الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد:
فقد بلينا في هذا الزمن بمناهج دعوية، وفدت إلينا تخلط الحق بالباطل والسنة بالبدعة، والمعروف بالمنكر ؛ بل وتستمرئ الشرك أحياناً وتجعله ديناً يدان الله به، فقد كانت ومازالت بلادنا من أقصاها إلى أقصاها ـ أي بلاد الحرمين ـ تحت الحكم السعودي تدين بالمنهج السلفي حاكمين ومحكومين، قادة ورعية، ذكوراً وإناثاً، صغاراً وكباراً، فلما وفدت علينا تلك المناهج أفسدت عقول بعض الشباب فاستبدلوا بالمنهج السلفي الحق منهج أهل السنة والجماعة، اعتاضوا عنه منهجاً حركياً سياسياً ثورياً، فاستبدلوا بالسنة بدعة، وبالحق باطلاً، وتنكروا لكل صاحب فضل ومعروف ؛ بل تنكروا لأقرب الناس إليهم من الآباء المشفقين والأساتذة المربين والولاة المحسنين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
والمصيبة أنهم يظنون أنهم على الحق ومن سواهم على الباطل ويعتبرون ما فعلوه جهاداً في سبيل الله، والمصيبة أيضاً أنهم يظهرون للناس النسك والعبادة ويبطنون في تنظيماتهم السرية الإطاحة بالدول وإقامة خلافة حسب ما زعموا على أنقاضها فيحسب من يراهم أنهم أعبد الناس وأتقاهم، وأنهم أبر الناس بالناس وأتقاهم، والحقيقة أنهم يبيتون أمراً خطيراً وشراً مستطيراً، فهم أشبه الناس بالخوارج الذين قال عنهم نبي الهدى والذي لا ينطق عن الهوى لأصحابه رضوان الله عليهم: (تحقرون صلاتكم عند صلاتهم وصيامكم عند صيامهم وقراءتكم عند قراءتهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية)، ووصفهم في حديث أبي سعيد عند البخاري بأنهم (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان) وقال: (لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وقال: (طوبى لمن قتلهم أو قتلوه).
وقال: (من أدركهم فليقتهلم فإن في قتلهم أجراً عظيماً لمن قتلهم) كل هذا وغيره ورد فيهم في وصفهم وفي حكم قتلهم وقتالهم. وما ذلك إلا لأنهم كفروا المسلمين بما لا يوجب الكفر، وحكموا باستحلال دمائهم والخروج على ولاتهم الذين أمر الله عزوجل على لسان رسوله بطاعتهم في المعروف وعدم الخروج عليهم حتى وإن ضربوا الظهر وأخذوا المال ولم يستبيحوا الخروج عليهم إلا بعد أن كفروهم واستباحوا دمائهم وأعراضهم، ونحن إذا تأملنا حال أصحاب المناهج المستوردة نجدهم أشبه شئ بالخوارج، فهم يتكلمون في ولاة الأمر وإن كانوا مسلمين يحكمون شرع الله ويحكمون به في محاكمهم، وإن كانوا موحدين ويدرس التوحيد في مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم وإن كانوا ينشرون العلم الشرعي ويشجعون على تعلمه وتعليمه، كل ذلك لم يمنعهم أن يستبيحوا أعراض الولاة والعلماء ويبهتوهم بما ليس فيهم وينشروا مثالبهم إن كان ولا بد أن يكون عندهم مالم يسلم منه أحد من البشر من أجل أن يزرعوا بغضهم في قلوب الناس عامة، والناشئة من طلاب العلم خاصة، توطئة للخروج عليهم، مع أن عقيدة أهل السنة والجماعة تمنع ذكر مثالب الولاة في المجتمعات وعلى المنابر وإن كانت حقيقة لما في ذلك من المفاسد، ويرون أن الواجب على أهل العلم نصيحتهم سراً وبلين من القول لأن الله تعالى قال لموسى وهارون عليهما السلام: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى} فأمر بلين القول لفرعون الذي ادعى الربوبية، إذا فغيره من باب أولى.
ثم اعلم أن الخروج ينقسم إلى قسمين:
خروج بالقول وهو ذكر المثالب علناً في المجامع وعلى رؤوس المنابر لأن ذلك يعد عصياناً لهم وتمرداً عليهم وإغراءاً بالخروج عليهم، وزرعاً لعدم الثقة فيهم، وتهييجاً للناس عليهم وهو أساس للخروج الفعلي وسبب له.
