أ.نافذ ابو حسنة .
ليست المرة الأولى التي يعلن فيها السيد خالد مشعل، تأييده لحل الدولتين وفي حدود العام 1967،
سبق لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس، أن كرر موقفاً يؤيد فيه قيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967،
وعاصمتها القدس، وقد تبعه في ذلك غالب خطاب حركة حماس،
والذي لم يعد منذ وقت طويل يشتمل على تلك العبارات القوية التي سادت في التسعينيات، وهي تتحدث عن فلسطين "كأرض وقف إسلامي"
كل فلسطين طبعاً، أو تعيد صوغ العبارة الشهيرة للحركة الوطنية الفلسطينية في شبابها: "فلسطين من البحر إلى النهر، ومن الناقورة إلى رفح"،
ومثلما تراجعت غالبية فصائل الحركة الوطنية عن عبارتها، واستبدلتها بعبارة ملتبسة وزائفة، هي "المشروع الوطني الفلسطيني"،
احتاجت غالبية قيادة حماس إلى وقت أقل، كي تصبح متبنية بشكل شبه كامل لما يسمى المشروع الوطني، والذي يعني بصراحة،
دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس (أو في القدس إن شئنا دقة كاملة).
الإنجاز.. والخوف
ما يميز خطاب مشعل (المكرر) أنه جاء في أعقاب المواجهة الأخيرة في قطاع غزة، والتي انتهت بتسجيل إنجاز نوعي للمقاومة الفلسطينية،
ثمة في التوقيت ما يثير مخاوف وتساؤلات، منذ عام 1973، والخوف من الإنجاز، يفوق الخوف من الهزيمة، بعد الإنجاز في حرب تشرين،
جاء البرنامج المرحلي الذي أسس للموافقة اللاحقة على حل الدولتين، والتنازل عن الحق في كل فلسطين،
فيما بعد جرى كشف النقاب عن مفهوم "حرب التحريك"، الذي عمل عليه الرئيس المصري في حينه أنور السادات، التحريك عنى شن حرب محدودة،
يتم الانتقال في نهايتها من الخنادق إلى طاولات التفاوض مباشرة، لم يشأ الفلسطينيون البقاء خارج المعادلة، تحدثوا عن الخشية من أن يفوتهم قطار التسوية، فقفزوا إليه من خلال برنامج النقاط العشر، أو ما عرف لاحقاً بالبرنامج المرحلي، قيل لهم: لن تستطيعوا المشاركة في التسوية،
وأنتم تتحدثون عن تحرير كل فلسطين، وافقوا على جوهر القرار 242 دون إعلان الموافقة عليه مباشرة، والمشاركة مضمونة، بل والدولة أيضاً.
جرى إنتاج البرنامج المرحلي، جوهره هو الموافقة على القرار الدولي 242، لكن من الناحية العملية،
كان على الفلسطينيين انتظار مرور نحو عشرين عاماً أخرى، للمشاركة ليس في المؤتمر الدولي الذي انعقد بعد حرب تشرين،
ولكن في مؤتمر مدريد 1991 الذي أعقب الحرب على العراق،
وبوصفهم جزءاً من الوفد الأردني، وليس كوفد فلسطيني، يمثل الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، أي منظمة التحرير الفلسطينية،
هنا كان يتم البناء مجدداً على منجز آخر، هو الانتفاضة الشعبية الفلسطينية، لم تنتج عن المؤتمر "دولة"، وفيما الوفد يفاوض في ثنائيات واشنطن، ذهبت المنظمة في سراديب سرية لتعقد اتفاق أوسلو عام 1993، وعلى أمل أن ينتج الاتفاق "دولة" لم تأت حتى الآن،
أي بعد عشرين سنة أخرى من التفاوض، والانقسامات والمرارات الكثيرة.
ما أعقب حرب تشرين، كان اللحظة التأسيسية للتنازل عن حقنا الكامل في فلسطين، والوصول إلى مرحلة البحث عن نيل عضوية غير كاملة في الأمم المتحدة، لشبه دولة ممزقة الأوصال وغير قائمة من الناحية العملية، ويسمى كل هذا بالمشروع الوطني الفلسطيني.
استعراض هذا المسار يوجد مبرراً كافياً للخوف من قيام كتلة فلسطينية أخرى بسلوك الطريق المفضي إلى الخراب ذاته،
في حين أن المتوقع هو البناء على الإنجاز لا المسارعة إلى الاستثمار البائس فيه، وبرصيد غير كاف.
