صراخ "اسرائيلي" وتهويل... حقائق "الضربة" الإسرائيلية لإيران
فجأة، وبلا مقدمات، انشغلت "اسرائيل" بالموضوع النووي الايراني، و"قرار" الضربة العسكرية الاسرائيلية لايران. تنامى الانشغال في "قرار الضربة" من عدمه، حتى كاد ان يكون الانشغال الوحيد في تل ابيب، سواء لدى السياسيين او العسكريين او وسائل الاعلام على مختلف انواعها، ولم يبق اي من الخبراء والمحللين، وعدد كبير من السياسيين، الا وأدلى بدلوه: مع قرار الضربة او ضده.
المشهد من تل ابيب، يراد منه الاشارة الى الآتي: يوجد في "اسرائيل" خلاف حاد، بين المؤسسة السياسية بقيادة رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ووزير حربه، ايهود باراك، وبين مسؤولي الاجهزة الامنية والعسكرية، حيال توجيه ضربة عسكرية اسرائيلية للمنشآت النووية الايرانية. الثنائي نتنياهو ـ باراك، يؤيدان الضربة ويدفعان اليها، بل ويعملان على توفير إمكاناتها، من خلال محاولة تعيين مؤيدين لطروحاتهم، في مناصب حساسة في الاجهزة الامنية والعسكرية، الامر الذي يسهل عليهم مهمة اخراجها الى حيز التنفيذ. في المقابل، يقف مسؤولو الاجهزة الامنية سدا امام الثنائي، ويرفضون رفضا مطلقا "قرارا جنونيا قد يدخل اسرائيل في حرب تجر اثمانا لا تقوى عليها".
ايضا في اطار توصيف المشهد، الى جانب الاجهزة الامنية والعسكرية، يقف عدد من السياسيين، وتحديدا محفل الوزراء الثمانية (المحفل غير الرسمي المناط به القرارات الاساسية)، سدا امام توجهات نتنياهو ـ باراك، لكن يُعمل على معالجة هؤلاء، من قبل الثنائي، بأساليب الترغيب والترهيب ولعبة السياسة الداخلية الاسرائيلية.. وبالتالي ما زالت الامور غير واضحة لجهة القرار السياسي الخالص، بمعنى ان السياسيين، اصحاب القرار في تل ابيب، مختلفون بدورهم حول قرار الضربة من عدمها.
وأيضا في اطار التوصيف، يراد اظهار "الحقيقة" الآتية: ان الولايات المتحدة، وايضا عواصم اوروبية، تسعى الى منع اخراج الضربة الاسرائيلية لايران الى حيز التنفيذ، وتطلب هذه الجهات من تل ابيب ان تتريث وعدم الاقدام على خطوات احادية الجانب، لان المسارات الاخرى البديلة عن الخيارات العسكرية، لم تستنفد بعد، وبالتالي يجب تنسيق الجهود والعمل على التعاون والمؤازرة في سياق قرارات تخرج عن المجتمع الدولي.
ويمكن للمتابع ان يلاحظ دون كثير من جهد، ان الموضوع الايراني، وقرار الضربة والسجال والخلاف حوله، بات شغل اسرائيل بلا منازع. تحتل المسألة منذ اكثر من اسبوع، النشرات الاخبارية في قنوات التلفزة، وترحّل كل موضوع اخر الى زاوية هامشية في اهتمام المراسلين والمعلقين، بينما يحتل هذا السجال عناوين الصفحات الاولى في وسائل الاعلام الورقية. وللدلالة، كل البرامج السياسية في وسائل الاعلام المرئية والمسموعة، على سبيل المثال، تركز على مسألة، قد تكون وحيدة خلال المقابلات والتقارير: الموضوع الايراني، وضربة اسرائيل، المختلف عليها، ضد ايران.
ما هي حقيقة "قرار الضربة"، واستهدافاتها؟ بل بشكل اصح، ما هي حقيقة اثارة الخلاف حول الضربة؟ هو سؤال يشغل المتابعين، بالتأكيد.
