لو توقف الأمر عند حدود انتقاد الدكتور محمود الزهار، القيادي في حركة حماس، لموقف خالد مشعل من قضية مهلة التفاوض التي قيل إنه منحها لمحمود عباس أثناء حفل توقيع المصالحة في القاهرة لما استحق الأمر الكثير من التوقف والمتابعة، لأن الموقف لم يكن صائبا بالفعل، لكن الانتقاد لم يخف قصد الانتقاص من هيبة، بل وأهمية المكتب السياسي في الخارج.
وقد تأكد ذلك عندما تحدث الزهار لصحيفة الأخبار اللبنانية (24/5) عن إعادة النظر في دور الخارج في حماس عبر كلمات تنم عن استخفاف واضح بذلك الدور، حيث قال بالنص "المركز الرئيسي لحركة "حماس" في الأرض المحتلة، وثقلها الحقيقي فيها، والدماء تسيل فيها، والقيادة هنا، وإن كان الجزء المكمل في الخارج. وهذا موضوع تحت المراجعة حقيقةً. هذه تجربة مزّقت قيادة الحركة في أكثر من مكان وتحتاج إلى مراجعة".
من الضروري القول ابتداءً إن حديثنا في هذا الشأن لا يتعلق بترف التحليل السياسي، وإنما بحرص حقيقي على حركة قدمت الكثير، ليس لفلسطين فحسب، وإنما للأمة بأسرها، هي التي نشرت في أوساط أبنائها ثقافة المقاومة والاستشهاد، فيما ساهمت في نشر الصحوة الإسلامية كما لم تفعل حركة أخرى في العالم الإسلامي، والأهم من ذلك الحرص على حركة لا زال ينتظرها الكثير في معركة تحرير فلسطين، كل فلسطين التي تشكل عنوان تحرر الأمة من الوصاية الأجنبية.
كما أن إشارتنا لموقف الزهار، لا تعني أبدا الانتقاص من دوره وحضوره وتضحياته المتميزة (تضحيته بنجليه تقبلهما الله)، وهو الذي كان ولا يزال أحد أهم رموز الحركة.
وهنا نتمنى من الأحبة أن يتقبلوا الأمر بروحية الحوار الحريص على هذه الشجرة الطيبة، متجاوزين عقد الجغرافيا، ومتذكرين أننا ننتسب لدين عظيم أعلى من شعار "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وعموما فإن ما نطرحه هنا هو اجتهاد نُشهد الله على أنه يريد الخير لهذه الحركة العظيمة التي قدمت نماذج من أروع ما قدمته فلسطين طوال تاريخها (وما قدمت الأمة أيضا)، بل إننا لا نعثر في تاريخ البشرية المكتوب على شخص بعظمة الشيخ أحمد ياسين إذا تذكرنا إمكاناته الجسدية، ويكفينا أن نشير هنا إلى نماذج من أروع الشهداء من أمثال عبد العزيز الرنتيسي وجمال منصور وإبراهيم المقادمة وصلاح شحادة ويحيى عياش وعماد عقل، والقائمة تطول، ومعهم سرب الأبطال الرائعين القابعين خلف القضبان.
في رأينا فإن كلام الزهار الذي كان يُقال في الغرف المغلقة وانتقل إلى العلن لا ينطوي على خير للحركة ومستقبلها، أيا تكن دوافعه، هو الذي يشير إلى استخفاف واضح بدور الخارج في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، فضلا عن تعامله مع الضفة الغربية كما لو كانت مدينة تابعة.
من الضروري القول هنا إن معادلة القضية الفلسطينية تتشكل من أربعة أضلاع هي -إلى جانب القطاع- (الضفة الغربية، الشتات، ومن ثم فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 48 الذين كان لهم دور ريادي خلال العقدين الأخيرين، بخاصة بعد تصدر الشيخ رائد صلاح للمشهد السياسي هناك. كما أن هناك ضلعا آخر له وزنه الكبير يتمثل في العمق العربي والإسلامي.
في الجغرافيا يشكل قطاع غزة 1.5% من المساحة التاريخية لفلسطين، كما يشكل 6% من الأراضي المحتلة عام 67 (يقطنه 15% من الفلسطينيين)، والأكيد أيضا ليس الأكثر أهمية في منظومة الصراع مع العدو الصهيوني، إذ لم يجد أعتى متطرفي الكيان الصهيوني (شارون) حرجا في الانسحاب منه باستثناء شريط حدودي لاعتبارات أمنية.
