كأنها هنا طرابلس..
والشارع الخلفي للفندق الذي ننزل فيه يخبيء أقمار طرابلس الغرب، وطرابلس الشرق ، وبغداد، وبيروت، ودمشق، والقاهرة، وتونس، والقدس من قبل ومن بعد، ويخبئنا في حناياه، وفي التفاتة ليبي أضاع طريقه لبيته، ليعرج عليَّ سائلا” إن كنت أعرف بيته..؟”.
ضحكت، قلت له .. لست الطرابلسي هنا، فانا من عمان من الشآم، وكم يحلو للحمنا المغربي بتسمياتنا، قال لي ” شآمي أنت؟” قلت نعم، ومن عمان، ضحك قليلا قبل أن يعيد عليَّ سؤاله” هل تعرف بيتي؟؟.
غادرت المكان قليلا، قبل أن أعود إليه، فقد تسمَّر مكانه ، ينظر لكل جهات الأرض، طرابلس التي يعرفها لم تعد هي ذاتها التي يحلو له التجوال فيها، كان غائبا عن نفسه قليلا، لم يكن قد شرب “بوك” الحشيش، ولم يتعاطى ألوان الخمر، ولم يكن قادرا حتى على شراء خبز لأطفاله.
“كأنك أضعت بيتك فعلا؟؟” سألته، قال لي، أراك عدت، ألست الشآمي الذي كان هنا قبلُ، والله لقد أَضعت بيتي، وهناك جاري ، أذكره تماما منذ أربعين عاما، سألته عن بيتي فأنكرني، لا يعرفني، أنا أيها الشآمي أضعت بيتي، وليس لي في جهات الأرض ما يدلني عليه..
هنا طرابلس .. عاصمة تلفظ أنفاسها التعبى على مهل، تدخل غرفة العمليات في ولادة قيصرية، وأنا بالقرب من فندقي ، بالقرب من ساحة الشهداء الجديدة، وبالقرب من المتحف كنت أنا الآخر أسأل إن كان أحد في طرابلس الغرب، سيعرف مدينته لاحقا..
تركت الليبي الطرابلسي على قارعة الطريق ليستدل على منزله، فأنا الغريب في طرابلس لا اعرف منها وفيها غير ما تعرفت عليه في زيارتي، الشاطيء المتوسطي الأزرق، والمتحف الذي يضم بين جدرانه بعض تاريخ ليبيا، وبضعة حواري في طرابلس ضعت فيها يوما كاملا، من أجل الهروب من رحلة صعبة كانت محكومة بالبروتوكول والمشاعر الرسمية غير النبيله.
هنا في طرابلس تضيع الأسماء ، تختفي تماما، لكن الكثير منها يعلق في مخيلتك، صباحا كان المطر ينهمل ناعما كأنه يتحسس وجه امرأة التقاها للتو، الساعة السادسة صباحا، وطرابلس نائمة على أهدابها، غادرت فندقي وذهبت الى البحر، الى المتوسط الذي كان ولا يزال يداعب خلاخيل طرابلس، القيت بكل ثقلي على رمل الشاطيء، ولا شيء في طرابلس يدلك على وجود شاطيء، بقيت ممددا ، اكملت نومي، ولما يزل مطر السماء يداعب أذني البحر وخلاخيله.
هل اعود للفندق البحري على البحر بالقرب من الساحة الخضراء؟ هل أبقى في مكاني أتلذذ بهذا الكائن المبهج صاحب الياقات البيضاء الفاصل بين قارتين تحتفلان دوما بالتاريخ ولا تحفلان به.
لم أنتبه لساعتي، لم أعرف كم من الوقت قضيته على هذه السجادة العتيقة من رمل المتوسط الأبيض الذي يمد يديه لطرابلس، آه.. بيدي ضربت على رأسي، كم من الوقت لك هنا يا وليد، شعرت أن ثمة من يقرأ عليَّ فواتح السور الكبرى في القرآن، ثلاث ساعات، هل كانت كافية تلك الساعات الثلاث لأعرف أن البحر في طرابلس لم يعد بحرها، وأن النوافذ المشرعة من بعيد على البحر لم تعد ترى غير زواله المتلاشي في حركة الجزر.