وإنما حرم الله علي لسان رسوله الخروج علي الولاة المسلمين لأن فيه مفاسد عظيمة لا يأتي عليها الحصر، من أهمها إزهاق النفس المسلمة البرئية.
ومنها سفك الدماء المعصومة، ومنها استحلال الفروج المحرمة، ومنها نهب الأموال، ومنها إخافة الطرق، ومنها فشو الجوع بدلاً من رغد العيش والخوف بدلاً من الأمن والقلق بدل الطمأنينة، وهذا كله في الدنيا، أما في الآخرة فلا يعلم إلا الله ما سيلقاه من كان سبباً في إثارة الفتنة لأن إسقاط دولة وإقامة دولة مكانها ليس بالأمر الهين ؛ بل هو من الصعوبة بمكان لذلك فقد اشتد تحذير المشرع من ذلك حتى ولو كان الوالي ظالماً فاسقاً، وإليك بعض النصوص الدالة على الصبر، والآمرة به والمحذرة من الخروج والناهية عنه.
ففي صحيح مسلم عن نافع قال جاء عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ إلى عبدالله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال اطرحوا لأبي عبدالرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله يقوله، سمعت رسول الله يقول: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)( ).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله قال: (من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية)( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية أو يدعوا لعصبية أو ينصر عصبية فقتل فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشا من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه)( ).
وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي إدريس الخولاني قال سمعت حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه يقول: (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يارسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم. فقلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم. وفيه دخن. قلت وما دخنه؟ قال قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هدي تعرف منهم وتنكر. فقلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم. دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. فقلت: يارسول الله: صفهم لنا؟ قال: نعم. قوم من جلدتنا ويتكلمون بألستنا. قلت: يارسول الله: فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك).
وفي رواية أبي سلام عنده ـ يعني مسلماً ـ قلت: يارسول الله: إنا كنا في شرٍ فجاء الله بخير، فنحن فيه. فهل من وراء ذلك الخير شر. قال: نعم. قلت: فهل وراء ذلك الخير شر. قال: نعم. قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قلت: كيف أصنع يارسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع) صحيح مسلم ( ).
وفي صحيح مسلم عن عرفجة قال: سمعت رسول الله يقول: (إنها ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان)( ).
وفي رواية عنه أي عن عرفجة (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه).
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله : (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الاخر منهما)( ).
وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله قال: (ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا. ما صلوا).
وفي رواية: (فمن أنكر برئ، ومن كره فقد سلم)( ).
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قال: قلنا يارسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة. لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة)( ).
وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (دعانا رسول الله فبايعناه فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً معكم من الله فيه برهان)( )
وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً (كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فيكثرون. قالوا: فما تأمرنا. قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم)( ).
وفي حديث عبدالله بن عمرو بن العاص الطويل مرفوعاً (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)( ).
فهذه أحد عشر حديثاً جمعتها من صحيح مسلم فقط وهي كالتالي:
1 ـ حديث عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
2 ـ حديث عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما.
3 ـ حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه.
4 ـ حديث عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما.
5 ـ حديث عن عرفجة الكلابي رضي الله عنه.
6 ـ حديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
7 ـ حديث عن أم سلمة زوج النبي ورضي الله عنها.
8 ـ حديث عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه.
9 ـ حديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
10 ـ حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً.
11 ـ حديث عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وكل هذه الأحاديث صحيحة من صحيح مسلم الذي تلقته الأمة بالقبول وحكموا عليه بأنه أصح كتاب في الحديث بعد صحيح البخاري، وكل هذه الأحاديث أفادت أحكاماً تتعلق بحق الولاة على الرعية، واتفقت كلها على حكم واحد وهو تحريم الخروج على ولاة أمور المسلمين وإن كانوا ظلمة جائرين.
فنقول: يستفاد من هذه الأحاديث عدة أحكام:
الحكم الأول: تحريم الخروج على ولاة الأمر المسلمين وإن كانوا فسقة عاصين أو ظلمة جائرين، ووجوب الطاعة لهم فيما لم يكن معصية لله تعالى، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما كان وسيلة إلى واجب فهو واجب، وما كان وسيلة إلى محرم فهو محرم، والكلام في الولاة والتجريح لهم علناً محرم لأنه وسيلة إلى الخروج عليهم فكان محرماً.
