهو «البرنامج المرحلي المعروف بالنقاط العشر التي تحدث عن نضال منظمة التحرير الفلسطينية بكافة الوسائل، وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية ،وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة، على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها»(62).
وشكل مشروع البرنامج المرحلي أو النقاط العشر دلالة هامة عند «الجهاد»، ليس فقط على انحراف في مسيرة «م.ت.ف» ومشروعها الوطني فحسب، بل دلالة مبكرة على ما ستؤول إليه المنطقة في برامجها الوطنية، فقد رأت في تنبيه «أن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لم تعد تثق بدور أو قدرة الجماهير في حرب التحرير المسلحة، وأعطت الأولوية للعمل السياسي والدبلوماسي»(63)، كما رأت أن بتبني المنظمة لهذا البرنامج تم تحويلها من «قوة شعبية تتحرك ضمن توجهات النهضة الشاملة حتى التحرير الكامل، الى مجرد إطار ضيق لهوية وطنية فلسطينية محددة»(64).
وتشير الحركة الى أن القرار العربي بإعطاء المنظمة صفة «الممثل الشرعي والوحيد»، وخطاب عرفات من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 سبتمبر (أيلول) 1974،كان مكافأة لها على هذا التحول المتمثل في برنامج النقاط العشر في وسائل وأهداف واستراتيجيات المشروع الوطني الفلسطيني، الذي أصبح اعتماده الرئيسي في نضاله السياسي على معادلات القوة العربية والدولية.(65).
ولئن كانت حركة الجهاد قد أشارت الى برنامج النقاط العشر كبرنامج افتتاح «مسلسل التنازلات»، فإنها تؤكد الآن على مصداقية هذه الرؤية بعد اتفاقيات اوسلو وما تلاها، وخاصة مع تأكيد قادة «م.ت.ف» أن هذه الاتفاقيات مبنية على ما تبنته المجالس الوطنية الفلسطينية منذ العام 1974.
وتتبعت «الجهاد» ضمن حركتها النقدية للمشروع الوطني، كافة مقررات المجالس الوطنية، التي اعتبرتها استكمالا «مسلسل التنازلات» منذ دورتيه في العام 1971 والعام 1974 ـ كما مر معنا ـ وصولا الى آخر المجالس الوطنية، التي عقدت داخل منطقة الحكم الذاتي الفلسطيني في قطاع غزة.
وتم تتبع هذه المقررات وإدانتها بما اشتملت عليه من قبول المرحلية، والاعتراف بالقرارات الدولية حول فلسطين، والاعتراف الضمني فالصريح بإسرائيل، وإدانة العمل المسلح، والشروع في مفاوضات السلاح، بدءا من مدريد وانتهاء بواي بلانتيشن، وإلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني.(66)
واعتبرت «الجهاد» أن قرارات المجالس المختلفة اعلنت عن نهاية مرحلة كاملة قادها المشروع الوطني، مرحلة كان عنوانها «المناورات الدبلوماسية كطريق لتحرير فلسطين»(67)، وأن هذا المجلس استنفذ اغراضه ومبرر انعقاده«عندما تنازل عن كل شيء من الأيديولوجيا الى التاريخ إلى الجغرافيا الى الأمن»(68)، وأن القيادة الفلسطينية فقدت مصداقيتها ومبرر وجودها التاريخي كممثل شرعي للشعب الفلسطيني.(69)
وضمن المحدد الثاني انتقدت «الجهاد» الحركة الوطنية الفلسطينية في نظرتها للحركة الصهيونية ودولة إسرائيل، وتذهب الى أن الحركة الوطنية «أخطأت في تفسير «الظاهرة الإسرائيلية»، وبالتالي لم تستطع تحديد أبعادها التاريخية والحضارية، فلم تتجاوز إسرائيل في نظرهم كونها كيانا استيطانا عنصريا أو أنها حاملة طائرت أميركية ثابتة في الشرق الأوسط، أو شركة وكيلة عن الرأسمالية الغربية، وأن هدفها ضرب القوى القومية والثورية التقدمية.. الخ»(70). وهذا النقد مبناه أن الحركة الوطنية نظرت الى «الظاهرة الإسرائيلية»، تحب أن تؤكد «الجهاد» الأبعاد الدينية والحضارية الشاملة الموصولة بالتاريخ القديم، كما هي موصولة بالحاضر، «فالجهاد» تشير الى أن إسرائيل هي «إفراز وتجسيد لمنهجية عالمية كاملة الأبعاد ومضادة لمنهجية الحق الإلهي، بل هي أعنف أشكالها، وهي ماضية الى تدمير كل مقومات الوجود الإسلامي والعربي، يدعمها العالم الغربي «الكافر»»(71).
وترجع حركة الجهاد عدم وعي «م.ت.ف» للمشروع الصهيوني وطبيعته الى أسباب أيديولوجية صرفة تمثلت بحمل المنظمة لاطروحات أيديولوجية قاصرة عن إدراك الأبعاد الحقيقية للمشروع الصهيوني، من ليبرالية وقومية ووطنية ويسارية، وهذه الاطروحات هي طروحات أفرزتها الحضارة الغربية، التي هي ذاتها أفرزت الحركة الصهيونية وترعرعت داخلها وحضنتها ودعمتها لاحقا، وذلك ضمن تحولات الحضارة الغربية وسيرورتها، وعليه فإن «الجهاد» لا ترى أن الحركة الوطنية يمكنها أن تواجه بهذه الاطروحات التغريبية الكيان الصهيوني، أو أن تشكل تناقضا كاملا ونهائيا معه، وبالتالي أن تحسم الصراع معه لصالح الأمة الإسلامية.(72)
* أما البعد والمحدد الثالث الذي نظرت «الجهاد» من خلاله الى المشروع الوطني و«م.ت.ف» فهو موقفها وعلاقاتها بالأنظمة العربية، إذ اعتبرت «الجهاد» أن المنظمة (بكافة فصائلها) أغفلت «وضع النظام العربي في موضعه الصحيح، كنظام متقاطع مع المشروع الغربي ومرتبط به، وبالتالي غير قادر على خوض الصراع الى نهايته ضد العدو الصهيوني»(73)، فالطرح الوطني رأى أن إسرائيل هي المشكلة الأساسية التي يجب مواجهتها، ورفع شعار «عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية»، وقسم الأنظمة الى ثورية حليفة، ورجعية يمكن الاستفادة من دعمها ومعوناتها. هذا الطرح الوطني اعتبرته «الجهاد» خللا في فكر المشروع الوطني، مشيرة الى أن الحركة الوطنية تعرضت لأعنف الضربات على يد الأنظمة التي رفضت التدخل في شؤونها، أو التعاون معها، أو الدخول ضمن استراتيجيتها.(74) ويرى الشقاقي أن هذا الموقف من الأنظمة وقفته كافة الفصائل الوطنية، من يمينية أو يسارية، سواء فتح أو الجبهتان: الشعبية والديمقراطية، فالشعبية التي أقرت بتناقض ما مع الأنظمة العربية الرجعية، اكتفت على المستوى الواقعي بالتنديد الضمني بهذه الأنظمة، وأما الجبهة الديمقراطية بقيادة حواتمة، والتي كان مبرر انشقاقها عام 1969 عن الجبهة الشعبية هو رفع الشعبية لشعار عدم التدخل في الأوضاع العربية، فإنها أيضا لم تتدخل على أرض الواقع في أي شأن عربي، «وكانت ي الغالب استجابة وترديد صدى لحركة فتح، بحثا عن مكاسب سياسية، وبرهنت على أنها أكثر براغماتية، رغم أنها وصفت «فتح» باليمين ارجعي الفلسطيني»(75).
نلاحظ أن النقد المتقدم لموقف وعلاقة «م.ت.ف» بالنظام العربي فيه من التسرع الشيء الكثير، وهي محاكمة سيقت في ضوء رؤية حركة الجهاد لطبيعة السياق التاريخي لتكون النظام العربي، دون أن تلحظ هذه القراءة وقائع وإشكالات هذه العلاقة التاريخية، التي لم تخل من صراعات وتدخلات من قبل الطرفين، فالمنظمة لم تكن أمنية لشعارها الخاص بالنظم العربية على الدوام، كما أن الأنظمة لم تكن عدائية على الدوام. كما لم تلحظ الفوارق بين موقف تنظيم وآخر، والذي تراوحت بين العداء الى الولاء الاستخباري، وبقيت تلك الرؤية المتقدمة على تعميم أقل بالتقييم.
كما أغفلت هذه القراءة العوامل الموضوعية التي حكمت علاقة «م.ت.ف» بالأنظمة العربية وأحاطت بها، ولم تنظر الى المقاومة كحركة واقعية تحتاج «لوجستيا» الى محيط للإسناد بكافة صوره، يجبرها في النهاية الى آلية في التعاطي، تتجاوز الشعارات الثورية والحلول الجذرية بحسب تطور الصراع وحركيته المتغيرة، وهو أمر انتهت حركة الجهاد الى استيعابه لاحقا، كما سنبينه عند الحديث عن موقف وعلاقة «الجهاد» بالنظام العربي
صراع «التمثيل» و«الشرعية» بين المصالحة الوطنية والمصلحة الفلسطينية
لم تكن تكفي ـ فيما يبدو ـ تلك المنطلقات والمحددات الثلاثة السابقة التي تمسكت بها حركة الجهاد، تجاه رسم مواقفها وعلاقاتها بالمشروع الوطني، وعلى رأسه «م.ت.ف» في التحديد النهائي لشكل هذه العلاقة وتلك المواقف، بالرغم من بقاء تلك المحددات الحاضر الأقوى في خطاب الحركة السياسية تجاه المشروع الوطني برمته. وذلك لأن «م.ت.ف» كانت قد فرضت موضوعيا تحديا خاصا على القوى الإسلامية الناهضة لجهة موقف هذه القوى من المنظمة «كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني»، ومدى قابلية واستعداد هذه القوى للانخراط في مؤسسات المنظمة التشريعية والتنفيذية.
وفي قراءتنا لخطاب حركة الجهاد في شقه المتعلق باستجابته لتحدي «التمثيل» و«الشرعية» الذي فرضته «م.ت.ف» والمشروع الوطني، نجده قد مر بأطوار مختلفة، وتباين واختلف من طور لآخر، بحسب التطور الحاصل في الحراك النضالي لحركة الجهاد وفكرها السياسي، الى جانب التحولات السياسية العامة في مسار القضية الفلسطينية.
* ويمكننا أن نصف الطور الأول في الموقف من مسألتي «التمثيل» و«الشرعية» بالإهمال والتجاوز، وقوام هذا الموقف الذي امتد في استقرائنا لخطاب«الجهاد» الى العام 1990، أي طوال مرحلتي: التأسيس والانطلاق، قوامه حفاظ الحركة على بيان وتزكية المنطلقات الإيجابية للثورة الفلسطينية المعاصرة ـ كما مر سابقا ـ دون أن تشغل بمسألة التمثيل أو الإطار أو الدخول في المؤسسات الرسمية الفلسطينية، معزية ذلك الى طبيعة حركة الجهاد، بما تمثله من جزء عضوي من مشروع إسلامي عالمي، له قواعده المركزية في الحركة الجهادية في بلدان عديدة، وهو مشروع وإن تقاطع مع المشروع الوطني في محاربة المؤسسة الصهيونية، إلا أن حركة الجهاد ـ وانسجاما مع الأجزاء الأخرى في المشروع الإسلامي ـ كانت تنظر للوجود في مؤسسات أخرى إسلامية، تنسجم مع رسالتها الإسلامية(76).
وانطلاقا مع الرؤية الإسلامية فوق القطرية لدور حركة الجهاد في فلسطين وانشدادها حتى ذلك الوقت للخارج الإسلامي، بقدر اشتغالها على الداخل الوطني، دعت «الجهاد» بوضوح الى ربط نضال الشعب الفلسطيني بمشروع اسلامي فلسطيني مرتبط بالمشروع الإسلامي العام «مشروع توحيدي.. يستهدي برؤية إسلامية.. ومرتكزا على الجماهير وقطاعاتها الإسلامية، ومستقلا عن النظام العربي الرسمي وعن الشرعية الدولية»(77).
