الأزمة المالية العالمية .. الجذور البعيدة للأزمة
[color=#32CD32]د. أسامة أحمد عثمان[
/color]26/10/1429هـ
اندلعت الأزمة المالية العالمية الأخيرة منذ قرابة السنة. ثم اشتدت أوزارها في الشهرين الماضيين، ما دفع الحكومات إلى اتخاذ إجراءات لإطفاء ذلك الحريق الذي لم يكد يسلم جزء من العالم من الاكتواء بناره أو شم دخانه. وقيل في تفسير الأزمة أسباب كثيرة منها قصور الأنظمة الحاكمة على أسواق المال وتضاربها وتباطؤ الحكومات في التعامل معها. كل هذا صحيح. ولكنه لا يشير إلى لب المشكلة الذي أدى إلى هذه الأزمات التي تتكرر من وقت إلى آخر.
ليست المشكلة في نقص الأنظمة أو تضاربها أو قصورها فحسب، ولكن لب المشكلة يكمن في الأساس الفلسفي الذي يقدم عليه النظام الرأسمالي. ذلك الأساس الذي قام على الفصام النكد بين الدين والأخلاق، وبين الدين والعلم، وبين الدين والسياسة، وبين الدين والاقتصاد، وبين الدين والفن، وقس على ذلك من سائر مناشط الحياة. ظهرت الرأسمالية الحديثة في أوروبا منذ 400 عام على أنقاض الكنيسة كسلطة روحية، وعلى أنقاض الإمبراطوريات كنظام سياسي، وعلى أنقاض الإقطاع الزراعي كنظام اقتصادي. ولقد مرت الرأسمالية بتغيرات كثيرة في الفكر والممارسة نتيجة أخطاء كثيرة أدت إلى كثير من الحروب والمجاعات والتوترات الاجتماعية في أوروبا وأمريكا والعالم. وبالرغم من كل هذه التغيرات بقي مبدأ واحد ثابت يمثل لب الفكر الرأسمالي ألا وهو تقديس الحرية الفردية تقديساً شبه مطلق في أغلب الأحيان. وما القيود الاجتماعية أو التنظيمية من الحكومات إلا قيود طارئة على الأصل، بزعم أن الإنسان رشيد يعرف ما يصلحه وما لا يصلحه، وأن هذا الرشد يبرر تلك الحرية. وبذلك حلت عبادة الفرد ذاته محل عبادة الله سبحانه وتعالى .
لقد كانت الماركسية ردة فعل على تجاوزات النظام الرأسمالي ولكن شطط الماركسية في تقييد الحرية الفردية جعلها تحمل في جذورها عوامل انهيارها. ومع ذلك فإن التطبيق الحقيقي للرأسمالية في أي مكان في العالم بما في ذلك أمريكا يحمل قليلا أو كثيراً من المعالم الاشتراكية وهذا التدخل الحكومي في الأسواق المالية ليس بجديد إنما الجديد هو تعقيده واتساعه.
من المبكر القول إن ما حدث انهيار للرأسمالية، ولكنه عارض مهم جداً و نذير بالخطر بالنسبة للنظام الرأسمالي عامة ولزعامة أمريكا لهذا النظام خاصة. لقد انهال الأوروبيون قبل غيرهم على أمريكا توبيخاً وتقريعاً، لا بل وشماتة في بعض الأحيان، فهم يرون أن الأزمة أمريكية المنشأ وأن على أمريكا أن تذعن لدعوات الإصلاح. وقد دعت أوروبا إلى سلسلة مؤتمرات لإعادة صياغة النظام الرأسمالي، وستكون أحد ملامح هذا النظام تقييد حرية الدول في اتخاذ سياسات يمكن أن تؤثر على بقية دول العالم. وستحاول أمريكا مقاومة هذا الاتجاه ما استطاعت، لأن أمريكا تعتقد أن هذه الأزمة بالرغم من كبرها، أزمة عابرة من ناحية ، كما أنه ليس من السهل عليها أن تتنازل عن موقع الزعامة في العالم من ناحية أخرى.