حملتني قدماي إلى مكان آخر كان يشتعل بالفكرة، لتذهب الى طرابلس بعينيك هذه المرة، لا تترك مرافقك الرسمي يفتح لك أبوابها، دعها هي التي تقرر إن كانت تقدر على فتح الأبواب في وجهك أم لا، قررت سريعا الذهاب مع فكرتي، وليذهب البروتوكول الى الجحيم.
الى جانب السائق الطرابلسي جلست هادئا، ومنتشيا، هذه هي طرابلس إذن، قال لي من أين، قلت من الأردن، من عمان، صحفي جاء للتعارف، ضحك، كان يدخن بشراهة ، أين تريد الذهاب، قلت له، أنا أسيرك، فاذهب بي الى طرابلس، ضحك قليلا، هل أشرح لك، قلت له بالتأكيد، فأنا لا اعرف طرابلس، أٌقرأ عنها من بعيد، ولا أدري إن كنت اعرفها، فهذه امرأة من الواضح أنها لا تزال خارج الأرض، بيوت قديمة، شوارع يأكلها التعب، وأناس بسطاء الى حد الطيبة المفرطة.
أشار بيديه الى طرابلس قال، هذه هي طرابلس، هل ترى كل هذه المباني، كلها من عهد المستعمر الايطالي لم نضف اليها أي جديد، ربما لأننا أردنا أن تكون جزءا من تاريخ ليبيا بعد الثورة.
الى سوق الجمعة، قال لي لنذهب الى سوق الجمعة، هناك ستعرف إن كنت في طرابلس حقا، وكان له ما أراد، وباعتباري شآمي مشرقي لا يعرف المغرب العربي، فقد ظننت أن سوق الجمعة هو سوق شعبي كتلك الأسواق التي عندنا، لكنه حي سكني، وفوجئت أكثر بأن اليوم الذي نحن فيه كان يوم جمعة، نسيت تماما إن كنت في يوم جمعة أو خميس، فمن الواضح انك في ليبيا لن تهتم كثيرا إن كنت تعيش في يوم الخميس أو في يوم السبت.
طالت الرحلة مع السائق الطرابلسي، لنعود الى الفندق فقد هجم الليل، لم اشعر أن الرحلة في طرابلس تستغرق كل هذا الوقت للبحث عن طرابلس في داخلها، الناس فيها يهتمون بك، في أحد المحلات التجارية التي توقفنا فيها عرف صاحب المحل انني أردني، فحلف بأغلظ الأيمان التي يعرفها ولا أعرفها أن يكون غداءنا على حسابه، رجل اخر وزوجته وفي محل آخر عرف هويتي من لهجتي، فأمسك بيدي لأكون ضيفه على العشاء، ولم يتوقف الأمر عنده فقد تدخلت زوجته هي الأخرى في محاولة أخيرة لمعاضدة زوجها لإستضافتي على العشاء، وكم تعبت بالإعتذار قبل أن يقبلوه.
قال الرجل” كنت في عمان قبل أشهر في رحلة علاج، الأردنيون طيبون وقد غمروني بلطفهم، ولا بد من رد الجميل” كان الرجل يؤسس بيني وبينه لعلاقات جديدة عن معنى النبل في العلاقات الشعبية بين العرب بعيدا عن الدبلوماسية والبروتوكولات والحسابات السياسية البغيضه.
إذن أنا هنا،، بفضل أردنيين لا اعرفهم أتمتع بكل هذا الفضل من الكرم والإحترام والتقدير من أناس أيضا لا أعرفهم، مروا بي ومررت بهم في علاقات عابرة في عاصمة بدت وكأنها لا تزال تبحث عن شطآن تستريح فيها في رحلتها الطويلة العابره.
في المتحف أيضا بدت الصورة أكثر نضجا في طرابلس، نظارة شيخ المجاهدين عمر المختار تتصدر المتحف، بعض مقتنياته، وتاريخ كامل يرقد هناك، كانت لا تزال هيبة عمر المختار تفرض نفسها على المكان، ولم تستطع إبداعات الفن الروماني أن تؤثر على مكانة المختار في هذا المكان الذي تعود لقرون أن يشرب من شاطيء المتوسط في كل لحظة.