وضمن هذا التوجه المشاريعي المستقل عن أطر الحركة الوطنية رأت «الجهاد» آنذاك أن الطاقة الاستيعابية لأطر «م.ت.ف» أعجز وأضعف من أن تنهض بمشروع مقاوم بحجم تحرير فلسطين، وبحجم الصراع مع العدو، وعليه فقد اعتبرت أن فتح معركة التمثيل والشرعية غير ذات جدوى للاعتبارات المتقدمة، ولأنها معركة لا تحسم بالشعارات وضمن المؤسسات، بقدر ما تحسم بالفعل في ساحة معركة الشعب والأمة، ومواجهتها للعدو المركزي.(78)
ونتيجة لهذا الموقف المعلن آنذاك، ولعدم مصارعة «الجهاد» ومنافستها للمنظمة في أي من أنشطتها أو مؤسساتها، وإعراضها عن الدخول في صرع نفوذ داخل المجتمع الفلسطيني، ولطبيعة العمليات العسكرية الجريئة التي قامت بها حرك الجهاد خلال تلك الفترة، واتي شارك فيها عناصر ذات علاقات تنظيمية وطنية سابقا، وما أشيع خلال السنوات الأولى للانتفاضة من أن حركة الجهاد عضو في القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، التي تضم ممثلين عن فصائل «م.ت.ف»، نتيجة لكل ذلك شاع في أوساط إعلامية وسياسية وبحثية عدة أن علاقة ما تجمع حركة الجهاد و«م.ت.ف»، أكدها بعض كبار المسؤولين في المنظمة، وعلى رأسهم ياسر عرفات، فقامت الحركة طوال هذا الطور بتكرار نفيها لهذه العلاقة في كل مناسبة وفي أكثر من بيان وموقف، مؤكدة أن حركة الجهاد ليس لها أي ارتباط أو علاقة بمنظمة التحرير، ولا بالقيادة الموحدة للانتفاضة، ولا بالمجلس الوطني الفلسطيني وأجهزة المنظمة.(79)
* مع الشيوع المتزايد للوطنية العملانية في حراك «الجهاد»، في مقابل انحسار الخطاب الإسلامي الشمولي، وتزايد المشاركة الميدانية سياسيا وعسكريا لحركة الجهاد، تحول موقفها من الإهمال والتجاوز لـ«م.ت.ف» ومسألتي التمثيل والشرعية الى التحفظ السلبي والتعاطي المشروط.
فموقف الحركة السابق، والذي عبرت عنه الحركة علنا بقولها: «لا يوجد في أدبيات حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين ما يشير الى أنها طرحت نفسها بديلا عن منظمة التحرير الفلسطينية»(80) هو تعبير صحيح، لجهة ما كانت تحمله من مشروع مغاير تماما للمشروع الوطني، قوامه مشروع الثورة الإسلامية، والسعي لخلق «الجبهة الإسلامية المتحدة بين الإسلاميين»(81)، التي تضم كافة القوى الرافضة لمشاريع السلام.
ولكن في المقال نفسه الذي كتب في العام 1992 حول موقف «الجهاد» من المنظمة، عبرت «الجهاد» عن طور جديد في موقفها حين قالت: إنه «لا يوجد في أدبياتها معارضة واضحة لإمكانية اعتبار المنظمة إطارا جامعا لقوى شعبنا السياسي»(82) ولكنه طور في الموقف مشروط بشروط عدة، يلخصها ما جاء في نشرة المجاهد، لسان حال «الجهاد» قائلا:
«إن رفض الاعتراف بشرعية العدو الصهيوني على أي شبر من فلسطين، واعتبار الكفاح المسلح والجهاد المسلح طريقا لتحرير فلسطين، وعدم التنازل عن الميثاق الوطني، والذي أكد على حق الشعب الفلسطيني في كامل وطنه، وإعادة الاعتبار الى الإسلام كإطار لصراعنا الحضاري ضد الهجمة الصهيونية، هي الشرط التي تراها حركة الجهاد الإسلامي ضرورية للتعاون مع كافة القوى الفلسطينية ضم إطار جامع كمنظمة التحرير»(83).
هذا الاشتراط الفرضي، مع ما فيه من التسامح تجاه قبول الميثاق الوطني الفلسطيني، الذي لم تساهم في صياغته القوى الإسلامية، ومع ما لها من التحفظات تجاهه، إلا أنه اشتراط يعيد صياغة «م.ت.ف» وفق منطلقات جديدة لم تأخذ بها المنظمة نفسها عند انطلاقتها الأولى. إنه اشتراط يحول «م.ت.ف» الى إطار اسلامي قائم وفق متطلبات الحركة الإسلامية ومنطلقاتها وأهدافها.
ولكن هذه الاشتراطات لم تدفع حركة الجهاد للاهتمام فعلا بأطر ومؤسسات «م.ت.ف»، ولكنها اشتراطات نزعت من الإطار والمؤسسة أهميتها لصالح المضمون والمحتوى، وهو التوجه الذي حافظت على بيانه الحركة في معرض توضيح موقفها من مسألتي: التمثيل والشرعية، وهو توجه استمر حتى العام 1993 وكان عنوانه «جدل الإطار والمنهج».
لم تعر حركة الجهاد موضوعة الإطار الفلسطيني الرسمي وشرعيته ووحدانية تمثيله للشعب الفلسطيني خلال هذا الطور (1991 ـ 1993) الاهتمام الكبير، بقدر تركيزها على المنهج، ممثلا في النهج الأيديولوجي والبرنامج السياسي. وهي وإن لم تنف شرعية التمثيل عن«م.ت.ف» فإنها في المقابل لم تعرف بشرعيتها طوال تاريخها والى الآن. وبقيت مسألة التمثيل الحيز المسكوت عنه في خطاب حركة الجهاد. ويحمل هذا السكوت عنه من التحفظ و«الرفض» أكثر مما يحمل من القبول والإيجاب. وعندما تجبه «الجهاد» بسؤال التمثيل والشرعية فإنها تلجا الى ما يمكن تسميته بـ«الشرعية التمثيلية للنهج والبرنامج»، مركزة على المحتوى والمضمون، وفي الوقت الذي كانت فيه المنظمة تستمر في قبول مشاريع السلام كان الشقاقي يعزو عدم التمثيل الى مشروع المنظمة وبرنامجها بقوله في العام 1991: «إن المشروع الوطني الفلسطيني الذي تقوده «م.ت.ف»... لم يعد يمثل الشعب الفلسطيني... ولم يعد قادرا على تحقيق وحدة الشعب، ولا إنجاز مشروع التحرير، ولم يعد قادرا على قيادة حالة نهوض عربي، ولا قادرا على تحقيق تواصل مع الأمة الإسلامية»(84)، متجنبا الحديث عن تمثيل الإطار السياسي والتنظيمي.
وإضافة لنفي الحركة المشروعية والتمثيل عن المشروع الوطني، كان خطابها ينفي المشروعية أيضا عن المجلس الوطني وقراراته المؤيدة للحلول السلمية،(85) وتحول التساؤل القديم حول «شرعية قيادة المؤسسة الفلسطينية القائمة، ومقدار تعبيرها عن موقف الجماهير الفلسطينية، ناهيك عن جماهير الأمة الإسلامية جمعاء»(86) الى التأكيد على أن هذه القيادة الفلسطينية وفريق المفاوضات لم تعد تمثل الشعب الفلسطيني ولا تمثل إلا مصالحها الخاصة.(87) وفي كل حالات نفي التمثيل، إن عن المشروع الوطني، أو المجلس الوطني، أو القيادة الفلسطينية، لم يتم التعرض مباشرة لـ«م.ت.ف» لتجنب «الجهاد» حصرا أوسع، وحربا أشمل، كان يمكن أن تتعرض لها لو اتخذت هذا الموقف، ولأن «الجهاد» اعتبرت «أن قوة ومصداقية وشرعية «م.ت.ف» كإطار سياسي وتنظيمي جامع لا يتأتى مع انتشارها دوليا، أو من تواجدها في المحافل الدبلوماسية، بل من نهجها الخاص بتصعيد الكفاح المسلح، وتجسيد وحدة الأمة وتعبئة طاقاتها وقواها المجاهدة، كشرط لازم لكسر وتجاوز توازن القوى الظالم»(88).
* استمر موقف «الجهاد» على هذه الشاكلة من التحفظ السلبي، والتعاطي المشروط تجاه إطار «م.ت.ف»، ونقديا هجوميا تجاه برامجها وسياساتها، ليتحول هذا التحفظ تجاه الإطار وشرعيته الى هجوم نقدي واضح ضد كل من الإطار والمنهج على السواء، وبخاصة مع استمرار المنظمة في مفاوضات السلام وإيغالها أكثر في العلاقة بإسرائيل والاعتراف بها، وبدأ موقف «الجهاد» هذا مع مطلع العام 1993 بالتساؤل حول مبرر وبقاء «م.ت.ف»، معتبرة أن سبب وجودها قد التغى، وأن ليس أمام القيادة الفلسطينية سوى أن تقدم استقالتها بعد أن تم تفريغ «م.ت.ف»، من مضمونها الكفاحي، وتحويلها الى مجرد هيئة سياسية تخدم السياسات الأميركية والإسرائيلية(89).
وكلما كانت مفاوضات السلام تذهب قدما كان خطاب «الجهاد» يزداد حدة(90)، حتى إذا ما تم التوقيع على اتفاق أوسلو كانت «الجهاد» تنتهي بموقفها الى الإعلان عن موت منظمة التحرير الفلسطينية واستنفاذها لأغراضها، وهو الموقف الذي مازالت تحافظ عليه حركة الجهد الى الآن، حيث صرح رمضان شلح قائلا: «إن منظمة التحرير التي أنشئت لهدف تحرير فلسطين ومنه تستمد أسمها، قد انتهت وأصبحت في ذمة التاريخ، لقد كتب عرفات شهادة وفاتها فيما سمي «رسائل الاعتراف المتبادل بينه وبين رابين»(91).
عكست حركة الجهاد انسجاما بين موقفها السياسي السابق من «م.ت.ف»، وبين كافة الدعوات التي وجهت لها، لدخول المنظمة والتمثل في مؤسساتها، وعلى رأسها المجلس الوطني الفلسطيني. فقد وجهت لها الدعوة للمشاركة والتمثل في دورة المجلس الوطني العشرين الذي عقد في الجزائر بتاريخ 23/1/1991، ولكن «الجهاد» رفضت ذلك(92)، وذكرت أنها «ترفض أن تكون غطاء للتصالح مع الكفر الصهيوني»(93)، ولأنها اعتبرت أن المجلس مدعو لإقرار المشاركة في مؤتمر السلام، والقبول بالمشروع الأميركي الصهيوني. وقدمت «الجهاد» نفس الاشتراطات التي ذكرت سابقا لقبول إطار «م.ت.ف»، كجامع لقوى الشعب الفلسطيني قائلة «إن دفع الإسلاميين الى إطار «م.ت.ف» فيظل برنامج وخط سياسي تفريطي ومضطرب لن تكون نتائجه إلا اهتزاز حائط شعبنا الأخير، وإضعاف قوى صموده الأساسية»(94). وأبدت عدم اكتراث بعدد المقاعد والضمانات الإدارية المعروضة عليها، إذ أن المسألة الأساسية التي طرحتها هي «صلابة الخط الجهادي وبرنامج النضال»(95)، وهي بذلك لم تذهب مذهب حركة حماس، التي طالبت بالحصول «على حقها المتناسب مع حجمها وثقلها في جميع مؤسسات المنظمة وأجهزتها» والذي حدته بنسبة تراوحت بين 40ـ50% من مجموع أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني،(96) واكتفت «الجهاد» بتوجيه رسالة الى المجلس دعته فيها الى التمسك بالثوابت، وطرح برنامج للصمود والنهضة قائم على رفض التسوية مع الكيان الصهيوني أو الاعتراف به، وانتهاج الكفاح المسلح كطريق لتحرير ودعم الانتفاضة(97).
«م.ت.ف» وحركة الجهاد: فشل الاستيعاب
دفعت الخلفية الإسلامية لمعظم مؤسسي حركة «فتح»،(98) وعدم حمل الحركة لأيديولوجيا معادية للدين، ودعوى حركة فتح حملها لمسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية الحديثة، التي لم تفارق الإسلام في أهدافها وشعاراتها ورموزها، دفع كل ذلك «فتح» الى عدم الدخول في صراع مع التيارات الدينية، رغم ما قامت به بعد فترة وجيزة من التأسيس من تغييب لدور الدين في معركة التحرير، ورسمت «فتح» سياساتها على استيعاب القوى الإسلامية وتجنيدها لتطوير النضال الوطني، والحيلولة دون نشوء عنصر مستقل ومنافس خارج دائرة نفوذ «م.ت.ف».
