لم يكن قد حصل عطا فلنه على هوية إعلان بلوغه عندما استيقظ من نومه ليجد والده في قبضة الشين بيت , حدث هذا عام 1982 حيث تعرض الى عملية تحقيق قاسية استمرت لعدة شهور لم تنجح فيها المخابرات الإسرائيلية من انتزاع إعتراف منه عن مصدر الأسلحة التي كانت بحوزته ,ومع إنطلاق الإنتفاضة الأولى لم يمنع الشيب الذي كان يغطي رأس أبو عبد الكريم من أن يشارك مع أبنائه وأقرانهم في مواجهة الإحتلال ودورياته التي كانت تغزو قريتهم صفا , تلك القرية الفلسطينية الواقعة غرب رام الله , والتي يمكنك في ساعات الليل الصيفي أو ساعات الصباح الباكر أن تشاهد بأم العين الساحل الفلسطيني في ذلك الوطن المحتل منذ عام 1948 .
في هذا الجو العائلي المشحون بالنضال كانت الدروس الأولى التي تتلمذ فيها صديقنا عطا فلنه , فكان يشارك والده وإخوته الذين عرفوا هم أيضاً درب النضال وطريق السجن , كان يقدم خدماته للمطاردين من شتى القرى والفصائل الفلسطينيه رغم إنتماءه التنظيمي لحركة الجهاد الإسلامي , درس أساسي تعلمه من الوالد الذي لم يكن حزبياً قط ,ومع هذا لم يتوان عن تقديم العون والمساعدة لكل من يطلبها دون أن يعرف حتى ما هو تنظيمه , ربما أصالة وطيبة الفلاح الفلسطيني الذي لم تعرف قدميه الطريق المؤديه الى العمل في سوق العمل الإسرائيلي هي التي جعلته يتصرف بهذا الشكل , ومع هذا لم يرحمه القدر ولم يرحم الأسرة والقرية ككل عندما انبلت بطوشة تنظيمية بين فتح والجبهة الشعبية تحولت الى فتنة عشائرية لم تسلم من أيدي العملاء والمندسين , فتطورت الى قتل وقتل مضاد , مشكلة استنزفت القرية والعائلة لسنوات وسنوات وراح ضحيتها العديد من شباب القريه على مذبح النزاعات العائلية , مصيبه لم يكن يتمنى لها صاحبنا عطا فلنه والملقب ” بأبو جهاد ” أن تنتهي الى ما انتهت اليه حاول جاهداً أن يصب جام غضبه على الإحتلال آمن بأن الإنتقام والثأر الأسمى لدماء أخيه الشهيد محمد يكون في مواجهة الإحتلال ومستوطنيه فقط , نجح في تفريغ حزنه وغضبه على سقوط أخيه في الصراعات الداخلية بتوجيه نيران حقده وغضبه ضد من احتلوا أرضه وشردوا شعبه رافضاً كل المحاولات القبلية والعصبية لدفعه للبحث عن انتقام شخصي وعائلي , حاول أن يقدم نموذجاً فريداً يمكن الإحتذاء به بأن الدم الفلسطيني عندما يسيل بأيدي فلسطينية ومهما كانت الأعذار والمبررات شخصيه أو عائلية أو وطنية فكلها في النهاية ربح صافي للإحتلال الإسرائيلي والذي لا يدخر وسيلة إلا ويستخدمها لإزكاء نار الفتنه داخل المجتمع الفلسطيني . هذا الحقد والإنتقام الثوري الذي أدركه صديقنا أبو جهاد بوحيه رغم وقوع أحد اخوته في شرك الإنتقام الشخصي هو الذي قاده الى أن ينظم ويشارك في مجموعة , عشاق الشهادة الذي كان يقودها الشهيد عصام براهمه من قرية عنزه قضاء جنين حيث قامت المجموعه بزرع عبوة ناسفة أدت الى مقتل مستوطن وجرح تسعه آخرين , إضافة الى نشاطات عديدة قام بها في إطار تقديم المساعدة للمطاردين .
