فلسطين وتجليات الغياب
خيري منصور
ليس الفارق الوحيد بين هذه المتوالية من الثورات الشعبية وما سبقها قبل عقود عدة، هو أن الجيش لم يقم بها بل اقتفى خطاها وأحياناً حاول استثمارها سياسياً أو اقتسام منجزها، فثمة فوارق أخرى، منها أن هذه الثورات بلا رؤوس محددة أو قيادات معروفة الأسماء والمواقع، ومنها أيضاً أن مسلسل الانقلابات والثورات المتعاقبة في عقدي الستينات والخمسينات من القرن الماضي كانت فلسطين هي شعارها المتكرر وبطل بياناتها العسكرية الأولى وفي الصميم من مبرراتها .
وقد تبدو فلسطين لأول وهلة غائبة عن الثورات الحفيدة التي اختلفت كثيراً عن جداتها أو أمهاتها، لكن هذا الغياب اللفظي ينوب عنه، بل يعوضه حضور جوهري في العمق، نعرف أن حصيلة تلك الانقلابات انتهت إلى هزيمة كبرى، وأن بعضها نكل بالشعوب وهمشها بعد أن هشمها مستخدماً فلسطين ذريعة، حيث لا صوت يعلو على صوت المعركة من أجل التحرير، وأبسط البديهيات السيكولوجية أن من يحب شخصاً لا يتفرغ تماماً ليكرر أمامه على مدار الساعة أنه يحبه، بل يفعل كل ما من شأنه أن يعطي لهذا الحب معنى ويحصنه ويصونه من عوامل الفرقة والهجران .
إن غياب الاسم أحياناً لا يلغي وجود المسمى في صلب الحراك، لأن وطناً عربياً بمختلف مكوناته وعناصره السياسية والديمغرافية والثقافية هو قوة فاعلة، وحين تكون حصيلة هذه المكونات مجرد حزمة من الشعارات الممنوعة من الصرف، فإن المسألة تصبح بلاغة سياسية بلا محتوى .
ما غاب عن أكثرنا طيلة العقود الماضية هو أن تحرير الإنسان الذي يسبق تحرير التراب ويمهد له هو إنجاز يتصدر الأولويات كلها، ولو سعت النظم السياسية الرسمية إلى تحرير هذا الإنسان وشحذ إرادته واستدعاء احتياطاته، لكان الأمر مختلفاً، لكن نظرية استعباد الناس من أجل تحريرهم تحولت إلى كوميديا، منذ تلك اللحظة التي قال فيها ضابط أمريكي لأحد المجندين تحت إمرته في فيتنام إنه يبيد القرى لحماية أهلها، لكن المجند بما تيسر لديه من خيال أدرك على الفور أن هذه الأحجية لا تقبل التفكيك والحل، وانتهى به الأمر إلى التمرد وإعلان العصيان، ثم واجه مصيره المحتم في حالات كهذه، لقد اتضح بالخبرة وتكرار المرارات والإحباطات في النطاق القومي كله، أن الكلام ليس بديلاً لأدنى الأفعال، وأنه لا ينافسها على الإطلاق عندما يتعلق الأمر بمصائر شعوب وأوطان، وإذا كانت شعارات الانقلابات السابقة مكرسة في غالبيتها لفلسطين وتحريرها، فإن شعارات الثورات الحفيدة ليست كذلك، إن ثالوثها شبه المقدس هو الحرية والرغيف والعدل، وإذا استطاع عرب هذا القرن أن يحققوا هذا الثالوث، فإن معنى ذلك ببساطة أن فلسطين في القلب من هذا الحراك، لأن الضعفاء والرهائن والثرثارين لا يحررون أوطاناً، وهذا ما كان الإغريق القدماء ينقشونه على شواهد قبور محاربيهم، وهو أن العبيد لا يحررون إلا إذا تحرروا أولاً .
كم هي غزيرة الدلالة والمغزى العابر للأجيال والأزمنة، تلك العبارة التي قالها عنترة العبسي لأبيه شداد، قبل أن يعترف بأنه ابنه، وهي: أنا عبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلب والصر، وحين قال الأب لابنه “كر وأنت حر” فعل ما فعل بغزاة قبيلته .
هذه الشعوب لن تكسر إلا إذا تحررت، وهي إذ تنهمك الآن في إنجاز حريتها، إنما تقترب من فلسطين ومن كل ما هو محتل من هذا التراب العربي، سواء ذكرتها بالاسم الصريح أو حولتها إلى اسم حركي للحرية .