ربما نشهد عودة إلى نظام شبيه بنظام بريتون وودز (1944 - 1971)، وهذا يعني إعطاء سلطة أكبر للمنظمات الدولية للتأثير في السياسات الاقتصادية للحكومات، ليس السياسات الخارجية وحسب ولكن على السياسات الداخلية، خاصة ما يتعلق منها بالأسواق المالية. وستجري مقاومة هذا الاتجاه من بعضهم، وخاصة أمريكا، بحجة أنه قد يؤدي إلى قيود كبيرة غير مبررة على حركة الأسواق، وأن كثرة القيود كقلتها كلاهما سيئ. وما دامت هذه السياسات اجتهادات بشرية محضة، فإنها ستصيب بعض النجاح في بعض الأمور، ولكنها ستسبب مشكلات أخرى قد تؤدي إلى حدوث الأزمة مرة أخرى. لذلك فإن إصلاحاً جذرياً بعيد المدى للنظام العالمي لا مفر له من مراجعة فلسفة النظام حول مدى الحرية الفردية وطبيعة النقود وكيفية التعامل معها، فضلا عن أن النظام الاقتصادي لا يمكن أن يكون كائناً منفصلا عن بقية جوانب الحياة. وهنا يأتي دور العقائد والأخلاق. ونستطيع أن نقول بكل ثقة إنه لا يوجد نظام متكامل تهتدي به البشرية سوى نظام الإسلام. وإذا كان المسلمون غير جاهزين تماماً لتقديمه للعالم فإن هذا لا يعني قصوراً في نظام الإسلام وإنما قصور أصحابه به.
ويبدو أن أوروبا بزعامة فرنسا مصممة على التوصل إلى اتفاق دولي لتنظيم أسواق المال في العالم. وقد أعلنت بعض ملامح الإصلاح المؤسسي المقترحة وتتمثل في فرض رقابة على وكالات التقييم للمؤسسات والشركات والبنوك و صناديق المضاربة. وربما يكون ذلك من خلال إنشاء هيئة مراقبة دولية للأسواق المالية. كما دعا رئيس الوزراء البريطاني إلى إصلاح صندوق النقد الدولي وتشكيل 30 هيئة إشراف دولية لمراقبة تصرفات الشركات والبنوك!!! وأغلب الظن أنه سيمضي وقت طويل قبل الاتفاق على المبادئ العامة التي ستحكم النظام أولا ثم إنشاء هذا العدد الهائل من المؤسسات الرقابية ثم قيامها بأداء أعمالها. وقد تحدث أزمة أخرى قبل إنجاز كل هذه الأعمال.
لقد كان منع البيع على المكشوف أحد الإجراءات الاحترازية التي قامت بها بعض الدول لتخفيف حدة المضاربة في الأسواق. ومن المدهش أن هذا المنع كان منعاً مؤقتاً في بعض الدول. والحق أنه كان على المسؤولين في تلك الدول اتخاذ قرار بتجميد أنواع العقود والمعاملات كافة التي تشجع على المضاربة تمهيداً لمراجعتها وربما منع كثير منها مستقبلاً ومن أهمها عقود إعادة بيع الديون. وذلك أن هذه العقود وإن حققت بعض المنافع لمنشئيها، إلا أنها أثبتت أنها ذات ضرر جسيم على أسواق العالم. وسيكون من الحماقة أن تستغل السيولة التي تضخها الحكومات في الأسواق المالية في القيام بدورة أخرى من المضاربات. وهذه بعض ملامح الحل الإسلامي لهذه المعضلة وعلى المتشككين والمنهزمين مراجعة مواقفهم.
بعض عقابيل هذه الأزمة أنه لا مفر من زيادة الضرائب فيما بعد لسداد الدين الحكومي المتزايد ،هذا من ناحية، كما أن عودة الثقة إلى الأسواق لن يكون دون ثمن إذ إن السيولة النقدية المحتبسة هنا أو هناك ستعود إلى السوق في الوقت الذي ضخت فيه الحكومات قدراً هائلا من السيولة لإعادة الثقة بالنظام. فإذا اجتمعت السيولتان فربما تحدث ضغوط تضخمية كبيرة . وهذه ضريبة أخرى غير مباشرة لخطة إنقاذ النظام. وفي هذه الحالة لابد من زيادة سعر الفائدة، وهذا يضع قيداً على الانتعاش الاقتصادي المأمول وهذه ضريبة ثالثة.هذه الاضطرابات التي حدثت والتي يتوقع أن تحدث هي مصداق للآية الكريمة " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا".
لقد كان ضخ قدر متزايد من السيولة في الأسواق أشبه بمسكنات قوية، تخفف شعور المريض بالألم ولكنها لا تعالج الأسباب الحقيقية له. ولذلك فإن العلاج الجذري لهذه الأزمة لا يمكن أن ينتظر حتى يتم الاتفاق على إنشاء المؤسسات المالية الدولية المقترحة، بل لا بد من فعل شيء حاسم وحذري تجاه كثير من الممارسات والمنتجات المالية الآن وليس فيما بعد. وهذا من شأنه أن يخفف من اتساع الأزمة ويعجل بانتهائها فضلا عن أنه يقلل احتمال ظهورها مرة أخرى في المستقبل، كما أنه يقلل من كمية القوانين اللازمة لتنظيم السوق.