ولو وافقت مصر على أخذه كاملا وتحمل مسؤولياته لما تردد الإسرائيليون في منحها إياه (العرض لا يزال قائما). مع التذكير بأن الانسحاب منه كان جزءًا من خطة الحل الانتقالي بعيد المدى التي تأسس من أجلها حزب "كاديما"، فيما نعلم أن هناك أصواتا مهمة في الدولة العبرية تنادي بالانفصال الكامل عنه بصرف النظر عن الموقف المصري (موقف ليبرمان على سبيل المثال).
كل ذلك لا يقلل من أهمية القطاع في تاريخ حركة حماس على وجه التحديد، فهو عنوان الحركة الأول، ومنه انطلق شيخها ورائدها، وفيه صنعت بطولات ولا أروع، كان آخرها الصمود البطولي في مواجهة حملة الرصاص المصبوب.
الصراع الحقيقي هو على ما تبقى من فلسطين، وبعد اعتراف العرب بقرار 242 على ما يسميه الصهاينة "يهودا والسامرة"، أي الضفة الغربية والقدس، ومن العبث تبعا لذلك أن يقول أحدهم إن قيادة حركة تريد تحرير فلسطين، كل فلسطين ينبغي أن تتركز في قطاع غزة (لم يحدث هذا مع أي من الفصائل الأخرى)، ليس فقط لأنه يهمّش الشتات الفلسطيني الذي يشكل نصف الفلسطينيين، بل أيضا لأنه يهمّش الضفة الغربية (محور الصراع)، والمنطقة التي قدمت العطاء الأكبر بكل المقاييس.
وللعلم فقتلى الإسرائيليين بعد انتفاضة الأقصى على سبيل المثال في قطاع غزة لا يساوي سوى أقل من 12% من مجموع قتلاهم، ولا يتعلق ذلك بقلة الرجال في القطاع ولا بطولتهم، إذ يربض فيه أسود ولا أروع مدججون بروح الاستشهاد، بل يتعلق بطبيعة وضعه اللوجستي ومحدودية الأهداف.
للشيخ أحمد ياسين استثناء خاص في السياق، ليس لأنه المؤسس فحسب، وإنما لطبيعته الاستثنائية وحكمته الفريدة، ولو كان موجودا، هو أو الرنتيسي لكان مشهد الحركة مختلفا على أكثر الأصعدة (وقف الشيخ بقوة خلف قرار مقاطعة انتخابات أوسلو عام 96)، لكن الإسرائيليين كانوا على الدوام يتخلصون مما يعتقدون أنهم رموز القوة في الفصائل الفلسطينية بالاعتقال والاغتيال.
ما إن اعتقل الشيخ عام 89 ومعظم القيادات بسبب انتقال الحركة نحو مرحلة أكثر فاعلية في الصراع، حتى انتقل ثقل القيادة إلى الخارج بحكم الظروف الموضوعية الجديدة، أولا بقيادة موسى أبو مرزوق وثانيا خالد مشعل.
والنتيجة أن الخارج لم يكن هامشي الدور في حركة حماس (لا أيام رئاسة أبو مرزوق ولا أيام مشعل) فقد حمل مسؤولية الحركة وأدارها خلال سنوات طويلة منذ عام 89 بعد اعتقال قيادات الصف الأول والثاني في الحركة، وهو صنع علاقاتها السياسية، وأمّن لها الموارد المالية، بل وساهم بشكل فاعل في العمل العسكري والمقاوم، وواجه بكفاءة لا بأس بها ما فُرض عليه من أعباء وتضحيات، وهناك المئات من الشباب الذين اعتقلوا وعذبوا في أكثر من دولة عربية على خلفية العمل مع الحركة (من بينهم عرب ومسلمون).
بل إن دور الخارج كان حاضرا بقوة أيام العمل كتجمع "إخواني" قبل تأسيس حماس نهاية عام 87. أما مسألة المخالفات والتجاوزات التي يصعب نفي وجودها، فلا بد من متابعتها عبر المؤسسات المعنية، وعدم التهاون في ذلك من أجل مصلحة الحركة، الأمر الذي ينبغي أن يشمل سائر الفروع والفعاليات.