هاجمتني فجأة كل تفاصيل فيلم المرحوم مصطفى العقاد عن المختار، هجمت عليّ دفعة واحدة وأنا أحدق في نظارة عمر المختار، تحسست نظارتي قليلا، “هل هي حقا؟؟” سألت السائق إن كانت هذه النظارة هي حقا”، وأومأ برأسه ” نعم.. قالوا لنا إنها هي”.. ولا أدري لماذا وقف الزمن في خيالي عند اللقطة الأخيرة من فيلم عمر المختار، عندما سقطت نظارته عن عينيه لحظة إعدامه ، ليسارع الطفل”علي” لالتقاطها ووضعها على عينيه.
هل كان العقاد يريد القول إنها الميراث الأخير لصناعة الرؤيا في ليبيا، هل أراد أن يقول لنا إنها ذات العينين التي يجب النظر بهما الى المستقبل.. أسئلة أخرى كانت تراودني وأنا أحدق مطولا في نظارة من قال”نحن لا نستسلم.. ننتصر أو نموت..”.
“هل ستبقى واقفا هنا”، سألني السائق ضاحكا” أمامنا طريق طويل للبحث عن طرابلس ..”، استدرت إليه وأكملت رحلتنا في المتحف الذي وقف القذافي على سقفه وأطل على مؤيديه منه قبل أشهر قائلا لهم ارقصوا وغنوا.. محرضا إياهم على مقاومة ما يسمى بالثورة التي كانت قد استقلت في حينه ببنغازي.
عدت للفندق البحري وقد هجم الليل، بعد ان قضيت نحو نصف ساعة وأنا أقنع السائق بضرورة ان يتقاضى أجرته مني، وصلنا الى حد المبارزة بالأيمان، أخيرا قال لي سآخذ نصف أجرتي، فقد قضيت وقتا ممتعا معك، هذه صدفة لم تتكرر معي من قبل وأن أرافق صحفيا في طرابلس بدون ان تكون كل أجهزة الأمن الليبية تراقبنا..
تبسمت وسألته هذه لهجة مختلفة لم أسمعها منذ الصباح، خبَّأت في نفسك أسرارك إذن،، ولم يجب، وإنما دنا قليلا الى أذني قائلا” يسقط القذافي..”.
لوَّح بيديه لي، وأنا ما زلت تحت وطأة المفاجأة”يسقط القذافي..” هنا في ليبيا.. في طرابلس.. هل يعقل هذا.. وقبل أن تتحرك سيارته قال لي بصوت مرتفع” هذا سر…ولن تراني “، وغاب سريعا في الشارع الموازي للبحر المطل على طرابلس .
في بهو الفندق كانت الأمور مختلفة كثيرا، المسؤولون الليبيون الذين يرافقون رحلتنا يبحثون عني في كل مكان، يريدون معرفة أين أخذتني خطواتي، أين ذهب هذا الرجل، مع من كنت، خفنا عليك قالوا يبررون أسئلتهم التي أمطروني بها… وأسئلة أخرى كثيرة اكتفيت بالإجابة عليها بأنني كنت أتجول في طرابلس.. وتركتهم صاعدا الى غرفتي.
في طرابلس .. في تلك السنة بالذات، في ذلك المكان نفسه، كنت أبحث عن ليبيا المقبلة في تضاريس بدلة الزعيم، استذكر خطبة”الطز الكبرى ” الشهيرة، ربما في نهاية سبعينيات القرن الماضي التي وقف القذافي فيها بجموع المحتشدين من مؤيديه ليستعرض أمامهم معلوماته الجغرافية وليذكر كل دول العالم دون استثناء ويتبع كل دولة بكلمة طز” أمريكا.. طز في أمريكا”..” بريطانيا .. طرز في بريطانيا” وهكذا حتى وصل الأمر به الى ليبيا فقال” الجماهيرية العربية الليبية الإشتراكية العظمى.. طز..” و” العقيد معمر القذافي.. طز..” .
