نقاط على حروف المشهد الجهادي العالمي 2 د. أكرم حجازي
نقاط على حروف المشهد الجهادي العالمي
د. أكرم حجازي
12/10/2008
المأزق والحل في بلاد الأفغان
(2)
لو لم يكن ثمة انهيار في أسواق المال العالمية ابتداء من الولايات المتحدة الأمريكية وحتى أفقر دولة في العالم لاحتلت الباكستان وأفغانستان صدارة النشرات الإخبارية في وسائل الإعلام الدولية بلا منافس. ومع ذلك فقد ألقت الحروب الأمريكية في العراق وأفغانستان بظلالها على خلفيات الأزمة المالية الأمريكية والتي تسببت بخسائر معلنة بما يوازي حجم الإنفاق العسكري الأمريكي في البلدين والبالغ أزيد من 3.5 تريليون دولار. هكذا حضر العراق، كساحة حرب مدمرة للاقتصاد الأمريكي، مع أنه لا يشكل، في الوقت الراهن على الأقل، حجم الفزع الذي تثيره حالة الساحة الأفغانية. فهل الوضع في أفغانستان حرج إلى الدرجة التي تجعل من مسألة التفاوض مع طالبان، ولو على المستوى الإعلامي، مجاورة لأعتى الأزمات العالمية؟
أولا: انحسار الخيار العسكري الأمريكي
غداة هجمات الحادي عشر من سبتمبر توعد الرئيس الأمريكي جورج بوش تحديدا طالبان والقاعدة بالعقاب الشديد: سنخرجهم من جحورهم، سنطاردهم، سنعتقلهم أو نقتلهم، وسنقضي على القاعدة وطالبان ... . هذه بعض العبارات التي تفوه بها وهو يحشد قواته للهجوم على أفغانستان. وبعد مرور ثلاثة أعوام أو أقل على احتلال البلاد وتدميرها وقتل الآلاف من سكانها ومجاهديها، وبعد حصار تورا بورا سئل الرئيس عن مصير بن لادن فأجاب: لا أعرف - I don't know - لكننا في النهاية سنلقي القبض عليه أو ربما يكون قتل. وبعد ثلاث سنوات أخرى قال: الوضع صعب وعصيب. أما اليوم فــ: نحن مستعدون للتفاوض مع طالبان!
هكذا إذن، استنفذت الولايات المتحدة وحلف الناتو الخيار العسكري بالكامل، وباتت القوات المتحالفة على شفا الانهيار بين لحظة وأخرى. فالعسكريون حسموا أمرهم. والخلاف بين الناتو والأمريكيين وصل إلى نقطة اللاعودة. فعلى امتداد السنة الجارية، على الأقل، نشطت الولايات المتحدة دبلوماسيا وألحت على الدول الأوروبية حتى جف لعابها لإقناعها بزيادة عدد القوات الأطلسية في أفغانستان ولكن دون جدوى، فقد أخفق حلف الناتو في الاتفاق على إرسال إمدادات عسكرية تصل إلى 15 ألف جندي إضافي لمواجهة تصاعد هجمات طالبان، فيما رفضت الدول الأخرى المزيد من التورط في الحرب الدائرة في أفغانستان.
ويمكن ملاحقة حقيقة الوضع العسكري في أفغانستان عبر تصريحات القادة الميدانيين والمسؤولين الأوروبيين. ففي 2/6/2008، وعشية استقالته، اعترف قائد قوات الناتو في أفغانستان الجنرال دان ماكنيل في مقابلة مع مجلة دير شبيجل الألمانية أن: منظمة الناتو لديها 47 ألف جندي الآن، في حين أننا نحتاج إلى وجود 400 ألف جندي أفغاني لمواجهة طالبان. وفي مقابلة لاحقة له مع صحيفة الـ واشنطن بوست الأمريكية (15/6/2008) أقر بأن التصدي لهجمات حركة طالبان الأفغانية بات أمرًا عسيرًا، خاصة بعدما زادت هجمات مقاتلي الحركة بمعدل 50% .