بالطبع، لا يمكن الاجابة عن السؤال، الا بعد ايضاح جملة من المقدمات الضرورية، المرتبطة بهذه المرحلة والمراحل المقبلة، حيال إمكانات اسرائيل وقدراتها، وظروفها ودوافعها، وايضا الفرصة المناسبة لجهة التوقيت، التي تتيح اخراج الفعل الى حيز التنفيذ، على فرض وجوده. وقبل الحديث عن قرار الضربة، يتوجب الحديث عن إمكاناتها الفعلية، ومن ثم الحديث عن سجالاتها الداخلية، بين مؤيد ومعارض، بما يرتبط بالثمن المتوجب تلقيه قياسا بالنتيجة الممكن تحقيقها.
للوصول الى نتيجة، يتوجب قبلا، الاجابة عن السؤال الآتي: ما السبب الذي منع "اسرائيل" حتى الان، رغم كل ما لديها من دوافع وحوافز في السنوات الماضية، من توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الايرانية، علما ان الوقت، لجهة الضربة وإمكاناتها، يضيق ويتقلص لمصلحة الموقف الايراني، الذي يأخذ مزيدا من التحكم والقدرة على الرد الموجع ضد "اسرائيل". معنى السؤال، هو البحث عن طبيعة العوائق التي منعت اسرائيل من توجيه الضربة، رغم انها ضرورة لها، قياسا بدوافعها المرتفعة..
ولا يجب ان يقع المتابع في خطأ، يراد له اسرائيليا ان يقع فيه. المقاربة يجب ان تكون اولا، لامكانات الضربة، قبل ان تكون لقرارها او لتوقيتها.
الخطر الايراني، بإقرار "اسرائيل" نفسها، خطر وجودي، اي ان وصول ايران الى القدرة النووية، سيعني اطباقا على "اسرائيل" من كل الجهات وتقلص هامش المناورة لديها حتى حدودها الدنيا وغير المسبوقة، ليس تجاه ايران النووية وحسب، بل ايضا تجاه كل قوس التهديد الموجه اليها في المنطقة.. من لحظة تحول ايران الى دولة نووية، ستفقد "اسرائيل" اوراق الضغط لديها، وتفقد القدرة على التحرك ضد اعدائها، بالشكل والقوة والمستوى المعتادة عليه منذ قيامها.
معنى ذلك، ان الخطر النووي الايراني مركّب: خطر ايراني مباشر، هو تهديد وجودي. ولا يمكن من تلك اللحظة ان تتحرك "اسرائيل" ضد ايران. في نفس الوقت، تتقلص قدرة "اسرائيل" امام اعدائها، لانها ستكون معنية في ردودها او في مبادراتها الاعتدائية، ان تحسب حسابا لإمكان تدحرج الرد والرد المقابل نحو مواجهة، مع امكانيات مرتفعة ان تتدخل ايران في المواجهة نفسها، وصولا الى محظور النووي. وهذا هو الواقع الذي كان يحكم العلاقات في السابق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، الذي منع الحروب بينهما، بل ومنع تفاقم المواجهات الفرعية الى حدود يرفضها الطرفين.
"اسرائيل"، معنية، وبلا جدال بمنع ايران من الوصول الى القدرة النووية، ولا خلاف في ذلك. لا خلاف ان اياً من المسؤولين الاسرائيليين، سواء في المستوى السياسي او الامني، يتمنى ان يستفيق في اليوم التالي، ولا يجد ايران على الخريطة. هذا واقع ومنتهى مطلوب لا ينكره احد.. لان خطر ايران، بات خطرا وجوديا، وإنهاءً فعليا لهامش المناورة الاسرائيلية تجاه اعدائها.
اذا، بعبارات اخرى، لا يوجد احد في "اسرائيل"، يرفض انهاء البرنامج النووي الايراني، بأي اسلوب كان، ومنه العسكري بطبيعة الحال. ما يعني ان الخلاف، إن كان هناك خلاف، لا يتعلق بأصل النية والرغبة، بل ايضا ليس بتوقيت وأصل القرار، بل بوجود او عدم وجود القدرات العملية على اخراج الضربة الى حيز التنفيذ.. والا لا معنى، كيفما اتفق التحليل، على الخلاف.