في سنوات الثمانينات كان لصعود تيارات الإسلام السياسي في الضفة وغزة، وانتشارها في الشارع الفلسطيني، أن أحال قضية علاقة الوطنية الفلسطينية بالإسلام من قضية قيمية ثقافية الى قضية سياسية ـ عملانية من الدرجة الأولى، وقامت «م.ت.ف» بسياسة تحبيط واحتواء للإسلام الراديكالي الصاعد، ممثلا في حركة الجهاد من جهة، وضرب نفوذ «الإخوان المسلمين» من جهة أخرى، وتوسلت لتحقيق ذلك بمجالين:
1 ـ عملياتي:
وذلك بإقامة خلايا إسلامية سرية ذات ولاء فتحاوي، وضمن هذا المجال يمكن أن نذكر حزب الله المقدسي ـ الكتائب الإسلامية لتحرير فلسطين، وأمينه العام الشيخ عبد الله سعد الدين القدومي، الذي أصدر البيانات ي الدفاع عن «م.ت.ف» وعرفات(99) والحركة الإسلامية الفلسطينية العسكرية(العودة)(100): ومن الشخصيات غازي الحسيني، الذي أطلق لحيته وأصدر مجلة دعا فيها الى تأييد «م.ت.ف»، داعيا الى الحرب ضد اسرائيل، باعتبارها فريضة دينية بدلا من كونها واجبا قوميا.(101)
2 ـ رمزي:
وذلك من خلال استخدام واسع ومشدد للمصطلحات والرموز الإسلامية، أثناء الاجتماعات الرسمية لـ«م.ت.ف» وبياناتها وتصريحات زعمائها. وأحد التجليات البارزة لرغبة «م.ت.ف» في الحصول على غطاء ديني، كان عند اختيار الشيخ عبد المجيد السائح رئيسا للمجلس الوطني الفلسطيني، الذي عقد في نيسان 1987 في عمان(102). وضمن هذا المجال الرمزي نذكر أسماء بعض المجموعات «الفتحاوية» التي نشطت إبان الانتفاضة الفلسطينية، والتي حرصت على الصيغة الإسلامية في نعت نفسها، كالفاتحون (كتائب النصر)، المنتصرون، العائدون، المرابطون، المعتصمون.(103) في محاولة منها لتأكيد إسلاميتها في مواجهة الإسلاميين.
ضمن السياسات السابقة كان أول تقاطع لـ«م.ت.ف» مع حركة الجهاد الإسلامي، عبر تلك المجموعة من الفتحاويين ذوي الميول الإسلامية من «المتدينين التقليديين»، أو بعض «الإسلاميين» الذين بقوا داخل «فتح»، والذين انتظموا مطلع الثمانينات في سرايا الجهاد الإسلامي، كإطار يمارسون من خلاله الكفاح المسلح، وبتوجهات إسلامية واضحة، دون أن يقطعوا علاقاتهم «اللوجستية» بحركة فتح.
مع صعود نجم حركة الجهاد، وما لاقته من تعاطف وتأييد متزايدين من السكان، نتيجة تميز خطابها الوطني الإسلامي، وحراكها السياسي ولإعلامي النشط، مع ما قامت به من عمليات عسكرية اتسمت بالجرأة والشجاعة، قامت سرايا الجهاد بالتنسيق مع حركة الجهاد ونفذا أهم عملياتها، وهي عملية «باب المغاربة». ولكن سرعان ما بدأ التنسيق والتعاون العسكري المذكور بينهما يخف تدريجيا، مع ذيوع شبهة العلاقة بـ«فتح» العلمانية، إذ أعلنت أوساط من «فتح» عن تبنيها لعملية «باب المغاربة»، كالمتحدث باسم«م.ت.ف» في القاهرة، مدعيا ان العملية قامت بها إحدى الوحدات التابعة لـ«فتح»(104). وزعم عرفت لاحقا أن منظمة الجهاد الاسلامي التي قامت بعملية باب المغاربة «تنظيم ديني تابع لحركة فتح، وأسس هذا التنظيم بقصد الجهاد»(105). من الناحية الأخرى كانت أوساطا رسمية واستخبارية إسرائيلية تعلن عن اكتشاف تنسيق بين حركة الجهاد والمجموعة التي نفذت العملية، فذهب وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك اسحاق رابين الى حد القول: إن «الجهاد الإسلامي هي ذراع سري لحركة فتح»، وكذلك أعلن الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي: «إن تنفيذ عدة عمليات عسكرية تم بتنسيق مشترك بين «فتح» والجهاد الاسلامي»(106).
هذه الأجواء دفعت حركة الجهاد الإسلامي الى نفي العلاقة بـ«م.ت.ف» وكافة فصائلها، والتأكيد على استقلالها، مؤكدة أن الحركة «لم تخرج من فتح»(107)، فـ«الجهاد» التي تحمل مشروعا إسلاميا لفلسطين، وترفض ما آل إليه المشروع الوطني من حلول سلمية للقضية، رأت أن هذه الشبهة لا تنسجم وجذريتها الإسلامية ومواقفها السياسية.
بالرغم من النفي المتكرر من قبل «الجهاد» لعلاقتها بـ«م.ت.ف»، استمرت قيادات المنظمة بادعاء العلاقة والترحيب بحركة الجهاد داخل الساحة الفلسطينية، ولكن لم يثمر هذا الترحيب في استيعابها داخل أطرها، أو استثمار حراكها السياسي والعسكري لصالح النهج الرسمي للقيادة الفلسطينية.
ومع قيام الانتفاضة الفلسطينية، وبروز الدور المتعاظم للإسلاميين من «حماس» و«الجهاد»، وما أشاعته ونقلته وسائل الإعلام المختلفة عن دور رئيس لـ«الأصوليين» في تفجير الإنتفاضة، عاد قادة المنظمة لمحاولة احتضان هذه التوجهات الجديدة، واعتبر خليل الوزير (أبو جهاد) حديث الإعلام عن دور «الأصوليين»، و«أن الانتفاضة من صنع التيار الديني»، هي محاولة من الأجهزة المعادية لتسليط الأضواء على صراعات بين صفوف الشعب لأسباب أيديولوجية، «بهدف استفزاز جهات أوروبية وخارجية وإثارة مخاوفهما، حتى تصمت على إجراءات العدو الانتقامية في فلسطين وضد شعبها»(108) في حين ذهب صلاح خلف(أبو إياد) الى أن ممثلي هذا الاتجاه موجودون في المجلس الوطني، والمجلس المركزي، وأن التيار الديني «لا يعمل بعيدا عن الحركة الوطنية الفلسطينية، وليس بديلا عنها»(109). وصرح عرفات أيضا أن الإسلاميين جزء من «م.ت.ف»، وانهم ممثلون في المجلسين: الوطني والمركزي، إضافة الى اللجنة الطارئة للانتفاضة، مؤكدا «أنهم ليسوا ضد منظمة التحرير الفلسطينية... إنهم منظمة التحرير الفلسطينية»(110).
لم تفلح هذا المواقف في ردم الهوة بين «الجهاد» والمنظمة، والتي كانت تتسع مع تسارع وقع مباحثات السلام والقبول بها من قبل «م.ت.ف» كسبيل لاسترجاع الحقوق الفلسطينية، وبعد رفض قيادات «الجهاد» ـ التي أبعدت الى الخارج، وعلى رأسهم فتحي الشقاقي ـ لقاء ياسر عرفات، ورفض الدعوة التي وجهت «للجهاد» للمشاركة في اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني، الذي عقد في الجزائر بتاريخ 23/1/1991، كانت العلاقات تسير نحو القطيعة، ويتصاعد التوتر بين الطرفين، وبخاصة مع قيام عرفات بإدخال ممثلين عن بعض المجموعات الجهادية الصغيرة، التي تحمل نفس الإسم الى المجلس الوطني الفلسطيني، كحركة الجهاد الاسلامي ـ بيت المقدس ـ التي يتزعمها أسعد بيوض التميمي، وكحركة الجهاد الإسلامي ـ كتائب الأقصى ـ التابعة لفايز الأسود وإبراهيم سربل. وأراد عرفات بذلك تكريس قيادته كمرجعية لا تتجاوزها الحالات الإسلامية الجهادية، ضمن دعوى «الديمقراطية الفلسطينية»، وطارحا بذلك نماذج في مواجهة «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، ينبغي الاقتداء بها على صعيد العلاقة بـ«م.ت.ف»
واعتبرت «الجهاد» أن سياسة عرفات هذه هدفها «دعم المجموعات والشلل الهادفة لخلق الشقاقات في صفوف الحركة ومواقفها الثورية المميزة، وذلك عن طريق سيل الأموال، وشراء المرتزقة لحساباته الشخصية… (وحمل «الجهاد») …. المسؤولية للجهات التي مولت هذه المجموعات لحسابات الحلول التصفوية، وتشويه صورة الجهاد الإسلامي»(111).
وهاجمت حركة الجهاد عرفات بسبب ما أسمته «استدراج الشيخ التميمي الى المجلس الوطني... كي يمرر... على كتفه مشاريع التسوية» وقالت: إنه يقوم بذلك بعد أن فشل في تركيع قيادة «الجهاد»، وبعد حوالي ثلاثة أعوام من تآمره على «الجهاد» في لبنان وفلسطين، وبعد فشله في ان يتغطى بالقوى الإسلامية المجاهدة، مشددة على أن «الشيخ التميمي لا يملك إلا نفسه وأولاده»(112).
استمرت قيادة «م.ت.ف» رغم هذا التصعيد في محاولاتها التواصل مع «الجهاد». وتذكر حركة الجهاد أن عضوا قيادة «فتح» أبو الأديب وعباس زكي وقعا اتفاقا مع حركة الجهاد الإسلامي، اثناء انعقاد مؤتمر دعم الانتفاضة في طهران بتاريخ تشرين أول (اكتوبر)1991، «يؤكد احترام كل طرف لفعاليات الطرف الآخر، ضم حركة الانتفاضة، ويؤكد على حل المشاكل العالقة في سجون الوطن المحتل». وتكررت زيارات وفد اللجنة المركزية برئاسة نصر يوسف لحركة الجهاد في دمشق بتاريخ25/7/1992، وبتاريخ8/12/1992 وفي إبريل (نيسان) من العام نفسه(113) الى اتهام حركة الجهاد وزعيمها فتحي الشقاقي بالعمالة للمخابرات الإيرانية. وانها جزء من المخابرات الإيرانية، وأن إيران تقوم بتدريب عناصر من «الجهاد» أسمها بـ«المنشقة» بهدف شق صفوف المنظمة(114). وردا على هذا التصعيد من قبل عرفات قامت «الجهاد» بنفي تهم عرفات مؤكدة «أنها ليست عميلة لأحد»(115)، وأن عرفات «يريد أن تكون حركة الجهاد الإسلامي أداة في يده»(116)، وأنه مارس ضغوطات عدة لتحقيق هذا الهدف في المي والجزائر ومناطق أخرى وفشل. وأن ما أورده ليست إلا «أغاليط ستكون مدخلا لتقديم المزيد من التنازلات المجانية للعدو، وخدمة النظام الدولي الذي يسعى لشطب الإسلاميين من المنطقة»(117).
كان الاحترام المتبادل الذي حققته الوحدة النضالية بين «الجهاد» و«م.ت.ف»، عند انطلاقة حركة الجهاد واندلاع الانتفاضة الفلسطينية يتبدد مع كل تقدم في مسيرة السلام، حتى جاء توقيع اتفاق أوسلو من قبل المنظمة وإقامة سلطة الحكم الذاتي، لتقضي على هذه الوحدة النضالية تماما، ولتتأسس علاقة جديدة مع السلطة الفلسطينية، قوامها القطعية والمواجهة والتحفز الدائم، وهو ما سيتبين عند تناولنا لعلاقة «الجهاد» بسلطة الحكم الذاتي.
من الجماعة الإسلامية الى الجماعة الوطنية
موجبات العقيدة:
احتوى الفكر السياسي لحركة الجهاد على تحولات هامة، على صعيد موقفها من التعددية السياسية وقبول التعايش معها، وارتبطت هذه التحولات الى حد كبير بضرورات الاجتماع السياسي، وموجبات الكفاح الوطني ضد الاحتلال الإسرائيلي، أكثر من ارتباطها بالمشروعية الدينية والتأسيس الفقهي لها.
وضمت «الجهاد» ضمن هذه التحولات ثلاثة اتجاهات عامة. الاتجاه الأول: حمل رؤية أيديولوجية خالصة، تأسست على موجبات العقيدة كما يفهمها، من ضرورة قيام التجمع الإسلامي على رابطة العقيدة. وإقامة العلاقات مع الآخرين وفقا لقاعدة الولاء والبراء، كما عرفت في المدونات العقيدية الإسلامية. ومفاصلة أهل الشرك والنفاق، ومناصرة أهل الإسلام. وعدم جواز التجمع والقتال تحت راية «عميه جاهلية». ويلخص هذه الرؤية مفهوم الجماعة الإسلامية «الآمرة بالمعروف، الناهية عن المنكر»، كما هو في الفقه السياسي الإسلامي التقليدي، واعتقاد المسلمين العام.