وأكد التقرير الذي أعده المفكر الإستراتيجي الشهير أنطوني كوردسمان في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (23/9/2008) بعنوان: خسارة الحرب الأفغانية – الباكستانية؟ الخطر الصاعد أن: هزيمة الناتو وأمريكا في أفغانستان آتية بالتأكيد، كما حدث مع الاتحاد السوفيتي في ثمانينات القرن الماضي والإمبراطورية البريطانية في القرن 19، وهو ذات التوقع الذي أشار إليه ريتشارد تايلور في صحيفة الغارديان (7/11/2007) من أن: حلف شمال الأطلسي الذي تأسس لمواجهة الجيش السوفييتي بعظمته وأقماره الاصطناعية يواجه خطر الاندثار في صحارى أفغانستان وجبالها. وأشار تقرير كوردسمان إلى أن الوضع الذي كان يتدهور في السنوات الخمس الماضية في أفغانستان وصل اليوم إلى: مرحلة الأزمة. وكشف عن أن الطالبان المنطلقين مجددا: حولوا العديد من مناطق أفغانستان إلى مناطق محظورة على هذه القوات. وحتى وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس ورئيس هيئة أركان الجيوش المشتركة الأدميرال مايكل مولن اعترفا بأن: الوضع أصبح أكثر فتكاً بالنسبة لقوات الناتو والقوات الأمريكية.
هكذا باتت الطريق ممهدة أمام الاستخبارات الأمريكية بوكالاتها الستة عشر لتصدر تقريرها (9/10/ 2008) الذي سيكشف النقاب عنه بعد الانتخابات الأمريكية والمسمى بـ: التقييم الاستخباري الوطني. وفيه اعتراف صريح بأن: أفغانستان تنزلق نحو الهاوية. ومن المنتظر أن يثير التقييم الكثير من الاتهامات كونه حظي بجماع كافة وكالات الأمن الأمريكية.
ورغم كثافة التصريحات المتشائمة تظل تصريحات قائد القوات البريطانية الجنرال كارلتون سميث لصحيفة الصاندي تايمز (5/10/2008) قاصمة لاستراتيجيات الناتو وخاصة للسياسات الأمريكية في البلاد منذ احتلالها، ليس لأنها أقرت باستحالة النصر العسكري ودعت إلى التفاوض مع طالبان؛ بل لأنها وضعت حدا للحماقة الأمريكية التي تصر على الخيار العسكري رغم علمها باستحالة نجاحه أو تحقيقه أي تقدم في ظل الموازين القائمة سواء على المستوى العسكري حيث تعاني القوات من نقص شديد أو على المستوى السياسي حيث ترفض دول الناتو والدول الأخرى إرسال المزيد من القوات بما يكفي لمواجهة طالبان أو على مستوى حكومة كرزاي الغارقة في الفساد والتمتع بنعم الاحتلال غير آبهة بما يجري من حولها والمصير الذي يمكن أن تؤول إليه هي والقوات الحامية لها. والأهم من كل هذا أن التصريحات جاءت لتفجر المسكوت عنه وتؤكد صحة ما ورد في المذكرة السرية التي سربها دبلوماسي فرنسي وجاء فيها أن السفير البريطاني في كابول شيرارد كولز أسر له بأن الخطة المتبعة في أفغانستان ستؤول إلى الإخفاق التام. بل أن مراسل محطة BBC في كابول وصف تصريحات الجنرال البريطاني بأنها تتطابق مع مواقف القيادة العسكرية والأوساط الدبلوماسية البريطانية في أفغانستان رغم عدم التصريح عن ذلك علانية.