وفي طرابلس .. في هذه السنة بالذات، في ذلك المكان نفسه، وقف الطرابلسيون فوق بدلة الزعيم يهتفون “طز في العقيد القذافي..”، وكأنهم يذكرونني برحلتي تلك ، وبالسر الذي أودعه في أذني سائق في طرابلس، شاء ان يختم علاقتنا التي امتدت لنصف يوم بالهتاف”يسقط القذافي..”.
ولكن الفرق بالتأكيد كبير بين رحلة الأمس الى طرابلس، وأية رحلة ــ ربما ــ سأقوم بها اليها لاحقا، فطرابلس في تلك السنة بالذات، وفي ذلك المكان نفسه، كانت تلعن ايطاليا التي تقف خارج أبوابها، وتلعن أمريكا التي كانت تحاصر كل أبوابها، أما الآن فان طرابلس نفسها لن تستطيع إغلاق أبوابها في وجه إيطاليا وأمريكا والناتو، وستبحث كثيرا عن وقت أطول لتعرف طرابلس إن كانت أقدر اليوم على حمل مفاتيح منازلها، أم أنها ستتحول إلى مستأجر قديم لدى مالك جديد..
هي طرابلس.. على البحر كانت ولم تزل، وانا هنا أستعيد صورا لما فات من لقاء استثنائي بدأ وانتهى فيها على غفلة من زمن لم نكن قد تعودنا فيه بعد على وداع العواصم إذ تسقط بالسلاح تارة، وباسم الثورة تارة أخرى في يد الأسياد الجدد.
أغمضت عيني قليلا وأنا أرى طرابلس تلبس ثوبها الجديد.. تذكرت ذاك السائق على باب الفندق البحري وهو يدنو من أذني هاتفا”يسقط القذافي.. هذا سر .. ولن تراني..”، فيما كانت يداي تتحسسان صورة لي وأنا أداعب غزالة مسبية كانت تعرض للفرجة في الساحة الخضراء في طرابلس..
لكنني سألت نفسي.. هل استدل الليبي الذي أضاع منزله في طرابلس على منزله أم أنه لا يزال ضائعا يبحث عمَّن يدله عليه..؟؟؟!!.
والشارع الخلفي للفندق الذي ننزل فيه يخبيء أقمار طرابلس الغرب، وطرابلس الشرق ، وبغداد، وبيروت، ودمشق، والقاهرة، وتونس، والقدس من قبل ومن بعد، ويخبئنا في حناياه، وفي التفاتة ليبي أضاع طريقه لبيته، ليعرج عليَّ سائلا” إن كنت أعرف بيته..؟”.
ضحكت، قلت له .. لست الطرابلسي هنا، فانا من عمان من الشآم، وكم يحلو للحمنا المغربي بتسمياتنا، قال لي ” شآمي أنت؟” قلت نعم، ومن عمان، ضحك قليلا قبل أن يعيد عليَّ سؤاله” هل تعرف بيتي؟؟.
غادرت المكان قليلا، قبل أن أعود إليه، فقد تسمَّر مكانه ، ينظر لكل جهات الأرض، طرابلس التي يعرفها لم تعد هي ذاتها التي يحلو له التجوال فيها، كان غائبا عن نفسه قليلا، لم يكن قد شرب “بوك” الحشيش، ولم يتعاطى ألوان الخمر، ولم يكن قادرا حتى على شراء خبز لأطفاله.
“كأنك أضعت بيتك فعلا؟؟” سألته، قال لي، أراك عدت، ألست الشآمي الذي كان هنا قبلُ، والله لقد أَضعت بيتي، وهناك جاري ، أذكره تماما منذ أربعين عاما، سألته عن بيتي فأنكرني، لا يعرفني، أنا أيها الشآمي أضعت بيتي، وليس لي في جهات الأرض ما يدلني عليه..
هنا طرابلس .. عاصمة تلفظ أنفاسها التعبى على مهل، تدخل غرفة العمليات في ولادة قيصرية، وأنا بالقرب من فندقي ، بالقرب من ساحة الشهداء الجديدة، وبالقرب من المتحف كنت أنا الآخر أسأل إن كان أحد في طرابلس الغرب، سيعرف مدينته لاحقا..