كانت هذه الرؤية هي الاتجاه السائد داخل حركة الجهاد، منذ تأسيسها حتى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية. وهي رؤية كانت فيما يبدو حاجة تأسيسية لتجربة وليدة، تمنحها أصالة التكون الديني الشرعي، الموصول بأسس الدين كما اشتهرت. كما تمنحها عصبية حركية في مواجهة كافة الحركات والتنظيمات، تشد من لحمتها وتحق وحدتها الداخلية. وهي رؤية جاءت مع خصوصية التشكل الفكري والتاريخي التي مرت بها «الجهاد». ففكريا كان تشكلها مفارقا لحركة الإخوان المسلمين، تلك الحركة التي كانت قد استوت في الاجتماع السياسي العربي العام، وأصبحت أكثر تسامحا و«براغماتية» تجاه التيارات والأحزاب «اللاإسلامية»، وموصولا بالتيار الجهادي المصري وجماعاته، التي كانت تخوض حربا ضد نظام الحكم وتيارات التغريب المختلفة.
وتاريخيا، كانت لحظة التشكل الأولى لحركة الجهاد في أواخر السبعينات تشهد حالة من الانتشاء والفخر والعصبية الإسلامية، نتيجة لصمود حركات الإحياء الإسلامي في أكثر من مكان، وانتصار الثورة الإسلامية في ايران، وهو صعود وانتصار كان مفهوما لدى الإسلاميين كعنوان على فشل وهزيمة كافة البدائل والحلول العلمانية من ليبرالية ويسارية.
تتضح رؤية هذا الاتجاه من موقفه من قوى منظمة التحرير الفلسطينية، وبخاصة بعد أن أصبح سؤال الموقف او العلاقة بالأخيرة سؤالا مفروضا على القوى الإسلامية، بعد أن استوت هذه القوى في الخارطة السياسية الفلسطينية، كطرف رئيسي من أطراف الاجتماع الوطني الفلسطيني.
رأى اتجاه الجماعة الإسلامية أن جميع قوى «م.ت.ف» «قوى جاهلية»(118)، من خليط علماني بين ليبرالية واشتراكية ووطنية وقومية.(119) وأن قيادات هذه القوى التي قادت العمل السياسي الفلسطيني طوال عقود هي «نخب مفصولة عن الجماهير، و«تعاني من خلل بنيوي يجعلها غير قادرة على الاستبصار والرؤية الصحيحة»(120). وجعل هذا الاتجاه من الإسلام المحدد الرئيسي لموقفه من هذه القوى.(121) مؤكدا ان مشروعه الذي يحمله يختلف عن المشروع الوطني الذي تحمله منظمة التحرير الفلسطينية «منهجا وطريقا»(122). داعيا المنظمة الى تبني الإسلام، و«إعادة بناء المشروع الثوري الفلسطيني على أسس ربانية نقية فدائية واستشهادية، الأمر الذي لابد مه لكي تستعيد هذه الثورة نفسها وحيويتها ودورها المفقود وهيبتها الضائعة»(123). وبخاصة بعد فشل كافة البدائل العلمانية التي تبنتها فصائل «م.ت.ف»، والتي أودت بها الى هذا السقوط وهذه النتائج(124).
ورأى اتجاه الجماعة الإسلامية أن موضوعة «الوحدة الوطنية»، كما هي مطروحة في الساحة الفلسطينية، جاءت فيظل الهجمة الغربية، وفي ظل محاولات مستمرة لتفريغ المعركة من بعدها الحضاري والعقائدي، وذريعة لاستبعاد واستثناء الإسلام، وبالرغم من ذلك فإن الفصائل الوطنية الفلسطينية لم تحقق «الوحدة الوطنية»، بل ازداد التشرذم تعمقا بين هذه الفصائل، كما لم تبرز موضوعة «الوحدة الوطنية» إلا في ظل الهزيمة الروحية والسياسية والعسكرية.(125) واستغلت دوما «لإسكات الصوت المعارض، وغطاء ينشر بالقسر على كل مخالف للتفريط بفلسطين تحت حجج واختلافات»(126).
في المقابل طرح هذا الاتجاه الوحدة الإسلامية مع القوى الإسلامية، ورفع شعار «الوحدة من من خلال التعدد»، وأراده وحدة التيارات الإسلامية على اختلافها وتعددها، وهو شعار طرح قبل اندلاع الانتفاضة وأضفى من خلاله مشروعية التعددية السياسية ومشروعية الاختلال الشرعي المبني على الاجتهاد في الدائرة الاسلامية فقط.
ولكن اتجاه الجماعة الإسلامية في رؤيته السابقة حافظ على الخلاف مع القوى الوطنية الفلسطينية في دائرة الرأي والموقف الفكري. ولم يتعداه الى صرع مادي، مؤكدا على أن الخلاف الذي أسماه بـ«الجوهري» ليس مبررا للاقتتال أو الصراع، وأن «الموقف من سياسة هذا التنظيمات العلمانية لا ينسحب على التعامل اليومي مع الأفراد»، وأنه يحترم كل جهد يقدم من أجل فلسطين.(127)
وما أبدته هذه الرؤية من مرونة لجهة التعامل اليومي مع الأفراد، أو حصرها للصراع بالصراع الفكري والسياسي دون المادي، لم يتطور عند هذا الإتجاه الى قبول مسألة التحالف مع هذه القوى «الجاهلية والعلمانية»(128)، وهي المسألة التي قبلت بها حركة الجهاد لاحقا، مع شيوع الاتجاه اللاحق في تطور فكرها السياسي، الاتجاه الذي أضفى المشروعية السياسية والاجتماعية على التعددية السياسية الفلسطينية.
ضرورات الاجتماع المقاوم:
إن اتجاه الجماعة الإسلامية السابق، وبالرغم من تقديمه لموجبات العقيدة على ضرورات الاجتماع، الإ أنه في إبقائه لموقفه في الدائرة النظرية، وتقديره لجهد التيار الوطني النضالي بمقاتليه وشهدائه ومعتليه، كان قد ساهم في التحول الذي طرأ على فكر «الجهاد» لجهة قبول التعددية السياسية.
هذا إضافة الى عوامل أخرى، منها: ازدياد وتصاعد المشاركة السياسية والعسكرية «للجهاد» في التحرر الوطني ضد الاحتلال الإسرائيلي، وما تعرضت له جراء ذلك من قمع إسرائيلي، أسس شراكة نضالية، ومعاناة مشتركة بينها وبين القوى الوطنية. ونضيف لذلك عدم دخول «الجهاد» في صراع مع الآخرين حول هوية الدولة الفلسطينية المنشودة، وتركيزهم على القضية الفلسطينية كقضية مركزية وهدف مقاومة الاحتلال، وتخليص المجتمع الفلسطيني منه، وهو أمر ساهم في زيادة نقاط الالتقاء والتقاطع مع القوى الوطنية.
ومن العوامل الهامة الأخرى التي دفعت «بالجهاد» لقبول التعددية السياسية «الإسلامية»، تسارع القبول بمشاريع السلام، والاعتراف بإسرائيل، وإغلاق باب الصراع، الأمر الذي رأت فيه«الجهاد» اتجاها سياسيا كارثيا يحيط بالقضية الفلسطينية، ويدفعها الى تأجيل أي خلا أيديولوجي وفكري لصالح مناهضة هذا التوجه وتقويضه، أو الحد من مخاطره، فتم الالتقاء بالقوى الوطنية الرافضة لهذا النهج السلمي.
ويعبر الشقاقي بوضوح عن هذا التحول في الفكر السياسي «للجهاد» قائلا:
«بعد حرب الخليج، ورؤيتنا المزيد من الانهيارات، ورؤيتنا أن الجميع مستهدف، حصل تطور في الفكر السياسي الإسلامي، سواء فيما يخص حركة الجهاد الإسلامي، أو فيما يخص رؤية الأخوة في حركة حماس أيضا، ودار حوار حول إمكانية مشاركة الإسلاميين في منظمة التحرير الفلسطينية عبر المجلس الوطني. وكان هذا بعد إقرارنا بأن هناك تعددية سياسية على الساحة الفلسطينية يجب احترامها، وبعد إقرارنا أن مسألة الطرح الأيديولوجي هي مسألة يجب أن لا يكون فيها إكراه، ولكن فلسطين هي القاسم المشترك، إذا لم تكن فلسطين هي القاسم المشترك فعلى ماذا سوف نتفق؟»(129).
وخطاب الشقاقي المتسامح والمعترف بالتعددية، هو الاتجاه السائد داخل حركة الجهاد منذ العام 1990 وحتى الآن، وما تزال «الجهاد» تعمق هذا التوجه وتؤصل لمشروعيته السياسية والاجتماعية والدينية، وما يزال يحكم خارطة التحالفات والعلاقات التي بنتها وتبنيها «الجهاد».
كانت بداية هذا التحول باتجاه هذا الخيار السياسي يأخذ شكل التعاون والتنسيق الميداني، سواء في الانتفاضة وفعالياتها اليومية داخل فلسطين، أو في التنسيق السياسي مع القوى الوطنية خارج فلسطين. ثم بدأ خطاب الحركة، وعلى إثر جملة العوامل التي ذكرت يأخذ منحى التأصيل الشرعي للموقف الجديد، إلا أنه لم يبلغ حد المباحث الشرعية المتخصصة، وهو تأصيل عمدت له «الجهاد» داخل الإسلام، وداخل التاريخ الإسلامي، لإضفاء المشروعية الدينية على هذا التوجه، فقد جاء في كلمة المجاهد التي عنونت بجزء من آية قرآنية تقول: «تعالوا الى كلمة سواء» ما نصه: «الإسلام لا ينطلق من موقع العداء للآخر، وإنما من موقع الالتقاء والتعاون على الهدى والتغيير والنهي عن المنكر، ولا منكر أعظم من بيع الأوطان، والتغرير بالشعوب، واستلاب هويتها، وسرقة تضحياتها»(130). وتعتبر المقالة نفسها وفي سياق دفاعها عن التعددية، وجواز الالتقاء بالآخرين من المخالفين، أن الخطاب الإسلامي السائد الذي يعتقد «أنه لا يجوز لحركة إسلامية أن تتحالف مع حركة غير إسلامية، مهما كانت عناصر الالتقاء بينهما» إنما يصدر عن «فهم عجيب»(131)، مستشهدة بالأية التي جعلت عنوانا لتخلص، الى «أن واجب المسلم أن يبحث عن نقاط الالتقاء بين الناس، ليقيم عليها مشروعية حركيته الإنسانية، من خلال فهم حركية النص»(132).
ولكن هذا الجهد الذي حاولته «الجهاد» في تأكيد مشروعية التعددية السياسية وطنيا وإسلاميا لم يبق بلا قيد، بل بقي مشروطا بما تقدم من شروط، ولكنه لم يعد يركز على الهوية الأيديولوجية للقوى الوطنية كشرط سابق أو لازم، بل أصبحت تطالب بم تسميه بالحد الأدنى كما ورد في هذا النص: «على القوى الإسلامية، وهي تلحظ التعددية التنظيمية، أن تؤكد على قاسم مشترك يمثل الحد الأدنى من طموحاتها ومن برنامجها في هذه المرحلة، يؤكد على عدم الاعتراف بأي شرعية للوجود الصهيوني على أي جزء من فلسطين، وحشد كافة القوى الفلسطينية لأجل التحرير، وعدم التنازل عن الميثاق الوطني الفلسطيني»(133).
التمثيل الإسلامي للجماعة الوطنية
طرحت «الجهاد» في نهاية اتجاه الجماعة الإسلامية، الذي تشكل وفق موجبات العقيدة، وبداية اتجاه التعددية السياسية، الذي تشكل وفق ضرورات الاجتماع المقاوم، اجتهادا رؤيويا يتجاوز كونه تطويرا للاتجاه الأول أو تجديدا له، كما يتجاوز الاتجاه الثاني الى محاولة تأسيسية جديدة لشكل علاقات الإسلاميين مع أطراف الاجتماع الوطني، داخل مجتمعاتهم المحلية القائمة، وفق قواعد التجزئة والقطرية.
إنها محاولة تأسيسية عمدت في تقديرنا الى تجاوز مسائل تقليدية هامة لدى الإسلاميين، تحكمت في علاقاتهم السياسية والاجتماعية مع الأطراف «اللاإسلامية»، وما زالت تتحكم في القطاع الأوسع من حركاتهم، وتنظيماتهم وتجمعاتهم. ومنها:
– اعتبار الانتماء الديني المرجع الوحيد في تحديد شكل العلاقات مع الآخرين المخالفين لهم دينا وسياسة.
– عدم الاعتبار لأي تجمع أو شكل وحدوي أو ائتلافي إلا وفق مفهوم الجماعة الإسلامية، ورابطة العقيدة، واعتماد الوحدة والائتلاف فقط مع أطراف الاجتماع الإسلامي، ممثلا في القوى الإسلامية السياسية منها والاجتماعية.