ثانيا: حقيقة المفاوضات وأهدافها
هكذا إذن! فقد تكشفت الأمور وباتت التصريحات والتقارير تلاحق بعضها، وقريبا ستلعن بعضها خاصة وأن طالبان نجحت في عزل كابول وبدا أنها تقترب من الوفاء بوعدها القاضي بتحديد العام 2010 موعدا لتحرير البلاد وطرد القوات الأجنبية منها، ولا شك أنها الآن في أوج مجدها لاسيما وأنها بالكاد تبتعد عن كابول بضعة كيلومترات يمكن قطعها بحدود الخمسة عشر دقيقة فقط، ومثل هذه المسافة كافية استراتيجيا لاعتبار العاصمة ساقطة عسكريا بعد أن تحولت إلى مجرد سجن للقوات الحكومية والأجنبية. ولم يعد ثمة سبب لتبرير التفاوض مع طالبان سوى الشعور بالهزيمة الساحقة. فما هي قصة المفاوضات المقترحة؟
من الطبيعي أن فشل الخيار العسكري سيؤدي إلى استعمال آخر ورقة ممكنة مع الخصم. وقد صدرت تصريحات وتسريبات كثيرة وبعضها على استحياء لفتح قنوات للتفاوض مع طالبان منذ أكثر من عامين. لكن لم يثبت صحة أي من التسريبات على وجود نية لدى طالبان في التفاوض. وفي الماضي كانت الولايات المتحدة تفرض حظرا على مشاركة الملا محمد عمر في أي مفاوضات قادمة، أما الآن فقد تغير الوضع، وبات الملا عمر موضع ترحيب وحماية. أما الدعوة الحالية التي أطلقها الرئيس الأفغاني حامد كرزاي فتأتي بعد يومين عما كشفت عنه صحيفة الأوبزرفر البريطانية (28/9/2008) من وجود مفاوضات بين وفد من طالبان والحكومة الأفغانية بوساطة سعودية للبحث في إنهاء الحرب الأفغانية. ثم توالت التصريحات المؤيدة لبدء حوار مع طالبان حتى وصلت إلى الأمم المتحدة ووزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس. لكن من هي القوى الأفغانية المعنية؟ وما هو الهدف من المفاوضات المقترحة؟
لسنا نعلم بالضبط الوقت الذي بدأت فيه المفاوضات في السعودية. لكن الأوبزرفر ومصادر أخرى تقول أنها تجري منذ صيف العام الجاري، ومن بين المفاوضين كشف النقاب عن أسماء كل من الملا عبد السلام ضعيف سفير طالبان في الباكستان إبان الغزو الأمريكي، ووكيل أحمد متوكل وزير خارجية طالبان السابق، وعن الجانب الحكومي والي كرزاي شقيق الرئيس الأفغاني، وكذا نواز شريف رئيس الحكومة الباكستانية الأسبق الذي جرى استدعائه كوسيط بفعل خبرته السابقة في طالبان والشأن الأفغاني. وربما ثمة أسماء أخرى لم يعلن عنها ممن تصفهم الدوائر الغربية بـ المعتدلين، فطالبان حركة سياسية كبيرة ولا شك أن فيها توجهات ليس من المستبعد أن تميل إلى التفاوض فضلا عن مطالبتها به مع تحفظنا على الأسماء الواردة كونها لم ترد بشكل رسمي. لكن الأمر الحاسم أن كرزاي نفسه الذي طالب بوساطة سعودية للمصالحة مع طالبان أعلن أن المفاوضات لم تبدأ بعد. وهذا يعني أن القوى الغربية هي من يقف خلف الحديث عن وجود مفاوضات.
ومن جهته فقد دعا حاكم المحافظة الشمالية الغربية من باكستان إلى ضرورة البدء في التفاوض مع الملا محمد عمر، وفي مقابلة أجرتها معه صحيفة ديلي تليجراف البريطانية في منطقة بيشاور قال عويس غني: على الولايات المتحدة أن تدرك حتمية أن تتفاوض مع الملا عمر وقلب الدين حكمتيار والملا جلال الدين حقاني. ومن الواضح أنه ثمة حاجة ملحة للتفاوض مع طالبان، لكن هذه الدعوة تؤكد فشل المفاوضات الجارية مع قوى ليست تمتلك القرار إن كانت موجودة أصلا. ربما تكون بعض القوى أو الأفراد قد اجتدوا أو حاولوا جس النبض أو حتى تطفلوا لكنها قوى، على الأرجح، غير مخولة بالتفاوض. بل أن حركة طالبان أصدرت بيانا على عجل (2008/09/28) نفت فيه صحة الأنباء عن جود مفاوضات، وجاء فيه أن: أي مسؤول في الإمارة الإسلامية غير شامل في مفاوضات مع أمريكا وإدارتها العميلة. بعض مسؤولي الإمارة الإسلامية السابقين الذين يعدون بأصابع اليد الموجدون تحت إقامة جبرية في كابل، أو المستسلمين، هؤلاء الآن لا يمثلون الإمارة الإسلامية وأضاف بأن: هذا النوع من الأفواه محاولة فاشلة من قبل العدو لإيجاد القلق وعدم الثقة بين المجاهدين وشعب أفغانستان وشعوب العالم، واعتبر أن: المفاوضات التي فيها مصلحة الإسلام وأفغانستان؛ لا تكون خافية أبداً عن أعين الشعب مؤكدا على أن: مبارزتنا ستستمر إن شاء الله حتى إخراج القوات الأجنبية ومجيء نظام إسلامي مستقل.