ما لا يقل أهمية، بل لعله الأهم هو التأكيد على أن الخارج يمثل الشتات الفلسطيني، ولا ينبغي تهميشه بأي حال، فضلا عن الحديث عن الضفة بكل تاريخها وتضحياتها كما لو كانت تحصيل حاصل.
ونذكر هنا أن إعادة تشكيل منظمة التحرير لو تمت بالفعل لا بد أن تمنح الشتات نصف مقاعد المجلس الوطني، وبالتالي نصف القيادة، وللضفة نسبة أكبر من القطاع (في المجلس التشريعي الحالي (نظام الدوائر) للقطاع 24 مقعدا من أصل 66.
ليس من الحكمة أن يطالب البعض بأن يكون قطاع غزة الذي يمكن أن يتحول إلى سجن بقرار سياسي مصري، هو المحرك الوحيد أو شبه الوحيد لقرار الحركة، هو الذي لا يمكنه التواصل مع الضفة على سبيل المثال، ثم إن قطاع غزة مرشح لأن يصبح أقرب إلى دولة جوار لما تبقى من فلسطين، وهو اليوم كذلك في واقع الحال بعد الهدنة أو التهدئة، فكيف يمكن أن يُحشر كامل قرار الحركة فيه؟
كما أن أحدا لا يعرف مصير الوضع بعد المصالحة وإجراء انتخابات جديدة إذا تمت، في ظل احتمال فوز حركة فتح والفصائل الأخرى بالغالبية تبعا لتحالفها معا، مع العلم أنها في نظام "القائمة النسبية" (يوم كانت حماس في ذروة تألقها، قبل المشاركة في انتخابات سلطة أوسلو، وقبل أخطاء الحسم العسكري ومن ثم التفرد بالسلطة، وقبل التورط في خطاب سياسي يقترب من فتح)، حصلت (أعني الفصائل الأخرى) جميعا على نسبة 58% من الأصوات (41 منها لفتح) مقابل 42% لحركة حماس (حركة الجهاد قاطعت وستقاطع في المرة القادمة).
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل هذا التناقض بين الداخل (في غزة تحديدا، إذ لم يُلمس ذلك في الضفة)، وبين قيادة الخارج متصل بالموقف السياسي كما أوحى انتقاد الزهار لتصريحات مشعل، أم له صلة بالخلافات والمحاصصة واقتسام المواقع؟
يؤسفنا القول إن صلته بالمواقف السياسية محدودة، فالتراجع والتأرجح في الخطاب كان مشتركا بين الطرفين، الأمر الذي كان ذا صلة واضحة بدخول انتخابات أوسلو، كما له صلة بالحسم العسكري والتورط في حكم غزة بانفراد، ولو تتبعنا التراجعات المتعلقة بالخطاب لربما وجدناها أكثر وضوحا في غزة، لاسيما شخص أو عدة أشخاص عرفوا بخطابهم المائع يتساءل الناس حول الجهة التي تمنحهم المواقع والغطاء السياسي، كما أن الزهار نفسه كانت له أخطاء على هذا الصعيد، ويكفي أن نشير هنا إلى المرونة التي أبداها حيال موضوع الاعتراف بالكيان الصهيوني في حوار مع سياسيين أوروبيين "مستقلين" في جنيف حضره هو وعدد من قادة الحركة (الموقف الجماعي كان مختلفا بالطبع).
كل ذلك لا يقلل مرة أخرى من قيمة الرجل الذي نشعر بالارتياح، ومعنا جماهير عريضة من الشارع الفلسطيني والعربي حين نسمعه بين الحين والآخر يستعيد الثوابت الأصيلة للحركة مثل حديثه عن تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وعن المقاومة كبرنامج لا مساومة عليه.
وفي ذات السياق المتعلق بالداخل في غزة، لن ننسى فكرة الموافقة على الاستفتاء التي انطوت على التفاف على فكرة الاعتراف (كان خطأ تجاوزوه بفضل الله)، لكن الأهم هو تورط عدد من الرموز في الداخل والخارج، من بينهم مشعل نفسه، تورطهم في الترديد الممل والعبثي لفكرة دولة 67 مع تجاهل فكرة الهدنة التي طرحها الشيخ أحمد ياسين، وإن أصرّ الجميع (حتى الآن) على رفض الاعتراف، وندعو الله أن يواصلوا الرفض، في ذات الوقت الذي ندعوهم فيه إلى إعادة النظر في هذا المسار الذي يكرر تجربة فتح الفاشلة، ويجرّب المجرّب كما يقال.