بعد مرور أقل من شهر ونصف على هذا العمل البطولي نجح الإحتلال في الوصول الى أفراد مجموعة ” عشاق الشهادة ” وتوزعوا ما بين شهيد وأسير , فكان نصيب صاحبنا أبو جهاد الإعتقال وذلك بتاريخ 27/ 11/ 1992 ليبدأ مرحلة جديدة يجمع فيها بين الألم والأمل , بين مواجهة السجن والسجان والمعاناه من كل أشكال الحرمان , مرحلة بدأت بالتحقيق القاسي واستخدام أسلوب الهز الذي أورثه مع كل أساليب التحقيق القمعيه مرض الشقيقه ” المزمن والذي ما زال يلازمه منذ أكثر من خمسة عشر عاماً ينغص عليه مسيرة حياته اليومية الحافلة بقائمة طويلة من وجع الروح قبل أي نوع آخر من الوجع الجسدي , حيث كان على موعد مع مسلسل الحرمان من رؤية أحبائه وعلى رأسهم زوجته الفلسطينية الأصل و أردنية المولد والمنشأ , حاول وعلى مدار أكثر من عشر سنوات أن يحصل لها على لم شمل دون فائدة , ومع اعتقاله وصدور حكم المؤبد بحقه بات حصول زوجته على لم شمل أكثر صعوبة من السابق , في أول زيارة للأهل بعد اعتقاله لم تكن زوجته ضمن من تكحلت عينه برؤيتهم بعد أشهر من انقطاع التواصل والأخبار بينه وبين الأهل , ومع هذا فقد عاد من الزيارة الى زنازين العزل في سجن الرمله بجناحين يكاد بهما أن يطير من الفرحة أخذ يصرخ بأعلى صوته وهو ينادي على الشباب من حوله , لقد جاء جهاد الى الدنيا , من الآن فصاعداً سأكون أبو جهاد يا شباب , تلقى التهاني ممن حوله في زنازين العزل , جلس مع ذاته يستعيد المشهد المؤلم الذي نسيه في لجة الفرح بقدوم إبنه جهاد الى الدنيا .حيث لم ينجح في التعرف على ابنته سجود والتي كانت قد جائت للزيارة مع والدته و أخته , أعتقد في البداية أنها ابنه لأحد الأسرى المجاورين له على شبك الزيارة , اصطدمت نظراتها البريئة بعيونه التي سرعان ما أزاحها ليتابع الحديث مع والدته و أخته , أيقظته والدته عندما أشارت له : هاي بنتك سجود !! صرخ بأعلى صوته متسا ئلاً من هول المفاجأة , أصابه الخجل عندما نظر من حوله ليجد معظم الوجوه تتطلع نحوه , استغرب من أن عشرة شهور من غيابه عنها قد تركت هذا المقدار من التغير في ملامحها , حاول مداعبتها ومناغشتها من خلف الشبك , لم ينجح في خلق تواصل بينه وبين فلذة كبده , تركها على أمل أن تنجح الأيام في ردم الهوه التي حفرها الإحتلال لفصله عنها .
مع بدء أنتفاضة الأقصى دخل مسلسل الحرمان لدى أبو جهاد مرحلة جديدة حيث لم يحظى برؤية وجه زوجته ولو لمرة واحدة إلا عبر الصور التي كانت تصله مع والدته وأخته ,وهذا شمل أيضاً طفليه سجود وجهاد , واللذين بسبب عدم وجود هوية فلسطينيه لوالدتهم لم تسمح لهم مصلحة السجون هم الآخرين من زيارته , وحتى بعد أن تجاوزت سجود السادسة عشر من عمرها وحصولها على هوية فلسطينيه لم تنجح لفترة طويلة من الحصول على تصريح لزيارة والدها , ثمانية سنوات وأكثر مرت على أبو جهاد وهو لا يرى زوجته وأبنائه الذين كبروا الا في الأحلام السعيدة وفي الصور الجامدة التي لا تحمل بين ثناياها نبض الحياة , إلى أن عرض برنامج في بيت مناضل في تلفزيون فلسطين حلقةعن أسرته كانت بمثابة طاقة الفرج الأولى التي إنفتحت في وجه أبو جهاد الذي تلاشت من رأسه معالم وجوه أحبائه . ولم يقف وجع الروح لدى أبو جهاد عند هذا الحد القاسي والمؤلم ليطال الموت أعز رجل على قلبه ” والده ” الذي وقع فانكسر زره وهو يعمل في الأرض التي التصق بها طوال حياته ورفض العمل في أسرائيل رغم الفارق بين مردود الأرض المادي ومردود العمل في الشركات الصهيونيه , كان يحاول جاهداً قبل وفاته أن يزور فلذة كبده عطا في السجن دون أن ينجح في الحصول على تصريح للزيارة إلا بعد ثلاثة أيام من وفاته .