تركت الليبي الطرابلسي على قارعة الطريق ليستدل على منزله، فأنا الغريب في طرابلس لا اعرف منها وفيها غير ما تعرفت عليه في زيارتي، الشاطيء المتوسطي الأزرق، والمتحف الذي يضم بين جدرانه بعض تاريخ ليبيا، وبضعة حواري في طرابلس ضعت فيها يوما كاملا، من أجل الهروب من رحلة صعبة كانت محكومة بالبروتوكول والمشاعر الرسمية غير النبيله.
هنا في طرابلس تضيع الأسماء ، تختفي تماما، لكن الكثير منها يعلق في مخيلتك، صباحا كان المطر ينهمل ناعما كأنه يتحسس وجه امرأة التقاها للتو، الساعة السادسة صباحا، وطرابلس نائمة على أهدابها، غادرت فندقي وذهبت الى البحر، الى المتوسط الذي كان ولا يزال يداعب خلاخيل طرابلس، القيت بكل ثقلي على رمل الشاطيء، ولا شيء في طرابلس يدلك على وجود شاطيء، بقيت ممددا ، اكملت نومي، ولما يزل مطر السماء يداعب أذني البحر وخلاخيله.
هل اعود للفندق البحري على البحر بالقرب من الساحة الخضراء؟ هل أبقى في مكاني أتلذذ بهذا الكائن المبهج صاحب الياقات البيضاء الفاصل بين قارتين تحتفلان دوما بالتاريخ ولا تحفلان به.
لم أنتبه لساعتي، لم أعرف كم من الوقت قضيته على هذه السجادة العتيقة من رمل المتوسط الأبيض الذي يمد يديه لطرابلس، آه.. بيدي ضربت على رأسي، كم من الوقت لك هنا يا وليد، شعرت أن ثمة من يقرأ عليَّ فواتح السور الكبرى في القرآن، ثلاث ساعات، هل كانت كافية تلك الساعات الثلاث لأعرف أن البحر في طرابلس لم يعد بحرها، وأن النوافذ المشرعة من بعيد على البحر لم تعد ترى غير زواله المتلاشي في حركة الجزر.
حملتني قدماي إلى مكان آخر كان يشتعل بالفكرة، لتذهب الى طرابلس بعينيك هذه المرة، لا تترك مرافقك الرسمي يفتح لك أبوابها، دعها هي التي تقرر إن كانت تقدر على فتح الأبواب في وجهك أم لا، قررت سريعا الذهاب مع فكرتي، وليذهب البروتوكول الى الجحيم.
الى جانب السائق الطرابلسي جلست هادئا، ومنتشيا، هذه هي طرابلس إذن، قال لي من أين، قلت من الأردن، من عمان، صحفي جاء للتعارف، ضحك، كان يدخن بشراهة ، أين تريد الذهاب، قلت له، أنا أسيرك، فاذهب بي الى طرابلس، ضحك قليلا، هل أشرح لك، قلت له بالتأكيد، فأنا لا اعرف طرابلس، أٌقرأ عنها من بعيد، ولا أدري إن كنت اعرفها، فهذه امرأة من الواضح أنها لا تزال خارج الأرض، بيوت قديمة، شوارع يأكلها التعب، وأناس بسطاء الى حد الطيبة المفرطة.
أشار بيديه الى طرابلس قال، هذه هي طرابلس، هل ترى كل هذه المباني، كلها من عهد المستعمر الايطالي لم نضف اليها أي جديد، ربما لأننا أردنا أن تكون جزءا من تاريخ ليبيا بعد الثورة.
الى سوق الجمعة، قال لي لنذهب الى سوق الجمعة، هناك ستعرف إن كنت في طرابلس حقا، وكان له ما أراد، وباعتباري شآمي مشرقي لا يعرف المغرب العربي، فقد ظننت أن سوق الجمعة هو سوق شعبي كتلك الأسواق التي عندنا، لكنه حي سكني، وفوجئت أكثر بأن اليوم الذي نحن فيه كان يوم جمعة، نسيت تماما إن كنت في يوم جمعة أو خميس، فمن الواضح انك في ليبيا لن تهتم كثيرا إن كنت تعيش في يوم الخميس أو في يوم السبت.