الحكم الثاني: تحريم المنازعة لهم وهي تكون بأمور منها:
أ ـ إظهار احتقارهم والتهوين من شأنهم.
ب ـ إظهار مثالبهم في المجتمعات وعلى المنابر.
ج ـ اختلاق مثالب وعيوباً لهم من أجل زرع بغضهم في قلوب العامة والناشئة من طلاب العلم.
د ـ ذم العلماء واتهامهم بالمداهنة وبيع الذمم.
هـ ـ استعمال ما من شأنه التهييج عليهم والإثارة ضدهم، وكل هذا من أنواع منازعة الحكام الذي نهى عنه رسول الله كما في حديث عبادة بن الصامت الذي سبق ذكره بلفظ: (بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً معكم من الله فيه برهان).
الحكم الثالث: يؤخذ من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة أن من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.
الحكم الرابع: يؤخذ من هذه الأحاديث أن البيعة المعتبرة هي بيعة الأول، وهي بيعة الإمام الظاهر للناس والمعروف عندهم لقوله (فوا ببيعة الأول فالأول).
الحكم الخامس: يؤخذ من هذه الأحاديث أن البيعة الثانية وهي البيعة الخفية بيعة باطلة فإن قال بعض الحزبيين: أنا لم أبايع، قيل له إن بيعة عريفك وشيخ قبيلتك بيعة عنك وأنت ملزم بها شرعاً، أمام الله عزوجل، ثم أمام خلقه.
الحكم السادس: يؤخذ من هذه الأحاديث أن من أخذ البيعة لنفسه من وراء علم الإمام وبغير إذنه،وجب قتله إن ظفر به، ووجب قتاله مع الإمام إن لم يظفر به، وخرج خروجاً فعلياً لقوله : (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاضربوا عنقه كائناً من كان).
الحكم السابع: يؤخذ من هذه الأحاديث وجوب الصبر على جور الولاة ماداموا مسلمين، وعدم الخروج عليهم.
لقوله لأصحابه: (إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) وقوله: (من رأى من إمامه شيئاً فليصبر ولا ينزعن يداً من طاعة فإنه من خرج من السلطان شبراً فمات مات ميتة جاهلية).
الحكم الثامن: أن من رأى من أميره أو إمامه معصية فعليه أن ينصح له نصيحة بشروطها، فإن لم يقبل وأصر على معصيته وجب عليه أن يكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة، وكذلك إذا كان لا يستطيع النصيحة، فالواجب عليه أن يكره ذلك لقول النبي في حديث أم سلمة: (من أنكر برئ، ومن كره سلم، ولكن من رضي وتابع).
الحكم التاسع: على الرعية أن يؤدوا حق الولاة عليهم ويكلوا أمرهم إلى الله إن قصروا في حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم ولا يجوز لهم الخروج عليهم.
الحكم العاشر: أن الإمام إذا حصل منه قصور في حق الرعية فلا يجوز لهم أن يكافئوه على ذلك بمنع حقه من الطاعة ؛ بل عليهم أن يؤدوا حقه ويصبروا على ما حصل من الإمام إن فرض، ومعنى الصبر: أنهم لا يتكلمون فيه في المحافل والمجتمعات وعلى رؤوس المنابر ولهم أن يكتبوا إليه كتابة وعظ وتذكير، فإن لم يحصل شئ من التراجع وجب عليهم أن يصبروا، ولا يجوز لهم أن ينزعوا يداً من طاعة.
وأخيراً: فإني أذكر إخواني بما عليه دولتنا أيدها الله وبما نحن فيه من أمن ورخاء ورغد عيش.