بذل أبو جهاد جهدًا كبيراً ليضبط نفسه على الزياره , حبس دموعه عن أخته التي أخبرته بالخبر المفجع , بذل جهداً كي يوقف سيل دموعها التي لم تنجح هي الأخرى في حبسها , عاد مسرعاً لغرفته بعد انتهاء الزياره , لحسن حظه كان حمام الغرفة شاغراً على غير العادة , أغلق بابه خلفه وأطلق العنان لنبع دموعه كي تغسل بعضاً من الحزن الذي يرقد في صدره .
تنقل أبو جهاد عبر سنوات إعتقاله الطويله بين معظم السجون فيما كان لسجن نفحه وعسقلان حصة الأسد من هذه السنوات وفي عسقلان تحديداً يتذكر أبو جهاد حادثة لا زالت تسكن خلايا دماغه وتذكره بتلك الأيام الجميلة التي بات يترحم عليها الأسرى هذه الأيام , عندما كانوا ينجحون فرض إرادتهم على مديرية مصلحة السجون ففي عام 1998 , قامت مصلحة السجون بنقل قسم كامل من الأسرى من سجن شطه الى سجن عسقلان , وأدخلوهم في قسم خاص بهم بمعزل عن بقية الأسرى ومنعوهم حتى من الإختلاط بهم ,فبدأ الأسرى بخطوات إحتجاجيه , وأعلنت الإداره حالة الطواريء في السجن , وفي ساعات الليل المتأخر حضر أحد الضباط المسؤولين وطلب لجنة الحوار المكونه من مندوبي التنظيمات المتواجدة في السجن بحجة الجلوس معهم لحل المشكلة , بعد خروجهم من القسم وجدوا أنفسهم أمام صفين من الشرطة المدججين بالهراوات كلبشوا الممثلين ووضعوهم في سيارة بوسطه وأخذوهم إلى قسم عزل الرمله , مع وصولهم الى قسم العزل جردوهم من ملابسهم باستثناء اللباس الداخلي وأعطوهم ملابس إداره , بعد ثلاثة أيام حضر أحد الضباط الكبار في مصلحة السجون , ورضخ لمطالبهم في توزيع الشباب القادمين من سجن شطه وفق ما يريد الأسرى وأعادوهم الى أقسامهم, وهذا كله بسبب الموقف المتماسك للجنة الحوار , وثانياً رفض بقية الأسرى الرضوخ الى إملاءات مصلحة السجون واسرارهم على عدم التوقف عن خطواتهم الإحتجاجيه إلا بعودة اصحابهم المعزولين والإستجابه للمطلب الذي كان وراء هذه المشكلة , أما هذه الأيام وللأسف الشديد فإن إدارة مصلحة السجون في هذا السجن أو ذاك تقوم بنقل قادة الأسرى كلما أقدموا على خطوه احتجاجيه هنا أو هناك فتجد بعد يوم أو يومين على أكثر تقدير قد خرجت قيادة جديدة دون أن تطالب حتى بعودة القادة الذين تم ترحيلهم وبدون أن تحقق أي إنجازات تم نقلهم من أجلها وتكتفي في أحسن الأحوال بقائمة من الوعود الوهمية يحصلون عليها من رجالات إدارة السجون سرعان ما تتلاشى مع الأيام .