خيري منصور
ليس الفارق الوحيد بين هذه المتوالية من الثورات الشعبية وما سبقها قبل عقود عدة، هو أن الجيش لم يقم بها بل اقتفى خطاها وأحياناً حاول استثمارها سياسياً أو اقتسام منجزها، فثمة فوارق أخرى، منها أن هذه الثورات بلا رؤوس محددة أو قيادات معروفة الأسماء والمواقع، ومنها أيضاً أن مسلسل الانقلابات والثورات المتعاقبة في عقدي الستينات والخمسينات من القرن الماضي كانت فلسطين هي شعارها المتكرر وبطل بياناتها العسكرية الأولى وفي الصميم من مبرراتها .
وقد تبدو فلسطين لأول وهلة غائبة عن الثورات الحفيدة التي اختلفت كثيراً عن جداتها أو أمهاتها، لكن هذا الغياب اللفظي ينوب عنه، بل يعوضه حضور جوهري في العمق، نعرف أن حصيلة تلك الانقلابات انتهت إلى هزيمة كبرى، وأن بعضها نكل بالشعوب وهمشها بعد أن هشمها مستخدماً فلسطين ذريعة، حيث لا صوت يعلو على صوت المعركة من أجل التحرير، وأبسط البديهيات السيكولوجية أن من يحب شخصاً لا يتفرغ تماماً ليكرر أمامه على مدار الساعة أنه يحبه، بل يفعل كل ما من شأنه أن يعطي لهذا الحب معنى ويحصنه ويصونه من عوامل الفرقة والهجران .
إن غياب الاسم أحياناً لا يلغي وجود المسمى في صلب الحراك، لأن وطناً عربياً بمختلف مكوناته وعناصره السياسية والديمغرافية والثقافية هو قوة فاعلة، وحين تكون حصيلة هذه المكونات مجرد حزمة من الشعارات الممنوعة من الصرف، فإن المسألة تصبح بلاغة سياسية بلا محتوى .
ما غاب عن أكثرنا طيلة العقود الماضية هو أن تحرير الإنسان الذي يسبق تحرير التراب ويمهد له هو إنجاز يتصدر الأولويات كلها، ولو سعت النظم السياسية الرسمية إلى تحرير هذا الإنسان وشحذ إرادته واستدعاء احتياطاته، لكان الأمر مختلفاً، لكن نظرية استعباد الناس من أجل تحريرهم تحولت إلى كوميديا، منذ تلك اللحظة التي قال فيها ضابط أمريكي لأحد المجندين تحت إمرته في فيتنام إنه يبيد القرى لحماية أهلها، لكن المجند بما تيسر لديه من خيال أدرك على الفور أن هذه الأحجية لا تقبل التفكيك والحل، وانتهى به الأمر إلى التمرد وإعلان العصيان، ثم واجه مصيره المحتم في حالات كهذه، لقد اتضح بالخبرة وتكرار المرارات والإحباطات في النطاق القومي كله، أن الكلام ليس بديلاً لأدنى الأفعال، وأنه لا ينافسها على الإطلاق عندما يتعلق الأمر بمصائر شعوب وأوطان، وإذا كانت شعارات الانقلابات السابقة مكرسة في غالبيتها لفلسطين وتحريرها، فإن شعارات الثورات الحفيدة ليست كذلك، إن ثالوثها شبه المقدس هو الحرية والرغيف والعدل، وإذا استطاع عرب هذا القرن أن يحققوا هذا الثالوث، فإن معنى ذلك ببساطة أن فلسطين في القلب من هذا الحراك، لأن الضعفاء والرهائن والثرثارين لا يحررون أوطاناً، وهذا ما كان الإغريق القدماء ينقشونه على شواهد قبور محاربيهم، وهو أن العبيد لا يحررون إلا إذا تحرروا أولاً .
كم هي غزيرة الدلالة والمغزى العابر للأجيال والأزمنة، تلك العبارة التي قالها عنترة العبسي لأبيه شداد، قبل أن يعترف بأنه ابنه، وهي: أنا عبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلب والصر، وحين قال الأب لابنه “كر وأنت حر” فعل ما فعل بغزاة قبيلته .
هذه الشعوب لن تكسر إلا إذا تحررت، وهي إذ تنهمك الآن في إنجاز حريتها، إنما تقترب من فلسطين ومن كل ما هو محتل من هذا التراب العربي، سواء ذكرتها بالاسم الصريح أو حولتها إلى اسم حركي للحرية .
تعليق