كيف نفهمها بوقائع رائعة... مبادىء العمل الاستخباري
في ضوء الآيات الكريمات من القرآن الكريم وفي ضوء السيرة النبوية نقدم لكم أهم المباديء الأساسية الخاصة بالعمل الاستخباري في الاسلام وفق الرؤية الصحيحة لكي نفهمها فهماً صحيحاً يعيننا على تحقق الصواب باذن الله تعالى.
حيث يشتمل العمل الاستخباري على المبادىء التالية:
المعرفة على قدر الحاجة:
وهو مبدأ هام يقصد به الا تُمنح المعلومات السرية الا لمن تُحتم طبيعة واجبه المكلف به استخدام هذه المعلومات السرية، وتحجب عمّن سواه، مهما كانت درجة حرصه على الدّولة، ومهما تعاظم مقدار الثقة فيه. فكثيراً ما يُفضى الخلل الى الاجهزة الامنية بانتشار المعلومة بين العديد ممن يوصفون بأنهم مطلعين على بواطن الامور - بمقتضى الانتماء الى السّلطة فكراً وعقيدة - وقد يكون سعى أمثال هؤلاء نابعاً من حرصهم على أمن الدولة وصحة مسيرتها، أو لغير ذلك من الأسباب الأخيرة، وهنا يكمن الخطر الوبيل. ولقد وجهنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لكي نتجنب عواقب ذلك الى ترك ما لا يعنينا: «حسبُ امرىء تركُ ما لا يعنيه الى ما يعنيه». وفي حديث آخر: «من حُسن اسلامِ المرء تركهُ ما لا يعنيه». وحجب المعلومات السريةً، وقصر افشائها على ذوي الاختصاص، أدعى الى حفظها، وأحجى بتحقيق الحذر المطلوب الذي أمر الله تعالى به: (يا أيهَا الذينَ آمنوا خذُوا حذركُم...)(115).
السرية:
ونعني بها: «كتمان المعلومات التي اذا نالها العدو أضرت بالصالح العام».
وجلى من هذا التعريف أن سرية المعلومات تتحقق بكتمانها، ولا يكون ذلك الا باتخاذ الاجراءات الصارمة في نسخها، والاعتماد على أهل الثقة في ما يُستنسخ منها، واتلاف - أو التحفظ على - المسودات ومواد الطباعة التي كتبت عليها المعلومات السرية، والحد من تداولها وحفظها في حرز حريز، ففي الحديث الشريف: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان».
ونكتفي هنا بالقول: ان مبدأ السرية مبدأ هام طبقه النبي عليه السلام خير تطبيق في بداية الدعوة، وعند هجرته من مكة الى المدينة، وفي غزواته، وفي حله وترحاله.
ولنأخذ مثالاً على كيفية تطبيق مبدأ السرية في الاسلام، من غار حراء الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه سراً، ثم ما تبع ذلك من مرحلة كانت أشبه بمرحلة «المعرفة على قدر الحاجة»، حين طلب الى النبي أن يخاطب بالدعوة عدداً محدوداً من الناس: (وأنذِر عشيرتكَ الاقربينَ)(116)، فقد انحصرت المعلومة «الخطيرة» في نحو ستين شخصاً آنذاك، ربعهم، تقريباً، كان من النساء.
وقد أولى الرآسول صلى الله عليه وسلم أهمية كبيرة في أول أيام دعوته لمفهوم السرية، اذ كان يجتمع بأصحابه في دار «الارقم بن أبي الارقم»، التي كان من أسباب اختيارها:
* أن الارقم لم يكن معروفاً باسلامه، فما كان يخطر ببال قريش أن يتم لقاء محمد وأصحابه بداره.
* أن الارقم من قبيلة بني مخزوم التي تنافس، وتحارب، بني هاشم، وهذا يعني أن الاجتماع السري كان ينعقد في قلب صفوف العدو.