ومع كل هذه المصائب التي تسكن صدر صاحبنا أبو جهاد إلا أنه ومنذ اليوم الأول لقرار حكم المؤبد الذي صدر بحقه عود نفسه على مقولة خاصة به يرددها دوماً بينه وبين نفسه ( عندي أمل بالله أن أخرج من السجن غدا , وبالمقابل أتوقع أن يزورني أبناء أبنائي ً في السجن ) , هذه العبارة على بساطتها تختزل واقع التناقض اليومي الذي يعيشه الأسير مع ذاته في محاولة للتكيف بين التفائل المفرط والتشاؤوم المفرط , في أن يتفائلون بشكل مفرط كي لا يصابوا باليأس والإحباط وفقدان الأمل بالحية , ويتشائمون بشكل مفرط أيضاً كي لا يصابوا بصدمة الواقع المر الذي لا زال يعيشه بعضهم منذ ثلث قرن تقريباً , خيوط من العذاب المؤلم ولكن بإرادة قوية يعيش هؤلاء الأحياء في قبور الأحياء ليبقوا منارات تضيء ظلام السجن والسجان
في هذا الجو العائلي المشحون بالنضال كانت الدروس الأولى التي تتلمذ فيها صديقنا عطا فلنه , فكان يشارك والده وإخوته الذين عرفوا هم أيضاً درب النضال وطريق السجن , كان يقدم خدماته للمطاردين من شتى القرى والفصائل الفلسطينيه رغم إنتماءه التنظيمي لحركة الجهاد الإسلامي , درس أساسي تعلمه من الوالد الذي لم يكن حزبياً قط ,ومع هذا لم يتوان عن تقديم العون والمساعدة لكل من يطلبها دون أن يعرف حتى ما هو تنظيمه , ربما أصالة وطيبة الفلاح الفلسطيني الذي لم تعرف قدميه الطريق المؤديه الى العمل في سوق العمل الإسرائيلي هي التي جعلته يتصرف بهذا الشكل , ومع هذا لم يرحمه القدر ولم يرحم الأسرة والقرية ككل عندما انبلت بطوشة تنظيمية بين فتح والجبهة الشعبية تحولت الى فتنة عشائرية لم تسلم من أيدي العملاء والمندسين , فتطورت الى قتل وقتل مضاد , مشكلة استنزفت القرية والعائلة لسنوات وسنوات وراح ضحيتها العديد من شباب القريه على مذبح النزاعات العائلية , مصيبه لم يكن يتمنى لها صاحبنا عطا فلنه والملقب ” بأبو جهاد ” أن تنتهي الى ما انتهت اليه حاول جاهداً أن يصب جام غضبه على الإحتلال آمن بأن الإنتقام والثأر الأسمى لدماء أخيه الشهيد محمد يكون في مواجهة الإحتلال ومستوطنيه فقط , نجح في تفريغ حزنه وغضبه على سقوط أخيه في الصراعات الداخلية بتوجيه نيران حقده وغضبه ضد من احتلوا أرضه وشردوا شعبه رافضاً كل المحاولات القبلية والعصبية لدفعه للبحث عن انتقام شخصي وعائلي , حاول أن يقدم نموذجاً فريداً يمكن الإحتذاء به بأن الدم الفلسطيني عندما يسيل بأيدي فلسطينية ومهما كانت الأعذار والمبررات شخصيه أو عائلية أو وطنية فكلها في النهاية ربح صافي للإحتلال الإسرائيلي والذي لا يدخر وسيلة إلا ويستخدمها لإزكاء نار الفتنه داخل المجتمع الفلسطيني . هذا الحقد والإنتقام الثوري الذي أدركه صديقنا أبو جهاد بوحيه رغم وقوع أحد اخوته في شرك الإنتقام الشخصي هو الذي قاده الى أن ينظم ويشارك في مجموعة , عشاق الشهادة الذي كان يقودها الشهيد عصام براهمه من قرية عنزه قضاء جنين حيث قامت المجموعه بزرع عبوة ناسفة أدت الى مقتل مستوطن وجرح تسعه آخرين , إضافة الى نشاطات عديدة قام بها في إطار تقديم المساعدة للمطاردين .
