القدرة الايرانية والعجز الامريكي
عبد الباري عطوان
بينما تنشغل الاوساط العربية بتصريحات الشيخ يوسف القرضاوي حول التشيع، تواصل ايران تطوير قدراتها العسكرية والنووية منها على وجه الخصوص، وترسخ مكانتها كقوة اقليمية عظمى مهابة الجانب.
بالامس كشفت صحيفة 'الغارديان' البريطانية المرموقة عن رفض الرئيس الامريكي جورج بوش الابن طلبا لايهود اولمرت رئيس الوزراء الاسرائيلي للسماح لحكومته بتوجيه ضربات جوية للمنشآت النووية الايرانية خوفا من فشلها اولا، وردود الفعل الانتقامية الايرانية ضد القوات والمصالح الامريكية في العراق والمنطقة العربية، بل وداخل الولايات المتحدة الامريكية نفسها، الادارة الامريكية ترتعد خوفا من النظام الايراني، وتحسب له كل حساب، ولهذا اضطرت مكرهة الى لجم حليفها الاسرائيلي، ومنع اي مغامرة عسكرية له يمكن ان توقعها في حرب استنزاف جديدة لا قدرة لها على تحمل كلفتها البشرية والاقتصادية.
فامريكا تخوض حاليا حربين خاسرتين في العراق وافغانستان، وتواجه ازمة مالية طاحنة تهدد النظام الرأسمالي الذي تتزعمه برمته، وتبطل نظرية اقتصاد السوق فخر هذا النظام واساس وجوده وانتصاره على منافسه الاشتراكي.
ايران خاضت حربا طاحنة ضد النظام العراقي السابق استمرت ثماني سنوات، خسرت فيها مئات البلايين من الدولارات واكثر من مليون قتيل، ومع ذلك لم يرفع قادتها الراية البيضاء، ويقولون ان 99' من اوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة الامريكية، ويذهبون بعدها زاحفين الى واشنطن او بغداد طالبين السلام بأي ثمن مثلما فعل القادة العرب، والرئيس المصري انور السادات بتشجيع من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة العربية.
احمدي نجاد رئيس ايران يذهب الى نيويورك، ويعتلي منصة الامم المتحدة، ويهاجم الولايات المتحدة في عقر دارها، ويتنبأ بزوال قوتها، وانتهاء هيمنتها على مقدرات العالم بأسره، وينتقد جرائمها ومجازرها ودعمها للعدوان الاسرائيلي على الامتين العربية والاسلامية، والاكثر من ذلك لم يتردد لحظة واحدة في الحديث عن 'المجازر الاسرائيلية المستمرة في الاراضي المحتلة، وقيام الكيان الاسرائيلي على الكذب والخديعة والاجرام، وان هذا الكيان يسير بسرعة نحو نهايته ولا توجد طريقة لايقاف هذه النهاية'.
الرئيس الايراني ما كان يمكن ان يمتلك هذه الجرأة لولا انه يستند الى قدرة عسكرية فائقة، وعقول سياسية جبارة استطاعت ان توظف كل الاخطاء الكارثية الامريكية والعربية في فلسطين والعراق وافغانستان لمصلحة بلادها، بحيث تخرج هي المستفيدة الاكبر دون ان تطلق طلقة واحدة او تخسر دولارا واحدا.
'''
الزعماء العرب يتقاطرون سنويا لحضور اجتماعات الجمعية العامة للامم المتحدة، ولكن ايا منهم لا يستطيع ان يوجه كلمة نقد واحدة لامريكا، وادارتها الفاشلة، او الحديث عن المجازر الاسرائيلية في حق العرب والمسلمين، بل على العكس من ذلك يهرولون للقاء المسؤولين الاسرائيليين ومصافحتهم للتأكيد على حسن نواياهم تجاه الدولة العبرية.
صحيفة 'الغارديان' البريطانية قالت ان الرئيس بوش رفض السماح لاسرائيل بضرب ايران، ورفض اعطاءها الإذن بالطيران فوق الأراضي العراقية حيث تسيطر حكومته على المسارات الجوية، ليس حرصاً على سيادة العراق، وانما خوفاً من الانتقام الايراني من قوات بلاده المرابطة على أرضه التي يزيد تعدادها عن 150 ألف جندي، وتحريك الخلايا الايرانية النائمة في منطقة الخليج وداخل الولايات المتحدة الامريكية نفسها.