ومن جهته قطع الملا محمد عمر كل شك بيقين حين سد الطريق وأعلن صراحة أنه مستعد لتأمين انسحاب القوات الأجنبية من بلاده. أما لماذا تحدث عن الانسحاب وليس التفاوض فلأن هدف المفاوضات عند الغرب ليس الانسحاب بقدر ما هو مجرد فخ للإيقاع بالقوى الجهادية في محاولة لكسب الوقت بحثا عن استراتيجية جديدة من شأنها تخفيف حدة هجمات طالبان بداية والتمهيد للانتصار عليها. في كل الأحوال ثمة امر ما يدور في الخفاء لم تتضح معالمه بعد.
على الصعيد الغربي، فإذا تتبعنا تصريحات القوى الأطلسية والأوروبية فمن الممكن تبين خفايا الدعوة إلى المفاوضات. ففي وقت سابق ناشد الصحفي البريطاني سايمون جنكينز في مقالة له في صحيفة صنداي تايمز الدول الغربية الكف عن قتل المنتمين لحركة طالبان لأنهم: يمثلون الأمل المرتجى في هزيمة تنظيم القاعدة. وحتى رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيون عبر عن نفس الموقف: علينا أن ندرس طرقا تجعلنا نفرق بين الجهاديين الدوليين وبين من يتصرفون بوازع وطني أو بدوافع قبلية. ولا شك أن فك الارتباط بين طالبان والقاعدة هو واحد من أسمى الأماني، وهي ذات الاستراتيجية التي اتبعتها الولايات المتحد في العراق عملا بتوصيات مؤسسة راند التي رأت أن الجماعات الجهادية ليست متماثلة عقديا وبالتالي يمكن زرع الخلاف بينها واختراقها وهو ما حصل فعلا.
وثمة الكثير ممن يرى جدوى في تطبيق الاستراتيجيا ذاتها في أفغانستان إما عبر إنشاء صحوات جديدة أو عبر التفاوض. فمن جهته رأى قائد القوات الأمريكية السابق في العراق الجنرال ديفيد بتريوس (1/10/2008): إن المفاوضات مع بعض أعضاء طالبان قد تقدم وسيلة لخفض العنف في أجزاء من أفغانستان، ومن الواضح أنه غير متأكد من ذلك. أما البريطانيون فيعتقدون بأن: أي مباحثات لا يمكنها أن تجرى إلا مع عناصر طالبان الذين يعربون عن استعدادهم للتخلي عن العنف أو مع من قد تخلوا عنه بالفعل. ومن جهتها عبرت الخارجية الفرنسية عن ذات المضمون مشيرة إلى أنها تؤيد: التفاوض مع الطرف القومي في طالبان فقط واستبعاد الطرف الجهادي. أما وزير الدفاع الأمريكي، خلال اجتماع لوزراء دفاع حلف شمال الأطلسي، فكان أكثر وضوحا حول مستقبل المفاوضات مبديا استعداد بلاده للمصالحة مع طالبان بشرط: أن تجري وفق شروط الحكومة، وأن تخضع خلالها طالبان لسيادة الدولة.
إذن الهدف من التفاوض هو خفض العنف بحسب الجنرال بتريوس أو إنهاء التمرد بحسب الجنرال البريطاني كارلتون سميث أو هزيمة القاعدة بحسب القرنسيين أو الخضوع لسيادة الدولة بالنسبة لوزير الدفاع الأمريكي. لكنه بالنسبة لطالبان هو انسحاب ونظام إسلامي مستقل، فما هو بالنسبة للقاعدة؟
يتبع ...