يقود ذلك الى ان الفعل الاسرائيلي مرتبط بحقائق ثلاث، مرتبطة بسلّم اولويات فيما بينها، واذا ما تحققت كلها، لا خلاف ان الفعل الاسرائيلي الاعتدائي ضد ايران، سيخرج الى حيز التنفيذ:
اذا كان لدى اسرائيل القدرة المادية على توجيه ضربة للمنشآت النووية الايرانية، ومن ثم، اذا كانت قادرة بالفعل على تحقيق النتيجة المتوخاة من الضربة، ومن ثم، واذا كانت تأمن او تستطيع ان تتحمل رد الفعل، فان قرار الضربة سيصدر بلا مجادلة، قياسا على الرغبة العارمة والجامعة وغير المسبوقة، بالتخلص من التهديد النووي الايراني.
يعني ذلك، ان عدم اخراج الضربة الى حيز التنفيذ طوال السنوات الماضية، يشير الى امر من ثلاثة، او الى كل الامور الثلاثة معا:
ـ ان اسرائيل غير قادرة ماديا على توجيه ضربة لايران.
ـ انها غير قادرة على تحقيق النتيجة من الضربة، في حال توفرت مستلزماتها المادية.
ـ انها لا تستطيع تحمل كلفة واثمان الضربة، قياسا بالنتيجة الممكن تحقيقها.
ولا يوجد اعتبارات اخرى مانعة سوى ذلك، في الاساس. بالطبع يدخل على خط القدرات والقرارات والتوقيت، عوامل اخرى مانعة او دافعة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية، لكن تجب الاشارة الى ان مطلب الولايات المتحدة، ايضا، لا يقل اندفاعا وحافزية، عن المطلب الاسرائيلي، ولو اتيح لـ"اسرائيل" القدرة على التنفيذ او تحقيق النتيجة، او تحمّل اكلافها، لما كانت واشنطن لتعارض بالتأكيد... علما ان الجهتين، الاسرائيلية والاميركية، بحسب التقديرات السائدة لديهما، يتشاركان في الاستفادة من النتائج المحققة للضربة، على فرض حصولها، وهما ايضا تتشاركان، بالاثمان الواجب دفعها.
هذه هي الحقيقة الممكن الوصول اليها، قياسا بحراك "اسرائيل"، وامتناعها قسرا في السنوات الماضية، بل وحتى الامس القريب، عن مواجهة ايران عسكريا. اذاً البحث، يجب ان يتركز تحديدا على القدرات المادية لـ"اسرائيل"، حيال توجيه ضربة للمنشآت النووية لايران.. وليس الى قرار الضربة نفسه.
ولنعد قليلا الى الخلاف المراد تظهيره في "اسرائيل". على تل ابيب ان تحقق ثلاثة مطالب، كانت غير موجودة لديها طوال الفترة الماضية، اي الفترة التي لا تقل عن عشر سنوات منذ ان بدأ الحديث عن النووي الايراني والتأكد من ان برنامج ايران النووي لم يعد مرتبطا بالخارج، بل بقدراتها الذاتية، ما يطلق عليه اصطلاحا، في اسرائيل، "نقطة اللاعودة".
من هنا، نفهم المعارضة الجارفة لدى الاجهزة الامنية والعسكرية الاسرائيلية، المعنية اساسا بالاجابة عن الاسئلة الثلاثة: القدرة، النتيجة، والاثمان. وبما ان معارضتها جارفة، فهذا يعني ان لا خلاف على ان المعطيات العسكرية والامنية، لزوم الضربة، غير متوفرة. فـ"اسرائيل" قاصرة عن توجيه الضربة، ماديا.
يبقى البحث عن الاسباب الدافعة لاظهار السجال، بهذا الشكل، لناحية المضمون، ولناحية التوقيت.
الواضح ان توجيه ضربة لايران، يختلف تماما عن التهويل بالضربة. كلاهما عنصران مستقلان لناحية الفعل ولناحية التأثير والاهداف. وطالما ان فعل الضربة غير متاح، فيجب البحث عن اهداف التلويح بالضربة.