مرة أخرى نقول إن الوضع الطبيعي من وجهة نظرنا أن تكون قيادة الحركة جماعية بمكتب في الخارج بصرف النظر عن الأشخاص، ولو كان الزهار نفسه هو القائد أو أي أحد آخر، لما اختلف رأينا أبدا.
صحيح أن وجودها في الخارج ليس مريحا بالكامل، كما لم يمنع الاغتيالات تماما، مع صعوبة الأمر بدليل فشل عملية اغتيال مشعل في عمان، لكننا نعرف في المقابل أن قتل أي قيادي في حماس في القطاع لا يتطلب سوى كلمة واحدة من نتنياهو هي أن فلانا "ابن موت".
هنا تنهض الصيغة الجماعية التي تم التوافق عليها سابقا بين القطاع وبين الضفة والخارج والسجون (حضور السجون في الشورى فقط)، وهي برأينا ورأي كثيرين الصيغة الأفضل، ولا ينبغي العبث بها، وليعلم الجميع أن دور الشتات الفلسطيني قد يكون حاسما في المستقبل بعد زمن الثورات العربية، وقد رأينا تجليا لذلك في ذكرى النكبة يوم سقط عشرون شهيدا في الخارج مقابل واحد في الضفة والقطاع.
ثم إن دور الضفة سيكون الأهم في حال اندلاع انتفاضة سلمية عارمة يأتيها الزخم من الخارج، فضلا عن تطورها، أو جزء منها لكفاح مسلح في وقت من الأوقات.
الذي لا يقل أهمية في سياق الفعل القيادي لحماس هو دور الخارج العربي والإسلامي، وفيما كان للتنظيم الدولي للإخوان بعض المشاركة في صياغة الرأي والموقف داخل الحركة في السابق، فإن من الأفضل أن يجري تفعيل هذا الدور على نحو أقوى من أجل حماية قرار الحركة وبوصلتها، فضلا عن تأكيد عروبة القضية وإسلاميتها، وقد رأينا كيف أدى غياب التنظيم الدولي عن قرار الإخوان العراقيين (اكتفى بالنصيحة) إلى انحراف واضح في النهج والبوصلة، من فارق كبير بين التجربتين.
إن الوضع الذي تعيشه الحركة، والذي أدى إلى هذا الجدل المؤسف، إنما هو نتاج ارتباك البوصلة الذي أصابها منذ مشاركتها في انتخابات أوسلو، ومن بعد ذلك الحسم العسكري الذي ثبت أن الإسرائيليين كانوا فرحين به (وثائق ويكيليكس أثبتت ذلك)، وصولا إلى المصالحة على قاعدة برنامج فتح عمليا، ولا قيمة لمنح عباس مهلة للتفاوض أو عدم منحه، لأنه يتفاوض عمليا باسم الفلسطينيين، بينما المقاومة غير موجودة في القطاع ومقموعة في الضفة الغربية. ويزداد الأسف حين يحدث ذلك بعد زمن الثورات العربية التي ينبغي أن تشكل رافعة للقضية برمتها.
بقي القول إننا نتمنى أن تتجاوز الحركة هذا الحوار المؤسف، فما ينتظرها لا يزال كبيرا، وهي برأينا الأحق والأجدر بقيادة الشعب الفلسطيني، لكن القيادة لها ضريبتها، وضريبتها التضحيات مع التمسك بالثوابت الأصيلة، وليس ثوابت "القرارات الدولية"، وقد قدم الشيخ ياسين هذا النموذج الرائع من قبل فأعجز خصومه وبهر أعداءه على حد سواء.
وكانت التجربة من بعده جيدة في معظم المواقع والمفاصل لولا الارتباك الأخير الذي أشرنا إليه، وفي قيادة الحركة اليوم (في الداخل والخارج وفي المقدمة كتائب القسام) رجال بوسعهم المضي بالتجربة نحو آفاق الانتصار (نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله).