القوة هي التي تتكلم هنا، وتغير كل المعادلات السياسية، وليس المسكنة، والتذلل، واستجداء السلام، مثلما تفعل 22 دولة عربية حالياً في تعاطيها مع الولايات المتحدة واسرائيل والقوى العالمية الاخرى. فلا مكان للضعيف في السياسة الدولية، والقوى العظمى تنطلق من مصالحها في تحديد علاقاتها، وطرق تعاملها مع الآخر، اي انها ليست مؤسسات خيرية.
العرب امتلكوا كل اسباب القوة، ولكنهم تعمدوا اهدارها بتلذذ غير مسبوق، عندما تآمروا جميعاً على العراق، وتواطأوا مع الولايات المتحدة في حصاره وتدمير اسلحته الكيماوية والبيولوجية، وبرامجه النووية ثم احتلاله بعد ذلك، دون اي مقابل، والآن يرتعشون خوفاً من القوة العسكرية الايرانية المتنامية، واختلال موازين القوى الاستراتيجية في المنطقة لمصلحة طهران.
الشيء المؤكد ان هذه الانظمة العربية تشعر بالحسرة والغضب من الرفض الامريكي للضربات العسكرية الاسرائيلية لايران وبرامجها النووية، لانها بدأت لتوها تتقرب الى اسرائيل وتفتح قنوات معها، وتمد لها يد السلام من خلال مبادرة عربية، على امل ان تخلصها من البعبع النووي الايراني، مثلما خلصتها الولايات المتحدة من البعبع العراقي.
تريليون (الف مليار دولار) تدخل الخزائن العربية سنويا كعوائد نفطية، ومع ذلك لا يملك العرب مصانع تنتج دبابة او صاروخا، وعندما تنتج عبقرية الجوع والحرمان في قطاع غزة المحاصر صواريخ بدائية تصل الى اطراف العمق الاسرائيلي، ينتفض العرب غضباً، ويتآمرون مع اسرائيل والولايات المتحدة لإجهاض روح المقاومة هذه، وعزل الذين يقفون خلفها.
'''
نحن لسنا مع الحروب، وندين كل انواع الارهاب، ولكن من حقنا ان نسأل عن الانجازات التي حققها الخيار السلمي العربي منذ تبنيه قبل 34 عاماً، وبالتحديد بعد حرب اكتوبر (رمضان) التي نقترب من الاحتفال بذكراها الرابعة والثلاثين، فهل استعادوا الارض المحتلة، والمقدسات العربية والاسلامية فيها، واقاموا الدولة الفلسطينية العتيدة والمستقلة، وطوروا انظمة تعليمية وصحية نموذجية، وقضوا على البطالة والأمية؟
ايران تستثمر في صناعة عسكرية قوية، وتقيم علاقات قائمة على المصالح مع القوى العظمى الناشئة في الصين والهند وروسيا، وتعزز نفوذها السياسي والايديولوجي في دول الجوار والعالم الاسلامي. فماذا تفعل قياداتنا في المقابل، تستثمر في المشاريع التجارية، وبناء 'مدن الملح' وشراء الاسهم الغربية، وخسارة مئات المليارات من الدولارات في الأزمة الحالية التي تعصف بالاقتصاد الامريكي.
نحن لا نكتب هذا الكلام اعجابا بالتجربة الايرانية، وانما حسرة على حالة الانهيار العربي ووصولها الى درجات من الحضيض لم تخطر ببالنا على الاطلاق. وبقي علينا ان نؤكد اننا لسنا من المتشيعين، وان كنا نجل آل البيت مثل كل نظرائنا.
نحن مع خلق توازن استراتيجي عسكري عربي راسخ مع ايران، وبما يؤدي الى تحصين المنطقة العربية في مواجهة اي تهديد ايراني، ولكننا لسنا مع استغلال بعض حوادث التشيع الصغيرة من اجل تأجيج العداء ضد ايران والاشقاء الشيعة، وبما يخدم المصلحتين الاسرائيلية والامريكية، مثلما نشاهد حالياً من خلال الحملات الاعلامية المكثفة التي تجتاح المنطقة بشكل مدروس هذه الأيام.
