جاءوا غزة زائرين.. فتحولوا إلى مرابطين .. صحفي تركي وطبيب يمني: من غزة لن نغادر
فلسطين اليوم- قسم المتابعة
خارجة لتوها من بحر دم قان.. التعب يبللها، والموت يسكن شوارعها.. عصافيرها لم تعد تجيد الغناء، وذاكرتها لا تختزن سوى صور الوجع والدموع.. ألمها في كل صباح يزداد.. الحياة تلفها كآبة وحزن ما بعد الحرب.. غير أن ثمة أشخاصا رأوا في عيونها سحرا خاصا أغراهم بطول البقاء وإغلاق حقائب السفر وإلى الأبد.
"آدم أوزكاسا" صحفي تركي جاء إلى غزة وليس في نيته سوى التقاط صورة لجرحها العميق الذي انكشف بعد أن ذاب جليد الحرب الإسرائيلية.. أراد لعين كاميرته وحبر قلمه التجول في المدينة لساعات معدودة يحضر بعدها أدواته ويغادر، إلا أنه ألقى بخططه جانبا، وقرر أن يستقر في أحضان هذه المدينة.
شدني سحرها
"أوزكاسا" جلس يروي قصته بلغة عربية فصحى لم تتمكن من إخفاء لهجته الأجنبية.. كان في عينه الكثير من البريق وهو يبوح بما يعتمر صدره: "لقد سكنتني غزة.. إنها الآن وطني".
وقال أوزكاسا إنه جاء ضمن وفد صحفي لتغطية آثار العدوان الإسرائيلي على غزة والذي استمر "22" يوما مخلفا 1420 شهيدا وأكثر من 5450 جريحا أغلبهم من النساء والأطفال، وبعد أن حان موعد رحيل الوفد فجر أوزكاسا قنبلته: "لن أعود إلى تركيا".
الصحفي الحر الذي يعمل مراسلا للعديد من الصحف والمجلات والمواقع التركية، ويعكف على تأليف ثلاثة كتب تحكي تجاربه وهو يتنقل بين العواصم المكتوية بنيران الحروب قال: "جئت وليس في نيتي الاستقرار هنا أو البقاء.. أردت أن أشاهد عن كثب ما جرى لغزة، ولكن ما إن دخلت هذه المدينة حتى شعرت بسحر يشدني إليها".
يغمض أوزكاسا عينيه ويصمت قليلا ليضيف بعدها: "في غزة موسيقى.. فيها جمال وحياة رغم كل الدمار ومشاهد الموت.. إسرائيل بكل حربها لم تستطع أن تمحو دفء أزهارها، وبراءة صغارها، وطيب سكانها وأهلها".
سافر إلى بغداد وظل هناك لأكثر من عامين، وذهب إلى بيروت وأفغانستان.. صافح دمشق والكثير من عواصم الدول العربية والأجنبية، إلا أن غزة هي من ملكت شغاف قلبه.
بدمي وروحي أفديها
"هي أرض الرباط"، كما يقول بثقة، ثم يضيف بصوت حالم: "لقد أحببت غزة ولن أتركها، هي الآن مدينتي"، وبسؤال يحمل في جعبته الخوف: "طائرات الاحتلال تحوم في سماء المدينة، والحرب قد تندلع من جديد، وربما بشكل أعنف وأقسى، فهل ستبقى؟".
يرسم على شفتيه ابتسامة قبل أن يجيب بكلمات قوية لم تخش رعب الاستفهام: "سأظل هنا ولن أتراجع عن قراري، سأحيا وأموت في غزة.. هي الآن وطني، وسأتحمل كل الصعاب من أجلها، بل أنا على استعداد لأن أفديها بروحي ودمي".
ولكي يثبت لأصدقائه وأهله ومن يهمس في أذنه بأن قراره مؤقت ووليد لحظة عاطفية فإن زوجته تستعد لحزم أمتعتها والقدوم إلى غزة، ويقول: "زوجتي تقبلت خبر بقائي بصدر رحب، وشجعتني بصدق، وها أنا أنتظر انضمامها هي وصغيرتي فاطمة (ثمانية أشهر)".
ويؤكد الصحفي أوزكاسا أن حبه لهذه المدينة أعمق من أن يكون عاطفيا، بل هو أبعد من ذلك: "أكرر.. غزة فيها سحر خاص.. أحببتها بكل طقوسها ومعالمها.. شدني كرم أهلها رغم ضيق حالهم.. تهافتهم على استقبالي ومناداتي بـ(حفيد الخليفة)".