وليعذرنا الدكتور الزهار الذي جاءت هذه السطور بسبب تصريحاته، فهي تأتي من موقع المحبة والاحترام والنصيحة لأهل الرأي والقرار في حماس وسواها من مواقع التأثير في الأمة.
وقد تأكد ذلك عندما تحدث الزهار لصحيفة الأخبار اللبنانية (24/5) عن إعادة النظر في دور الخارج في حماس عبر كلمات تنم عن استخفاف واضح بذلك الدور، حيث قال بالنص "المركز الرئيسي لحركة "حماس" في الأرض المحتلة، وثقلها الحقيقي فيها، والدماء تسيل فيها، والقيادة هنا، وإن كان الجزء المكمل في الخارج. وهذا موضوع تحت المراجعة حقيقةً. هذه تجربة مزّقت قيادة الحركة في أكثر من مكان وتحتاج إلى مراجعة".
من الضروري القول ابتداءً إن حديثنا في هذا الشأن لا يتعلق بترف التحليل السياسي، وإنما بحرص حقيقي على حركة قدمت الكثير، ليس لفلسطين فحسب، وإنما للأمة بأسرها، هي التي نشرت في أوساط أبنائها ثقافة المقاومة والاستشهاد، فيما ساهمت في نشر الصحوة الإسلامية كما لم تفعل حركة أخرى في العالم الإسلامي، والأهم من ذلك الحرص على حركة لا زال ينتظرها الكثير في معركة تحرير فلسطين، كل فلسطين التي تشكل عنوان تحرر الأمة من الوصاية الأجنبية.
كما أن إشارتنا لموقف الزهار، لا تعني أبدا الانتقاص من دوره وحضوره وتضحياته المتميزة (تضحيته بنجليه تقبلهما الله)، وهو الذي كان ولا يزال أحد أهم رموز الحركة.
وهنا نتمنى من الأحبة أن يتقبلوا الأمر بروحية الحوار الحريص على هذه الشجرة الطيبة، متجاوزين عقد الجغرافيا، ومتذكرين أننا ننتسب لدين عظيم أعلى من شعار "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وعموما فإن ما نطرحه هنا هو اجتهاد نُشهد الله على أنه يريد الخير لهذه الحركة العظيمة التي قدمت نماذج من أروع ما قدمته فلسطين طوال تاريخها (وما قدمت الأمة أيضا)، بل إننا لا نعثر في تاريخ البشرية المكتوب على شخص بعظمة الشيخ أحمد ياسين إذا تذكرنا إمكاناته الجسدية، ويكفينا أن نشير هنا إلى نماذج من أروع الشهداء من أمثال عبد العزيز الرنتيسي وجمال منصور وإبراهيم المقادمة وصلاح شحادة ويحيى عياش وعماد عقل، والقائمة تطول، ومعهم سرب الأبطال الرائعين القابعين خلف القضبان.
في رأينا فإن كلام الزهار الذي كان يُقال في الغرف المغلقة وانتقل إلى العلن لا ينطوي على خير للحركة ومستقبلها، أيا تكن دوافعه، هو الذي يشير إلى استخفاف واضح بدور الخارج في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، فضلا عن تعامله مع الضفة الغربية كما لو كانت مدينة تابعة.
من الضروري القول هنا إن معادلة القضية الفلسطينية تتشكل من أربعة أضلاع هي -إلى جانب القطاع- (الضفة الغربية، الشتات، ومن ثم فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 48 الذين كان لهم دور ريادي خلال العقدين الأخيرين، بخاصة بعد تصدر الشيخ رائد صلاح للمشهد السياسي هناك. كما أن هناك ضلعا آخر له وزنه الكبير يتمثل في العمق العربي والإسلامي.
في الجغرافيا يشكل قطاع غزة 1.5% من المساحة التاريخية لفلسطين، كما يشكل 6% من الأراضي المحتلة عام 67 (يقطنه 15% من الفلسطينيين)، والأكيد أيضا ليس الأكثر أهمية في منظومة الصراع مع العدو الصهيوني، إذ لم يجد أعتى متطرفي الكيان الصهيوني (شارون) حرجا في الانسحاب منه باستثناء شريط حدودي لاعتبارات أمنية.