كما يتبين، ترتبط المسائل، وكما يبدو ايضا من بعض الكتابات الاسرائيلية التي صدرت في الايام القليلة الماضية، بفهم اسرائيلي بأن الاهتمام الدولي بالملف النووي الايراني في تراجع مستمر ومتواصل، بعد ان استهلك التطورات في الساحات العربية كل الاهتمام. وبالتالي كانت "اسرائيل" وما زالت، معنية باعادة تصويب المسائل من ناحيتها، بأن يبقى البرنامج الايراني على رأس سلّم اولويات المجتمع الدولي، اي الولايات المتحدة وعواصم القرار في اوروبا، خاصة ان تقريرا سيصدر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بعد ايام، سيرد فيه بحسب التأكيد الاسرائيلي على "عسكرة" البرنامج، ما يعني فرصة لا يجب تفويتها.
ويراد من التهويل الاسرائيلي، اعادة وضع الاميركيين على سكة المواجهة الدبلوماسية مع ايران، وبالتالي تسهيل الضغط المقدر ان يجري تفعيله من واشنطن ضد موسكو وبكين وعدد من الدول الممتنعة على مواكبة الضغوط الغربية ضد ايران في مجلس الامن، مع الامل بأن يساهم التهويل في تعزيز الموقف الاميركي، وصولا الى حزمة عقوبات جديدة، فاعلة وشديدة ضد ايران. التهويل الاسرائيلي في هذا الاطار يعني: إن لم يتحرك مجلس الامن ضد ايران، فان اسرائيل ستتحرك عسكريا.
سؤال ما بعد الفعل، وانكشاف تقلص هامش المناورة السياسية امام الاميركيين في مجلس الامن هو الآتي:
ماذا عن الموقف الاسرائيلي المتعري دوليا وداخليا، وحيال المنطقة ايضا، إن لم يثمر التهويل؟ صورة "اسرائيل" المقتدرة على المحك، وستكون النتائج كارثية على الكيان الاسرائيلي.. في المسائل الاستراتيجية، كما هو الموضوع النووي الايراني، يجب ان يكون التهديد مصحوبا بقرار تنفيذ التهديد، والا فان المُهدِّد سيتراجع امام المُهدَّد... ولن يجديه ذلك لاحقا..
ما بعد جولة التهديد الحالية، ستتعرى "اسرائيل" من اسنانها حيال ايران، او بعبارة اكثر وضوحا، ستنكشف انها من دون اسنان... وهذه كارثة إضافية على "اسرائيل"، تضاف الى كوارث سابقة، في سياق المواجهة مع ايران.
فجأة، وبلا مقدمات، انشغلت "اسرائيل" بالموضوع النووي الايراني، و"قرار" الضربة العسكرية الاسرائيلية لايران. تنامى الانشغال في "قرار الضربة" من عدمه، حتى كاد ان يكون الانشغال الوحيد في تل ابيب، سواء لدى السياسيين او العسكريين او وسائل الاعلام على مختلف انواعها، ولم يبق اي من الخبراء والمحللين، وعدد كبير من السياسيين، الا وأدلى بدلوه: مع قرار الضربة او ضده.
المشهد من تل ابيب، يراد منه الاشارة الى الآتي: يوجد في "اسرائيل" خلاف حاد، بين المؤسسة السياسية بقيادة رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ووزير حربه، ايهود باراك، وبين مسؤولي الاجهزة الامنية والعسكرية، حيال توجيه ضربة عسكرية اسرائيلية للمنشآت النووية الايرانية. الثنائي نتنياهو ـ باراك، يؤيدان الضربة ويدفعان اليها، بل ويعملان على توفير إمكاناتها، من خلال محاولة تعيين مؤيدين لطروحاتهم، في مناصب حساسة في الاجهزة الامنية والعسكرية، الامر الذي يسهل عليهم مهمة اخراجها الى حيز التنفيذ. في المقابل، يقف مسؤولو الاجهزة الامنية سدا امام الثنائي، ويرفضون رفضا مطلقا "قرارا جنونيا قد يدخل اسرائيل في حرب تجر اثمانا لا تقوى عليها".
ايضا في اطار توصيف المشهد، الى جانب الاجهزة الامنية والعسكرية، يقف عدد من السياسيين، وتحديدا محفل الوزراء الثمانية (المحفل غير الرسمي المناط به القرارات الاساسية)، سدا امام توجهات نتنياهو ـ باراك، لكن يُعمل على معالجة هؤلاء، من قبل الثنائي، بأساليب الترغيب والترهيب ولعبة السياسة الداخلية الاسرائيلية.. وبالتالي ما زالت الامور غير واضحة لجهة القرار السياسي الخالص، بمعنى ان السياسيين، اصحاب القرار في تل ابيب، مختلفون بدورهم حول قرار الضربة من عدمها.
