منذ نشأتها خلال النصف الثاني من الثمانينيات إلى الآن، تلعب حركة الجهاد الإسلامي دورا مهما في المشهد الفلسطيني، ولا يختلف عاقلان منصفان في أنها الحركة الثانية من حيث القوة والتأثير في الساحة الفلسطينية.
وقد نشأت الحركة قوة مقاومة قبل حركة حماس، إلا أن انتشار الحالة "الإخوانية" في الساحة الفلسطينية منذ النصف الثاني من السبعينيات هو الذي وضع حماس حال إعلانها في صدارة المنظومة الإسلامية، من دون أن يلغي ذلك حضور حركة الجهاد ولا دورها باعتبارها قوة مقاومة ضمن الإطار الإسلامي أيضا.
خلال الانتفاضة الأولى لم يكن بالإمكان تلمس أي فرق جوهري بين الحركتين، ربما باستثناء مسألة الوزن والتأثير، حيث تصدرت حماس المشهد موازية لحركة فتح، الأمر الذي كانت إرهاصاته سابقة على إعلان الحركة نهاية عام 87، حيث كانت الكتل الإسلامية في الجامعات والنقابات تنافس حركة فتح بشكل قوي منذ مطلع الثمانينيات.
في البدايات برزت حركة الجهاد تنظيمًا مسلحًا، قبل أن تشرع في صياغة امتداداتها السياسة والاجتماعية، الأمر الذي يبدو مختلفا عن حالة حماس التي كانت تنظيمًا دعويا واجتماعيا، وسياسيا بقدر ما، قبل أن تشرع في بناء نشاطها المقاوم، ومن ثم جناحها المسلح، أولا في عام 83، وتاليا بعد بداية الانتفاضة الأولى وإعلان الحركة نهاية عام 87.
من الصعب القول إن سبق حركة الجهاد هو الذي دفع حماس نحو دخول ساحة المقاومة كما يذهب إليه بعض المراقبين، ذلك أن الفكرة كانت متوفرة في عقل الشيخ أحمد ياسين وقادة الحركة، وكان الخلاف على التوقيت (مجموعة 83 دليل على ذلك)، لكن المؤكد أن ظهور العمل المسلح لحركة الجهاد (سرايا الجهاد قبل ذلك) قد ساهم في تسريع الأمر بهذا القدر أو ذاك، وهو ما يذكر لمؤسس الحركة الشهيد فتحي الشقاقي ولمن صنعوا الفكرة ووقفوا معها وخلفها منذ البداية.
طوال الوقت ظلت العلاقة بين جناحي العمل الإسلامي المقاوم تتسم بالحساسية، الأمر الذي يبدو طبيعيا في واقع الحال، فهما يتنافسان على ذات الجمهور، وربما ذات منابع الدعم، كما كان لبعض الحساسيات القديمة بين بعض رموز الحركتين في قطاع غزة دورها في تأجيج الخلافات بين حين وآخر، إلا أن ذلك لم يدفع الخلافات نحو مستوًى غير مقبول.
إذا قيل لماذا لم تندمج الحركتان، فإن الإجابة تبدو معقدة، إذ ستدخل في الأطر النفسية والعوامل البشرية التقليدية أكثر من الجوانب السياسية، ونتذكر هنا عددا كبيرا من الحالات المشابهة التي تتوفر فيها حركات تتبنى ذات الأيديولوجيا ولها ذات الأهداف السياسية لكنها لم تندمج، ولا حاجة لتعداد الأمثلة، بل إن بعض الحالات قد ذهبت بعيدا في الخصومة كما هو حال الجبهة الإسلامية للإنقاذ وجماعة الشيخ محفوظ نحناح في الجزائر (حركة مجتمع السلم).
في احتفالي حركة الجهاد بذكرى تأسيسها في قطاع غزة ودمشق مطلع شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، شهدنا حضورا لافتا لقادة حركة حماس الكبار، كما شارك محمد الهندي من الجهاد بكلمة قوى المقاومة في احتفال حماس بذكرى تأسيسها الثالثة والعشرين في القطاع، الأمر الذي يشير إلى العلاقة الحسنة بين الطرفين، والتي لا تقلل من شأنها بعض الاحتكاكات التي تجري على الأرض في قطاع غزة بين حين وآخر.