عبد الباري عطوان
بينما تنشغل الاوساط العربية بتصريحات الشيخ يوسف القرضاوي حول التشيع، تواصل ايران تطوير قدراتها العسكرية والنووية منها على وجه الخصوص، وترسخ مكانتها كقوة اقليمية عظمى مهابة الجانب.
بالامس كشفت صحيفة 'الغارديان' البريطانية المرموقة عن رفض الرئيس الامريكي جورج بوش الابن طلبا لايهود اولمرت رئيس الوزراء الاسرائيلي للسماح لحكومته بتوجيه ضربات جوية للمنشآت النووية الايرانية خوفا من فشلها اولا، وردود الفعل الانتقامية الايرانية ضد القوات والمصالح الامريكية في العراق والمنطقة العربية، بل وداخل الولايات المتحدة الامريكية نفسها، الادارة الامريكية ترتعد خوفا من النظام الايراني، وتحسب له كل حساب، ولهذا اضطرت مكرهة الى لجم حليفها الاسرائيلي، ومنع اي مغامرة عسكرية له يمكن ان توقعها في حرب استنزاف جديدة لا قدرة لها على تحمل كلفتها البشرية والاقتصادية.
فامريكا تخوض حاليا حربين خاسرتين في العراق وافغانستان، وتواجه ازمة مالية طاحنة تهدد النظام الرأسمالي الذي تتزعمه برمته، وتبطل نظرية اقتصاد السوق فخر هذا النظام واساس وجوده وانتصاره على منافسه الاشتراكي.
ايران خاضت حربا طاحنة ضد النظام العراقي السابق استمرت ثماني سنوات، خسرت فيها مئات البلايين من الدولارات واكثر من مليون قتيل، ومع ذلك لم يرفع قادتها الراية البيضاء، ويقولون ان 99' من اوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة الامريكية، ويذهبون بعدها زاحفين الى واشنطن او بغداد طالبين السلام بأي ثمن مثلما فعل القادة العرب، والرئيس المصري انور السادات بتشجيع من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة العربية.
احمدي نجاد رئيس ايران يذهب الى نيويورك، ويعتلي منصة الامم المتحدة، ويهاجم الولايات المتحدة في عقر دارها، ويتنبأ بزوال قوتها، وانتهاء هيمنتها على مقدرات العالم بأسره، وينتقد جرائمها ومجازرها ودعمها للعدوان الاسرائيلي على الامتين العربية والاسلامية، والاكثر من ذلك لم يتردد لحظة واحدة في الحديث عن 'المجازر الاسرائيلية المستمرة في الاراضي المحتلة، وقيام الكيان الاسرائيلي على الكذب والخديعة والاجرام، وان هذا الكيان يسير بسرعة نحو نهايته ولا توجد طريقة لايقاف هذه النهاية'.
الرئيس الايراني ما كان يمكن ان يمتلك هذه الجرأة لولا انه يستند الى قدرة عسكرية فائقة، وعقول سياسية جبارة استطاعت ان توظف كل الاخطاء الكارثية الامريكية والعربية في فلسطين والعراق وافغانستان لمصلحة بلادها، بحيث تخرج هي المستفيدة الاكبر دون ان تطلق طلقة واحدة او تخسر دولارا واحدا.
'''
الزعماء العرب يتقاطرون سنويا لحضور اجتماعات الجمعية العامة للامم المتحدة، ولكن ايا منهم لا يستطيع ان يوجه كلمة نقد واحدة لامريكا، وادارتها الفاشلة، او الحديث عن المجازر الاسرائيلية في حق العرب والمسلمين، بل على العكس من ذلك يهرولون للقاء المسؤولين الاسرائيليين ومصافحتهم للتأكيد على حسن نواياهم تجاه الدولة العبرية.
صحيفة 'الغارديان' البريطانية قالت ان الرئيس بوش رفض السماح لاسرائيل بضرب ايران، ورفض اعطاءها الإذن بالطيران فوق الأراضي العراقية حيث تسيطر حكومته على المسارات الجوية، ليس حرصاً على سيادة العراق، وانما خوفاً من الانتقام الايراني من قوات بلاده المرابطة على أرضه التي يزيد تعدادها عن 150 ألف جندي، وتحريك الخلايا الايرانية النائمة في منطقة الخليج وداخل الولايات المتحدة الامريكية نفسها.