* أن الارقم كان فتى في السادسة عشرة من عمره، وحين تُفكر قريش في البحث عن مركز التجمع الاسلامي لن يخطر ببالها أن تبحث فيى بيوت الناشئة من الفتيان.
ولقد كانت دار الارقم مثالاً ممتازاً «للبيت الامن» في عرف الامن، ذلك الامتياز الذي شمل بالسرية كل الافعال قبل الهجرة، فحتى الصّلاة كانت تُصلى ركعتين ركعتين، وكان الرّسول صلى الله عليه وسلم اذا صلى يحرسه علي بن أبي طالب، أو زيد بن حارثة، وقد تأخر اعلان العبادة حتى أسلم عمر رضي الله عنه.
الولاء، والاخلاص، والطّاعة:
ان من أخطر العناصر على الامن أولئك الذيى يدينون بالولاء لجهة خارجية، وهو ولاء اما أن يكون مدفوعاً بجافز العمالة لتلك الجهة، أو بواعز الاعجاب بأسلوب أهلها ومنهجهم والولع بتقليده، أو التذلل لنفوذ الوسائل التي تستخدمها أجهزة المخابرات للسيطرة على عملائها. قال تعالى: ( يَا أيهَا الذينَ آمنُو ا لا تتخذُوا عدوّي وعدوكُم أولياءَ تلقونَ اليهِم بالمودةِ وقَد كفرُوا بمَا جاءكُم من الحقِ يخرجونَ الرسولَ واياكم أن تؤمنُوا باللّه ربكم ان كنتُم خرجتُم جهاداً في سبيلي وابتغاءَ مرضاتي تسرونَ اليهم بالمودة وأنَا أعلمُ بمَا أخفيتم ومَا أعلنتُم ومَن يفعلهُ منكُم فقد ضطل سواءَ السبيلِ. ان يثفقوكُم يكونُوا لكُم أعداءً ويبسطوا اليكم أيديهُم وألسنتهُم بالسوءِ وودّوا لو تكفرُونَ)(117).
ولذا كانت وحدة الولاء وانحيازه الكامل لوحدة المؤمنين وديارهم شرطاً حاسماً للسلامة من الكيد الخارجي: (يا أيهَا الذينَ آمنُوا ان تطيعُوا الذينَ كفرُوا يردوكُم على أعقابكُم فتنقلُبوا خاسرينَ)(118). ويجىء التحذير مبياً: (ولَن ترضَى عنكَ اليهودُ ولا النصارَى حتّى تتبعَ ملتهُم قُل انّ هدَى اللّه هوَ الهدَى ولئنِ اتّبعتَ أهواكهُم بعدَ الذي جاءكَ مِن العلمِ ما لكَ مُن اللّهِ مِن ولِي ولا نصِير)(119).
الانضباط، والبعد عن مواقع الشُّبهة والفتنة:
يبحث العدو دائماً عن العناصر التي توصف بالضّعف والميل الى الفساد، فيستغلّها ويجندها لتعمل لصالحه.
وخير ضمانة من الوقوع في حبائل العدو، اختيار العناصر المنضبطة، ذات التّدين الذي يحملها على مراقبة الله، أو ذات الوازع الوطني الذي يحفطها على التمسك بمبادىء الفداء والتضحية.
وتظل تلك العناصر في حاجة مستديمة الى التدرب لترقية الحسن الامني والتزكية بالورع والتقوى، ثم تكثيف الضوابط لرماقبة أي انحراف، والمحاسبة والتأديب ازاء أي تجاوز.
وتجىء تلك الاجراءات ضماناً للسرية، وتحقيقاً للعدالة، وبسطاً لحرية الناس، تلك التي تفرضها الامكانات الوافرة التي يتمتع بها رجل الامن دون سائر المواطنين، واطلاعه على كثير من الاسرار والمعلومات بحكم ذلك، وفي هذا فتنة تزين له ارتكاب الفواحش والمحرمات أو ايذاء الناس وابتزازهم والاستهتار بحرماتهم، لذا كان لزاماً أن يحاط النظام الامني وأفراده - بعد الكفاءة المهنية والضوابط الاخلاقية - برقابة شعبية، وأن يُعبأ الشعب كله بوعي أمني، ليبسط رقابته على أعمال الاعداء، وعلى انحراف المنحرفين من رجال الامن الذين تسول لهم أنفسهم استغلال سلطاتهم وامكاناتهم.