ويبدو أن حركة حماس التي تعاني من علاقات سيئة مع أكثر الأطراف في الساحة الفلسطينية (فتح وقوى اليسار والسلفية الجهادية) لا تريد خسارة الجهاد أيضا رغم شعورها بأن الأخيرة لا تناصرها بما يكفي في صراعها المحتدم مع حركة فتح.
ما يزيد من تقارب الحركتين في الوقت الراهن هو تعرضهما للقمع من قبل السلطة في الضفة الغربية، وإن كان الفارق كبيرا بين ما تتعرض له حركة حماس وما تتعرض له الجهاد، الأمر الذي لا يتصل فقط بمسألة الحجم والوزن على أهميتها، وإنما يتصل أيضا بحرص السلطة وحركة فتح على التأكيد على أن ما تتعرض له حماس إنما يعود لنواياها الانقلابية كما هو التعبير الشائع، وليس لكونها خصمًا سياسيا فقط (تتكرر هنا مقولة تكرار ما جرى في قطاع غزة في الضفة الغربية رغم استحالته بسبب وجود جيش الاحتلال في الضفة).
وبينما يرى بعضهم أن حضور حركة الجهاد في الضفة الغربية لا يوازي حضورها في قطاع غزة، يقول واقع الحال إنها كانت الحركة الأكثر نموا في الضفة خلال مرحلة انتفاضة الأقصى، وعدد أسراها في السجون الصهيونية أكبر دليل على ذلك، إذ تأتي في المرتبة الثالثة بنسبة لا بأس بها من الأسرى قياسا بحركتي حماس وفتح. كما أن أطرها الطلابية أصبحت ذات حضور معقول في الجامعات، وإن بقي التنافس الأكبر على حاله بين حماس وفتح.
بالنسبة للعمل العسكري، يمكن القول إن خلايا الجهاد في الضفة الغربية قد تعرضت بدورها لما تعرضت له خلايا حماس من ضربات قاسية على يد الصهاينة وعبر التنسيق الأمني مع السلطة، بدليل أنها لم تنجح في تنفيذ أية عملية خلال العامين الماضيين، خلافا لحماس التي نجحت في تنفيذ عدد محدود من العمليات، مع العلم بأن دور حركة الجهاد في انتفاضة الأقصى كان كبيرا ومهما، حيث كانت الثالثة من حيث العطاء بين القوى الفلسطينية، وقد استفادت من أجواء الحشد الجهادي في ظل مدّ تديّن واسع النطاق، وفي ظل عدم قدرة الجناح المسلح لحماس على استيعاب موجة إقبال شباب المساجد على العمل المسلح.
والخلاصة أن الحركة كانت الأكثر نموا بين الفصائل خلال تلك المرحلة. وعموما فإن العطاء المقاوم (المسلح منه على وجه الخصوص) كان في الضفة الغربية أكبر بكثير منه في قطاع غزة، وبالطبع لاعتبارات "لوجستية" تتعلق بقلة الأهداف في القطاع (المستوطنات المحصنة قبل تفكيكها إثر الانسحاب الأحادي الجانب، مع الحواجز المحصنة أيضا، وبالطبع في ظل السياج الأمني الذي يحيط بالقطاع ويحول دون الوصول إلى الأراضي المحتلة عام 48).
من المؤكد أن مسيرة الأحداث منذ انتخابات مطلع 2006 قد باعدت (سياسيا) بعض الشيء بين حركة الجهاد وحركة حماس، وبالطبع بسبب رفض الأولى مبدأ دخول الانتخابات في ظل أوسلو. صحيح أن فرصتها في الحصول على نسبة معتبرة (لو شاركت) لم تكن كبيرة، لكن ذلك لم يكن السبب وراء عدم المشاركة، وعموما كان بوسعها الحصول على المرتبة الثالثة من دون شك في القائمة النسبية، حتى لو صعب عليها الحصول على مقاعد في الدوائر.
