جمهورية دايتون الفلسطينية..
عبد الباري عطوان
قليلون خارج دوائر السلطة في رام الله، وأجهزتها الأمنية يعرفون «إنجازات» الجنرال الأمريكي كيث دايتون، المكلف رسمياً من قبل إدارة بلاده بتأسيس قوات أمن فلسطينية على أسس جديدة تقوم ببسط سلطة الدولة (أين هي) على حدودها (ما هي هذه الحدود) في المستقبل القريب. ولكن مقال الكاتب الأمريكي توماس فريدمان يسلط لنا الأضواء على ذلك في مقاله الأخير الذي نشره في صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية في عددها الصادر يوم أمس.
فريدمان يقول أن الجنرال دايتون اصطحبه إلى مدينة جنين ليطلع على هذه الإنجازات بنفسه، وقد فوجئ بما رأى، حيث اصطف أعضاء الكتيبة الثانية أمام «سيدهم» (الوصف من عندي) الأمريكي حاملين بنادق كلاشينكوف، مؤدين التحية العسكرية، فبادر برد التحية، وألقى عليهم خطاباً أشاد فيه بمهمتهم السامية «وهي رعاية مواطنيهم في هذا الوقت الصعب، فهكذا تتصرف القوات الأمنية المحترفة».
واستعراض الجنرال الأمريكي لهذه القوات، ومخاطبتهم بهذه الطريقة يوحيان بأنها تأتمر بأوامره، وتؤدي المهمة التي يريدها هو وحكومته، وليست أي حكومة أو سلطة أخرى، فهو الذي يقرّر ويموّل ويحدد الواجبات.
ويبدو أن «قوات دايتون» هذه بدأت في أداء مهامها على أكمل وجه، فقد تصدت للمتظاهرين بفاعلية، قمعاً واعتقالاً، أثناء انفجار مسيرات الاحتجاج التضامنية ضد المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة، ووقفت متفرجة عندما هاجم المستوطنون أهالي مدينة الخليل قبل شهر وعاثوا فيها فساداً وتدميراً واعتداء، حتى أن احد قادتها رد على طلبات مواطنيه بالتدخل لحمايتهم من وحشية هؤلاء بان ليست لديه أوامر بالتصدي للإسرائيليين، وإنما للفلسطينيين.
مدينة جنين كانت من أشرس المدن الفلسطينية مقاومة، واعتبرت قاعدة صلبة لإنجاب الاستشهاديين، والرجال الرجال، وتكفي الإشارة إلى أن مخيمها الصغير (كيلومتر مربع) صمد عشرة أيام في وجه الاجتياح الإسرائيلي، وأوقع حوالي 26 قتيلاً في صفوف القوات المعتدية، وستة وثلاثين جريحاً، أي أربعة أضعاف خسائر الجيش الإسرائيلي في عدوانه الأخير على قطاع غزة، وهذا ما يفسر تركيز الجنرال دايتون على هذه المدينة، وجعلها «الجوهرة» في تاج «إنجازاته» الأمنية، أي كسر شوكة المقاومة فيها، وتعميم التجربة فيها على مختلف المدن الفلسطينية الأخرى في الضفة.
فالهدف من إنشاء هذه القوات و«تسمينها» وإنفاق الملايين على تدريبها، ليس الإعداد لبناء الدولة الفلسطينية، وإنما لمنعه، وتكريس الاحتلال الراهن، ففي مختلف أنحاء العالم يتم بناء الدولة أولاً، ثم مؤسساتها الأمنية والسياسية، إلا في فلسطين، فالمثلث «مقلوب» وكذلك الأولويات، وهذا ما يفسّر توسّع الاستيطان، واستمرار نهب الأرض، وحفر أنفاق تحت المسجد الأقصى (فأنفاق القدس حميدة لأنها إسرائيلية حتى لو قوّضت أساسات الأقصى.. أما أنفاق رفح فشيطانية لأنها تستخدم في تهريب الطعام والدواء للمحاصرين).