نقاط على حروف المشهد الجهادي العالمي
د. أكرم حجازي
12/10/2008
المأزق والحل في بلاد الأفغان
(2)
لو لم يكن ثمة انهيار في أسواق المال العالمية ابتداء من الولايات المتحدة الأمريكية وحتى أفقر دولة في العالم لاحتلت الباكستان وأفغانستان صدارة النشرات الإخبارية في وسائل الإعلام الدولية بلا منافس. ومع ذلك فقد ألقت الحروب الأمريكية في العراق وأفغانستان بظلالها على خلفيات الأزمة المالية الأمريكية والتي تسببت بخسائر معلنة بما يوازي حجم الإنفاق العسكري الأمريكي في البلدين والبالغ أزيد من 3.5 تريليون دولار. هكذا حضر العراق، كساحة حرب مدمرة للاقتصاد الأمريكي، مع أنه لا يشكل، في الوقت الراهن على الأقل، حجم الفزع الذي تثيره حالة الساحة الأفغانية. فهل الوضع في أفغانستان حرج إلى الدرجة التي تجعل من مسألة التفاوض مع طالبان، ولو على المستوى الإعلامي، مجاورة لأعتى الأزمات العالمية؟
أولا: انحسار الخيار العسكري الأمريكي
غداة هجمات الحادي عشر من سبتمبر توعد الرئيس الأمريكي جورج بوش تحديدا طالبان والقاعدة بالعقاب الشديد: سنخرجهم من جحورهم، سنطاردهم، سنعتقلهم أو نقتلهم، وسنقضي على القاعدة وطالبان ... . هذه بعض العبارات التي تفوه بها وهو يحشد قواته للهجوم على أفغانستان. وبعد مرور ثلاثة أعوام أو أقل على احتلال البلاد وتدميرها وقتل الآلاف من سكانها ومجاهديها، وبعد حصار تورا بورا سئل الرئيس عن مصير بن لادن فأجاب: لا أعرف - I don't know - لكننا في النهاية سنلقي القبض عليه أو ربما يكون قتل. وبعد ثلاث سنوات أخرى قال: الوضع صعب وعصيب. أما اليوم فــ: نحن مستعدون للتفاوض مع طالبان!
هكذا إذن، استنفذت الولايات المتحدة وحلف الناتو الخيار العسكري بالكامل، وباتت القوات المتحالفة على شفا الانهيار بين لحظة وأخرى. فالعسكريون حسموا أمرهم. والخلاف بين الناتو والأمريكيين وصل إلى نقطة اللاعودة. فعلى امتداد السنة الجارية، على الأقل، نشطت الولايات المتحدة دبلوماسيا وألحت على الدول الأوروبية حتى جف لعابها لإقناعها بزيادة عدد القوات الأطلسية في أفغانستان ولكن دون جدوى، فقد أخفق حلف الناتو في الاتفاق على إرسال إمدادات عسكرية تصل إلى 15 ألف جندي إضافي لمواجهة تصاعد هجمات طالبان، فيما رفضت الدول الأخرى المزيد من التورط في الحرب الدائرة في أفغانستان.
ويمكن ملاحقة حقيقة الوضع العسكري في أفغانستان عبر تصريحات القادة الميدانيين والمسؤولين الأوروبيين. ففي 2/6/2008، وعشية استقالته، اعترف قائد قوات الناتو في أفغانستان الجنرال دان ماكنيل في مقابلة مع مجلة دير شبيجل الألمانية أن: منظمة الناتو لديها 47 ألف جندي الآن، في حين أننا نحتاج إلى وجود 400 ألف جندي أفغاني لمواجهة طالبان. وفي مقابلة لاحقة له مع صحيفة الـ واشنطن بوست الأمريكية (15/6/2008) أقر بأن التصدي لهجمات حركة طالبان الأفغانية بات أمرًا عسيرًا، خاصة بعدما زادت هجمات مقاتلي الحركة بمعدل 50% .