وأيضا في اطار التوصيف، يراد اظهار "الحقيقة" الآتية: ان الولايات المتحدة، وايضا عواصم اوروبية، تسعى الى منع اخراج الضربة الاسرائيلية لايران الى حيز التنفيذ، وتطلب هذه الجهات من تل ابيب ان تتريث وعدم الاقدام على خطوات احادية الجانب، لان المسارات الاخرى البديلة عن الخيارات العسكرية، لم تستنفد بعد، وبالتالي يجب تنسيق الجهود والعمل على التعاون والمؤازرة في سياق قرارات تخرج عن المجتمع الدولي.
ويمكن للمتابع ان يلاحظ دون كثير من جهد، ان الموضوع الايراني، وقرار الضربة والسجال والخلاف حوله، بات شغل اسرائيل بلا منازع. تحتل المسألة منذ اكثر من اسبوع، النشرات الاخبارية في قنوات التلفزة، وترحّل كل موضوع اخر الى زاوية هامشية في اهتمام المراسلين والمعلقين، بينما يحتل هذا السجال عناوين الصفحات الاولى في وسائل الاعلام الورقية. وللدلالة، كل البرامج السياسية في وسائل الاعلام المرئية والمسموعة، على سبيل المثال، تركز على مسألة، قد تكون وحيدة خلال المقابلات والتقارير: الموضوع الايراني، وضربة اسرائيل، المختلف عليها، ضد ايران.
ما هي حقيقة "قرار الضربة"، واستهدافاتها؟ بل بشكل اصح، ما هي حقيقة اثارة الخلاف حول الضربة؟ هو سؤال يشغل المتابعين، بالتأكيد.
بالطبع، لا يمكن الاجابة عن السؤال، الا بعد ايضاح جملة من المقدمات الضرورية، المرتبطة بهذه المرحلة والمراحل المقبلة، حيال إمكانات اسرائيل وقدراتها، وظروفها ودوافعها، وايضا الفرصة المناسبة لجهة التوقيت، التي تتيح اخراج الفعل الى حيز التنفيذ، على فرض وجوده. وقبل الحديث عن قرار الضربة، يتوجب الحديث عن إمكاناتها الفعلية، ومن ثم الحديث عن سجالاتها الداخلية، بين مؤيد ومعارض، بما يرتبط بالثمن المتوجب تلقيه قياسا بالنتيجة الممكن تحقيقها.
للوصول الى نتيجة، يتوجب قبلا، الاجابة عن السؤال الآتي: ما السبب الذي منع "اسرائيل" حتى الان، رغم كل ما لديها من دوافع وحوافز في السنوات الماضية، من توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الايرانية، علما ان الوقت، لجهة الضربة وإمكاناتها، يضيق ويتقلص لمصلحة الموقف الايراني، الذي يأخذ مزيدا من التحكم والقدرة على الرد الموجع ضد "اسرائيل". معنى السؤال، هو البحث عن طبيعة العوائق التي منعت اسرائيل من توجيه الضربة، رغم انها ضرورة لها، قياسا بدوافعها المرتفعة..
ولا يجب ان يقع المتابع في خطأ، يراد له اسرائيليا ان يقع فيه. المقاربة يجب ان تكون اولا، لامكانات الضربة، قبل ان تكون لقرارها او لتوقيتها.
الخطر الايراني، بإقرار "اسرائيل" نفسها، خطر وجودي، اي ان وصول ايران الى القدرة النووية، سيعني اطباقا على "اسرائيل" من كل الجهات وتقلص هامش المناورة لديها حتى حدودها الدنيا وغير المسبوقة، ليس تجاه ايران النووية وحسب، بل ايضا تجاه كل قوس التهديد الموجه اليها في المنطقة.. من لحظة تحول ايران الى دولة نووية، ستفقد "اسرائيل" اوراق الضغط لديها، وتفقد القدرة على التحرك ضد اعدائها، بالشكل والقوة والمستوى المعتادة عليه منذ قيامها.