قوات دايتون الأمنية التي يبلغ عددها حوالي 1600 حتى الآن، وجرى تدريبها في الأردن، وتستعد لانضمام 500 يخضعون الآن لدورات تدريبية مماثلة، تتمحور مهمتها حول كيفية حماية المستوطنات، وقمع أي مقاومة فلسطينية بالقوة، والعمل جنباً إلى جنب مع نظيرتها الإسرائيلية في هذا الميدان، أي قتل الشعور الوطني كلياً.
ومن الواضح أن هذه القوات تتناغم مع المشاريع الأمريكية المستقبلية للضفة، وعدم تكرار تجربة القطاع، أي الحيلولة دون تحولها إلى قاعدة للمقاومة. ولخص توني بلير مبعوث اللجنة الرباعية مستقبل الضفة الغربية هذا بالقول بضرورة التركيز على البنية التحتية الاقتصادية، وتأهيلها للارتقاء بالمستوى المعيشي للسكان، كخطوة أساسية قبل الوصول إلى بناء الدولة. وكرر الشيء نفسه غوردون براون رئيس الوزراء البريطاني أثناء زيارته الأخيرة إلى رام الله. بنيامين نتنياهو زعيم حزب الليكود والمرشح الأبرز للفوز في الانتخابات الإسرائيلية العامة التي تبدأ غداً، التقط هذا الخيط، وبدأ يركز في حملته الانتخابية على «السلام الاقتصادي» مع الفلسطينيين والتعهد بعدم إعادة الضفة والجولان إلى أصحابهما العرب. العقيد راضي أبو عصيدة أحد قادة أجهزة الجنرال دايتون الأمنية قال بافتخار «أننا نملك الآن المهنية في قواتنا، مثلما نملك تدريباً جيداً، وأصبحنا نقول للناس بامكانكم أن تتظاهروا تضامناً مع غزة، ولكن عليكم أن تفعلوا ذلك بطريقة عصرية».
وما يقصده العقيد راضي بالطريقة العصرية هذه، أن يكونوا مثل شعب آلاسكا أو ايسلاند، أي إيقاد الشموع والصلاة لضحايا الوحشية الإسرائيلية، أما غير ذلك فسيقابل بالهراوات وربما بإطلاق النار والتعذيب في المعتقلات. كيف يتظاهر أبناء الضفة بطريقة حضارية والجنود الإسرائيليون يهينونهم يومياً أمام الحواجز، ويصادرون أراضيهم ويقوضون أسس مسجد أقصاهم، ويطلقون العنان للمستوطنين للاعتداء عليهم وتدمير مزروعاتهم وقلع أشجار بساتينهم؟ في الماضي كانوا يتحدثون عن حل الدولتين، الآن عن «السلام الاقتصادي»، أي تحويل الشعب الفلسطيني إلى شعب مرتش بلقمة العيش، ومرتب شهري من الدول المانحة، مقابل أن ينسى قضيته الوطنية كلياً، ومن يشق عصا الطاعة فقوات الجنرال دايتون «المهنية» و«المدربة جيداً» كفيلة بالتعامل معه بالطريقة المناسبة. جيدي غرينستين رئيس معهد «ريوت» الإسرائيلي، الذي هو بمثابة «مخزن عقول» للحكومة يقدم لها المشورات، وصف قوات دايتون هذه بأنها «بقعة مضيئة في أفق ممزق، يمكن البناء عليها لأن المسألة ليست الأرض فقط وإنما كيف نملأها». من المؤكد انه يقترح حلين لهذه المعضلة، حسب وجهة نظرنا، هما: أن يتم ملء هذه الأرض بالمزيد من المستوطنين، أو استيراد شعب آخر قادر على التعايش مع ممارساتهم من بقعة أخرى من العالم. فالشعب الفلسطيني لا يمكن أن يقولب حسب مواصفاتهم. مستقبل مظلم ينتظر الشعب الفلسطيني بكل تأكيد في ظل الجنرال دايتون ومشاريعه والمؤمنين به، وما هو أكثر إظلاماً في رأينا وجود قيادة فلسطينية تفسح له المجال، وتوفر له «الغطاء الشرعي» وتؤدي له التحية العسكرية إعجاباً وتقديراً، وتلهج بالثناء عليه وعلى «إنجازاته» العظيمة للشعب الفلسطيني.