بعد مرور أقل من شهر ونصف على هذا العمل البطولي نجح الإحتلال في الوصول الى أفراد مجموعة ” عشاق الشهادة ” وتوزعوا ما بين شهيد وأسير , فكان نصيب صاحبنا أبو جهاد الإعتقال وذلك بتاريخ 27/ 11/ 1992 ليبدأ مرحلة جديدة يجمع فيها بين الألم والأمل , بين مواجهة السجن والسجان والمعاناه من كل أشكال الحرمان , مرحلة بدأت بالتحقيق القاسي واستخدام أسلوب الهز الذي أورثه مع كل أساليب التحقيق القمعيه مرض الشقيقه ” المزمن والذي ما زال يلازمه منذ أكثر من خمسة عشر عاماً ينغص عليه مسيرة حياته اليومية الحافلة بقائمة طويلة من وجع الروح قبل أي نوع آخر من الوجع الجسدي , حيث كان على موعد مع مسلسل الحرمان من رؤية أحبائه وعلى رأسهم زوجته الفلسطينية الأصل و أردنية المولد والمنشأ , حاول وعلى مدار أكثر من عشر سنوات أن يحصل لها على لم شمل دون فائدة , ومع اعتقاله وصدور حكم المؤبد بحقه بات حصول زوجته على لم شمل أكثر صعوبة من السابق , في أول زيارة للأهل بعد اعتقاله لم تكن زوجته ضمن من تكحلت عينه برؤيتهم بعد أشهر من انقطاع التواصل والأخبار بينه وبين الأهل , ومع هذا فقد عاد من الزيارة الى زنازين العزل في سجن الرمله بجناحين يكاد بهما أن يطير من الفرحة أخذ يصرخ بأعلى صوته وهو ينادي على الشباب من حوله , لقد جاء جهاد الى الدنيا , من الآن فصاعداً سأكون أبو جهاد يا شباب , تلقى التهاني ممن حوله في زنازين العزل , جلس مع ذاته يستعيد المشهد المؤلم الذي نسيه في لجة الفرح بقدوم إبنه جهاد الى الدنيا .حيث لم ينجح في التعرف على ابنته سجود والتي كانت قد جائت للزيارة مع والدته و أخته , أعتقد في البداية أنها ابنه لأحد الأسرى المجاورين له على شبك الزيارة , اصطدمت نظراتها البريئة بعيونه التي سرعان ما أزاحها ليتابع الحديث مع والدته و أخته , أيقظته والدته عندما أشارت له : هاي بنتك سجود !! صرخ بأعلى صوته متسا ئلاً من هول المفاجأة , أصابه الخجل عندما نظر من حوله ليجد معظم الوجوه تتطلع نحوه , استغرب من أن عشرة شهور من غيابه عنها قد تركت هذا المقدار من التغير في ملامحها , حاول مداعبتها ومناغشتها من خلف الشبك , لم ينجح في خلق تواصل بينه وبين فلذة كبده , تركها على أمل أن تنجح الأيام في ردم الهوه التي حفرها الإحتلال لفصله عنها .
مع بدء أنتفاضة الأقصى دخل مسلسل الحرمان لدى أبو جهاد مرحلة جديدة حيث لم يحظى برؤية وجه زوجته ولو لمرة واحدة إلا عبر الصور التي كانت تصله مع والدته وأخته ,وهذا شمل أيضاً طفليه سجود وجهاد , واللذين بسبب عدم وجود هوية فلسطينيه لوالدتهم لم تسمح لهم مصلحة السجون هم الآخرين من زيارته , وحتى بعد أن تجاوزت سجود السادسة عشر من عمرها وحصولها على هوية فلسطينيه لم تنجح لفترة طويلة من الحصول على تصريح لزيارة والدها , ثمانية سنوات وأكثر مرت على أبو جهاد وهو لا يرى زوجته وأبنائه الذين كبروا الا في الأحلام السعيدة وفي الصور الجامدة التي لا تحمل بين ثناياها نبض الحياة , إلى أن عرض برنامج في بيت مناضل في تلفزيون فلسطين حلقةعن أسرته كانت بمثابة طاقة الفرج الأولى التي إنفتحت في وجه أبو جهاد الذي تلاشت من رأسه معالم وجوه أحبائه . ولم يقف وجع الروح لدى أبو جهاد عند هذا الحد القاسي والمؤلم ليطال الموت أعز رجل على قلبه ” والده ” الذي وقع فانكسر زره وهو يعمل في الأرض التي التصق بها طوال حياته ورفض العمل في أسرائيل رغم الفارق بين مردود الأرض المادي ومردود العمل في الشركات الصهيونيه , كان يحاول جاهداً قبل وفاته أن يزور فلذة كبده عطا في السجن دون أن ينجح في الحصول على تصريح للزيارة إلا بعد ثلاثة أيام من وفاته .