أذكر في إحدى المرات وما إن سمع السائق لهجتي واستفسر عن هويتي حتى رفض أخذ الأجرة مني، وتكرر الأمر معي لدرجة بت أشعر فيها بالخجل من هذا الكرم.
الصحفي الجالس في المدينة الجريحة والسائر في طرقاتها الصامتة تعهد بأن ينقل الحدث إلى العالم، وأن يمدهم بحبر الحقيقة، ويؤكد أوزكاسا أن الإعلام الغربي يحاول إظهار إسرائيل كضحية.
وقال: "يجب علينا أن نحكي وبكل اللغات عن ظلم الاحتلال وما فعله في صغار غزة وشجرها وشوارعها.. وهذا ما سأعكف عليه".
وتمنى العاشق لغزة وبحرها في ختام حديثه أن تزول جراح المدينة، وأن تنتفض كل عواصم الدنيا لنصرتها وتضميد وجعها.
هذه هي وظيفتي
"عبد الفتاح أبو عمرو" طبيب يمني حاول أن يلثم تراب غزة وهي تئن من وجع الحصار، إلا أن محاولاته هو ومن يسعى لتنظيم هذه الحملات كانت تصطدم بمعبر مغلق وبأوامر صارمة تتكفل بإسكات صوت أحلامهم.
عاد أبو عمرو إلى اليمن بعد أربع محاولات للدخول باءت جميعها بالفشل.. رجع إلى وطنه والألم يعتصر قلبه.. مرت الأيام والشهور وإذا بالعالم كله يستيقظ على صرخات غزة وأنينها.. دمها يتدفق، وجرحها يتسع أمام حرب بشعة شوهت تفاصيل الحياة.
وفور توقف العدوان الشرس انهالت الوفود الطبية إلى القطاع النازف، وهرع أبو عمرو إلى سفارته للحصول على تصريح لزيارة غزة وكان له ما أراد.
سجد لله شكرا، وأخذ يقبل تراب غزة مرة بعد أخرى، وفي عقله كان القرار يتكون بحروف ثابتة: "لن أعود".
أبو عمرو في العقد السادس من عمره، وهو حاصل على درجة بكالوريوس في الطب والجراحة، وماجستير ودكتوراه في السياسة الشرعية من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، وعمل أستاذا مساعدا في قسم الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بجامعة صنعاء قبل أن يعين أستاذا مساعدا في قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة عجماء للعلوم والتكنولوجيا، ما إن تسأله عن وظيفته الآن حتى يباغتك مبتسما: "مرابط في غزة".
متى ستعود؟
ويتمنى الطبيب اليمني أن يلحق أهله وعائلته به، وبصوت تغلفه نبرات الفرح قال لـ"إسلام أون لاين.نت": "لن أغادر هذه المدينة أبدا.. لقد سجدت طويلا وبكيت لأنني هنا.. اليوم أشعر بسعادة كبيرة، وأدعو الله ليل نهار أن يأتيني ملك الموت وأنا في أرض الرباط".
وإن كان أوزكاسا الصحفي التركي سيرسم بقلمه حال غزة، فإن الطبيب اليمني سيسعى لعلاج أهلها، والتخفيف من جراحهم، وسيمدهم بخطب الصمود والثبات، غير أنه يستدرك: "هم لا يحتاجون إلى ذلك.. إنهم أكثر شعوب الأرض صمودا.. يبتسمون والموت يتربص بهم.. أهل غزة يقودون معركة استعادة مجد الإسلام وعزه؛ وهذا ما يجعلنا لا نفكر بالرحيل عنها وتركها، بل التشبث بها.. نريد أن ننال ثواب الرباط والجهاد في هذه الأرض المباركة".
إدارة الجامعة التي يعمل بها تتصل به يوميا لتسأله: "متى ستعود؟" إلا أن إجابته تأتي حازمة: "لن أعود"، ويأتيه الرد: "سنبحث عمن يحل مكانك إلى أن تصل"، فتنهمر الحروف القاطعة: "إن عدت إليكم يوما فسأعود زائرا".
ينهمك "أبو عمرو" في إلقاء الدروس والخطب في مساجد القطاع.. يستقبله الناس بحفاوة شديدة.. يصافحهم بحرارة، وقلبه يخفق بـ"أحبك غزة".