عبد الباري عطوان
قليلون خارج دوائر السلطة في رام الله، وأجهزتها الأمنية يعرفون «إنجازات» الجنرال الأمريكي كيث دايتون، المكلف رسمياً من قبل إدارة بلاده بتأسيس قوات أمن فلسطينية على أسس جديدة تقوم ببسط سلطة الدولة (أين هي) على حدودها (ما هي هذه الحدود) في المستقبل القريب. ولكن مقال الكاتب الأمريكي توماس فريدمان يسلط لنا الأضواء على ذلك في مقاله الأخير الذي نشره في صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية في عددها الصادر يوم أمس.
فريدمان يقول أن الجنرال دايتون اصطحبه إلى مدينة جنين ليطلع على هذه الإنجازات بنفسه، وقد فوجئ بما رأى، حيث اصطف أعضاء الكتيبة الثانية أمام «سيدهم» (الوصف من عندي) الأمريكي حاملين بنادق كلاشينكوف، مؤدين التحية العسكرية، فبادر برد التحية، وألقى عليهم خطاباً أشاد فيه بمهمتهم السامية «وهي رعاية مواطنيهم في هذا الوقت الصعب، فهكذا تتصرف القوات الأمنية المحترفة».
واستعراض الجنرال الأمريكي لهذه القوات، ومخاطبتهم بهذه الطريقة يوحيان بأنها تأتمر بأوامره، وتؤدي المهمة التي يريدها هو وحكومته، وليست أي حكومة أو سلطة أخرى، فهو الذي يقرّر ويموّل ويحدد الواجبات.
ويبدو أن «قوات دايتون» هذه بدأت في أداء مهامها على أكمل وجه، فقد تصدت للمتظاهرين بفاعلية، قمعاً واعتقالاً، أثناء انفجار مسيرات الاحتجاج التضامنية ضد المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة، ووقفت متفرجة عندما هاجم المستوطنون أهالي مدينة الخليل قبل شهر وعاثوا فيها فساداً وتدميراً واعتداء، حتى أن احد قادتها رد على طلبات مواطنيه بالتدخل لحمايتهم من وحشية هؤلاء بان ليست لديه أوامر بالتصدي للإسرائيليين، وإنما للفلسطينيين.
مدينة جنين كانت من أشرس المدن الفلسطينية مقاومة، واعتبرت قاعدة صلبة لإنجاب الاستشهاديين، والرجال الرجال، وتكفي الإشارة إلى أن مخيمها الصغير (كيلومتر مربع) صمد عشرة أيام في وجه الاجتياح الإسرائيلي، وأوقع حوالي 26 قتيلاً في صفوف القوات المعتدية، وستة وثلاثين جريحاً، أي أربعة أضعاف خسائر الجيش الإسرائيلي في عدوانه الأخير على قطاع غزة، وهذا ما يفسر تركيز الجنرال دايتون على هذه المدينة، وجعلها «الجوهرة» في تاج «إنجازاته» الأمنية، أي كسر شوكة المقاومة فيها، وتعميم التجربة فيها على مختلف المدن الفلسطينية الأخرى في الضفة.
فالهدف من إنشاء هذه القوات و«تسمينها» وإنفاق الملايين على تدريبها، ليس الإعداد لبناء الدولة الفلسطينية، وإنما لمنعه، وتكريس الاحتلال الراهن، ففي مختلف أنحاء العالم يتم بناء الدولة أولاً، ثم مؤسساتها الأمنية والسياسية، إلا في فلسطين، فالمثلث «مقلوب» وكذلك الأولويات، وهذا ما يفسّر توسّع الاستيطان، واستمرار نهب الأرض، وحفر أنفاق تحت المسجد الأقصى (فأنفاق القدس حميدة لأنها إسرائيلية حتى لو قوّضت أساسات الأقصى.. أما أنفاق رفح فشيطانية لأنها تستخدم في تهريب الطعام والدواء للمحاصرين).