معنى ذلك، ان الخطر النووي الايراني مركّب: خطر ايراني مباشر، هو تهديد وجودي. ولا يمكن من تلك اللحظة ان تتحرك "اسرائيل" ضد ايران. في نفس الوقت، تتقلص قدرة "اسرائيل" امام اعدائها، لانها ستكون معنية في ردودها او في مبادراتها الاعتدائية، ان تحسب حسابا لإمكان تدحرج الرد والرد المقابل نحو مواجهة، مع امكانيات مرتفعة ان تتدخل ايران في المواجهة نفسها، وصولا الى محظور النووي. وهذا هو الواقع الذي كان يحكم العلاقات في السابق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، الذي منع الحروب بينهما، بل ومنع تفاقم المواجهات الفرعية الى حدود يرفضها الطرفين.
"اسرائيل"، معنية، وبلا جدال بمنع ايران من الوصول الى القدرة النووية، ولا خلاف في ذلك. لا خلاف ان اياً من المسؤولين الاسرائيليين، سواء في المستوى السياسي او الامني، يتمنى ان يستفيق في اليوم التالي، ولا يجد ايران على الخريطة. هذا واقع ومنتهى مطلوب لا ينكره احد.. لان خطر ايران، بات خطرا وجوديا، وإنهاءً فعليا لهامش المناورة الاسرائيلية تجاه اعدائها.
اذا، بعبارات اخرى، لا يوجد احد في "اسرائيل"، يرفض انهاء البرنامج النووي الايراني، بأي اسلوب كان، ومنه العسكري بطبيعة الحال. ما يعني ان الخلاف، إن كان هناك خلاف، لا يتعلق بأصل النية والرغبة، بل ايضا ليس بتوقيت وأصل القرار، بل بوجود او عدم وجود القدرات العملية على اخراج الضربة الى حيز التنفيذ.. والا لا معنى، كيفما اتفق التحليل، على الخلاف.
يقود ذلك الى ان الفعل الاسرائيلي مرتبط بحقائق ثلاث، مرتبطة بسلّم اولويات فيما بينها، واذا ما تحققت كلها، لا خلاف ان الفعل الاسرائيلي الاعتدائي ضد ايران، سيخرج الى حيز التنفيذ:
اذا كان لدى اسرائيل القدرة المادية على توجيه ضربة للمنشآت النووية الايرانية، ومن ثم، اذا كانت قادرة بالفعل على تحقيق النتيجة المتوخاة من الضربة، ومن ثم، واذا كانت تأمن او تستطيع ان تتحمل رد الفعل، فان قرار الضربة سيصدر بلا مجادلة، قياسا على الرغبة العارمة والجامعة وغير المسبوقة، بالتخلص من التهديد النووي الايراني.
يعني ذلك، ان عدم اخراج الضربة الى حيز التنفيذ طوال السنوات الماضية، يشير الى امر من ثلاثة، او الى كل الامور الثلاثة معا:
ـ ان اسرائيل غير قادرة ماديا على توجيه ضربة لايران.
ـ انها غير قادرة على تحقيق النتيجة من الضربة، في حال توفرت مستلزماتها المادية.
ـ انها لا تستطيع تحمل كلفة واثمان الضربة، قياسا بالنتيجة الممكن تحقيقها.
ولا يوجد اعتبارات اخرى مانعة سوى ذلك، في الاساس. بالطبع يدخل على خط القدرات والقرارات والتوقيت، عوامل اخرى مانعة او دافعة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية، لكن تجب الاشارة الى ان مطلب الولايات المتحدة، ايضا، لا يقل اندفاعا وحافزية، عن المطلب الاسرائيلي، ولو اتيح لـ"اسرائيل" القدرة على التنفيذ او تحقيق النتيجة، او تحمّل اكلافها، لما كانت واشنطن لتعارض بالتأكيد... علما ان الجهتين، الاسرائيلية والاميركية، بحسب التقديرات السائدة لديهما، يتشاركان في الاستفادة من النتائج المحققة للضربة، على فرض حصولها، وهما ايضا تتشاركان، بالاثمان الواجب دفعها.
هذه هي الحقيقة الممكن الوصول اليها، قياسا بحراك "اسرائيل"، وامتناعها قسرا في السنوات الماضية، بل وحتى الامس القريب، عن مواجهة ايران عسكريا. اذاً البحث، يجب ان يتركز تحديدا على القدرات المادية لـ"اسرائيل"، حيال توجيه ضربة للمنشآت النووية لايران.. وليس الى قرار الضربة نفسه.