القوة هي التي تتكلم هنا، وتغير كل المعادلات السياسية، وليس المسكنة، والتذلل، واستجداء السلام، مثلما تفعل 22 دولة عربية حالياً في تعاطيها مع الولايات المتحدة واسرائيل والقوى العالمية الاخرى. فلا مكان للضعيف في السياسة الدولية، والقوى العظمى تنطلق من مصالحها في تحديد علاقاتها، وطرق تعاملها مع الآخر، اي انها ليست مؤسسات خيرية.
العرب امتلكوا كل اسباب القوة، ولكنهم تعمدوا اهدارها بتلذذ غير مسبوق، عندما تآمروا جميعاً على العراق، وتواطأوا مع الولايات المتحدة في حصاره وتدمير اسلحته الكيماوية والبيولوجية، وبرامجه النووية ثم احتلاله بعد ذلك، دون اي مقابل، والآن يرتعشون خوفاً من القوة العسكرية الايرانية المتنامية، واختلال موازين القوى الاستراتيجية في المنطقة لمصلحة طهران.
الشيء المؤكد ان هذه الانظمة العربية تشعر بالحسرة والغضب من الرفض الامريكي للضربات العسكرية الاسرائيلية لايران وبرامجها النووية، لانها بدأت لتوها تتقرب الى اسرائيل وتفتح قنوات معها، وتمد لها يد السلام من خلال مبادرة عربية، على امل ان تخلصها من البعبع النووي الايراني، مثلما خلصتها الولايات المتحدة من البعبع العراقي.
تريليون (الف مليار دولار) تدخل الخزائن العربية سنويا كعوائد نفطية، ومع ذلك لا يملك العرب مصانع تنتج دبابة او صاروخا، وعندما تنتج عبقرية الجوع والحرمان في قطاع غزة المحاصر صواريخ بدائية تصل الى اطراف العمق الاسرائيلي، ينتفض العرب غضباً، ويتآمرون مع اسرائيل والولايات المتحدة لإجهاض روح المقاومة هذه، وعزل الذين يقفون خلفها.
'''
نحن لسنا مع الحروب، وندين كل انواع الارهاب، ولكن من حقنا ان نسأل عن الانجازات التي حققها الخيار السلمي العربي منذ تبنيه قبل 34 عاماً، وبالتحديد بعد حرب اكتوبر (رمضان) التي نقترب من الاحتفال بذكراها الرابعة والثلاثين، فهل استعادوا الارض المحتلة، والمقدسات العربية والاسلامية فيها، واقاموا الدولة الفلسطينية العتيدة والمستقلة، وطوروا انظمة تعليمية وصحية نموذجية، وقضوا على البطالة والأمية؟
ايران تستثمر في صناعة عسكرية قوية، وتقيم علاقات قائمة على المصالح مع القوى العظمى الناشئة في الصين والهند وروسيا، وتعزز نفوذها السياسي والايديولوجي في دول الجوار والعالم الاسلامي. فماذا تفعل قياداتنا في المقابل، تستثمر في المشاريع التجارية، وبناء 'مدن الملح' وشراء الاسهم الغربية، وخسارة مئات المليارات من الدولارات في الأزمة الحالية التي تعصف بالاقتصاد الامريكي.
نحن لا نكتب هذا الكلام اعجابا بالتجربة الايرانية، وانما حسرة على حالة الانهيار العربي ووصولها الى درجات من الحضيض لم تخطر ببالنا على الاطلاق. وبقي علينا ان نؤكد اننا لسنا من المتشيعين، وان كنا نجل آل البيت مثل كل نظرائنا.
نحن مع خلق توازن استراتيجي عسكري عربي راسخ مع ايران، وبما يؤدي الى تحصين المنطقة العربية في مواجهة اي تهديد ايراني، ولكننا لسنا مع استغلال بعض حوادث التشيع الصغيرة من اجل تأجيج العداء ضد ايران والاشقاء الشيعة، وبما يخدم المصلحتين الاسرائيلية والامريكية، مثلما نشاهد حالياً من خلال الحملات الاعلامية المكثفة التي تجتاح المنطقة بشكل مدروس هذه الأيام.
تعليق