صعوبات انتاج المخابرات:
الوقت:
ان أهمية الوقت ذات قيمة عظمى في انتاج المخابرات: سواء في مرحلة الجمع، أو التحليل، أو التوزيع، فكثيراً ما يكون العمل فيى هذه الحالة شبيهاً بالبحث العلمي، خاصةً في القضايا التي تبحث في أحداث المستقبل واحتمالاته، اذ يمكن تلافي أي نقصان في المعلومات، بتكليف مصادر مطلعة للبحث وتكملة تلك المعلومات. ولكن في كثير من تقديرات المخابرات يطلب متخذوا القرار تقريراً استخبارياً عاجلاً - أو ربما تطلبت الظروف اجراء ذلك التقدير - نسبة الى دواعي الاهمية والاستعجال. وقد درجت العادة، في هذه الحالات أن يتغاضى محللو المخابرات عن الدقة المتناهية في جمع المعلومات، وفي التنبؤ، ليبني التقدير على أساس المعلومات المتوافرة، وهذا أجدى من معلومات وتقديرات مفصلة تأتي بعد فوات الاوان، اذ يتقدم هنا مبدأ المواءمة الزمنية على الدقة.
الدقة:
ان العمل الاستخباري يعتمد على تقدير نوايا العدو ليتنبأ بما سوف يفعله، وتعتمد التنبؤات على المعلومات الاستخبارية، وهي معلومات تنهض على دقة المصادر، وعى مدى نفاذ العدو عبر الخداع وتسريب المعلومات المضللة. ولتخفيف هذا الاثر وضع نظام تصنيفي فعال للمصادر - حسب دقتها - فترفق ورقة المصدر مع المعلومات، حاوية درجة مصداقيته، التي يعبر عنها بضيغة مثل: (موثوق به جداً، أو موثوق به عادةً، أو موثوق به.. الخ). ويتفادى خداع العدو بمطابقة الاحداث مع مجريات الامور، وبتعدد المصادر، والحذر في تصديق المعلومات، واختبارها بمحاولة دخصها، وانتظار معلومات أخرى تؤكدها.
الموضوعية:
كثيراً ما تدخل في معلومات الاستخبارات المصلحة الشخصية - أحياناً - والتحيز المهني من قبل محلل المعلومات، بدافع انتمائه وولائه للدولة، أو بسبب أن معظم المعلومات تعتمد على الوصف والتقدير لا على الحقائق العلمية المجردة. ويمكن التقليل من عدم الموضوعية بالعمل المؤسسي، وبتدريب العاملين وتنبيههم الى خطر غياب الموضوعية، وهي أشدّ فتكاً من تقبل تحليل منطقي يفضي الى حقائق مُرة ومحبطة.
السرية غير المبررة:
برغم أهمية السرية في عمل الامن، فانّ لها آثاراً ضارةً وسلبيةً أحيانَ، فالسرية غير المبررة في العمل الاستخباري، قد تؤدي الى حجب المعلومات عمن يمكنهم اثراء التحليل والتقييم، اضافة الى أنها قد تضيع امكانية الاستفادة من أماكن و مؤسسات علمية تفيد في مجال البحث والتحليل باضافة حقائق جديدة. وللتغلب على هذه العقبة يلزم انتقاء مجالس متخصصة، تتكون من أشخاص موثوق بهم، واتاحة الفرصة لعرض المعلومات على جهات أوسع، للافادة من الآراء المختلفة، مع موازنة قيمة السرية والمعرفة على قدر الحاجة، بالفائدة التي تعود من هذا الاجراء، لذان السرية وسيلة لا غاية، وهي أسلوب يُلجأ اليه عند الضرورة، والضرورة هنا مسألة تقديرية بحسب ظروف البيئة والسرعة، أمّا الغاية من السرية فهي الوقاية والامن.