بذل أبو جهاد جهدًا كبيراً ليضبط نفسه على الزياره , حبس دموعه عن أخته التي أخبرته بالخبر المفجع , بذل جهداً كي يوقف سيل دموعها التي لم تنجح هي الأخرى في حبسها , عاد مسرعاً لغرفته بعد انتهاء الزياره , لحسن حظه كان حمام الغرفة شاغراً على غير العادة , أغلق بابه خلفه وأطلق العنان لنبع دموعه كي تغسل بعضاً من الحزن الذي يرقد في صدره .
تنقل أبو جهاد عبر سنوات إعتقاله الطويله بين معظم السجون فيما كان لسجن نفحه وعسقلان حصة الأسد من هذه السنوات وفي عسقلان تحديداً يتذكر أبو جهاد حادثة لا زالت تسكن خلايا دماغه وتذكره بتلك الأيام الجميلة التي بات يترحم عليها الأسرى هذه الأيام , عندما كانوا ينجحون فرض إرادتهم على مديرية مصلحة السجون ففي عام 1998 , قامت مصلحة السجون بنقل قسم كامل من الأسرى من سجن شطه الى سجن عسقلان , وأدخلوهم في قسم خاص بهم بمعزل عن بقية الأسرى ومنعوهم حتى من الإختلاط بهم ,فبدأ الأسرى بخطوات إحتجاجيه , وأعلنت الإداره حالة الطواريء في السجن , وفي ساعات الليل المتأخر حضر أحد الضباط المسؤولين وطلب لجنة الحوار المكونه من مندوبي التنظيمات المتواجدة في السجن بحجة الجلوس معهم لحل المشكلة , بعد خروجهم من القسم وجدوا أنفسهم أمام صفين من الشرطة المدججين بالهراوات كلبشوا الممثلين ووضعوهم في سيارة بوسطه وأخذوهم إلى قسم عزل الرمله , مع وصولهم الى قسم العزل جردوهم من ملابسهم باستثناء اللباس الداخلي وأعطوهم ملابس إداره , بعد ثلاثة أيام حضر أحد الضباط الكبار في مصلحة السجون , ورضخ لمطالبهم في توزيع الشباب القادمين من سجن شطه وفق ما يريد الأسرى وأعادوهم الى أقسامهم, وهذا كله بسبب الموقف المتماسك للجنة الحوار , وثانياً رفض بقية الأسرى الرضوخ الى إملاءات مصلحة السجون واسرارهم على عدم التوقف عن خطواتهم الإحتجاجيه إلا بعودة اصحابهم المعزولين والإستجابه للمطلب الذي كان وراء هذه المشكلة , أما هذه الأيام وللأسف الشديد فإن إدارة مصلحة السجون في هذا السجن أو ذاك تقوم بنقل قادة الأسرى كلما أقدموا على خطوه احتجاجيه هنا أو هناك فتجد بعد يوم أو يومين على أكثر تقدير قد خرجت قيادة جديدة دون أن تطالب حتى بعودة القادة الذين تم ترحيلهم وبدون أن تحقق أي إنجازات تم نقلهم من أجلها وتكتفي في أحسن الأحوال بقائمة من الوعود الوهمية يحصلون عليها من رجالات إدارة السجون سرعان ما تتلاشى مع الأيام .
ومع كل هذه المصائب التي تسكن صدر صاحبنا أبو جهاد إلا أنه ومنذ اليوم الأول لقرار حكم المؤبد الذي صدر بحقه عود نفسه على مقولة خاصة به يرددها دوماً بينه وبين نفسه ( عندي أمل بالله أن أخرج من السجن غدا , وبالمقابل أتوقع أن يزورني أبناء أبنائي ً في السجن ) , هذه العبارة على بساطتها تختزل واقع التناقض اليومي الذي يعيشه الأسير مع ذاته في محاولة للتكيف بين التفائل المفرط والتشاؤوم المفرط , في أن يتفائلون بشكل مفرط كي لا يصابوا باليأس والإحباط وفقدان الأمل بالحية , ويتشائمون بشكل مفرط أيضاً كي لا يصابوا بصدمة الواقع المر الذي لا زال يعيشه بعضهم منذ ثلث قرن تقريباً , خيوط من العذاب المؤلم ولكن بإرادة قوية يعيش هؤلاء الأحياء في قبور الأحياء ليبقوا منارات تضيء ظلام السجن والسجان
تعليق