ارتبط الوجدان العربي الإسلامي بالقدس منذ رحلة الإسراء والمعراج وحملت القدس عبر تاريخها أسماء عديدة وتعاقب عليها فاتحون عديدون وكان اسمها الأخير "أيلياء" وظلت تعرف باسم "إيلياء" و"بيت المقدس" منذ الفتح العمري حتى سنة 217 هجرية، عندما بدأت تعرف باسم القدس لأول مرة بعدما زارها الخليفة العباسي المأمون سنة 216 هجرية وأمر بعمل الترميمات اللازمة في قبة الصخرة المشرفة وفي سنة 217هجرية قام المأمون بسك نقود حملت اسم (القدس) وقد قام بذلك تأكيداً لذكرى ترميماته التي أنجزها في قبة الصخرة.
وكان المسجد الأقصى أولى القبلتين حيث صلى المسلمون إليه نحو سبعة عشر شهراً قبل أن يتحولوا إلى الكعبة وهو ثالث الحرمين الشريفين مهوى أفئدة المسلمين. والمسجد الأقصى سماه الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات في مفتتح سورة الإسراء "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" (الإسراء 1) فقد أسري برسول الله عليه الصلاة والسلام ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس في السابع والعشرين من رجب قبل الهجرة بعام، ومن بيت المقدس صعد النبي عليه السلام إلى السماء فكان المعراج.
لكن معرفة الاسم لا تعني معرفة المسمى فالمشهور من الصور الفوتوغرافية هو صورة قبة الصخرة وهي أحد معالم المسجد الأقصى الذي يشمل 200 معلم. والمسجد الأقصى هو المنطقة المحاطة بالسور المستطيل الواقعة في جنوب شرق مدينة القدس وتبلغ مساحة المسجد قرابة الـ 144 دونماً ويشمل قبة الصخرة المشرفة والمسجد الأقصى المسمى "الجامع القبلي" والمسجد وقبة الصخرة يقعان فوق هضبة صغيرة تسمى هضبة موريا وتعتبر الصخرة المشرفة أعلى نقطة في المسجد وتقع في موقع القلب بالنسبة للمسجد الأقصى. وقد بنيت القبة على الصخرة الشريفة التي عرج منها الرسول محمد عليه الصلاة والسلام إلى السماء.
وتبلغ أبعاد المسجد الأقصى: من الجنوب 281 مترا ومن الشمال 310 مترا ومن الشرق 462 مترا ومن الغرب 491 مترا. وتشكل هذه المساحة سدس مساحة القدس القديمة، وهذه الحدود لم تتغير منذ وضع المسجد أول مرة كمكان للصلاة بخلاف المسجد الحرام والمسجد النبوي اللذان تم توسعيهما عدة مرات.
وللمسجد الأقصى أربعة عشر باباً منها ما تم إغلاقه بعد أن حرر صلاح الدين الأيوبي القدس وقد قيل عددها أربع وقيل خمسة أبواب منها: باب الرحمة من الشرق، وباب المنفرد والمزدوج والثلاثي الواقعة في الجنوب. وأما الأبواب التي ما زالت مفتوحة فهي عشرة أبواب هي: باب السلسلة (باب داوود)، باب المتوضأ (باب المطهرة)، باب القطانين، باب الحديد، باب الناظر، باب الغوانمة (باب الخليل) وكلها في الجهة الغربية. ومنها أيضاً باب العتم (باب شرف الأنبياء)، باب حطة، وباب الأسباط في الجهة الشمالية. أما باب المغاربة (باب النبي) الذي استهدفه الاعتداء الصهيوني الأخير فهو في الجهة الغربية للمسجد الأقصى ويطل مباشرة على حارة المغاربة التي هدمت عام 1967 وحولت إلى ساحة للتعبد قبالة حائط البراق في السور الغربي للمسجد الأقصى.
وللمسجد الأقصى أربعة مآذن هي: مئذنة باب المغاربة الواقعة الجنوب الغربي، مئذنة باب السلسلة الواقعة في الجهة الغربية قرب باب السلسلة، مئذنة باب الغوانمة الواقعة في الشمال الغربي، ومئذنة باب الأسباط الواقعة في الجهة الشمالية، وقد أنشئت المآذن الأربعة التي نراها اليوم في عهد المماليك.