فداحة الاخطاء:
قياساً الى حساسية عمل المخابرات وخطورة نتائجه، فان الاخطاء الكبرة تغدو قاتلةً، على عكس ما هو متعارف عليه من البحث العلمي، الذي يعد الخطأ فيه احدى تجارب التعلم، بينما ينجم عن أخطاء المحللين والباحثين الاستخباريين كوارث ربما تودي بحياة الناس وتطيح بأنظمة وتمحو دولاًً بأكلمها ومجتمعات. ولتفادي فداحة الاخطاء يجب الاستناد الى الحقائق، والدقة في فحص المعلومة، والسرعة في اتخاذ القرار.
الوضوح:
ان الخوف من الاخطاء، وتهيب المواقف، وضيق الوقت، كلها مواقف قد تلجىء بعض محللي المخابرات الى حذر مقيت، مما يضطرهم أحياناً الى تقديم تقديرات تشرع الابواب أمام كل الاحتمالات، خشية من طرح آراء وتقديرات جريئة وقاطعة.
وتلافياً لقرارات مبهمة ومرتبكة، يحسن أن يلتزم المحللون داخل المؤسسة الاستخبارية بمصطلحات فنية واضحة للتعبير عن كل حالة على حدة، سواءٌ في مرحلة تجميع المعلومات، أو في فرز الحقائق في الاستنتاجات والاراء، كما يحسن أن تقيم المصادر بمصطلحات معروفة.
ومن بعد ذلك، لا مناص من الالتزام بالوضوح والموضوعية والاختصار والدقة، ثم عرض كل احتمالات ما قد يحدث من وقائع - دون أدنى تردد - عند رفع التقاديرات الى متخذي القرارات.
في ضوء الآيات الكريمات من القرآن الكريم وفي ضوء السيرة النبوية نقدم لكم أهم المباديء الأساسية الخاصة بالعمل الاستخباري في الاسلام وفق الرؤية الصحيحة لكي نفهمها فهماً صحيحاً يعيننا على تحقق الصواب باذن الله تعالى.
حيث يشتمل العمل الاستخباري على المبادىء التالية:
المعرفة على قدر الحاجة:
وهو مبدأ هام يقصد به الا تُمنح المعلومات السرية الا لمن تُحتم طبيعة واجبه المكلف به استخدام هذه المعلومات السرية، وتحجب عمّن سواه، مهما كانت درجة حرصه على الدّولة، ومهما تعاظم مقدار الثقة فيه. فكثيراً ما يُفضى الخلل الى الاجهزة الامنية بانتشار المعلومة بين العديد ممن يوصفون بأنهم مطلعين على بواطن الامور - بمقتضى الانتماء الى السّلطة فكراً وعقيدة - وقد يكون سعى أمثال هؤلاء نابعاً من حرصهم على أمن الدولة وصحة مسيرتها، أو لغير ذلك من الأسباب الأخيرة، وهنا يكمن الخطر الوبيل. ولقد وجهنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لكي نتجنب عواقب ذلك الى ترك ما لا يعنينا: «حسبُ امرىء تركُ ما لا يعنيه الى ما يعنيه». وفي حديث آخر: «من حُسن اسلامِ المرء تركهُ ما لا يعنيه». وحجب المعلومات السريةً، وقصر افشائها على ذوي الاختصاص، أدعى الى حفظها، وأحجى بتحقيق الحذر المطلوب الذي أمر الله تعالى به: (يا أيهَا الذينَ آمنوا خذُوا حذركُم...)(115).
السرية:
ونعني بها: «كتمان المعلومات التي اذا نالها العدو أضرت بالصالح العام».