نقلا عن كتاب
المورد العذب الزلال
فَيمَا انتُقَدَ عَلى بَعضِ المـنَاهِج الدَّعَويَّة
مِنَ العقَائدِ والأعْمَال
تأليف الشيخ
أحمد بن يحيى بن محمد النجمي
قرظه
صاحب الفضيلة الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان
عُضو هيئةِ كبارِ العُلَمَاءِ وعُضو اللجنَةِ الدَّائمَةِ للافتَاء
و
فضيلة الشيخ ربيع بن هادي عمير المدخلي
الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية سابقاً
أشرفَ عَلى طَبْعِه وَرَاجَعَه وَعَلَّقَ عَلَيهِ في مَوَاضِع
تلميذ المؤلف
محمد بن هادي بن علي المدخلي
1418هـ
فقد بلينا في هذا الزمن بمناهج دعوية، وفدت إلينا تخلط الحق بالباطل والسنة بالبدعة، والمعروف بالمنكر ؛ بل وتستمرئ الشرك أحياناً وتجعله ديناً يدان الله به، فقد كانت ومازالت بلادنا من أقصاها إلى أقصاها ـ أي بلاد الحرمين ـ تحت الحكم السعودي تدين بالمنهج السلفي حاكمين ومحكومين، قادة ورعية، ذكوراً وإناثاً، صغاراً وكباراً، فلما وفدت علينا تلك المناهج أفسدت عقول بعض الشباب فاستبدلوا بالمنهج السلفي الحق منهج أهل السنة والجماعة، اعتاضوا عنه منهجاً حركياً سياسياً ثورياً، فاستبدلوا بالسنة بدعة، وبالحق باطلاً، وتنكروا لكل صاحب فضل ومعروف ؛ بل تنكروا لأقرب الناس إليهم من الآباء المشفقين والأساتذة المربين والولاة المحسنين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
والمصيبة أنهم يظنون أنهم على الحق ومن سواهم على الباطل ويعتبرون ما فعلوه جهاداً في سبيل الله، والمصيبة أيضاً أنهم يظهرون للناس النسك والعبادة ويبطنون في تنظيماتهم السرية الإطاحة بالدول وإقامة خلافة حسب ما زعموا على أنقاضها فيحسب من يراهم أنهم أعبد الناس وأتقاهم، وأنهم أبر الناس بالناس وأتقاهم، والحقيقة أنهم يبيتون أمراً خطيراً وشراً مستطيراً، فهم أشبه الناس بالخوارج الذين قال عنهم نبي الهدى والذي لا ينطق عن الهوى لأصحابه رضوان الله عليهم: (تحقرون صلاتكم عند صلاتهم وصيامكم عند صيامهم وقراءتكم عند قراءتهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية)، ووصفهم في حديث أبي سعيد عند البخاري بأنهم (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان) وقال: (لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وقال: (طوبى لمن قتلهم أو قتلوه).
وقال: (من أدركهم فليقتهلم فإن في قتلهم أجراً عظيماً لمن قتلهم) كل هذا وغيره ورد فيهم في وصفهم وفي حكم قتلهم وقتالهم. وما ذلك إلا لأنهم كفروا المسلمين بما لا يوجب الكفر، وحكموا باستحلال دمائهم والخروج على ولاتهم الذين أمر الله عزوجل على لسان رسوله بطاعتهم في المعروف وعدم الخروج عليهم حتى وإن ضربوا الظهر وأخذوا المال ولم يستبيحوا الخروج عليهم إلا بعد أن كفروهم واستباحوا دمائهم وأعراضهم، ونحن إذا تأملنا حال أصحاب المناهج المستوردة نجدهم أشبه شئ بالخوارج، فهم يتكلمون في ولاة الأمر وإن كانوا مسلمين يحكمون شرع الله ويحكمون به في محاكمهم، وإن كانوا موحدين ويدرس التوحيد في مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم وإن كانوا ينشرون العلم الشرعي ويشجعون على تعلمه وتعليمه، كل ذلك لم يمنعهم أن يستبيحوا أعراض الولاة والعلماء ويبهتوهم بما ليس فيهم وينشروا مثالبهم إن كان ولا بد أن يكون عندهم مالم يسلم منه أحد من البشر من أجل أن يزرعوا بغضهم في قلوب الناس عامة، والناشئة من طلاب العلم خاصة، توطئة للخروج عليهم، مع أن عقيدة أهل السنة والجماعة تمنع ذكر مثالب الولاة في المجتمعات وعلى المنابر وإن كانت حقيقة لما في ذلك من المفاسد، ويرون أن الواجب على أهل العلم نصيحتهم سراً وبلين من القول لأن الله تعالى قال لموسى وهارون عليهما السلام: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى} فأمر بلين القول لفرعون الذي ادعى الربوبية، إذا فغيره من باب أولى.
ثم اعلم أن الخروج ينقسم إلى قسمين:
خروج بالقول وهو ذكر المثالب علناً في المجامع وعلى رؤوس المنابر لأن ذلك يعد عصياناً لهم وتمرداً عليهم وإغراءاً بالخروج عليهم، وزرعاً لعدم الثقة فيهم، وتهييجاً للناس عليهم وهو أساس للخروج الفعلي وسبب له.