ولنعد قليلا الى الخلاف المراد تظهيره في "اسرائيل". على تل ابيب ان تحقق ثلاثة مطالب، كانت غير موجودة لديها طوال الفترة الماضية، اي الفترة التي لا تقل عن عشر سنوات منذ ان بدأ الحديث عن النووي الايراني والتأكد من ان برنامج ايران النووي لم يعد مرتبطا بالخارج، بل بقدراتها الذاتية، ما يطلق عليه اصطلاحا، في اسرائيل، "نقطة اللاعودة".
من هنا، نفهم المعارضة الجارفة لدى الاجهزة الامنية والعسكرية الاسرائيلية، المعنية اساسا بالاجابة عن الاسئلة الثلاثة: القدرة، النتيجة، والاثمان. وبما ان معارضتها جارفة، فهذا يعني ان لا خلاف على ان المعطيات العسكرية والامنية، لزوم الضربة، غير متوفرة. فـ"اسرائيل" قاصرة عن توجيه الضربة، ماديا.
يبقى البحث عن الاسباب الدافعة لاظهار السجال، بهذا الشكل، لناحية المضمون، ولناحية التوقيت.
الواضح ان توجيه ضربة لايران، يختلف تماما عن التهويل بالضربة. كلاهما عنصران مستقلان لناحية الفعل ولناحية التأثير والاهداف. وطالما ان فعل الضربة غير متاح، فيجب البحث عن اهداف التلويح بالضربة.
كما يتبين، ترتبط المسائل، وكما يبدو ايضا من بعض الكتابات الاسرائيلية التي صدرت في الايام القليلة الماضية، بفهم اسرائيلي بأن الاهتمام الدولي بالملف النووي الايراني في تراجع مستمر ومتواصل، بعد ان استهلك التطورات في الساحات العربية كل الاهتمام. وبالتالي كانت "اسرائيل" وما زالت، معنية باعادة تصويب المسائل من ناحيتها، بأن يبقى البرنامج الايراني على رأس سلّم اولويات المجتمع الدولي، اي الولايات المتحدة وعواصم القرار في اوروبا، خاصة ان تقريرا سيصدر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بعد ايام، سيرد فيه بحسب التأكيد الاسرائيلي على "عسكرة" البرنامج، ما يعني فرصة لا يجب تفويتها.
ويراد من التهويل الاسرائيلي، اعادة وضع الاميركيين على سكة المواجهة الدبلوماسية مع ايران، وبالتالي تسهيل الضغط المقدر ان يجري تفعيله من واشنطن ضد موسكو وبكين وعدد من الدول الممتنعة على مواكبة الضغوط الغربية ضد ايران في مجلس الامن، مع الامل بأن يساهم التهويل في تعزيز الموقف الاميركي، وصولا الى حزمة عقوبات جديدة، فاعلة وشديدة ضد ايران. التهويل الاسرائيلي في هذا الاطار يعني: إن لم يتحرك مجلس الامن ضد ايران، فان اسرائيل ستتحرك عسكريا.
سؤال ما بعد الفعل، وانكشاف تقلص هامش المناورة السياسية امام الاميركيين في مجلس الامن هو الآتي:
ماذا عن الموقف الاسرائيلي المتعري دوليا وداخليا، وحيال المنطقة ايضا، إن لم يثمر التهويل؟ صورة "اسرائيل" المقتدرة على المحك، وستكون النتائج كارثية على الكيان الاسرائيلي.. في المسائل الاستراتيجية، كما هو الموضوع النووي الايراني، يجب ان يكون التهديد مصحوبا بقرار تنفيذ التهديد، والا فان المُهدِّد سيتراجع امام المُهدَّد... ولن يجديه ذلك لاحقا..
ما بعد جولة التهديد الحالية، ستتعرى "اسرائيل" من اسنانها حيال ايران، او بعبارة اكثر وضوحا، ستنكشف انها من دون اسنان... وهذه كارثة إضافية على "اسرائيل"، تضاف الى كوارث سابقة، في سياق المواجهة مع ايران.
تعليق