– نبذ وإدانة الانتماء الوطني القطري أو القومي العربي لصالح الانتماء للجماعة – الأمة.
– القفز عن واقع التجزئة القطرية، وعدم الاعتراف به، أو التعاطي معه إيجابيا، والتمرس خلف شعار الوحدة ضد التجزئة، بما هي وحدة إسلامية تتجاوز الحدود القطرية.
وتقوم هذه الرؤية التأسيسية على ما دشنته من مفهوم مركزي يتلخص بمقولة: «تمثيل الجماعة الوطنية»، ويشمل هذا المفهوم مسألة العلاقة مع «م.ت.ف»، ومسالة العمل المسلح، وتحمل مسؤوليات العمل الجماهيري، إضافة الى موقع غير المسلمين، أو المسلمين غير المنضوين في تنظيمات الحركة الإسلامية، من ساحة الجهاد والعمل السياسي والنضالي.(134)
وتذهب هذه الرؤية الى أن بروز «الجماعة الوطنية» كان بعد انهيار الدولة العثمانية، وتراجع فكرة الجماعة الإسلامية ورض التجزئة، ونتيجة قسرية ولدت مع حركات النضال ضد الاستعمار الأجنبي في القرن العشرين، حينما ارتبطت مسألة الاستقلال الوطني بقضية إنهاء الاحتلال الأجنبي في كل قطر. واختلفت «الجماعة الوطنية» من ثم حسب السمات الخاصة لكل قطر وهمومه وإشكالياته المطالبة بالإجابة عليها.(135)
وبذلك فمفهوم «الجماعة الوطنية» ولد كنتيجة لحالة التوازن «بين إطار الأمة في سياقها التاريخي القديم، وبين حالة التجزئة المفروضة، وتشكلت الجماعة الوطنية بين القطبين، بين ما هو تاريخي وما هو واقع مفروض»(136).
وطرح مفهوم «الجماعة الوطنية» وتمثيلها من قبل الإسلاميين، أراد أن يخرج من حالة الفصام الواقعة بها الحركة الإسلامية، بين ادعائها المشروعية بتمثيلها للنموذج التاريخي الإسلامي للأمة، القائم على مفهوم الجماعة ـ الأمة، ومفهوم الخلافة الموحدة للمسلمين في كافة بلدانهم. وبين الواقع «اللاإسلامي» المفروض، القائم وفق قواعد التجزئية القطرية بعد انهيار وحدة الأمة والجماعة، والذي تحكمه سلطات سياسية تتوزع على هذه الأقطار، فضلا عن قيام دولة الكيان الصهيوني.
وحلا لهذه الإشكالية ووفقا لهذا المفهوم، فإن «الجهاد» رأت «أن قوى الحركة الإسلامية السياسية لا تستطيع أن تصل لأهدافها في إقامة النظام الإسلامي، أو قيادة المشروع التحريري في حالة فلسطين من دون أن تكون ممثلة للجماعة الوطنية»(137)، الأمر الذي لن يتحقق بدعاوى الحركة الإسلامية التقليدية في التمحور حول فكرة الجامعة الإسلامية، خلافة ووحدة شاملة، بل يتحقق بتمثيل كافة فئات الشعب. سواء أبناء الطوائف غير الإسلامية، أو القوى والتيارات الاجتماعية التي أصابتها حركة التغريب، من دون أن تحولها لقوى معادية للإسلام، والحركة الإسلامية. كما لن يتحقق هذا التمثيل دون أن يتم تبني مشروع وطني جماعي يتصدى عمق وأبرز هموم وإشكايات الجماعة. ويبقى من ثم تحقيق نهوض الأمة الواحدة هدفا بعيدا يستحيل بلوغه، دون أن تصعد القوى الإسلامية الى مستوى تمثيلها لجماعاتها الوطنية.(138)
بالرغم من الارتكاز التبشيري لهذا المفهوم على السياق التاريخي، وفق ما آلت إليه المنطقة من تطورات، إذا أنه تم التنظير له حين انتقلت «الجهاد» من مستوى التبشير الأيديولوجي والعمل العسكري المحدود، الى طور المشاركة الشعبية والجماهيرية في الانتفاضة، وتحول الاهتمام بالعلاقة من القوى السياسية أو أطر منظمة التحرير، الى العلاقة مع كافة الأطراف، من قوى سياسية واجتماعية وأهلية وتجمعات جبهوية وعشائرية ومناطقية وغيرها.
من ناحية أخرى تم التنظير لهذا المفهوم مع ما واجهه الإسلاميون من صعوبة في «تحويل صعودهم الى مشروع بديل، والحصول على شرف تمثيل أغلبية قطاعات الشعب وإن لم يكن كلها»(139)، كما تقر حركة الجهاد، الأمر الذي يفسر لنا موضوعة «تمثيل الجماعة الوطنية» كمشروع بديل طرحته حركة الجهاد على القوى الإسلامية، مشروع إسلامي على قاعدة وطنية بديلا للمشروع القومي والمشروع الوطني، دون أن ينفي أو يطرد أيا منهما، بل مشروع يتحول من علاقة الطرد والاتهام الى علاقة الاستيعاب والتجاوز، ومن علاقات الضرورة (ضرورة الواقع والقاسم المشترك) الى علاقات الاعتراف الضمني، وإن كان المشروع بني في ظاهره على قاعدة المشاركة لا قاعدة الهيمنة، إلا أن هذه المشاركة ـ فيما نراه ـ مرحلة انتقالية للتمثيل الإسلامي لكل قطاعات الإجماع الوطني.
عانت هذه الرؤية الطامحة لتحقيق التمثيل الإسلامي للجماعة الوطنية، وبعد عقد من زمن طرحها من ظروف وعوامل أدت الى تعثرها ومنها:
– بعض الأطراف أصبحت ـ كما ترى «الجهاد» ـ حليفا للكيان الصهيوني، وحارسا لمصالحه وأمنه، الأمر الذي حال دون الالتقاء معها، وعلى رأسها سلطة الحكم الذاتي، وأطراف أخرى راوحت بين رفض أوسلو وإقامة العلاقات مع سلطة الحكم الذاتي، ودعوتها لتحسين شروط عملية السلام، كالجبهتين: الشعبية والديمقراطية، مما أخرجهما من تحالف «العشرة»، تحالف القوى الفلسطينية المناهض لأوسلو والداعي لإسقاطه.
– التمثيل الإسلامي للجماعة الوطنية يلزمه ويشترط له وحدة الطرف الإسلامي، ممثلا في حركة المقاومة الإسلامية «حماس» وحركة الجهاد الإسلامي، وهذه الوحدة أو العمل الجبهوي المشترك لم يتحقق الى الآن.
– الاختلال الحاد في موازين القوى إثر حرب الخليج الثانية، وما أدى إليه من تنشيط مشاريع اسلام التي بدأت بمدريد وانتهت بأوسلو وغيرها من الاتفاقيات اللاحقة. ودخول سلطة الحكم الذاتي الى مناطق الضفة وغزة أدى الى إضعاف قوى الرفض الفلسطينية، ومحاصرتها إقليميا ودوليا.
– واقع الفصائل الفلسطينية الوطنية المعارضة، والمتمثل بالمركزية القيادية، والترهل التنظيمي، وتراجع الفعالية السياسية، والعمل المسلح، وجغرافية الوجود في قطر دون آخر، وصراع النفوذ والمحاصصة بين هذه الفصائل في كل تحالف أو عمل جبهوي أو مؤسسي، كل ما تقدم أضعف قدرة كل من «حماس» و«الجهاد» على التحرك الوحدوي أو المناورة السياسية، فضلا عن التمثيل الوطني الجامع.
لم يحل التعثر في مشروع تمثيل الجماعة الوطنية دون مساهمة حركة الجهاد في تحالفات مناهضة للاحتلال الإسرائيلي ولمشاريع التسوية السلمية، بل استمرت في نهجها الذي أكد على مشروعية التعددية السياسية، واستعدادها للتنسيق والتعاون مع أي فصيل فلسطيني، مهما اختلفت مشاربه وإيديولوجيته، داعية الى الوحدة ورص الصفوف، ونبذ الفرقة والاختلافات.
وضمن هذا التوجه الفكري والتطور السياسي في أيديولوجيا حركة الجهاد، ونظرتها الجديدة الى أطراف الاجتماع الوطني، جاءت مشاركتها التحالفية الأولى في تاريخها بانخراطها في تحالف الفصائل الفلسطينية العشرة(140)، الذي أجمع على التصدي للحكم الإداري الذاتي، ومناهضة مشروع أوسلو، باعتباره مشروعا يستهدف تصفية القضية الفلسطينية المقدسة، وإضفاء الشرعية على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وأكد التحالف في بيانه الأول أن الوفد المفاوض لا يمثل الشعب الفلسطيني، وغير مخول بالتوقيع باسم الشعب على اية وثيقة أو مشروع ينتقص من الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني.(141)
واعتبرت «الجهاد» التحالف الجديد خطوة مهمة في صياغة مرحلة جديدة في تاريخ النضال الفلسطيني الحديث، تتمثل باجتماع الوطنيين والإسلاميين، حيث ضم التحالف جميع حركات المقاومة من وطنية ويسارية وإسلامية، على أرضية الرفض المطلق لاتفاقية الحكم الذاتي
كما وحمل «التحالف» أكبر إدانة لسياسة «م.ت.ف» التي تقود المفاوضات في واشنطن، وإن ما حمله «التحالف» من برنامج يمكنه إذا جرى تنفيذه وتعميق محتواه، أن ينقذ الشعب الفلسطيني من الأزمة التي تمر بها القضية الفلسطينية، وأن ينقذ الانتفاضة من محاولة قتلها، باعتبارها حاملة الجهاد الفلسطيني الراهن.(142)
كما واعتبرت «الجهاد» أن نجاح الإضراب الاول الذي دعت له الفصائل العشرة، والتزام الشعب به داخل فلسطين وخارجها، تأكيدا على نجاح القوى المعارضة للحكم الاداري الذاتي، وتفاعل الجماهير معها و«مكذبا دعاة الهزيمة والاستسلام، والقائلين باليأس، وبأن قدرة شعبنا على العطاء شارفت على النهايات»(143)، وكشف النجاح الذي حققه الاضراب ايضا عن تلهف الشعب الى البديل المناضل للقيادة الذاهبة الى المفاوضات(144).
وطالبت حركة الجهاد منذ البداية في محاولة تحذيرية مما قد يؤول اليه التحالف، بعد الاكتفاء بإصدار البيانات، والاكتفاء بالتصريحات الكلامية، والانتقال للعمل، لأن «الاكتفاء بكتابة البيانات يلقي بالاوراق في سلاسل اللاجدوى والعبث»(145). كما طالبت «الجهاد» في خطابها الخاص الموجه للفصائل وعلى الدوام برفع سقف التحالف، والقيام بعمليات عسكرية تعطي مفاتيح الثقة بالقوى الرافضة، وتساهم في استمرار الانتفاضة وتطويرها.(146)
إن دراسة أولية لمجموع القوى التي تشكل منها تحالف العشرة، ولبرامجهم السياسية، مع قبول «الجهاد» مشاركتها هذا التحالف، الذي لا يتعدى سقفه مناهضة اتفاق أوسلو، والسعي لاسقاطه يشير الى تغيير جديد طرأ على شروط «الجهاد» في قبول التعددية السياسية والتحالف معها. وقاعدة هذا التغيير تتلخص في أن حركة الجهاد، وكلما زادت استهدافات إسرائيل لقوى المقاومة، وزادت المخاطر المحيطة بالقضية الفلسطينية، مع تقدم مشاريع السلام، تنازلت «الجهاد» عن المزيد من شروطها في التحالف مع القوى الأخرى.
فبعد أن غضت الطرف عن شرط «اعادة الاعتبار للاسلام» ـ الشرط الذي لم تحدد تماما طبيعته وكيفيته ـ متجاوزة الأيديولوجيا العلمانية من وطنية وقومية ويسارية، غضت الطرف عن شرط آخر ـ بقبول الانضمام لتحالف فيه الجبهة الديمقراطية ـ وهو العمل على تحرير فلسطين من النهر الى البحر.
وبمعنى آخر فبعد ان كانت القواسم المشتركة هي ثوابت الإجماع الفلسطيني التاريخية، كما نصت عليها كافة المواثيق الفلسطينية، أصبح من الممكن الالتقاء على قواسم مرحلية، وليست استراتيجية، كإسقاط اتفاق أوسلو أو مناهضته، أو الوقوف ضد الغاء الميثاق الوطني الفلسطيني، كما حصل عند مشاركة «الجهاد» في المؤتمر الوطني الفلسطيني، الذي عقد في دمشق لهذا الغرض بتاريخ 10 –12/1998، وأصبحت علاقات «الجهاد» مع القوى «اللاإسلامية» تدور مدار الحراك السياسي اليومي، وما يفرضه من تحديات تهدد مستقبل القضية الفلسطينية.