فلسطين اليوم- قسم المتابعة
خارجة لتوها من بحر دم قان.. التعب يبللها، والموت يسكن شوارعها.. عصافيرها لم تعد تجيد الغناء، وذاكرتها لا تختزن سوى صور الوجع والدموع.. ألمها في كل صباح يزداد.. الحياة تلفها كآبة وحزن ما بعد الحرب.. غير أن ثمة أشخاصا رأوا في عيونها سحرا خاصا أغراهم بطول البقاء وإغلاق حقائب السفر وإلى الأبد.
"آدم أوزكاسا" صحفي تركي جاء إلى غزة وليس في نيته سوى التقاط صورة لجرحها العميق الذي انكشف بعد أن ذاب جليد الحرب الإسرائيلية.. أراد لعين كاميرته وحبر قلمه التجول في المدينة لساعات معدودة يحضر بعدها أدواته ويغادر، إلا أنه ألقى بخططه جانبا، وقرر أن يستقر في أحضان هذه المدينة.
شدني سحرها
"أوزكاسا" جلس يروي قصته بلغة عربية فصحى لم تتمكن من إخفاء لهجته الأجنبية.. كان في عينه الكثير من البريق وهو يبوح بما يعتمر صدره: "لقد سكنتني غزة.. إنها الآن وطني".
وقال أوزكاسا إنه جاء ضمن وفد صحفي لتغطية آثار العدوان الإسرائيلي على غزة والذي استمر "22" يوما مخلفا 1420 شهيدا وأكثر من 5450 جريحا أغلبهم من النساء والأطفال، وبعد أن حان موعد رحيل الوفد فجر أوزكاسا قنبلته: "لن أعود إلى تركيا".
الصحفي الحر الذي يعمل مراسلا للعديد من الصحف والمجلات والمواقع التركية، ويعكف على تأليف ثلاثة كتب تحكي تجاربه وهو يتنقل بين العواصم المكتوية بنيران الحروب قال: "جئت وليس في نيتي الاستقرار هنا أو البقاء.. أردت أن أشاهد عن كثب ما جرى لغزة، ولكن ما إن دخلت هذه المدينة حتى شعرت بسحر يشدني إليها".
يغمض أوزكاسا عينيه ويصمت قليلا ليضيف بعدها: "في غزة موسيقى.. فيها جمال وحياة رغم كل الدمار ومشاهد الموت.. إسرائيل بكل حربها لم تستطع أن تمحو دفء أزهارها، وبراءة صغارها، وطيب سكانها وأهلها".
سافر إلى بغداد وظل هناك لأكثر من عامين، وذهب إلى بيروت وأفغانستان.. صافح دمشق والكثير من عواصم الدول العربية والأجنبية، إلا أن غزة هي من ملكت شغاف قلبه.
بدمي وروحي أفديها
"هي أرض الرباط"، كما يقول بثقة، ثم يضيف بصوت حالم: "لقد أحببت غزة ولن أتركها، هي الآن مدينتي"، وبسؤال يحمل في جعبته الخوف: "طائرات الاحتلال تحوم في سماء المدينة، والحرب قد تندلع من جديد، وربما بشكل أعنف وأقسى، فهل ستبقى؟".
يرسم على شفتيه ابتسامة قبل أن يجيب بكلمات قوية لم تخش رعب الاستفهام: "سأظل هنا ولن أتراجع عن قراري، سأحيا وأموت في غزة.. هي الآن وطني، وسأتحمل كل الصعاب من أجلها، بل أنا على استعداد لأن أفديها بروحي ودمي".
ولكي يثبت لأصدقائه وأهله ومن يهمس في أذنه بأن قراره مؤقت ووليد لحظة عاطفية فإن زوجته تستعد لحزم أمتعتها والقدوم إلى غزة، ويقول: "زوجتي تقبلت خبر بقائي بصدر رحب، وشجعتني بصدق، وها أنا أنتظر انضمامها هي وصغيرتي فاطمة (ثمانية أشهر)".
ويؤكد الصحفي أوزكاسا أن حبه لهذه المدينة أعمق من أن يكون عاطفيا، بل هو أبعد من ذلك: "أكرر.. غزة فيها سحر خاص.. أحببتها بكل طقوسها ومعالمها.. شدني كرم أهلها رغم ضيق حالهم.. تهافتهم على استقبالي ومناداتي بـ(حفيد الخليفة)".