ولو وافقت مصر على أخذه كاملا وتحمل مسؤولياته لما تردد الإسرائيليون في منحها إياه (العرض لا يزال قائما). مع التذكير بأن الانسحاب منه كان جزءًا من خطة الحل الانتقالي بعيد المدى التي تأسس من أجلها حزب "كاديما"، فيما نعلم أن هناك أصواتا مهمة في الدولة العبرية تنادي بالانفصال الكامل عنه بصرف النظر عن الموقف المصري (موقف ليبرمان على سبيل المثال).
كل ذلك لا يقلل من أهمية القطاع في تاريخ حركة حماس على وجه التحديد، فهو عنوان الحركة الأول، ومنه انطلق شيخها ورائدها، وفيه صنعت بطولات ولا أروع، كان آخرها الصمود البطولي في مواجهة حملة الرصاص المصبوب.
الصراع الحقيقي هو على ما تبقى من فلسطين، وبعد اعتراف العرب بقرار 242 على ما يسميه الصهاينة "يهودا والسامرة"، أي الضفة الغربية والقدس، ومن العبث تبعا لذلك أن يقول أحدهم إن قيادة حركة تريد تحرير فلسطين، كل فلسطين ينبغي أن تتركز في قطاع غزة (لم يحدث هذا مع أي من الفصائل الأخرى)، ليس فقط لأنه يهمّش الشتات الفلسطيني الذي يشكل نصف الفلسطينيين، بل أيضا لأنه يهمّش الضفة الغربية (محور الصراع)، والمنطقة التي قدمت العطاء الأكبر بكل المقاييس.
وللعلم فقتلى الإسرائيليين بعد انتفاضة الأقصى على سبيل المثال في قطاع غزة لا يساوي سوى أقل من 12% من مجموع قتلاهم، ولا يتعلق ذلك بقلة الرجال في القطاع ولا بطولتهم، إذ يربض فيه أسود ولا أروع مدججون بروح الاستشهاد، بل يتعلق بطبيعة وضعه اللوجستي ومحدودية الأهداف.
للشيخ أحمد ياسين استثناء خاص في السياق، ليس لأنه المؤسس فحسب، وإنما لطبيعته الاستثنائية وحكمته الفريدة، ولو كان موجودا، هو أو الرنتيسي لكان مشهد الحركة مختلفا على أكثر الأصعدة (وقف الشيخ بقوة خلف قرار مقاطعة انتخابات أوسلو عام 96)، لكن الإسرائيليين كانوا على الدوام يتخلصون مما يعتقدون أنهم رموز القوة في الفصائل الفلسطينية بالاعتقال والاغتيال.
ما إن اعتقل الشيخ عام 89 ومعظم القيادات بسبب انتقال الحركة نحو مرحلة أكثر فاعلية في الصراع، حتى انتقل ثقل القيادة إلى الخارج بحكم الظروف الموضوعية الجديدة، أولا بقيادة موسى أبو مرزوق وثانيا خالد مشعل.
والنتيجة أن الخارج لم يكن هامشي الدور في حركة حماس (لا أيام رئاسة أبو مرزوق ولا أيام مشعل) فقد حمل مسؤولية الحركة وأدارها خلال سنوات طويلة منذ عام 89 بعد اعتقال قيادات الصف الأول والثاني في الحركة، وهو صنع علاقاتها السياسية، وأمّن لها الموارد المالية، بل وساهم بشكل فاعل في العمل العسكري والمقاوم، وواجه بكفاءة لا بأس بها ما فُرض عليه من أعباء وتضحيات، وهناك المئات من الشباب الذين اعتقلوا وعذبوا في أكثر من دولة عربية على خلفية العمل مع الحركة (من بينهم عرب ومسلمون).
بل إن دور الخارج كان حاضرا بقوة أيام العمل كتجمع "إخواني" قبل تأسيس حماس نهاية عام 87. أما مسألة المخالفات والتجاوزات التي يصعب نفي وجودها، فلا بد من متابعتها عبر المؤسسات المعنية، وعدم التهاون في ذلك من أجل مصلحة الحركة، الأمر الذي ينبغي أن يشمل سائر الفروع والفعاليات.
ما لا يقل أهمية، بل لعله الأهم هو التأكيد على أن الخارج يمثل الشتات الفلسطيني، ولا ينبغي تهميشه بأي حال، فضلا عن الحديث عن الضفة بكل تاريخها وتضحياتها كما لو كانت تحصيل حاصل.