طالت الرحلة مع السائق الطرابلسي، لنعود الى الفندق فقد هجم الليل، لم اشعر أن الرحلة في طرابلس تستغرق كل هذا الوقت للبحث عن طرابلس في داخلها، الناس فيها يهتمون بك، في أحد المحلات التجارية التي توقفنا فيها عرف صاحب المحل انني أردني، فحلف بأغلظ الأيمان التي يعرفها ولا أعرفها أن يكون غداءنا على حسابه، رجل اخر وزوجته وفي محل آخر عرف هويتي من لهجتي، فأمسك بيدي لأكون ضيفه على العشاء، ولم يتوقف الأمر عنده فقد تدخلت زوجته هي الأخرى في محاولة أخيرة لمعاضدة زوجها لإستضافتي على العشاء، وكم تعبت بالإعتذار قبل أن يقبلوه.
قال الرجل” كنت في عمان قبل أشهر في رحلة علاج، الأردنيون طيبون وقد غمروني بلطفهم، ولا بد من رد الجميل” كان الرجل يؤسس بيني وبينه لعلاقات جديدة عن معنى النبل في العلاقات الشعبية بين العرب بعيدا عن الدبلوماسية والبروتوكولات والحسابات السياسية البغيضه.
إذن أنا هنا،، بفضل أردنيين لا اعرفهم أتمتع بكل هذا الفضل من الكرم والإحترام والتقدير من أناس أيضا لا أعرفهم، مروا بي ومررت بهم في علاقات عابرة في عاصمة بدت وكأنها لا تزال تبحث عن شطآن تستريح فيها في رحلتها الطويلة العابره.
في المتحف أيضا بدت الصورة أكثر نضجا في طرابلس، نظارة شيخ المجاهدين عمر المختار تتصدر المتحف، بعض مقتنياته، وتاريخ كامل يرقد هناك، كانت لا تزال هيبة عمر المختار تفرض نفسها على المكان، ولم تستطع إبداعات الفن الروماني أن تؤثر على مكانة المختار في هذا المكان الذي تعود لقرون أن يشرب من شاطيء المتوسط في كل لحظة.
هاجمتني فجأة كل تفاصيل فيلم المرحوم مصطفى العقاد عن المختار، هجمت عليّ دفعة واحدة وأنا أحدق في نظارة عمر المختار، تحسست نظارتي قليلا، “هل هي حقا؟؟” سألت السائق إن كانت هذه النظارة هي حقا”، وأومأ برأسه ” نعم.. قالوا لنا إنها هي”.. ولا أدري لماذا وقف الزمن في خيالي عند اللقطة الأخيرة من فيلم عمر المختار، عندما سقطت نظارته عن عينيه لحظة إعدامه ، ليسارع الطفل”علي” لالتقاطها ووضعها على عينيه.
هل كان العقاد يريد القول إنها الميراث الأخير لصناعة الرؤيا في ليبيا، هل أراد أن يقول لنا إنها ذات العينين التي يجب النظر بهما الى المستقبل.. أسئلة أخرى كانت تراودني وأنا أحدق مطولا في نظارة من قال”نحن لا نستسلم.. ننتصر أو نموت..”.
“هل ستبقى واقفا هنا”، سألني السائق ضاحكا” أمامنا طريق طويل للبحث عن طرابلس ..”، استدرت إليه وأكملت رحلتنا في المتحف الذي وقف القذافي على سقفه وأطل على مؤيديه منه قبل أشهر قائلا لهم ارقصوا وغنوا.. محرضا إياهم على مقاومة ما يسمى بالثورة التي كانت قد استقلت في حينه ببنغازي.
عدت للفندق البحري وقد هجم الليل، بعد ان قضيت نحو نصف ساعة وأنا أقنع السائق بضرورة ان يتقاضى أجرته مني، وصلنا الى حد المبارزة بالأيمان، أخيرا قال لي سآخذ نصف أجرتي، فقد قضيت وقتا ممتعا معك، هذه صدفة لم تتكرر معي من قبل وأن أرافق صحفيا في طرابلس بدون ان تكون كل أجهزة الأمن الليبية تراقبنا..