http://www.aleqt.com/article.php?do=show&id=10975
[color=#32CD32]د. أسامة أحمد عثمان[
/color]26/10/1429هـ
اندلعت الأزمة المالية العالمية الأخيرة منذ قرابة السنة. ثم اشتدت أوزارها في الشهرين الماضيين، ما دفع الحكومات إلى اتخاذ إجراءات لإطفاء ذلك الحريق الذي لم يكد يسلم جزء من العالم من الاكتواء بناره أو شم دخانه. وقيل في تفسير الأزمة أسباب كثيرة منها قصور الأنظمة الحاكمة على أسواق المال وتضاربها وتباطؤ الحكومات في التعامل معها. كل هذا صحيح. ولكنه لا يشير إلى لب المشكلة الذي أدى إلى هذه الأزمات التي تتكرر من وقت إلى آخر.
ليست المشكلة في نقص الأنظمة أو تضاربها أو قصورها فحسب، ولكن لب المشكلة يكمن في الأساس الفلسفي الذي يقدم عليه النظام الرأسمالي. ذلك الأساس الذي قام على الفصام النكد بين الدين والأخلاق، وبين الدين والعلم، وبين الدين والسياسة، وبين الدين والاقتصاد، وبين الدين والفن، وقس على ذلك من سائر مناشط الحياة. ظهرت الرأسمالية الحديثة في أوروبا منذ 400 عام على أنقاض الكنيسة كسلطة روحية، وعلى أنقاض الإمبراطوريات كنظام سياسي، وعلى أنقاض الإقطاع الزراعي كنظام اقتصادي. ولقد مرت الرأسمالية بتغيرات كثيرة في الفكر والممارسة نتيجة أخطاء كثيرة أدت إلى كثير من الحروب والمجاعات والتوترات الاجتماعية في أوروبا وأمريكا والعالم. وبالرغم من كل هذه التغيرات بقي مبدأ واحد ثابت يمثل لب الفكر الرأسمالي ألا وهو تقديس الحرية الفردية تقديساً شبه مطلق في أغلب الأحيان. وما القيود الاجتماعية أو التنظيمية من الحكومات إلا قيود طارئة على الأصل، بزعم أن الإنسان رشيد يعرف ما يصلحه وما لا يصلحه، وأن هذا الرشد يبرر تلك الحرية. وبذلك حلت عبادة الفرد ذاته محل عبادة الله سبحانه وتعالى .
لقد كانت الماركسية ردة فعل على تجاوزات النظام الرأسمالي ولكن شطط الماركسية في تقييد الحرية الفردية جعلها تحمل في جذورها عوامل انهيارها. ومع ذلك فإن التطبيق الحقيقي للرأسمالية في أي مكان في العالم بما في ذلك أمريكا يحمل قليلا أو كثيراً من المعالم الاشتراكية وهذا التدخل الحكومي في الأسواق المالية ليس بجديد إنما الجديد هو تعقيده واتساعه.
من المبكر القول إن ما حدث انهيار للرأسمالية، ولكنه عارض مهم جداً و نذير بالخطر بالنسبة للنظام الرأسمالي عامة ولزعامة أمريكا لهذا النظام خاصة. لقد انهال الأوروبيون قبل غيرهم على أمريكا توبيخاً وتقريعاً، لا بل وشماتة في بعض الأحيان، فهم يرون أن الأزمة أمريكية المنشأ وأن على أمريكا أن تذعن لدعوات الإصلاح. وقد دعت أوروبا إلى سلسلة مؤتمرات لإعادة صياغة النظام الرأسمالي، وستكون أحد ملامح هذا النظام تقييد حرية الدول في اتخاذ سياسات يمكن أن تؤثر على بقية دول العالم. وستحاول أمريكا مقاومة هذا الاتجاه ما استطاعت، لأن أمريكا تعتقد أن هذه الأزمة بالرغم من كبرها، أزمة عابرة من ناحية ، كما أنه ليس من السهل عليها أن تتنازل عن موقع الزعامة في العالم من ناحية أخرى.