ونذكر هنا أن إعادة تشكيل منظمة التحرير لو تمت بالفعل لا بد أن تمنح الشتات نصف مقاعد المجلس الوطني، وبالتالي نصف القيادة، وللضفة نسبة أكبر من القطاع (في المجلس التشريعي الحالي (نظام الدوائر) للقطاع 24 مقعدا من أصل 66.
ليس من الحكمة أن يطالب البعض بأن يكون قطاع غزة الذي يمكن أن يتحول إلى سجن بقرار سياسي مصري، هو المحرك الوحيد أو شبه الوحيد لقرار الحركة، هو الذي لا يمكنه التواصل مع الضفة على سبيل المثال، ثم إن قطاع غزة مرشح لأن يصبح أقرب إلى دولة جوار لما تبقى من فلسطين، وهو اليوم كذلك في واقع الحال بعد الهدنة أو التهدئة، فكيف يمكن أن يُحشر كامل قرار الحركة فيه؟
كما أن أحدا لا يعرف مصير الوضع بعد المصالحة وإجراء انتخابات جديدة إذا تمت، في ظل احتمال فوز حركة فتح والفصائل الأخرى بالغالبية تبعا لتحالفها معا، مع العلم أنها في نظام "القائمة النسبية" (يوم كانت حماس في ذروة تألقها، قبل المشاركة في انتخابات سلطة أوسلو، وقبل أخطاء الحسم العسكري ومن ثم التفرد بالسلطة، وقبل التورط في خطاب سياسي يقترب من فتح)، حصلت (أعني الفصائل الأخرى) جميعا على نسبة 58% من الأصوات (41 منها لفتح) مقابل 42% لحركة حماس (حركة الجهاد قاطعت وستقاطع في المرة القادمة).
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل هذا التناقض بين الداخل (في غزة تحديدا، إذ لم يُلمس ذلك في الضفة)، وبين قيادة الخارج متصل بالموقف السياسي كما أوحى انتقاد الزهار لتصريحات مشعل، أم له صلة بالخلافات والمحاصصة واقتسام المواقع؟
يؤسفنا القول إن صلته بالمواقف السياسية محدودة، فالتراجع والتأرجح في الخطاب كان مشتركا بين الطرفين، الأمر الذي كان ذا صلة واضحة بدخول انتخابات أوسلو، كما له صلة بالحسم العسكري والتورط في حكم غزة بانفراد، ولو تتبعنا التراجعات المتعلقة بالخطاب لربما وجدناها أكثر وضوحا في غزة، لاسيما شخص أو عدة أشخاص عرفوا بخطابهم المائع يتساءل الناس حول الجهة التي تمنحهم المواقع والغطاء السياسي، كما أن الزهار نفسه كانت له أخطاء على هذا الصعيد، ويكفي أن نشير هنا إلى المرونة التي أبداها حيال موضوع الاعتراف بالكيان الصهيوني في حوار مع سياسيين أوروبيين "مستقلين" في جنيف حضره هو وعدد من قادة الحركة (الموقف الجماعي كان مختلفا بالطبع).
كل ذلك لا يقلل مرة أخرى من قيمة الرجل الذي نشعر بالارتياح، ومعنا جماهير عريضة من الشارع الفلسطيني والعربي حين نسمعه بين الحين والآخر يستعيد الثوابت الأصيلة للحركة مثل حديثه عن تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وعن المقاومة كبرنامج لا مساومة عليه.
وفي ذات السياق المتعلق بالداخل في غزة، لن ننسى فكرة الموافقة على الاستفتاء التي انطوت على التفاف على فكرة الاعتراف (كان خطأ تجاوزوه بفضل الله)، لكن الأهم هو تورط عدد من الرموز في الداخل والخارج، من بينهم مشعل نفسه، تورطهم في الترديد الممل والعبثي لفكرة دولة 67 مع تجاهل فكرة الهدنة التي طرحها الشيخ أحمد ياسين، وإن أصرّ الجميع (حتى الآن) على رفض الاعتراف، وندعو الله أن يواصلوا الرفض، في ذات الوقت الذي ندعوهم فيه إلى إعادة النظر في هذا المسار الذي يكرر تجربة فتح الفاشلة، ويجرّب المجرّب كما يقال.