السبب الحقيقي وراء عدم المشاركة يتعلق بالرؤية السياسية الخاصة بالمرحلة ومسألة وطبيعة السلطة واستحالة الجمع العملي بين السلطة والمقاومة، بخاصة في الضفة الغربية. وفي اعتقادي أنها رؤية صائبة إلى حد كبير، من دون أن يثير ذلك حساسية أحد، لأن موقف صاحب هذه السطور معروف على هذا الصعيد (كان ولا يزال، بل ازداد تأكيدا في ضوء التطورات التالية).
بعد الحسم العسكري بدا المشهد أكثر تعقيدا، وصارت الثنائية هي عنوان المشهد الفلسطيني، في حين لا ينفتح أفق حقيقي على مصالحة تحفظ الثوابت بالمعنى الحقيقي للكلمة، وليس بالمعنى الذي يتوفر في وثيقة الوفاق الوطني التي تحفظت الجهاد على بعض بنودها، في موقف يبدو صائبا أيضا، لأنها (أعني الوثيقة) أقرب إلى خطاب فتح منها إلى الخطاب الأصيل لحماس والجهاد.
ما جرى في القطاع وتداعياته زاد من منسوب الاحتجاج لدى حركة الجهاد على سلوكيات حماس المتعلقة بالتعامل معها، لكنه ظل في إطار محدود، وساهمت قيادة الدكتور رمضان شلح العاقلة، وعلاقاته المتميزة مع قيادات حماس في الخارج، فضلا عن العلاقات الطيبة بين بعض قيادات الداخل من الطرفين في استيعابها.
وكما عانت حماس من الخطاب السلفي المتشدد، الأمر الذي أسفر عن صدامات مسلحة معروفة، عانت الجهاد من ذات الخطاب بشقيه الجهادي والتقليدي، وبالطبع على خلفية تلقي الدعم من إيران، وتهمة التسامح مع التشييع في الضفة والقطاع، مع العلم بأن قيادتها لم تأل جهدا في التأكيد على أنها حركة سنية، ولا تتسامح لا هي ولا حماس مع أي نشاط يتعلق بالتشييع، رغم أن الدعم الإيراني للحركتين ليس خافيا على أحد، وهو دعم اعتمدت عليه الجهاد أكثر من حماس (حتى ما قبل الحسم العسكري على الأقل)، وبالطبع بسبب قلة الداعمين الآخرين الذين توفر بعضهم لحماس، سواءً في الإطار الشعبي أم الرسمي.
في أي حال، فإن حركة الجهاد كانت ولا تزال رقما مهما في الساحة الفلسطينية، وتزداد أهميتها هذه الأيام في ضوء مأزق حماس في السلطة ومتطلباتها، ومن الضروري أن تحافظ الحركة على تميزها برفض كل ما من شأنه المس بثوابت القضية بمفرداتها الأصيلة من دون الخوض فيما يُقبل وما لا يُقبل من حلول لأن دولة 67 العتيدة بتفاصيلها المعروفة ليست معروضة على الفلسطينيين حتى مع اعترافٍ وشطبٍ للمطالب التاريخية بحسب كلام محمود عباس، فضلا عن أن تعرض عليهم من دون اعتراف.
من الضروري بالطبع أن لا تغادر العلاقة بين الجهاد وبين حركة حماس مربع الأخوّة والتفاهم، لا سيما أن مسيرة الأحداث لا بد أن تعيد الجميع إلى مربع المقاومة والثوابت الأصيلة بعد اليأس من مسارات السياسة ومنظومة الحفاظ على سلطة صممت لخدمة الاحتلال، وحين يحدث ذلك يمكن لعلاقة الحركتين أن تتطور نحو آفاق أفضل بكثير لتحقيق المشروع الإسلامي، وأقل ذلك أن يكونا "رأس حربة للأمة في مواجهتها مع المشروع الصهيوني"، كما هو تنظيرهما الأصيل في الأدبيات الأولى.
تعليق