وأكد التقرير الذي أعده المفكر الإستراتيجي الشهير أنطوني كوردسمان في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (23/9/2008) بعنوان: خسارة الحرب الأفغانية – الباكستانية؟ الخطر الصاعد أن: هزيمة الناتو وأمريكا في أفغانستان آتية بالتأكيد، كما حدث مع الاتحاد السوفيتي في ثمانينات القرن الماضي والإمبراطورية البريطانية في القرن 19، وهو ذات التوقع الذي أشار إليه ريتشارد تايلور في صحيفة الغارديان (7/11/2007) من أن: حلف شمال الأطلسي الذي تأسس لمواجهة الجيش السوفييتي بعظمته وأقماره الاصطناعية يواجه خطر الاندثار في صحارى أفغانستان وجبالها. وأشار تقرير كوردسمان إلى أن الوضع الذي كان يتدهور في السنوات الخمس الماضية في أفغانستان وصل اليوم إلى: مرحلة الأزمة. وكشف عن أن الطالبان المنطلقين مجددا: حولوا العديد من مناطق أفغانستان إلى مناطق محظورة على هذه القوات. وحتى وزير الدفاع الأمريكي روبرت جيتس ورئيس هيئة أركان الجيوش المشتركة الأدميرال مايكل مولن اعترفا بأن: الوضع أصبح أكثر فتكاً بالنسبة لقوات الناتو والقوات الأمريكية.
هكذا باتت الطريق ممهدة أمام الاستخبارات الأمريكية بوكالاتها الستة عشر لتصدر تقريرها (9/10/ 2008) الذي سيكشف النقاب عنه بعد الانتخابات الأمريكية والمسمى بـ: التقييم الاستخباري الوطني. وفيه اعتراف صريح بأن: أفغانستان تنزلق نحو الهاوية. ومن المنتظر أن يثير التقييم الكثير من الاتهامات كونه حظي بجماع كافة وكالات الأمن الأمريكية.
ورغم كثافة التصريحات المتشائمة تظل تصريحات قائد القوات البريطانية الجنرال كارلتون سميث لصحيفة الصاندي تايمز (5/10/2008) قاصمة لاستراتيجيات الناتو وخاصة للسياسات الأمريكية في البلاد منذ احتلالها، ليس لأنها أقرت باستحالة النصر العسكري ودعت إلى التفاوض مع طالبان؛ بل لأنها وضعت حدا للحماقة الأمريكية التي تصر على الخيار العسكري رغم علمها باستحالة نجاحه أو تحقيقه أي تقدم في ظل الموازين القائمة سواء على المستوى العسكري حيث تعاني القوات من نقص شديد أو على المستوى السياسي حيث ترفض دول الناتو والدول الأخرى إرسال المزيد من القوات بما يكفي لمواجهة طالبان أو على مستوى حكومة كرزاي الغارقة في الفساد والتمتع بنعم الاحتلال غير آبهة بما يجري من حولها والمصير الذي يمكن أن تؤول إليه هي والقوات الحامية لها. والأهم من كل هذا أن التصريحات جاءت لتفجر المسكوت عنه وتؤكد صحة ما ورد في المذكرة السرية التي سربها دبلوماسي فرنسي وجاء فيها أن السفير البريطاني في كابول شيرارد كولز أسر له بأن الخطة المتبعة في أفغانستان ستؤول إلى الإخفاق التام. بل أن مراسل محطة BBC في كابول وصف تصريحات الجنرال البريطاني بأنها تتطابق مع مواقف القيادة العسكرية والأوساط الدبلوماسية البريطانية في أفغانستان رغم عدم التصريح عن ذلك علانية.