لم تكن علاقات «الجهاد» التحالفية هذه، أو هذا التطور والتغيير في رؤيتها السياسية السابقة براغماتيا مصلحيا، أو مهادنا لأطراف التحالف، بل استمرت في جذرية خطابها النقدي تجاه المشروع الوطني، والتحالفات الجديدة، ومنها تحالف القوى الفلسطينية، الذي تعرض في أدائه لنقد المبكر جدا من قبل حركة الجهاد، سعيا وراء تطوير هذه الصياغة، وتجنيب التحالف الصراع الفصائلي القائم على المكاسب الذاتية، واعتبرت «الجهاد» ان الخطوة الاهم التي يجب ان يوليها التحالف اهتمامه في تطوير العمل النضالي والجهادي، كهدف استراتيجي، لا يخضع للتكتيكات، ومتجاوزا الاختلافات في وجهات النظر، وفي المعتقدات والمبادئ(147). وهاجمت «الجهاد» بعد توقيع اتفاق غزة ـ أريحا بعض الفصائل ـ لم تسمها ـ لأنها بقيت «أسيرة لمشاريعها الخاصة والضيقة، ولم تدرك حجم التغييرات الهائلة التي حدثت في المنطقة.. وإن الاستغراق في الخلافات حول هذه الصيغة السياسية أو التنظيمية أو تلك، يؤكد على عدم الجدية في الإنجاز من جهة، ويفقد جزءا كبيرا من المصداقية أمام الجماهير»(148).
ولكن النقد الذي كان سعيا لتطوير الأداء تحول الى نقد شديد جذري وشامل، بعد مرور عامين على تشكيل التحالف.. وذلك حين اعتبر الشقاقي «أن الفصائل في مجملها تعاني من ضعف داخلي تنامى عبر سنوات طويلة من البيروقراطية والعسكرتاريا والاستبداد والفهلوة»(149)، وأن كافة الفصائل تعاني من أزمة الثقة فيما بينها، وان النزاعات الفردية نمت على حساب المصلحة العامة(150).
واستمر نقد «الجهاد» لأزمة التحالف، التي اعتبرها رمضان عبد الله شلح أزمة ذاتية أكثر منها موضوعية، أزمة تتعلق برهان البعض على معطيات التسوية، وأن شعار التحالف الذي رفعه ضد أوسلو وهو «فلسطين هي الأيديولوجيا والقاسم المشترك الأعظم»(151) لم يتحقق، و«أن الروحية والعقلية السائدة في أوساط المعارضة الفلسطينية لا ترشحها كي تكون بديلا قويا متماسكا... وما لم يكن هناك قفزة وتعال عن الهموم الحزبية الضعيفة من قبل هذا الفصيل أو ذاك، ويتم فعلا تغليب مصلحة الشعب والأمة على كل الصائر.. سيبقى واقع المعارضة الفلسطينية يتراوح مكانه»(152).
ولكن «الجهاد» التي كانت أكثر الفصائل نقدا لأداء هذا التحالف، لم تخرج منه وبقيت ممثلة في، لأنها لم تره واستنفذ أغراضه، ويمكنه أن يبحث معوقاته ويتجاوزها(153)، ولأنه يمثل برنامج الحد الأدنى الأكثر انسجاما مع طموحات الشعب في مواجهة مشروع عرفات(154). وإضافة لذلك فإن خطاب «الجهاد» أصبح يلحظ الواقع الموضوعي المحيط بالقضية الفلسطينية، مع نقده الذاتي المستمر لقوى التحالف،فالتحالف يفتقد الركيزة والحاضنة التي تؤازره ضد التحالف الإسرائيلي، و«هذه الحاضنة يجب أن تكون دولة أو مجموعة دول عربية وإسلامية تتبنى هذا المشروع البديل وتوفر له الدعم والإسناد في مواجهة ما يملكه المشروع الآخر من دعم إقليمي ودولي كبير»(155).
إن ما يفسر بقاء «الجهاد» في تحالف القوى الفلسطينية رغم نقدها المتقدم له، وإضافة الى وعيها الموضوعي الخاص بأزمة الواقع العربي الفلسطيني المحيط بالجميع، هو أنها فيما يبدو تفتقد الخيارات البديلة عن هذا التحالف في المستوى السياسي، وانه ما من قوى فلسطينية خارج هذه القوى يمكن الرهان عليها، وبخاصة مع فشل كافة الجهود لإيجاد شراكة تحالفية أو جبهوية ما مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
«الجهاد» و«حماس» وتدافع الشرعية الإسلامية
مثلث ولادة حركة حماس مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، ودخولها ميدان المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني، تأسيسا لعلاقة مختلفة مع «الجهاد الإسلامي»، عن تلك العلاقة المتوترة والصراعية مع تيار المجمع الإسلامي المنتمي تقليديا لتنظيم الإخوان المسلمين، وهي العلاقة التي كان فيها الصراع الفكري والسياسي على أشده منذ افتراق المجموعة الجهادية الأولى، التي غيرت قناعاتها «الإخوانية». وهو الافتراق الذي أسس علاقة غير ودية، «أساسها نظرة «الإخوان» الى «الجهاد» كمجموعة منشقة عن التنظيم الأم، ونظرة «الجهاد» الى «الإخوان» في المقابل كجماعة كبيرة، لكنها مترددة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي بالكفاح المسلح»(156).
ونلخص نقاط الخلاف الأساسية بين التيار الإسلامي الثوري الوليد (الجهادي)، وبين تيار المجمع الإسلامي (الإخواني)، كما صاغتها حركة الجهاد في النقاط التالية157).
– تأجيل «الإخوان المسلمين» للكفاح المسلح ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وإهمالهم للقضية الفلسطينية.
– مهادنة «الإخوان» للأنظمة العربية والاشتراك في برلماناتها وعدم مجابهتها. وهو المنهج الذي أيده وناصره «المجمع الإسلامي» داخل فلسطين.
– اعتمد «الإخوان» لنهج تروبي سلبي سكوني، رأت فيه «الجهاد» نهجا تربويا يبعد الأفراد عن مواطن الصراع ويشيع أجواء السمع والطاعة والتقليد، ويقتل الإبداع، ويغيب النقد والنقد الذاتي.
– علاقة «الإخوان» الصدامية مع الحركة الوطنية الفلسطينية (قبل نشوء «حماس».
– تشكك «الإخوان» وطعنها بمشروعية الجماعات الإسلامية التي تخالفها الرأي.
– موقف «الإخوان» (داخل فلسطين) المعادي للثورة الإسلامية في إيران، وشن تيار المجمع الإسلامي حملة تكفيرية ضد الشيعة الإمامية.
همشت انطلاقة حركة حماس بعض دواعي ومبررات النقد المتقدم «للإخوان المسلمين». إذ أضحت «حماس» طرفا في الصراع الوطني ضد الاحتلال سياسيا وعسكريا، وأكدت في ميثاقها على أهمية وقدسية القضية الفلسطينية(158).
هذا التحول «الإخواني» خفف من العلاقة الصدامية مع «الجهاد»، وبدد نقاط خلاف عديدة، منها الموقف من الثورة الإسلامية في ايران، ذلك ان تحول تيار «المجمع» الى حركة سياسية نشطة دفعه الى علاقات اقليمية واسلامية مع أطراف عدة، ومنها الجمهورية الاسلامية الايرانية، فاختفى الخطاب التكفيري للشيعة والمعادي للثورة. وأما موقف «حماس» من الأنظمة العربية، فقد حافظت على الموقف الإخواني التقليدي العام، ولكن في ضوء خصوصية المعركة التي تخوضها «حماس» في فلسطين وحاجتها للدعم العربي. وفي مقابل هذا الموقف البراغماتي «لحماس» حافظت «الجهاد» على نظرتها الراديكالية أيديولوجيا للأنظمة العربية، مع واقعية جديدة لجهة التصنيف السياسي للأنظمة، دفعها إليه انتشار الحركة خارج فلسطين.
قرب اهتزاز نقاط الخلاف السابقة، وانتفاء معظمها مع مشاركة «حماس» في الصراع، المسافة بين الحركتين، فأخذت حركة الجهاد تكرر دعوتها الى الوحدة الاسلامية التي اعتبرتها ثابتا من ثوابتها(159). ودعت الى تشكيل قيادة إسلامية موحدة للانتفاضة تضم «حماس» و«الجهاد»، باعتبار هذه القيادة «مطلبا ربانيا وتاريخيا»، وهي القادرة على قيادة جماهير الانتفاض(160). كما دعت «الجهاد» الى تشكيل جبهة اسلامية للتصدي لجهود «م.ت.ف» السلمية(161). وحافظت حركة الجهاد في كافة البيانات التي تصدرها على تأكيد هذه الدعوة الى الوحدة الاسلامية، باعتبارها خيار المواجهة المستمرة مع العدو، وإسقاط خيارات التسوية. ولكن حركة حماس في المقابل لم تأت على ذكر الجهاد الاسلامي في أغلب بياناتها الرسمية، وفي مقابلات قادتها مع الإعلام، وانطبعت نظرة «حماس» الى «الجهاد» واسلوب تعاملها معها بشعور التعالي والفوقية، وبقيت .حماس، تؤكد على ضرورة عودة «المجموعة المنشقة، الى تنظيمها الأم»(162). وفي الوقت الذي اعتبرت حركة حماس منظمة التحرير الفلسطينية «من أقرب المقربين الى حركة المقاومة الاسلامية»، وإن موقفها من المنظمة هو «موقف الابن من أبيه، والأخ من أبيه، والقريب من قريبه»(163)، فقد نظرت الى علاقاتها بالحركات الاسلامية الأخرى نظرة استدراكية تشككية، فهي تنظر اليها كاجتهادات مشروعة ولكن مشروطة بـ«توافر النوايا السليمة والإخلاص لله. وما دامت تصرفاتها في حدود الدائرة الإسلامية»(164) كما و«تعتبر حركة المقاومة الإسلامية تلك الحركات رصيدا لها»(165) سائلة الله الهداية والرشاد للجميع.
ودأب قادة «حماس» ـ حتى فترة متأخرة ـ من التقليل من شأن حركة الجهاد ووزنها في الأرض المحتلة(166)، ومبرر ومشروعية استمرارها، بعد ان تبنت «حماس» النهج المسلح، «الأمر الذي ادى الى تفسخات في صفوف الجهاد الى عدة أنواع ومسميات، بينما بقيت حماس واحدة»(167).
اتسمت علاقة الحركتين في العامين 1992، 1993 بالتوتر الشديد داخل الأراضي المحتلة، وبخاصة في قطاع غزة، ووصل الامر الى حد المواجهة، فحركة الجهاد اتهمت «حماس» بممارسات عدائية تجاهها، منها تمزيق بيانات الجهاد وملصقاتهم، ومصادرة منشوراتهم من المساجد، والاعتداء على المساجد التي يديرونها، سعيا لانهاء نفوذهم فيها، ومحاولات اغتيال بعض كوادرها ونشطائها، وملاحقة نشطاء الجهاد في الانتفاضة وضربهم ونزع أقنعتهم، اضافة الى اتهامهم بالتشيع. وتبني «حماس» للعديد من العمليات العسكرية التي تقوم بها «الجهاد»(168). ووصل الأمر في نيسان (إبريل) من العام 1992 الى وقوع صدامات بين انصار الحركتين، جرح على أثرها اثنا عشر شخصا من الطرفين في مواجهات دارت بينهما، «عندما أراد اعضاء من «حماس» إرغام اعضاء من الجهاد الاسلامي على وقف تلاوة القرآن في مسجد صلاح الدين في حي الزيتون»(169)، في صراع بين الجماعتين على بسط نفوذهما داخل المسجد. كان يقابل حالة الصراع الحاد في الداخل علاقات التواصل والبحث عن مشاريع مشتركة في الخارج، إذ عقدت الحركتين لقاءات مشتركة منذ العام 1991، كان أولها في الخرطوم، تلاه لقاء آخر في طهران، توصل خلاله الطرفان الى جملة من الاتفاقيات والخطط العامة لاجل التنسيق والتعاون، على أمل الوصول الى الوحدة الكاملة في المستقبل كما عبر الشقاقي.(170)
وقد توصل الطرفان لما أسموه بـ«ميثاق الأخوة والتعاون»، وأكدا وحدتهما على الثوابت الاسلامية تجاه فلسطين، وحرمة استخدام العنف أو القتل في رفض الخلافات أو إنهاء النزاعات، و«العمل لإيجاد اطر تعاون وتنسيق مشتركة في النشاط النقابي والطلابي» وغيره من النشاطات، ومواصلة الانتفاضة، وإسنادها، و«إنشاء لجنة تنسيق مشتركة في الداخل والخارج للتنسيق بين الحركتين في المستجدات والاحداث التي تطرأ»، والتعاهد على أن تكون الوحدة هي الخيار الوحيد الذي يسعى اليه المجاهدون «فالعدو واحد والمعركة واحدة، ولابد أن تكون الصفوف واحدة»(171). لم تغير اللقاءات السابقة بين الحركتين وكافة اللقاءات اللاحقة أيضا، مع ما أبدته قيادات الحركتين في الخارج، من عدم التعرض لبعضهما، وحرصهما على التشاور والتنسيق المستمرين في جوهر موقف كل منهما من الآخر، وبخاصة داخل الأراضي المحتلة، الامر الذي يفسر انفراد مبعدو «حماس» بأنشطتهم عن أنشطة «الجهاد»، وعدم مشاركتهم بها، أثناء عملية الإبعاد لـ400 من قيادات ونشطاء الطرفين الى لبنان في العام1992.(172).