أذكر في إحدى المرات وما إن سمع السائق لهجتي واستفسر عن هويتي حتى رفض أخذ الأجرة مني، وتكرر الأمر معي لدرجة بت أشعر فيها بالخجل من هذا الكرم.
الصحفي الجالس في المدينة الجريحة والسائر في طرقاتها الصامتة تعهد بأن ينقل الحدث إلى العالم، وأن يمدهم بحبر الحقيقة، ويؤكد أوزكاسا أن الإعلام الغربي يحاول إظهار إسرائيل كضحية.
وقال: "يجب علينا أن نحكي وبكل اللغات عن ظلم الاحتلال وما فعله في صغار غزة وشجرها وشوارعها.. وهذا ما سأعكف عليه".
وتمنى العاشق لغزة وبحرها في ختام حديثه أن تزول جراح المدينة، وأن تنتفض كل عواصم الدنيا لنصرتها وتضميد وجعها.
هذه هي وظيفتي
"عبد الفتاح أبو عمرو" طبيب يمني حاول أن يلثم تراب غزة وهي تئن من وجع الحصار، إلا أن محاولاته هو ومن يسعى لتنظيم هذه الحملات كانت تصطدم بمعبر مغلق وبأوامر صارمة تتكفل بإسكات صوت أحلامهم.
عاد أبو عمرو إلى اليمن بعد أربع محاولات للدخول باءت جميعها بالفشل.. رجع إلى وطنه والألم يعتصر قلبه.. مرت الأيام والشهور وإذا بالعالم كله يستيقظ على صرخات غزة وأنينها.. دمها يتدفق، وجرحها يتسع أمام حرب بشعة شوهت تفاصيل الحياة.
وفور توقف العدوان الشرس انهالت الوفود الطبية إلى القطاع النازف، وهرع أبو عمرو إلى سفارته للحصول على تصريح لزيارة غزة وكان له ما أراد.
سجد لله شكرا، وأخذ يقبل تراب غزة مرة بعد أخرى، وفي عقله كان القرار يتكون بحروف ثابتة: "لن أعود".
أبو عمرو في العقد السادس من عمره، وهو حاصل على درجة بكالوريوس في الطب والجراحة، وماجستير ودكتوراه في السياسة الشرعية من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، وعمل أستاذا مساعدا في قسم الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بجامعة صنعاء قبل أن يعين أستاذا مساعدا في قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة عجماء للعلوم والتكنولوجيا، ما إن تسأله عن وظيفته الآن حتى يباغتك مبتسما: "مرابط في غزة".
متى ستعود؟
ويتمنى الطبيب اليمني أن يلحق أهله وعائلته به، وبصوت تغلفه نبرات الفرح قال لـ"إسلام أون لاين.نت": "لن أغادر هذه المدينة أبدا.. لقد سجدت طويلا وبكيت لأنني هنا.. اليوم أشعر بسعادة كبيرة، وأدعو الله ليل نهار أن يأتيني ملك الموت وأنا في أرض الرباط".
وإن كان أوزكاسا الصحفي التركي سيرسم بقلمه حال غزة، فإن الطبيب اليمني سيسعى لعلاج أهلها، والتخفيف من جراحهم، وسيمدهم بخطب الصمود والثبات، غير أنه يستدرك: "هم لا يحتاجون إلى ذلك.. إنهم أكثر شعوب الأرض صمودا.. يبتسمون والموت يتربص بهم.. أهل غزة يقودون معركة استعادة مجد الإسلام وعزه؛ وهذا ما يجعلنا لا نفكر بالرحيل عنها وتركها، بل التشبث بها.. نريد أن ننال ثواب الرباط والجهاد في هذه الأرض المباركة".
إدارة الجامعة التي يعمل بها تتصل به يوميا لتسأله: "متى ستعود؟" إلا أن إجابته تأتي حازمة: "لن أعود"، ويأتيه الرد: "سنبحث عمن يحل مكانك إلى أن تصل"، فتنهمر الحروف القاطعة: "إن عدت إليكم يوما فسأعود زائرا".
ينهمك "أبو عمرو" في إلقاء الدروس والخطب في مساجد القطاع.. يستقبله الناس بحفاوة شديدة.. يصافحهم بحرارة، وقلبه يخفق بـ"أحبك غزة".
تعليق