ربما نشهد عودة إلى نظام شبيه بنظام بريتون وودز (1944 - 1971)، وهذا يعني إعطاء سلطة أكبر للمنظمات الدولية للتأثير في السياسات الاقتصادية للحكومات، ليس السياسات الخارجية وحسب ولكن على السياسات الداخلية، خاصة ما يتعلق منها بالأسواق المالية. وستجري مقاومة هذا الاتجاه من بعضهم، وخاصة أمريكا، بحجة أنه قد يؤدي إلى قيود كبيرة غير مبررة على حركة الأسواق، وأن كثرة القيود كقلتها كلاهما سيئ. وما دامت هذه السياسات اجتهادات بشرية محضة، فإنها ستصيب بعض النجاح في بعض الأمور، ولكنها ستسبب مشكلات أخرى قد تؤدي إلى حدوث الأزمة مرة أخرى. لذلك فإن إصلاحاً جذرياً بعيد المدى للنظام العالمي لا مفر له من مراجعة فلسفة النظام حول مدى الحرية الفردية وطبيعة النقود وكيفية التعامل معها، فضلا عن أن النظام الاقتصادي لا يمكن أن يكون كائناً منفصلا عن بقية جوانب الحياة. وهنا يأتي دور العقائد والأخلاق. ونستطيع أن نقول بكل ثقة إنه لا يوجد نظام متكامل تهتدي به البشرية سوى نظام الإسلام. وإذا كان المسلمون غير جاهزين تماماً لتقديمه للعالم فإن هذا لا يعني قصوراً في نظام الإسلام وإنما قصور أصحابه به.
ويبدو أن أوروبا بزعامة فرنسا مصممة على التوصل إلى اتفاق دولي لتنظيم أسواق المال في العالم. وقد أعلنت بعض ملامح الإصلاح المؤسسي المقترحة وتتمثل في فرض رقابة على وكالات التقييم للمؤسسات والشركات والبنوك و صناديق المضاربة. وربما يكون ذلك من خلال إنشاء هيئة مراقبة دولية للأسواق المالية. كما دعا رئيس الوزراء البريطاني إلى إصلاح صندوق النقد الدولي وتشكيل 30 هيئة إشراف دولية لمراقبة تصرفات الشركات والبنوك!!! وأغلب الظن أنه سيمضي وقت طويل قبل الاتفاق على المبادئ العامة التي ستحكم النظام أولا ثم إنشاء هذا العدد الهائل من المؤسسات الرقابية ثم قيامها بأداء أعمالها. وقد تحدث أزمة أخرى قبل إنجاز كل هذه الأعمال.
لقد كان منع البيع على المكشوف أحد الإجراءات الاحترازية التي قامت بها بعض الدول لتخفيف حدة المضاربة في الأسواق. ومن المدهش أن هذا المنع كان منعاً مؤقتاً في بعض الدول. والحق أنه كان على المسؤولين في تلك الدول اتخاذ قرار بتجميد أنواع العقود والمعاملات كافة التي تشجع على المضاربة تمهيداً لمراجعتها وربما منع كثير منها مستقبلاً ومن أهمها عقود إعادة بيع الديون. وذلك أن هذه العقود وإن حققت بعض المنافع لمنشئيها، إلا أنها أثبتت أنها ذات ضرر جسيم على أسواق العالم. وسيكون من الحماقة أن تستغل السيولة التي تضخها الحكومات في الأسواق المالية في القيام بدورة أخرى من المضاربات. وهذه بعض ملامح الحل الإسلامي لهذه المعضلة وعلى المتشككين والمنهزمين مراجعة مواقفهم.
بعض عقابيل هذه الأزمة أنه لا مفر من زيادة الضرائب فيما بعد لسداد الدين الحكومي المتزايد ،هذا من ناحية، كما أن عودة الثقة إلى الأسواق لن يكون دون ثمن إذ إن السيولة النقدية المحتبسة هنا أو هناك ستعود إلى السوق في الوقت الذي ضخت فيه الحكومات قدراً هائلا من السيولة لإعادة الثقة بالنظام. فإذا اجتمعت السيولتان فربما تحدث ضغوط تضخمية كبيرة . وهذه ضريبة أخرى غير مباشرة لخطة إنقاذ النظام. وفي هذه الحالة لابد من زيادة سعر الفائدة، وهذا يضع قيداً على الانتعاش الاقتصادي المأمول وهذه ضريبة ثالثة.هذه الاضطرابات التي حدثت والتي يتوقع أن تحدث هي مصداق للآية الكريمة " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا".
لقد كان ضخ قدر متزايد من السيولة في الأسواق أشبه بمسكنات قوية، تخفف شعور المريض بالألم ولكنها لا تعالج الأسباب الحقيقية له. ولذلك فإن العلاج الجذري لهذه الأزمة لا يمكن أن ينتظر حتى يتم الاتفاق على إنشاء المؤسسات المالية الدولية المقترحة، بل لا بد من فعل شيء حاسم وحذري تجاه كثير من الممارسات والمنتجات المالية الآن وليس فيما بعد. وهذا من شأنه أن يخفف من اتساع الأزمة ويعجل بانتهائها فضلا عن أنه يقلل احتمال ظهورها مرة أخرى في المستقبل، كما أنه يقلل من كمية القوانين اللازمة لتنظيم السوق.
http://www.aleqt.com/article.php?do=show&id=10975