إن أزمة العلاقة المستمرة بين الحركتين الاسلاميتين ذات المرجعية الدينية الواحدة، وبالرغم من حجم التقارب الذي حصل بينهما، يمكن ان ترد الى حرص حركة حماس على أن تكون ممثلة الحالة الاسلامية الفلسطينية، هذا التمثيل تنازعها فيه حركة اسلامية اخرى، تحمل نفسه ادعاءات المشروعية ومقوماتها الاسلامية والوطنية. فمفاصلة «حماس» ونزعتها التفاضلية تجاه الاطراف الوطنية يمكن استيعابها للاختلاف الأيديولوجي أو السياسي مع هذه الاطراف، ولكن تبريرها يبقى صعبا تجاه اسلاميين آخرين، يحملون ذات التوجه الأيديولوجي والسياسي. وهو الأمر نفسه الذي تعانيه «الجهاد» امام بعض الاصوات التي تتساءل عن مبررات الاستمرار، مع وجود حركة اوسع انتشارا وأكبر حجما، وتمارس العمل المسلح، وما زالت تتمسك بكافة الثوابت الدينية والوطنية.
ومن هذه الاصوات حركة حماس نفسها، التي تعتبر «الجهاد» فاقدة لمبرر قيامها بعد مباشرة «حماس» للكفاح المسلح: المطلب التأسيسي لحركة الجهاد، وافتراقها عن «التنظيم الأم»(173).
اما حركة الجهاد وفي مواجهة موقف «حماس» وادعائها تمثيل الاسلام، ونفيها عن «الجهاد» مبرر استمرارها، فتذهب الى انها هي السباقة في إعادة واحياء دور الاسلام المقاوم في فلسطين، وانها في طرحها لقضية الوحدة الاسلامية اثبتت «تفوقا ونزاهة وثباتا على المواقف»(174)، وتشير «الجهاد» الى ان مهماتها تتجاوز الساحة الفلسطينية لتعيد التواصل للتاريخ الاسلامي، والتكامل لجغرافيا الامة الاسلامية، وانها وجدت ايضا لتعيد التواصل بين الحاضر والماضي، ولتربط المسلم بمجتمعه، وتعيد تشكيل العقل الإسلامي، ليقفز الى عالميته القادمة، وتعيد للمسلمين نظامهم السياسي، والتصدي للتغريب وحشد الامة من حول فلسطين، والعمل على نهضتها(175).
يتضح أن «الجهاد» في مواجهتها لسؤال «الشرعية» و«مبرر الوجود» تذكر بدائرة أهدافها الواسعة، والتي تطال قضايا الامة الاسلامية والتحديات المفروضة عليها، ولا تحصر نفسها في حدود المعطى الوطني الخاص، وكما تشير ايضا في موطن آخر الى أن خلافها مع «حماس» هو جوهر خلافها مع حركة الإخوان المسلمين، والذي لا يقتصر على موضوعة الكفاح المسلح(176). وهنا تعود «الجهاد» لتصطف ضمن التيار الاسلامي الثوري، المواجه للتيار الاسلامي التقليدي، في العالمين العربي والإسلامي، مع ما يحملان من خيارات ومناهج متباينة، تجاه وسائل التغيير والدعوة.
ولكن «الجهاد» وضمن التعرض «لمبرر الوجود» في حدود المعطى الوطني الخاص، والمتعلق أكثر ما يكون بالكفاح المسلح، فإنها ومع اعترافها بما حققته «حماس» من فعل نضالي داخل فلسطين إلا أنها تتساءل ردا على من يسأل عن مبرر التعددية الاسلامية، ومن يدعون الى ان تحل حركة الجهاد نسها قائلة: «فإن هي فعلت ذلك فما الذي يضمن ثبات الآخرين على نفس الطريق؟»(177). وهي إشارة الى تخوف «الجهاد» من علاقات «حماس» الإقليمية التي أخذت تتسع، وأثر هذه العلاقات في تحويل «حماس» الى قوة تحت الضبط والسيطرة من قبل هذه الاطراف، وبخاصة العربية منها، كالأردن والسعودية، ودخول «حماس» في التوازنات القائمة، والحسابات التي ستكبح في النهاية اتجاهات العمل العسكري، وتضبطه وفق هذه التوازنات وحساباتها، وهو الأمر الذي أشارت اليه «الجهاد» في العام 1983 عند حديثها عن «الإخوان المسلمين»، واحترامهم اللعبة الدولية، ودخولهم التحالفات، ومسلكهم وعلاقاتهم الليبرالية، إضافة الى القوة المالية والإعلامية والجاه والسطوة، والنفوذ الذي قد يحل كبديل عن الجهاد المتواصل المعتمد على اله وعلى قوة الجماهير المسلمة الواعية(178).
بالرغم من بعض التصريحات التي يطلقها الطرفان عن علاقاتهم الحسنة، واستعدادهم للوحدة والتقارب والعمل المشترك(179)، وبالرغم من تصاعد التنسيق بينهما، على صعيد الانتخابات النقابية في الجامعات وبعض النقابات المهنية، إلا أن العلاقات بينهما ستبقى محددة بالمصلحة الحزبية أو الوطنية لا بالقناعة الأيديولوجية، وبخاصة في ظل ازمة الحركة الاسلامية عموما، مع بعض الاستثناءات التي لم تقبل بعد ـ وبشكل واضح وصريح ـ مشروعية التعددية داخل الإسلام الواحد، وتحديدا التعددية ذات الطابع الاجتماعي والسياسي، وليس التعددية ذات الطابع الفقهي المذهبي.
السلام وخيار المواجهة
دأبت حركة الجهاد الإسلامي على رفض كافة مشاريع التسوية السياسية التي طرحت لحل وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي لأنها تحمل مخاطر عديدة منها180)
– أنها تعمل على تصفية القضية الفلسطينية نهائيا، وتثبت الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين، وتضفي عليه الشرعية القانونية عبر الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود.
– التخلي عن حق شعب فلسطين في كامل فلسطين بحدودها التاريخية.
– التفريط بالقدس، وتعطل إمكانات حشد الامة حول فلسطين.
– ستؤدي الى تقسيم وتجزئة قوى الشعب الفلسطيني، وستؤجج الصراعات الداخلية.
– تتجاهل وتتخلى عن حقوق ومصير ما يزيد عن أربعة ملايين فلسطيني في الشتات.
– تجهض ثورة الشعب الفلسطيني، وتلغي حقه في مقاومة الاحتلال وحقه في تقرير مصيره.
– تعمل على استمرار الاستيطان، وتزيد من خطر التهويد، ومن ضياع القدس.
– تجزىء وحدة الموقف العربي الاسلامي من حول فلسطين، وتأجج الخلافات العربية الفلسطينية، والعربية العربية، والعربية الإسلامية.
– تلغي وجود الامة كأمة عربية إسلامية، لتصبح شيئا آخر فاقد الصلة بهويته «وكينونته الاصلية»
– تجعل من الكيان الإسرائيلي جزءا من نسيج المنطقة، وثقافتها وتكوينها ومقدراتها، وشريك في صنع مستقبلها على حساب الفلسطينيين والأمة. ويتحقق بذلك حلم إسرائيل الكبرى، بمعنى أن اسرائيل التي احتلت فلسطين كقاعدة للوثوب على بقية الامة يجب أن تحتل بقية اجزاء الوطن العربي باعتباره المجال الحيوي للأطماع الصهيونية، وإن لم يكن بالمعنى الجغرافي فبالمعنى الاقتصادي والثقافي.
– إنها مشاريع ستحول الشعب الفلسطيني الى جسر لعبور إسرائيل، ولتوسع المشروع الصهيوني، الى كل العواصم ليفرض كامل هيمنته على المنطقة وعلى الأمة.
إن رفض «الجهاد» لكافة الحلول السلمية لا يقتصر على مخاطره السياسية فحسب بل هو رفض «يقرره منطق التاريخ، كما يفرضه منطق الوطن والاستراتيجيا ومنطق العقل والفكر السياسي السليم»(181). وإضافة لذلك ترى «الجهاد» ان الرفض هو واجب اسلامي يفرضه منطق الاسلام(182) وأن أي صلح أو تفاوض مع اليهود «خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين»(183) و«كل من يدعو له فهو خائن وآثم»(184)، وأن أي عقد أو اتفاق مع إسرائيل ليس إلا عقد باطل وحرام. وإن اقتسام الوطن مع العدو والاعتراف بشرعيته مخالف لأمر الله ولفتاوى علماء المسلمين، التي جعلت من يفعل ذلك في حكم الخارج عن الملة والعقيدة والإسلامية»(185).
ونساجا مع هذا الموقف الشرعي أو ما تعتبره الرفض القائم مع أساس عقائدي(186) دأبت حركة الجهاد على البراءة ـ الى اله من هذه الاتفاقيات(187)، وإنها اتفاقيات لا تلزم الفلسطينيين والمسلمين بشيء. وإن فلسطين «إرث للإسلام والمسلمين كما نص القرآن... والتفريط فيها أو في أي جزء منها تفريط بنص القرآن»(188).
ولا ترى حركة الجهاد في تبدل الظروف الدولية والاقليمية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وبعد حرب الخليج، وما آل اليه الوضع من خلل استراتيجي في ميزان القوى لصالح اسرائيل وأمريكا، سببا كافيا يدفع دعاة السلام الى التوقيع على هذه المعاهدة لأن «الأمة تملك من القوة الكثير، منها المقومات البشرية والإمكانيات المادية، والمواقع الجغرافية... وتملك من الأيديولوجيا الحية والمستقرة، وما علينا سوى ترجمة هذه المقومات واستثمارها في استراتيجية فاعلة»(189).
وكان آخر ما رفضته «الجهاد» من مشاريع السلام اتفاقيات اوسلو، بدءا من اتفاق غزة ـ اريحا وما تبعه من اتفاقيات جزئية في القاهرة وطابا والخليل وبلانتيشن وغيرها. واعتبرتها جميعا اتفاقيات تكرس الاحتلال وتفرط بحقوق الشعب الفلسطيني، وهي اتفاقيات تتجاوز فلسطين لإنشاء شرق أوسط جديد تكون فيه اسرائيل الجزء المركزي المسيطر والمهيمن(190).
واعتبرت حركة الجهاد أن «اي اتفاق يعترف بالكيان الصهيوني ويتنازل عن أي جزء من وطننا المقدس غير شرعي وباطل ومحرم سياسيا ودينيا»(191).
ونشير في هذا السياق الى رفض حركة الجهاد المبكر لمشروع الدولة الفلسطينية الذي أصبح شعارا «وطنيا» وهدفا سياسيا استراتيجيا تسعى له قيادة «م.ت.ف» وسلطة الحكم الذاتي فيما بعد، ويستند هذا الرفض الى معطى تاريخي تركز عليه «الجهاد». وهو أن الدولة القومية المعاصرة ودول التجزئة في العالم الاسلامي التي أنشأت جراء سايكس بيكو «لم تكن نتاجا لتطور سياق تاريخي وعوامل داخلية، بل كانت جزء من مشروع استعماري عربي عالمي، فرضت بالعنف وقوة السلاح وسلمت مقاليدها بشكل صوري قبل وبعد مرحلة الاستعمار المباشرة لنخبة متغربة فرضت سلطتها على الجماهير في معظم الأوقات بالعنف، عنف الدولة العربية وقوتها المركزية الممثلة بأجهزتها وأدواتها القمعية»(192).