قوات دايتون الأمنية التي يبلغ عددها حوالي 1600 حتى الآن، وجرى تدريبها في الأردن، وتستعد لانضمام 500 يخضعون الآن لدورات تدريبية مماثلة، تتمحور مهمتها حول كيفية حماية المستوطنات، وقمع أي مقاومة فلسطينية بالقوة، والعمل جنباً إلى جنب مع نظيرتها الإسرائيلية في هذا الميدان، أي قتل الشعور الوطني كلياً.
ومن الواضح أن هذه القوات تتناغم مع المشاريع الأمريكية المستقبلية للضفة، وعدم تكرار تجربة القطاع، أي الحيلولة دون تحولها إلى قاعدة للمقاومة. ولخص توني بلير مبعوث اللجنة الرباعية مستقبل الضفة الغربية هذا بالقول بضرورة التركيز على البنية التحتية الاقتصادية، وتأهيلها للارتقاء بالمستوى المعيشي للسكان، كخطوة أساسية قبل الوصول إلى بناء الدولة. وكرر الشيء نفسه غوردون براون رئيس الوزراء البريطاني أثناء زيارته الأخيرة إلى رام الله. بنيامين نتنياهو زعيم حزب الليكود والمرشح الأبرز للفوز في الانتخابات الإسرائيلية العامة التي تبدأ غداً، التقط هذا الخيط، وبدأ يركز في حملته الانتخابية على «السلام الاقتصادي» مع الفلسطينيين والتعهد بعدم إعادة الضفة والجولان إلى أصحابهما العرب. العقيد راضي أبو عصيدة أحد قادة أجهزة الجنرال دايتون الأمنية قال بافتخار «أننا نملك الآن المهنية في قواتنا، مثلما نملك تدريباً جيداً، وأصبحنا نقول للناس بامكانكم أن تتظاهروا تضامناً مع غزة، ولكن عليكم أن تفعلوا ذلك بطريقة عصرية».
وما يقصده العقيد راضي بالطريقة العصرية هذه، أن يكونوا مثل شعب آلاسكا أو ايسلاند، أي إيقاد الشموع والصلاة لضحايا الوحشية الإسرائيلية، أما غير ذلك فسيقابل بالهراوات وربما بإطلاق النار والتعذيب في المعتقلات. كيف يتظاهر أبناء الضفة بطريقة حضارية والجنود الإسرائيليون يهينونهم يومياً أمام الحواجز، ويصادرون أراضيهم ويقوضون أسس مسجد أقصاهم، ويطلقون العنان للمستوطنين للاعتداء عليهم وتدمير مزروعاتهم وقلع أشجار بساتينهم؟ في الماضي كانوا يتحدثون عن حل الدولتين، الآن عن «السلام الاقتصادي»، أي تحويل الشعب الفلسطيني إلى شعب مرتش بلقمة العيش، ومرتب شهري من الدول المانحة، مقابل أن ينسى قضيته الوطنية كلياً، ومن يشق عصا الطاعة فقوات الجنرال دايتون «المهنية» و«المدربة جيداً» كفيلة بالتعامل معه بالطريقة المناسبة. جيدي غرينستين رئيس معهد «ريوت» الإسرائيلي، الذي هو بمثابة «مخزن عقول» للحكومة يقدم لها المشورات، وصف قوات دايتون هذه بأنها «بقعة مضيئة في أفق ممزق، يمكن البناء عليها لأن المسألة ليست الأرض فقط وإنما كيف نملأها». من المؤكد انه يقترح حلين لهذه المعضلة، حسب وجهة نظرنا، هما: أن يتم ملء هذه الأرض بالمزيد من المستوطنين، أو استيراد شعب آخر قادر على التعايش مع ممارساتهم من بقعة أخرى من العالم. فالشعب الفلسطيني لا يمكن أن يقولب حسب مواصفاتهم. مستقبل مظلم ينتظر الشعب الفلسطيني بكل تأكيد في ظل الجنرال دايتون ومشاريعه والمؤمنين به، وما هو أكثر إظلاماً في رأينا وجود قيادة فلسطينية تفسح له المجال، وتوفر له «الغطاء الشرعي» وتؤدي له التحية العسكرية إعجاباً وتقديراً، وتلهج بالثناء عليه وعلى «إنجازاته» العظيمة للشعب الفلسطيني.
تعليق