معركة غزة
معركة غزة ليست حرب تشرين، ولا هي الانتفاضة الشعبية الفلسطينية، هي جولة صغيرة من المواجهة، وإن بإنجاز متميز، يتمثل في كسر المعادلة التقليدية،
المعادلة الجديدة هي: صواريخ غزة تطال تل أبيب، في كواليس كثيرة أريد لنتائج هذه الجولة أن تكون نتائج حرب حاسمة، هذا مبرر كبير للخوف من التصريحات التي أدلى بها مشعل، بكلمات محددة: الخوف من أن يندرج الرجل في ركب الساعين إلى تحويل نتائج الجولة، إلى نتائج حرب تبنى عليها رؤى سياسية جديدة، هناك ما يجعل مبررات الخوف حاضرة بقوة: يتم تداول أخبار عن قيام حكومة حماس بنشر أفراد من شرطتها على الخط الفاصل بين غزة وبين الأراضي المحتلة عام 1948، لضمان تنفيذ اتفاق التهدئة، شيء يذكر بالتنسيق الأمني البغيض، وأيضاً حديث عن وفد من حكومة غزة توجه إلى مصر لبحث تنفيذ بنود اتفاق التهدئة حول المعابر، وإلى ذلك، الإفراط في كيل الشكر "لمحور النعاج"
والتردد في شكر صانعي النصر، وإنكار قوى أساسية منهم، حتى ليتخيل المرء أن الصواريخ التي ضربت تل أبيب هبطت من السماء،
ولم تأت في مسار معروف كلف شهداء ومعتقلين ومعاناة كبيرة، ( أين سورية وحزب الله؟) عنى كل هذا تنكراً لمحور المقاومة بمكوناته المعروفة والمحددة،
تحويل فتح المعبر إلى جزء من الاتفاق، وهو مجرد إجراء يمكن أن تقوم به الحكومة المصرية منفردة، لتسهل حركة الأشخاص والبضائع بين مصر وغزة.
تفوح من كل هذه الوقائع رائحة كريهة، وتجعل من المنطقي الربط بين تصريحات مكررة عن القبول بدولة في حدود 1967، وبين اتفاق التهدئة، أكثر من ذلك،
فإن المسار التقليدي الهابط، لكل تنازل عن الحقوق، يفتح على بوابات كارثة أكبر.
في جلسة نقاش تعود إلى ما بعد انسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة، طرحت نقطة في غاية الأهمية، هناك من قال متسائلاً: الضفة حررت غزة،
وما يريده الاحتلال الآن هو الفصل بين غزة والضفة، ما الدور الذي يتوجب على غزة القيام به الآن لتحرير الضفة؟ قدم المتسائل نفسه مقاربة تقول: يجب ضرب الاحتلال على كل تعد يقوم به على الضفة، مثلما سيجري الرد على كل تعد يقوم به على غزة، وطرح آخرون مقاربات حول كيفية تحويل غزة المحررة إلى قاعدة لتحرير كل فلسطين.
جرى تطبيق جزئي ومحدود للمقاربة الأولى، اجتاح العدو إحدى قرى الضفة، واغتال مقاومين، فأطلقت الصواريخ من غزة على مواقع للاحتلال،
وقيل إن هذا القصف يأتي رداً على الاجتياح والقتل الذي قام به العدو في الضفة، كانت الصواريخ بدائية وقليلة التأثير آنذاك، لكن المعنى الذي حملته كان هائلاً،
كانت تلك الصواريخ تقول: إن معركة المقاومة واحدة ومستمرة، وخروج الاحتلال من غزة لا يعني أبداً خروج غزة من دورها في الصراع ضد الاحتلال، ومشروع العدو في فصل غزة عن الضفة لن يعرف النجاح.
لم تتكرر تلك الصواريخ كثيراً، وتسارعت التطورات وصولاً إلى الانقسام الذي أوجد كيانين وهميين منفصلين عن بعضهما البعض، وبدا كأن لكل منهما مساراً مختلفاً عن الآخر،
ومشروعاً مختلفاً أيضاً، ومن الوقائع المحزنة، أن الرابطة بينهما صارت رابطة تضامنية، في معركة 2008 - 2009 خرجت مظاهرات خجولة في الضفة رفضاً للعدوان على غزة، ولكن من المهم أن نشير إلى أنه في المواجهة الأخيرة سقط شهداء في الضفة "تضامناً" لا بل مشاركة لغزة التي هزت صواريخها تل أبيب، (لعل هذا ما سرع في تراجع الاحتلال)،
هذا يعني أن الفصل مرفوض، ويعني أيضاً أن ممارسة جدية وحقيقية للمقاومة قادرة على كسر آلية خلق الفلسطيني الجديد التي ابتكرها دايتون/فياض في الضفة،
وهذا مجال حديث آخر.
يتبع المقال ،،
تعليق