تبسمت وسألته هذه لهجة مختلفة لم أسمعها منذ الصباح، خبَّأت في نفسك أسرارك إذن،، ولم يجب، وإنما دنا قليلا الى أذني قائلا” يسقط القذافي..”.
لوَّح بيديه لي، وأنا ما زلت تحت وطأة المفاجأة”يسقط القذافي..” هنا في ليبيا.. في طرابلس.. هل يعقل هذا.. وقبل أن تتحرك سيارته قال لي بصوت مرتفع” هذا سر…ولن تراني “، وغاب سريعا في الشارع الموازي للبحر المطل على طرابلس .
في بهو الفندق كانت الأمور مختلفة كثيرا، المسؤولون الليبيون الذين يرافقون رحلتنا يبحثون عني في كل مكان، يريدون معرفة أين أخذتني خطواتي، أين ذهب هذا الرجل، مع من كنت، خفنا عليك قالوا يبررون أسئلتهم التي أمطروني بها… وأسئلة أخرى كثيرة اكتفيت بالإجابة عليها بأنني كنت أتجول في طرابلس.. وتركتهم صاعدا الى غرفتي.
في طرابلس .. في تلك السنة بالذات، في ذلك المكان نفسه، كنت أبحث عن ليبيا المقبلة في تضاريس بدلة الزعيم، استذكر خطبة”الطز الكبرى ” الشهيرة، ربما في نهاية سبعينيات القرن الماضي التي وقف القذافي فيها بجموع المحتشدين من مؤيديه ليستعرض أمامهم معلوماته الجغرافية وليذكر كل دول العالم دون استثناء ويتبع كل دولة بكلمة طز” أمريكا.. طز في أمريكا”..” بريطانيا .. طرز في بريطانيا” وهكذا حتى وصل الأمر به الى ليبيا فقال” الجماهيرية العربية الليبية الإشتراكية العظمى.. طز..” و” العقيد معمر القذافي.. طز..” .
وفي طرابلس .. في هذه السنة بالذات، في ذلك المكان نفسه، وقف الطرابلسيون فوق بدلة الزعيم يهتفون “طز في العقيد القذافي..”، وكأنهم يذكرونني برحلتي تلك ، وبالسر الذي أودعه في أذني سائق في طرابلس، شاء ان يختم علاقتنا التي امتدت لنصف يوم بالهتاف”يسقط القذافي..”.
ولكن الفرق بالتأكيد كبير بين رحلة الأمس الى طرابلس، وأية رحلة ــ ربما ــ سأقوم بها اليها لاحقا، فطرابلس في تلك السنة بالذات، وفي ذلك المكان نفسه، كانت تلعن ايطاليا التي تقف خارج أبوابها، وتلعن أمريكا التي كانت تحاصر كل أبوابها، أما الآن فان طرابلس نفسها لن تستطيع إغلاق أبوابها في وجه إيطاليا وأمريكا والناتو، وستبحث كثيرا عن وقت أطول لتعرف طرابلس إن كانت أقدر اليوم على حمل مفاتيح منازلها، أم أنها ستتحول إلى مستأجر قديم لدى مالك جديد..
هي طرابلس.. على البحر كانت ولم تزل، وانا هنا أستعيد صورا لما فات من لقاء استثنائي بدأ وانتهى فيها على غفلة من زمن لم نكن قد تعودنا فيه بعد على وداع العواصم إذ تسقط بالسلاح تارة، وباسم الثورة تارة أخرى في يد الأسياد الجدد.
أغمضت عيني قليلا وأنا أرى طرابلس تلبس ثوبها الجديد.. تذكرت ذاك السائق على باب الفندق البحري وهو يدنو من أذني هاتفا”يسقط القذافي.. هذا سر .. ولن تراني..”، فيما كانت يداي تتحسسان صورة لي وأنا أداعب غزالة مسبية كانت تعرض للفرجة في الساحة الخضراء في طرابلس..
لكنني سألت نفسي.. هل استدل الليبي الذي أضاع منزله في طرابلس على منزله أم أنه لا يزال ضائعا يبحث عمَّن يدله عليه..؟؟؟!!.