وإنما حرم الله علي لسان رسوله الخروج علي الولاة المسلمين لأن فيه مفاسد عظيمة لا يأتي عليها الحصر، من أهمها إزهاق النفس المسلمة البرئية.
ومنها سفك الدماء المعصومة، ومنها استحلال الفروج المحرمة، ومنها نهب الأموال، ومنها إخافة الطرق، ومنها فشو الجوع بدلاً من رغد العيش والخوف بدلاً من الأمن والقلق بدل الطمأنينة، وهذا كله في الدنيا، أما في الآخرة فلا يعلم إلا الله ما سيلقاه من كان سبباً في إثارة الفتنة لأن إسقاط دولة وإقامة دولة مكانها ليس بالأمر الهين ؛ بل هو من الصعوبة بمكان لذلك فقد اشتد تحذير المشرع من ذلك حتى ولو كان الوالي ظالماً فاسقاً، وإليك بعض النصوص الدالة على الصبر، والآمرة به والمحذرة من الخروج والناهية عنه.
ففي صحيح مسلم عن نافع قال جاء عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ إلى عبدالله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال اطرحوا لأبي عبدالرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله يقوله، سمعت رسول الله يقول: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)( ).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله قال: (من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية)( ).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبية أو يدعوا لعصبية أو ينصر عصبية فقتل فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشا من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس مني ولست منه)( ).
وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي إدريس الخولاني قال سمعت حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه يقول: (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يارسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم. فقلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم. وفيه دخن. قلت وما دخنه؟ قال قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هدي تعرف منهم وتنكر. فقلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم. دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. فقلت: يارسول الله: صفهم لنا؟ قال: نعم. قوم من جلدتنا ويتكلمون بألستنا. قلت: يارسول الله: فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك).
وفي رواية أبي سلام عنده ـ يعني مسلماً ـ قلت: يارسول الله: إنا كنا في شرٍ فجاء الله بخير، فنحن فيه. فهل من وراء ذلك الخير شر. قال: نعم. قلت: فهل وراء ذلك الخير شر. قال: نعم. قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قلت: كيف أصنع يارسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع) صحيح مسلم ( ).
وفي صحيح مسلم عن عرفجة قال: سمعت رسول الله يقول: (إنها ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان)( ).
وفي رواية عنه أي عن عرفجة (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه).
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله : (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الاخر منهما)( ).
وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله قال: (ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا. ما صلوا).
وفي رواية: (فمن أنكر برئ، ومن كره فقد سلم)( ).
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قال: قلنا يارسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة. لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة)( ).
وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (دعانا رسول الله فبايعناه فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً معكم من الله فيه برهان)( )
وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً (كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فيكثرون. قالوا: فما تأمرنا. قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم)( ).
وفي حديث عبدالله بن عمرو بن العاص الطويل مرفوعاً (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)( ).
فهذه أحد عشر حديثاً جمعتها من صحيح مسلم فقط وهي كالتالي:
1 ـ حديث عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
2 ـ حديث عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما.
3 ـ حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه.
4 ـ حديث عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما.
5 ـ حديث عن عرفجة الكلابي رضي الله عنه.
6 ـ حديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
7 ـ حديث عن أم سلمة زوج النبي ورضي الله عنها.
8 ـ حديث عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه.
9 ـ حديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
10 ـ حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً.
11 ـ حديث عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وكل هذه الأحاديث صحيحة من صحيح مسلم الذي تلقته الأمة بالقبول وحكموا عليه بأنه أصح كتاب في الحديث بعد صحيح البخاري، وكل هذه الأحاديث أفادت أحكاماً تتعلق بحق الولاة على الرعية، واتفقت كلها على حكم واحد وهو تحريم الخروج على ولاة أمور المسلمين وإن كانوا ظلمة جائرين.
فنقول: يستفاد من هذه الأحاديث عدة أحكام:
الحكم الأول: تحريم الخروج على ولاة الأمر المسلمين وإن كانوا فسقة عاصين أو ظلمة جائرين، ووجوب الطاعة لهم فيما لم يكن معصية لله تعالى، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما كان وسيلة إلى واجب فهو واجب، وما كان وسيلة إلى محرم فهو محرم، والكلام في الولاة والتجريح لهم علناً محرم لأنه وسيلة إلى الخروج عليهم فكان محرماً.