ثانيا: حقيقة المفاوضات وأهدافها
هكذا إذن! فقد تكشفت الأمور وباتت التصريحات والتقارير تلاحق بعضها، وقريبا ستلعن بعضها خاصة وأن طالبان نجحت في عزل كابول وبدا أنها تقترب من الوفاء بوعدها القاضي بتحديد العام 2010 موعدا لتحرير البلاد وطرد القوات الأجنبية منها، ولا شك أنها الآن في أوج مجدها لاسيما وأنها بالكاد تبتعد عن كابول بضعة كيلومترات يمكن قطعها بحدود الخمسة عشر دقيقة فقط، ومثل هذه المسافة كافية استراتيجيا لاعتبار العاصمة ساقطة عسكريا بعد أن تحولت إلى مجرد سجن للقوات الحكومية والأجنبية. ولم يعد ثمة سبب لتبرير التفاوض مع طالبان سوى الشعور بالهزيمة الساحقة. فما هي قصة المفاوضات المقترحة؟
من الطبيعي أن فشل الخيار العسكري سيؤدي إلى استعمال آخر ورقة ممكنة مع الخصم. وقد صدرت تصريحات وتسريبات كثيرة وبعضها على استحياء لفتح قنوات للتفاوض مع طالبان منذ أكثر من عامين. لكن لم يثبت صحة أي من التسريبات على وجود نية لدى طالبان في التفاوض. وفي الماضي كانت الولايات المتحدة تفرض حظرا على مشاركة الملا محمد عمر في أي مفاوضات قادمة، أما الآن فقد تغير الوضع، وبات الملا عمر موضع ترحيب وحماية. أما الدعوة الحالية التي أطلقها الرئيس الأفغاني حامد كرزاي فتأتي بعد يومين عما كشفت عنه صحيفة الأوبزرفر البريطانية (28/9/2008) من وجود مفاوضات بين وفد من طالبان والحكومة الأفغانية بوساطة سعودية للبحث في إنهاء الحرب الأفغانية. ثم توالت التصريحات المؤيدة لبدء حوار مع طالبان حتى وصلت إلى الأمم المتحدة ووزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس. لكن من هي القوى الأفغانية المعنية؟ وما هو الهدف من المفاوضات المقترحة؟
لسنا نعلم بالضبط الوقت الذي بدأت فيه المفاوضات في السعودية. لكن الأوبزرفر ومصادر أخرى تقول أنها تجري منذ صيف العام الجاري، ومن بين المفاوضين كشف النقاب عن أسماء كل من الملا عبد السلام ضعيف سفير طالبان في الباكستان إبان الغزو الأمريكي، ووكيل أحمد متوكل وزير خارجية طالبان السابق، وعن الجانب الحكومي والي كرزاي شقيق الرئيس الأفغاني، وكذا نواز شريف رئيس الحكومة الباكستانية الأسبق الذي جرى استدعائه كوسيط بفعل خبرته السابقة في طالبان والشأن الأفغاني. وربما ثمة أسماء أخرى لم يعلن عنها ممن تصفهم الدوائر الغربية بـ المعتدلين، فطالبان حركة سياسية كبيرة ولا شك أن فيها توجهات ليس من المستبعد أن تميل إلى التفاوض فضلا عن مطالبتها به مع تحفظنا على الأسماء الواردة كونها لم ترد بشكل رسمي. لكن الأمر الحاسم أن كرزاي نفسه الذي طالب بوساطة سعودية للمصالحة مع طالبان أعلن أن المفاوضات لم تبدأ بعد. وهذا يعني أن القوى الغربية هي من يقف خلف الحديث عن وجود مفاوضات.
ومن جهته فقد دعا حاكم المحافظة الشمالية الغربية من باكستان إلى ضرورة البدء في التفاوض مع الملا محمد عمر، وفي مقابلة أجرتها معه صحيفة ديلي تليجراف البريطانية في منطقة بيشاور قال عويس غني: على الولايات المتحدة أن تدرك حتمية أن تتفاوض مع الملا عمر وقلب الدين حكمتيار والملا جلال الدين حقاني. ومن الواضح أنه ثمة حاجة ملحة للتفاوض مع طالبان، لكن هذه الدعوة تؤكد فشل المفاوضات الجارية مع قوى ليست تمتلك القرار إن كانت موجودة أصلا. ربما تكون بعض القوى أو الأفراد قد اجتدوا أو حاولوا جس النبض أو حتى تطفلوا لكنها قوى، على الأرجح، غير مخولة بالتفاوض. بل أن حركة طالبان أصدرت بيانا على عجل (2008/09/28) نفت فيه صحة الأنباء عن جود مفاوضات، وجاء فيه أن: أي مسؤول في الإمارة الإسلامية غير شامل في مفاوضات مع أمريكا وإدارتها العميلة. بعض مسؤولي الإمارة الإسلامية السابقين الذين يعدون بأصابع اليد الموجدون تحت إقامة جبرية في كابل، أو المستسلمين، هؤلاء الآن لا يمثلون الإمارة الإسلامية وأضاف بأن: هذا النوع من الأفواه محاولة فاشلة من قبل العدو لإيجاد القلق وعدم الثقة بين المجاهدين وشعب أفغانستان وشعوب العالم، واعتبر أن: المفاوضات التي فيها مصلحة الإسلام وأفغانستان؛ لا تكون خافية أبداً عن أعين الشعب مؤكدا على أن: مبارزتنا ستستمر إن شاء الله حتى إخراج القوات الأجنبية ومجيء نظام إسلامي مستقل.