وجلى من هذا التعريف أن سرية المعلومات تتحقق بكتمانها، ولا يكون ذلك الا باتخاذ الاجراءات الصارمة في نسخها، والاعتماد على أهل الثقة في ما يُستنسخ منها، واتلاف - أو التحفظ على - المسودات ومواد الطباعة التي كتبت عليها المعلومات السرية، والحد من تداولها وحفظها في حرز حريز، ففي الحديث الشريف: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان».
ونكتفي هنا بالقول: ان مبدأ السرية مبدأ هام طبقه النبي عليه السلام خير تطبيق في بداية الدعوة، وعند هجرته من مكة الى المدينة، وفي غزواته، وفي حله وترحاله.
ولنأخذ مثالاً على كيفية تطبيق مبدأ السرية في الاسلام، من غار حراء الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه سراً، ثم ما تبع ذلك من مرحلة كانت أشبه بمرحلة «المعرفة على قدر الحاجة»، حين طلب الى النبي أن يخاطب بالدعوة عدداً محدوداً من الناس: (وأنذِر عشيرتكَ الاقربينَ)(116)، فقد انحصرت المعلومة «الخطيرة» في نحو ستين شخصاً آنذاك، ربعهم، تقريباً، كان من النساء.
وقد أولى الرآسول صلى الله عليه وسلم أهمية كبيرة في أول أيام دعوته لمفهوم السرية، اذ كان يجتمع بأصحابه في دار «الارقم بن أبي الارقم»، التي كان من أسباب اختيارها:
* أن الارقم لم يكن معروفاً باسلامه، فما كان يخطر ببال قريش أن يتم لقاء محمد وأصحابه بداره.
* أن الارقم من قبيلة بني مخزوم التي تنافس، وتحارب، بني هاشم، وهذا يعني أن الاجتماع السري كان ينعقد في قلب صفوف العدو.
* أن الارقم كان فتى في السادسة عشرة من عمره، وحين تُفكر قريش في البحث عن مركز التجمع الاسلامي لن يخطر ببالها أن تبحث فيى بيوت الناشئة من الفتيان.
ولقد كانت دار الارقم مثالاً ممتازاً «للبيت الامن» في عرف الامن، ذلك الامتياز الذي شمل بالسرية كل الافعال قبل الهجرة، فحتى الصّلاة كانت تُصلى ركعتين ركعتين، وكان الرّسول صلى الله عليه وسلم اذا صلى يحرسه علي بن أبي طالب، أو زيد بن حارثة، وقد تأخر اعلان العبادة حتى أسلم عمر رضي الله عنه.
الولاء، والاخلاص، والطّاعة:
ان من أخطر العناصر على الامن أولئك الذيى يدينون بالولاء لجهة خارجية، وهو ولاء اما أن يكون مدفوعاً بجافز العمالة لتلك الجهة، أو بواعز الاعجاب بأسلوب أهلها ومنهجهم والولع بتقليده، أو التذلل لنفوذ الوسائل التي تستخدمها أجهزة المخابرات للسيطرة على عملائها. قال تعالى: ( يَا أيهَا الذينَ آمنُو ا لا تتخذُوا عدوّي وعدوكُم أولياءَ تلقونَ اليهِم بالمودةِ وقَد كفرُوا بمَا جاءكُم من الحقِ يخرجونَ الرسولَ واياكم أن تؤمنُوا باللّه ربكم ان كنتُم خرجتُم جهاداً في سبيلي وابتغاءَ مرضاتي تسرونَ اليهم بالمودة وأنَا أعلمُ بمَا أخفيتم ومَا أعلنتُم ومَن يفعلهُ منكُم فقد ضطل سواءَ السبيلِ. ان يثفقوكُم يكونُوا لكُم أعداءً ويبسطوا اليكم أيديهُم وألسنتهُم بالسوءِ وودّوا لو تكفرُونَ)(117).