الحكم الثاني: تحريم المنازعة لهم وهي تكون بأمور منها:
أ ـ إظهار احتقارهم والتهوين من شأنهم.
ب ـ إظهار مثالبهم في المجتمعات وعلى المنابر.
ج ـ اختلاق مثالب وعيوباً لهم من أجل زرع بغضهم في قلوب العامة والناشئة من طلاب العلم.
د ـ ذم العلماء واتهامهم بالمداهنة وبيع الذمم.
هـ ـ استعمال ما من شأنه التهييج عليهم والإثارة ضدهم، وكل هذا من أنواع منازعة الحكام الذي نهى عنه رسول الله كما في حديث عبادة بن الصامت الذي سبق ذكره بلفظ: (بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً معكم من الله فيه برهان).
الحكم الثالث: يؤخذ من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة أن من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.
الحكم الرابع: يؤخذ من هذه الأحاديث أن البيعة المعتبرة هي بيعة الأول، وهي بيعة الإمام الظاهر للناس والمعروف عندهم لقوله (فوا ببيعة الأول فالأول).
الحكم الخامس: يؤخذ من هذه الأحاديث أن البيعة الثانية وهي البيعة الخفية بيعة باطلة فإن قال بعض الحزبيين: أنا لم أبايع، قيل له إن بيعة عريفك وشيخ قبيلتك بيعة عنك وأنت ملزم بها شرعاً، أمام الله عزوجل، ثم أمام خلقه.
الحكم السادس: يؤخذ من هذه الأحاديث أن من أخذ البيعة لنفسه من وراء علم الإمام وبغير إذنه،وجب قتله إن ظفر به، ووجب قتاله مع الإمام إن لم يظفر به، وخرج خروجاً فعلياً لقوله : (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاضربوا عنقه كائناً من كان).
الحكم السابع: يؤخذ من هذه الأحاديث وجوب الصبر على جور الولاة ماداموا مسلمين، وعدم الخروج عليهم.
لقوله لأصحابه: (إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) وقوله: (من رأى من إمامه شيئاً فليصبر ولا ينزعن يداً من طاعة فإنه من خرج من السلطان شبراً فمات مات ميتة جاهلية).
الحكم الثامن: أن من رأى من أميره أو إمامه معصية فعليه أن ينصح له نصيحة بشروطها، فإن لم يقبل وأصر على معصيته وجب عليه أن يكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة، وكذلك إذا كان لا يستطيع النصيحة، فالواجب عليه أن يكره ذلك لقول النبي في حديث أم سلمة: (من أنكر برئ، ومن كره سلم، ولكن من رضي وتابع).
الحكم التاسع: على الرعية أن يؤدوا حق الولاة عليهم ويكلوا أمرهم إلى الله إن قصروا في حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم ولا يجوز لهم الخروج عليهم.
الحكم العاشر: أن الإمام إذا حصل منه قصور في حق الرعية فلا يجوز لهم أن يكافئوه على ذلك بمنع حقه من الطاعة ؛ بل عليهم أن يؤدوا حقه ويصبروا على ما حصل من الإمام إن فرض، ومعنى الصبر: أنهم لا يتكلمون فيه في المحافل والمجتمعات وعلى رؤوس المنابر ولهم أن يكتبوا إليه كتابة وعظ وتذكير، فإن لم يحصل شئ من التراجع وجب عليهم أن يصبروا، ولا يجوز لهم أن ينزعوا يداً من طاعة.
وأخيراً: فإني أذكر إخواني بما عليه دولتنا أيدها الله وبما نحن فيه من أمن ورخاء ورغد عيش.
نقلا عن كتاب
المورد العذب الزلال
فَيمَا انتُقَدَ عَلى بَعضِ المـنَاهِج الدَّعَويَّة
مِنَ العقَائدِ والأعْمَال
تأليف الشيخ
أحمد بن يحيى بن محمد النجمي
قرظه
صاحب الفضيلة الشيخ العلامة صالح بن فوزان الفوزان
عُضو هيئةِ كبارِ العُلَمَاءِ وعُضو اللجنَةِ الدَّائمَةِ للافتَاء
و
فضيلة الشيخ ربيع بن هادي عمير المدخلي
الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية سابقاً
أشرفَ عَلى طَبْعِه وَرَاجَعَه وَعَلَّقَ عَلَيهِ في مَوَاضِع
تلميذ المؤلف
محمد بن هادي بن علي المدخلي
1418هـ
تعليق