ومن جهته قطع الملا محمد عمر كل شك بيقين حين سد الطريق وأعلن صراحة أنه مستعد لتأمين انسحاب القوات الأجنبية من بلاده. أما لماذا تحدث عن الانسحاب وليس التفاوض فلأن هدف المفاوضات عند الغرب ليس الانسحاب بقدر ما هو مجرد فخ للإيقاع بالقوى الجهادية في محاولة لكسب الوقت بحثا عن استراتيجية جديدة من شأنها تخفيف حدة هجمات طالبان بداية والتمهيد للانتصار عليها. في كل الأحوال ثمة امر ما يدور في الخفاء لم تتضح معالمه بعد.
على الصعيد الغربي، فإذا تتبعنا تصريحات القوى الأطلسية والأوروبية فمن الممكن تبين خفايا الدعوة إلى المفاوضات. ففي وقت سابق ناشد الصحفي البريطاني سايمون جنكينز في مقالة له في صحيفة صنداي تايمز الدول الغربية الكف عن قتل المنتمين لحركة طالبان لأنهم: يمثلون الأمل المرتجى في هزيمة تنظيم القاعدة. وحتى رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيون عبر عن نفس الموقف: علينا أن ندرس طرقا تجعلنا نفرق بين الجهاديين الدوليين وبين من يتصرفون بوازع وطني أو بدوافع قبلية. ولا شك أن فك الارتباط بين طالبان والقاعدة هو واحد من أسمى الأماني، وهي ذات الاستراتيجية التي اتبعتها الولايات المتحد في العراق عملا بتوصيات مؤسسة راند التي رأت أن الجماعات الجهادية ليست متماثلة عقديا وبالتالي يمكن زرع الخلاف بينها واختراقها وهو ما حصل فعلا.
وثمة الكثير ممن يرى جدوى في تطبيق الاستراتيجيا ذاتها في أفغانستان إما عبر إنشاء صحوات جديدة أو عبر التفاوض. فمن جهته رأى قائد القوات الأمريكية السابق في العراق الجنرال ديفيد بتريوس (1/10/2008): إن المفاوضات مع بعض أعضاء طالبان قد تقدم وسيلة لخفض العنف في أجزاء من أفغانستان، ومن الواضح أنه غير متأكد من ذلك. أما البريطانيون فيعتقدون بأن: أي مباحثات لا يمكنها أن تجرى إلا مع عناصر طالبان الذين يعربون عن استعدادهم للتخلي عن العنف أو مع من قد تخلوا عنه بالفعل. ومن جهتها عبرت الخارجية الفرنسية عن ذات المضمون مشيرة إلى أنها تؤيد: التفاوض مع الطرف القومي في طالبان فقط واستبعاد الطرف الجهادي. أما وزير الدفاع الأمريكي، خلال اجتماع لوزراء دفاع حلف شمال الأطلسي، فكان أكثر وضوحا حول مستقبل المفاوضات مبديا استعداد بلاده للمصالحة مع طالبان بشرط: أن تجري وفق شروط الحكومة، وأن تخضع خلالها طالبان لسيادة الدولة.
إذن الهدف من التفاوض هو خفض العنف بحسب الجنرال بتريوس أو إنهاء التمرد بحسب الجنرال البريطاني كارلتون سميث أو هزيمة القاعدة بحسب القرنسيين أو الخضوع لسيادة الدولة بالنسبة لوزير الدفاع الأمريكي. لكنه بالنسبة لطالبان هو انسحاب ونظام إسلامي مستقل، فما هو بالنسبة للقاعدة؟
يتبع ...
تعليق