ولذا كانت وحدة الولاء وانحيازه الكامل لوحدة المؤمنين وديارهم شرطاً حاسماً للسلامة من الكيد الخارجي: (يا أيهَا الذينَ آمنُوا ان تطيعُوا الذينَ كفرُوا يردوكُم على أعقابكُم فتنقلُبوا خاسرينَ)(118). ويجىء التحذير مبياً: (ولَن ترضَى عنكَ اليهودُ ولا النصارَى حتّى تتبعَ ملتهُم قُل انّ هدَى اللّه هوَ الهدَى ولئنِ اتّبعتَ أهواكهُم بعدَ الذي جاءكَ مِن العلمِ ما لكَ مُن اللّهِ مِن ولِي ولا نصِير)(119).
الانضباط، والبعد عن مواقع الشُّبهة والفتنة:
يبحث العدو دائماً عن العناصر التي توصف بالضّعف والميل الى الفساد، فيستغلّها ويجندها لتعمل لصالحه.
وخير ضمانة من الوقوع في حبائل العدو، اختيار العناصر المنضبطة، ذات التّدين الذي يحملها على مراقبة الله، أو ذات الوازع الوطني الذي يحفطها على التمسك بمبادىء الفداء والتضحية.
وتظل تلك العناصر في حاجة مستديمة الى التدرب لترقية الحسن الامني والتزكية بالورع والتقوى، ثم تكثيف الضوابط لرماقبة أي انحراف، والمحاسبة والتأديب ازاء أي تجاوز.
وتجىء تلك الاجراءات ضماناً للسرية، وتحقيقاً للعدالة، وبسطاً لحرية الناس، تلك التي تفرضها الامكانات الوافرة التي يتمتع بها رجل الامن دون سائر المواطنين، واطلاعه على كثير من الاسرار والمعلومات بحكم ذلك، وفي هذا فتنة تزين له ارتكاب الفواحش والمحرمات أو ايذاء الناس وابتزازهم والاستهتار بحرماتهم، لذا كان لزاماً أن يحاط النظام الامني وأفراده - بعد الكفاءة المهنية والضوابط الاخلاقية - برقابة شعبية، وأن يُعبأ الشعب كله بوعي أمني، ليبسط رقابته على أعمال الاعداء، وعلى انحراف المنحرفين من رجال الامن الذين تسول لهم أنفسهم استغلال سلطاتهم وامكاناتهم.
صعوبات انتاج المخابرات:
الوقت:
ان أهمية الوقت ذات قيمة عظمى في انتاج المخابرات: سواء في مرحلة الجمع، أو التحليل، أو التوزيع، فكثيراً ما يكون العمل فيى هذه الحالة شبيهاً بالبحث العلمي، خاصةً في القضايا التي تبحث في أحداث المستقبل واحتمالاته، اذ يمكن تلافي أي نقصان في المعلومات، بتكليف مصادر مطلعة للبحث وتكملة تلك المعلومات. ولكن في كثير من تقديرات المخابرات يطلب متخذوا القرار تقريراً استخبارياً عاجلاً - أو ربما تطلبت الظروف اجراء ذلك التقدير - نسبة الى دواعي الاهمية والاستعجال. وقد درجت العادة، في هذه الحالات أن يتغاضى محللو المخابرات عن الدقة المتناهية في جمع المعلومات، وفي التنبؤ، ليبني التقدير على أساس المعلومات المتوافرة، وهذا أجدى من معلومات وتقديرات مفصلة تأتي بعد فوات الاوان، اذ يتقدم هنا مبدأ المواءمة الزمنية على الدقة.