مرة أخرى نقول إن الوضع الطبيعي من وجهة نظرنا أن تكون قيادة الحركة جماعية بمكتب في الخارج بصرف النظر عن الأشخاص، ولو كان الزهار نفسه هو القائد أو أي أحد آخر، لما اختلف رأينا أبدا.
صحيح أن وجودها في الخارج ليس مريحا بالكامل، كما لم يمنع الاغتيالات تماما، مع صعوبة الأمر بدليل فشل عملية اغتيال مشعل في عمان، لكننا نعرف في المقابل أن قتل أي قيادي في حماس في القطاع لا يتطلب سوى كلمة واحدة من نتنياهو هي أن فلانا "ابن موت".
هنا تنهض الصيغة الجماعية التي تم التوافق عليها سابقا بين القطاع وبين الضفة والخارج والسجون (حضور السجون في الشورى فقط)، وهي برأينا ورأي كثيرين الصيغة الأفضل، ولا ينبغي العبث بها، وليعلم الجميع أن دور الشتات الفلسطيني قد يكون حاسما في المستقبل بعد زمن الثورات العربية، وقد رأينا تجليا لذلك في ذكرى النكبة يوم سقط عشرون شهيدا في الخارج مقابل واحد في الضفة والقطاع.
ثم إن دور الضفة سيكون الأهم في حال اندلاع انتفاضة سلمية عارمة يأتيها الزخم من الخارج، فضلا عن تطورها، أو جزء منها لكفاح مسلح في وقت من الأوقات.
الذي لا يقل أهمية في سياق الفعل القيادي لحماس هو دور الخارج العربي والإسلامي، وفيما كان للتنظيم الدولي للإخوان بعض المشاركة في صياغة الرأي والموقف داخل الحركة في السابق، فإن من الأفضل أن يجري تفعيل هذا الدور على نحو أقوى من أجل حماية قرار الحركة وبوصلتها، فضلا عن تأكيد عروبة القضية وإسلاميتها، وقد رأينا كيف أدى غياب التنظيم الدولي عن قرار الإخوان العراقيين (اكتفى بالنصيحة) إلى انحراف واضح في النهج والبوصلة، من فارق كبير بين التجربتين.
إن الوضع الذي تعيشه الحركة، والذي أدى إلى هذا الجدل المؤسف، إنما هو نتاج ارتباك البوصلة الذي أصابها منذ مشاركتها في انتخابات أوسلو، ومن بعد ذلك الحسم العسكري الذي ثبت أن الإسرائيليين كانوا فرحين به (وثائق ويكيليكس أثبتت ذلك)، وصولا إلى المصالحة على قاعدة برنامج فتح عمليا، ولا قيمة لمنح عباس مهلة للتفاوض أو عدم منحه، لأنه يتفاوض عمليا باسم الفلسطينيين، بينما المقاومة غير موجودة في القطاع ومقموعة في الضفة الغربية. ويزداد الأسف حين يحدث ذلك بعد زمن الثورات العربية التي ينبغي أن تشكل رافعة للقضية برمتها.
بقي القول إننا نتمنى أن تتجاوز الحركة هذا الحوار المؤسف، فما ينتظرها لا يزال كبيرا، وهي برأينا الأحق والأجدر بقيادة الشعب الفلسطيني، لكن القيادة لها ضريبتها، وضريبتها التضحيات مع التمسك بالثوابت الأصيلة، وليس ثوابت "القرارات الدولية"، وقد قدم الشيخ ياسين هذا النموذج الرائع من قبل فأعجز خصومه وبهر أعداءه على حد سواء.
وكانت التجربة من بعده جيدة في معظم المواقع والمفاصل لولا الارتباك الأخير الذي أشرنا إليه، وفي قيادة الحركة اليوم (في الداخل والخارج وفي المقدمة كتائب القسام) رجال بوسعهم المضي بالتجربة نحو آفاق الانتصار (نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله).
وليعذرنا الدكتور الزهار الذي جاءت هذه السطور بسبب تصريحاته، فهي تأتي من موقع المحبة والاحترام والنصيحة لأهل الرأي والقرار في حماس وسواها من مواقع التأثير في الأمة.
تعليق