وفي الفتح الإسلامي سنة 15 هجرية/ 636 ميلادية، دخلها الخليفة عمر بن الخطاب سلماً وأعطى لأهلها الأمان وبعد تسلمه مفاتيح مدينة القدس من بطريرك الروم صفرنيوس، سار الفاروق عمر إلى منطقة الحرم الشريف التي كانت خراباً تاماً في ذلك الوقت وزار موقع الصخرة المشرفة وأمر بتنظيفها كما أمر بإقامة مسجد في الجهة الجنوبية من الحرم الشريف. وقد نفذ الأمويون مشروعا كبيرا لتعمير المسجد الأقصى عهدي عبد الملك بن مروان وابنه الوليد واشتمل على بناء قبة الصخرة المشرفة وقبة السلسلة في عهد الخليفة عبد الملك، وبناء المسجد الأقصى ودار الإمارة والأبواب ومعالم أخرى عديدة (اندثرت جراء الهزات الأرضية العنيفة التي حدثت في بيت المقدس وفلسطين) في عهد الوليد. وتتوسط قبة الصخرة المشرفة تقريباً ساحة الحرم الشريف، حيث تقوم على فناء (صحن) يرتفع عن مستوى ساحة الحرم حوالي 4 أمتار، ويتوصل إليها من خلال البوائك (القناطر) التي تحيط بها من جهاتها الأربع وقد بناها عبد الملك بن مروان وبدأ العمل في بنائها سنة 66 هجرية وتم سنة 72 هجرية. وتقوم قبة الصخرة على اثني عشر عموداً مكسوة بالرخام وتتكون القبة من طبقتين خشبيتين داخلية وخارجية نصبتا على إطار خشبي وزينت القبة من الداخل بالزخارف الجصية المذهبة، وأما من الخارج فقد صفحت بالصفائح النحاسية المطلية بالذهب. ويبلغ قطرها الداخلي 29,44 مترا ويوجد أسفلها كهف صغير يعرف بالمغارة مربع الشكل تقريباً ومتوسط ارتفاعه 3 أمتار. وقد تكلف بناؤها كل خراج مصر لسبعة أعوام متتالية.
ودخل تاريخ بناء قبة الصخرة المشرفة مرحلة جديدة في الفترة العثمانية فكان أول سلاطين العثمانيين الذين اهتموا بها السلطان سليمان القانوني في القرن السادس عشر الميلادي (1520-1566ميلادية)، وصبغ القبة بالفن العثماني من خلال مشروع كبير المشار اشتمل على استبدال الزخارف الفسيفسائية التي كانت تغطي واجهاتها الخارجية والتي ظلت قائمة منذ الفترة الأموية وقد استبدلت بالبلاط القاشاني المزجج والملون سنة 1552ميلادية، مما أكسب القبة الصخرة روعة وجمالاً فائقين من الخارج كما هي من الداخل.
وحول قبة الصخرة ساحة خارجية تحيط بمبنى قبة الصخرة وترتفع عن أرضية الحرم الشريف 4 أمتار ويتوصل إليها عن طريق درج أعلاه قناطر حجرية تقوم على أعمدة رخامية ويبلغ عددها ثمانية. وعلى الصحن مجموعة من القباب تعود تواريخها إلى فترات إسلامية مختلفة وفي الجهة الشمالية لصحن قبة الصخرة مجموعة غرف صغيرة تعرف بالخلاوي (جمع خلوة) أقيمت في صف واحد تم إنشاؤها في الفترة العثمانية.
وقد جاء المشروع الأموي وحدة كاملة متجانسة لإكساب المسجد الأقصى المبارك ذلك الطابع المعماري الإسلامي المميز، أمام تحديات العمارة البيزنطية التي كانت تصبغ المنطقة. وحافظ العباسيون قدر استطاعتهم على عمارة المسجد الأقصى دون تغيير ملموس في الطابع المعماري الذي اختطه ونفذه الأمويون وكان أهم ما قاموا به ترميم قبة الصخرة في عهد المأمون و ترميم المسجد الأقصى في عهد المهدي. وكان الفاطميين كذلك بصماتهم على المسجد الأقصى من خلال الترميمات التي أنجزت في قبة الصخرة والمسجد الأقصى في عهدي الحاكم بأمر الله وابنه الظاهر لإعزاز دين الله.