ويستند هذا الرفض في المستوى الفلسطيني على مبررات منها: أن «مثل تلك الدولة إن قامت فستنقل المعركة من معركة ضد العدو الى معركة على الساحة الفلسطينية... وأن هذه الدولة لن تتخلى فقط عن بقية فلسطين ان قامت، بل لن تكون ايضا دولة لكل الشعب الفلسطيني في الخارج، أو في داخل المنطقة المحتلة عام 1948... كما أنها لن تكون قادرة على الصمود. إلا في إطار الإلحاق والتبعية والخضوع للقوى الكبرى، بل والصغرى ايضا... ولن تؤدي إلا الى تفجير صراع داخلي أردني ـ فلسطيني... كما أنها سترفع من حدة التوتر على كل مستوى بلاد الشام... وتلك الدولة ستصبح جسرا حقيقيا لتوسع المشروع الصهيوني الحضاري والثقافي والاقتصادي نحو كل المنطقة العربية، بل والعالم الإسلامي بأجمعه»(193).
ومازال مشروع الدولة الفلسطينية مرفوضا من قبل حركة الجهاد الى الآن لجملة الأسباب والمبررات المتقدمة، ولما طرأ على واقع القضية الفلسطينية بعد إقامة سلطة الحكم الذاتي، واختلال موازين القوى بشكل حاد لصالح إسرائيل.
حركة الجهاد والسلطة الفلسطينية
لم يكن التحدي الذي فرضته «م.ت.ف» ومشروعها الوطني على حركة الجهاد في الموقف والعلاقة، بحجم وثقل التحدي الذي فرضته سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني التي أقيمت في قطاع غزة والضفة الغربية. إذ كانت إجابة «الجهاد» في مستوى الخطاب والموقف السياسي وما رافقهما من عمل نضالي كافيا فيما يبدو للتعامل مع هذا التحدي. أما مسألة شرعية التمثيل الفلسطيني التي امتلكتها «م.ت.ف» إنها لم تشكل مأزقا حقيقيا «للجهاد» التي لم تكن لها علاقات تذكر مع الأنظمة العربية أو القوى الدولية، فضلا أنها كانت تسقط هذه الاطراف من حساباتها وبرامجها باعتبارها قوى معادية في المرحلة الأولى. أما علاقة «الجهاد» مع فصائل المنظمة داخل فلسطين فكانت علاقة جيدة لما تمتعت به «الجهاد» من براغماتية في العلاقات فرضتها الشراكة النضالية مع قوى المعارضة، وانحصار راديكالية خطابها الأيديولوجي تجاه الاحتلال فقط.
ولكن التحدي الجديد الذي بدأ مع تحول قيادات وكوادر القطاع المركزي الرئيسي في المشروع الوطني الى داخل فلسطين اثر توقيع اتفاقيات أوسلو، وإقامة سلطة الحكم الإداري الذاتي الفلسطيني. لم تكن تكف معه الإجابات والمواقف القديمة. فقد كان التحدي يأخذ طابعا مختلفا تماما، انه تحدي الواقع بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأصبحت حركة الجهاد والحركة الاسلامية عموما أما مواقع مختلف تماما لم تمر به القضية الفلسطينية منذ بداياتها. فبعد ان كانت سلطة الاحتلال الإسرائيلي هي السلطة الوحيدة داخل الحدود التاريخية لفلسطين، أصبحت هناك سلطتان، سلطة الاحتلال، وسلطة يقوم عليها فلسطينيون يتحدثون باسم الشعب ويدعون تمثيله.
وترجع طبيعة وخصوصية هذا التحدي الذي فرض على «الجهاد» الى أن الخطاب الديني الذي تم التأسيس عليه هو خطاب في مواجهة احتلال إسرائيلي فقط، ولم يكن خطاب موجه لسلطة أشبه ما تكون بسلطة النظم العربية.
كما أن الوجود الرئيسي لحركة الجهاد وجسمها المركزي كان داخل فلسطين ولم يكن خارجها (كمعظم فصائل المعارضة الفلسطينية)، الأمر الذي وضع حركة الجهاد ميدانيا وجها لوجه أمام ما انتهى اليه المشروع الوطني من اقامة سلطة حكم ذاتي، وليس في المستوى السياسي فحسب، بل شراكة مجتمعية على كافة المستويات.
فكيف تعاملت حركة الجهاد مع هذه السلطة وهل استطاعت ان تجترح إجابة على ولادة هذه السلطة وأن تخرج من مأزق مواجهة الاحتلال وقطيعة السلطة؟.
رفضت «الجهاد» منذ البداية السلطة الوطنية الفلسطينية والتعامل معها أو الاعتراف بمشروعيتها، لرفضها كما تقدم لكل ما تمخضت عنه اتفاقيات اوسلو والاتفاقيات التي تلتها وتحت أية ذريعة أو حجة(194).
وأكدت انها لن تقبل بأي سلطة كانت ولو «سلطة وطنية» على أي جزء من فلسطين «طالما انها تعترف للعدو بشرعية وجوده في جزئها الباقي»(195). وذهب عبد الله الزق (احد مبعدي «الجهاد» الى مرج الزهور) ان السلطة لا تمثل الشعب الفلسطيني بل تمثل اجتهادا سياسيا لفصيل محدد(196). وكانت «الجهاد» قد حذرت من قدوم عرفات الى غزة، مذكرة بالمصير الذي لقاه السادات بعد توقيع اتفاقية «كامب ديفيد»، وانه بما وقعه من اتفاقيات يسير في الطريق ذاته وقد يجد المصير نفسه «على يد أشراف من الأمة»(197).
بعد قيا السلطة كان خطاب «الجهاد» يركز على البعد الأمني الذي تقوم به سلطة الحكم الذاتي وإنها تحولت الى «ذراع أمني لليهود تبذل كل الجهد لحفظ أمن الاحتلال والاستيطان على حساب شعبنا وأمته»(198) و«أنها أصبحت أداة بيد الاحتلال لا هم لها سوى ملاحقة المجاهدين ومنعهم بكل الوسائل من مقاومتهم للاحتلال»(199).
وكانت حركة الجهاد من أولى قوى المعارضة التي تمت ملاحقتها واعتقال عناصرها من قبل السلطة الفلسطينية، بل اتهمت «الجهاد» السلطة بأنها ساهمت في اغتيال أحد زعماء جناحها العسكري «قسم» هاني عابد، بعدما غفلت عن عملاء الاحتلال وسهلت لهم تحركاتهم.
وانطلاقا من هذا الموقف من السلطة فقد رفضت «الجهاد» الدخول في أية ترتيبات تنجم عن اتفاق أوسلو، ورفضت أية مشاركة في السلطة سواء في «الهيئات» والتشكيلات الوزارية، أو المجلس التشريعي التي جرت انتخاباته بعد قدوم السلطة لأنها انتخابات «تقوم على تشكيل هيئة تنفيذ اتفاق اوسلو» الذي تعتبره باطلا، وبالتالي فإن اعلان مقاومة الاتفاق لا تنسجم مع إمكانية المشاركة في الانتخابات ضمن سياق اتفاق أوسلو.
ورفضت «الجهاد» الدخول في أي حوار سياسي مع سلطة الحكم الذاتي لأنه «لا جدوى من قيام حوار سياسي». وقبلت ـ بحكم الواقع ـ بإجراء حوارات ميدانية للحيلولة دون الصدام مع السلطة، مع نفيها لأية صفة سياسية لهذه اللقاءات الميدانية(200).
كما رفضت «الجهاد» تشكيل حزب سياسي كبقية الفصائل الموجودة داخل الأراضي المحتلة معتبرة أن الحزب يلزمه سيادة وطنية وهو أمر غير موجود، وهي ـ بدعواها ـ لا تريد أن تعطي انطباعا انه يمكن استيعابها سياسيا(201).
عدم إقرار الجهاد بشرعية سلطة الحكم الذاتي، واستمرار عملياتها المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي ونضالها السياسي ضد السلطة، ورفضها للحوار السياسي معها، ومقاطعتها لجميع لقاءات الحوار الوطني التي دعا لها عرفات، ورفضها المشاركة في اجتماعات المجلس الوطني الذي ألغى الميثاق، ورفضها تلبية الدعوة لحضور اجتماعات المجلس المركزي الذي عقد للبحث في موضوع الدولة، كل هذه المواقف جعلت من «الجهاد» أكثر الفصائل المعارضة تشدا في موقفها من السلطة، الأمر الذي أدى الى مواجهات سياسية وأمنية متكررة ومستمرة مع سلط الحكم الذاتي التي قامت على الدوام وبين فترات مختلفة باعتقالات في صفوف «الجهاد» بعد كل عملية عسكرية ضد إسرائيل، كما قامت بإغلاق المؤسسات التابعة «للجهاد»، ومنع أنشطتها في المساجد، وقيادة حملة إعلامية ضدها على قاعدة اتهامها بالتمول المالي والسياسي من دول خارجية كإيران وسوريا.
واستمر نهج القطيعة تجاه سلطة الحكم الذاتي التي بادلت هذا النهج بالقمع والمطاردة والتضييق، في حين كان حصار السلطة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية يزداد على التحركات العسكرية «للجهاد» الأمر الذي ترك أثره على عملها المسلح تجاه الاحتلال الإسرائيلي ليتراجع بشكل ملحوظ بعد أن تصاعد بشكل كبير بعد توقيع اتفاقية أوسلو.
الجهاد المسلح، الخيار الاستراتيجي
في مواجهة مشاريع السلام طرحت حركة الجهاد خيار الجهاد المسلح كطريق وحيد نحو الحرية والاستقلال والوحدة والنهضة. وطرحت قضية الجهاد كقضية مركزية «في كل استراتيجية إسلامية طامحة الى جعل كلمة الله هي العليا في حكم الأمة وفي مختلف شؤون حياتها»(202).
وبنت «الجهاد» موقفها وخيارها هذا وفق التصور الديني الذي يعتبر الجهاد في حالة فلسطين في حكم «فرض العين» الواجب أدائه على كل مسلم، و«أن من لا يمارس هذا الجهاد المقدس ولا يدعمه ولا يفكر فيه مات ميتة جاهلية أو على شعبة من النفاق... وأن القعود عن الجهاد بدافع الخوف على لقمة العيش مناف لعقيدة الإيمان»(203).
وكررت «الجهاد» دوما تأكيدها على نهج الكفاح المسلح كخيار استراتيجي ووحيد في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي (204)، ذلك أن هذا الاحتلال قام على العنف والإرهاب، وغطرسة القوة وانه «لا يفهم سوى لغة القوة والجهاد المقدس»(205)، كما أن هذا الخيار الاستراتيجي هو الكفيل بإسقاط مشاريع «الاستسلام»(206) وتفجير طاقات الأمة وحشدها نحو المعركة الفاصلة في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس(207).
وعملا بهذا النهج واصلت حركة الجهاد نشاطها العسكري فبلغت عدد عملياتها العسكرية التي نفذت ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 1984 حتى العام 1999 قرابة 196 عملية عسكرية(208). وكما يوضح جدول العمليات أن مجموع العمليات التي نفذت داخل قطاع غزة بلغت 57% من مجموع العمليات، الأمر الذي يشير الى مناطق الانتشار الأساسية «للجهاد» وفاعلية جهازها العسكرية. كما أن 70% من العمليات نفذت داخل المناطق المحتلة منذ العام 1967(209)، الامر الذي يعزى الى سهولة التنقل والحركة (وذلك قبل إقامة سلطة الحكم الذاتي) داخل الضفة والقطاع مع صعوبة اختراق الاحتياطات الأمنية الإسرائيلية والدخول للمناطق المحتلة منذ العام 1948، فضلا عما يكلف الحركة من شهداء لصعوبة انسجامهم، بخلاف ما عليه الأمر في مناطق الوجود الفلسطيني.
وإذا نظرنا الى طبيعة ونوع العمليات التي نفذت، نلاحظ أن العمليات تزداد كلما كان تنفيذها أيسر، وتقل مع صعوبة التنفيذ، ففي حين تبلغ عمليات اطلاق النار 39% من مجموع العمليات، لا تتجاوز عمليات الخطف والقتل الـ1%.
كما يلاحظ أن العمليات «الإستشهادية» تم اعتمادها منذ العام 1993، وقد بلغت هذه العمليات الاستشهادية ذات الطابع الاقتحامي الذي يحمل فيها المقتحم حزاما ناسفا ويجر نفسه، عشر عمليات(5% من مجموع العمليات العسكرية)، كانت أخطرها وأهمها العملية المزدوجة التي نفذها الإستشهاديان صلاح شاكر، وأنور سكر في محطة باصات للجنود الإسرائيليين في بيت ليد، وأودت بحياة 22 إسرائيليا وجرح أكثر من 75 وجميعهم من الجنود.
ونفذت جميع العمليات منذ منتصف العام1993 تحت إشراف القوى الإسلامية المجاهدة (قسم). وهو الاسم الذي اختاره الجناح العسكري لحركة الجهاد، بعد ان كان ينفذ عملياته تحت اسماء مختلفة منها «كتائب سيف الإسلام»، و«عشاق الشهادة» و«مجموعة شهداء الشجاعية» و«شهداء فلسطين»
تعليق