الدقة:
ان العمل الاستخباري يعتمد على تقدير نوايا العدو ليتنبأ بما سوف يفعله، وتعتمد التنبؤات على المعلومات الاستخبارية، وهي معلومات تنهض على دقة المصادر، وعى مدى نفاذ العدو عبر الخداع وتسريب المعلومات المضللة. ولتخفيف هذا الاثر وضع نظام تصنيفي فعال للمصادر - حسب دقتها - فترفق ورقة المصدر مع المعلومات، حاوية درجة مصداقيته، التي يعبر عنها بضيغة مثل: (موثوق به جداً، أو موثوق به عادةً، أو موثوق به.. الخ). ويتفادى خداع العدو بمطابقة الاحداث مع مجريات الامور، وبتعدد المصادر، والحذر في تصديق المعلومات، واختبارها بمحاولة دخصها، وانتظار معلومات أخرى تؤكدها.
الموضوعية:
كثيراً ما تدخل في معلومات الاستخبارات المصلحة الشخصية - أحياناً - والتحيز المهني من قبل محلل المعلومات، بدافع انتمائه وولائه للدولة، أو بسبب أن معظم المعلومات تعتمد على الوصف والتقدير لا على الحقائق العلمية المجردة. ويمكن التقليل من عدم الموضوعية بالعمل المؤسسي، وبتدريب العاملين وتنبيههم الى خطر غياب الموضوعية، وهي أشدّ فتكاً من تقبل تحليل منطقي يفضي الى حقائق مُرة ومحبطة.
السرية غير المبررة:
برغم أهمية السرية في عمل الامن، فانّ لها آثاراً ضارةً وسلبيةً أحيانَ، فالسرية غير المبررة في العمل الاستخباري، قد تؤدي الى حجب المعلومات عمن يمكنهم اثراء التحليل والتقييم، اضافة الى أنها قد تضيع امكانية الاستفادة من أماكن و مؤسسات علمية تفيد في مجال البحث والتحليل باضافة حقائق جديدة. وللتغلب على هذه العقبة يلزم انتقاء مجالس متخصصة، تتكون من أشخاص موثوق بهم، واتاحة الفرصة لعرض المعلومات على جهات أوسع، للافادة من الآراء المختلفة، مع موازنة قيمة السرية والمعرفة على قدر الحاجة، بالفائدة التي تعود من هذا الاجراء، لذان السرية وسيلة لا غاية، وهي أسلوب يُلجأ اليه عند الضرورة، والضرورة هنا مسألة تقديرية بحسب ظروف البيئة والسرعة، أمّا الغاية من السرية فهي الوقاية والامن.
فداحة الاخطاء:
قياساً الى حساسية عمل المخابرات وخطورة نتائجه، فان الاخطاء الكبرة تغدو قاتلةً، على عكس ما هو متعارف عليه من البحث العلمي، الذي يعد الخطأ فيه احدى تجارب التعلم، بينما ينجم عن أخطاء المحللين والباحثين الاستخباريين كوارث ربما تودي بحياة الناس وتطيح بأنظمة وتمحو دولاًً بأكلمها ومجتمعات. ولتفادي فداحة الاخطاء يجب الاستناد الى الحقائق، والدقة في فحص المعلومة، والسرعة في اتخاذ القرار.
الوضوح:
ان الخوف من الاخطاء، وتهيب المواقف، وضيق الوقت، كلها مواقف قد تلجىء بعض محللي المخابرات الى حذر مقيت، مما يضطرهم أحياناً الى تقديم تقديرات تشرع الابواب أمام كل الاحتمالات، خشية من طرح آراء وتقديرات جريئة وقاطعة.
وتلافياً لقرارات مبهمة ومرتبكة، يحسن أن يلتزم المحللون داخل المؤسسة الاستخبارية بمصطلحات فنية واضحة للتعبير عن كل حالة على حدة، سواءٌ في مرحلة تجميع المعلومات، أو في فرز الحقائق في الاستنتاجات والاراء، كما يحسن أن تقيم المصادر بمصطلحات معروفة.
ومن بعد ذلك، لا مناص من الالتزام بالوضوح والموضوعية والاختصار والدقة، ثم عرض كل احتمالات ما قد يحدث من وقائع - دون أدنى تردد - عند رفع التقاديرات الى متخذي القرارات.
تعليق