وفي عهد الأيوبيين بدأ الطابع المعماري للمسجد الأقصى يتطور حيث قاموا الأيوبيون بعد تحريره من الصليبيين بإرجاعه إلى ما كان عليه قبل الغزو الصليبي وإصلاحه وتعميره وإضافة بعض المنشآت إليه، وبذلك كانت النقلة الأولى في نموه وتطوره المعماري. وساهم المماليك مساهمة فعالة وقوية في إبراز الطابع المعماري الإسلامي للمسجد فجاءت النقلة المعمارية الثانية على يديهم وبها اكتملت صورته المعمارية الحالية حيث أنشأوا أروقة الحرم الشريف ومآذنه وأبوابه والمدارس الدينية القريبة منه كما قاموا بتعمير القباب والأسبلة والمساطب والمحاريب المنتشرة اليوم في ساحة الحرم الشريف.
وقد وصلت فكرة إنشاء المدارس الدينية ذروتها في العهد المملوكي، حيث عمل المماليك الذين أحبوا القدس حباً عظيماً: سلاطين وأمراء وقضاة ورجالات دولة وأثرياء ميسورين على بناء وتعمير المدارس الدينية والأربطة (جمع رباط) والزوايا (جمع زاوية) في أروقة الحرم الشريف وكذلك حوله من الجهتين الشمالية والغربية، ورتبوا الوظائف فيها وأوقفوا عليها لتقوم بتمويلها والصرف عليها.
ولم تسعفنا المصادر التاريخية بوصف لأروقة الحرم الشريف في الفترات الإسلامية المبكرة، باستثناء الرحالة الفارسي ناصر خسرو الذي زار المسجد الأقصى قبل الاحتلال الصليبي له، وأشار إلى وجود رواق في الجهة الشرقية للحرم الشريف تهدم واندثر جراء هزات أرضية لكننا اليوم أمام رواقين قائمين في الجهتين الشمالية والغربية ومن المحتمل أن يكونا قد أقيما على أساسات أروقة الحرم الشريف الأصلية وقد عرفا بالرواقين: الشمالي والغربي. وقد أقيما لغرضي الصلاة والتدريس، حيث يتقي المصلون والدارسون تحتها من حرارة الشمس في أيام الصيف والأمطار الغزيرة في أيام الشتاء، ويوجد في الرواق الشمالي 9 مدارس. أما الرواق الغربي فأنشئ في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون وبه 5 مدارس دينية.
وفي ساحة الحرم الشريف معالم أخرى عديدة فإلى جانب قبة الصخرة المشرفة وقبة السلسلة وقبة المعراج هناك عدة قباب بني معظمها ليكون مقراً للتدريس أو داراً للعبادة والاعتكاف أو تخليداً لذكرى حدث معين. وأهمها: قبة السلسلة، قبة المعراج، قبة النبي، القبة النحوية وأنشئت خصيصاً لتكون مقراً لتعليم علوم اللغة العربية، قبة يوسف، قبة الشيخ الخليلي، قبة سليمان، قبة أو إيوان العشاق ويبدو أنها كانت ملتقى للصوفيين والزهاد والذين عرفوا بعشاق النبي عليه السلام حتى أصبحت تعرف بقبة عشاق النبي. ومن القباب الموجودة داخ الحرم الشريف أيضا: قبة موسى، قبة الميزان، وقبة يوسف آغا ويستخدم مبناها اليوم مكتبا للاستعلامات وبيع التذاكر.
وإلى جانب القباب هناك أسبلة منها: سبيل شعلان، سبيل البصيري، سبيل قاسم باشا، سبيل السلطان سليمان، سبيل البديري، سبيل باب المغاربة، وسبيل باب حطة، وقام السلطان سليمان القانوني بحملة معمارية كبيرة في القدس اشتملت على سور القدس الحالي و6 أسبلة عرفت بالأسبلة السليمانية لما امتازت به من طراز معماري. ويعتبر سبيل قايتباي (10) من أهم أسبلة الحرم الشريف والقدس خاصة، وفلسطين وبلاد الشام عامة وهو أنه النموذج الوحيد والفريد من نوعه في المنطقة التي عرفت بالأسبلة القايتبائية المملوكية
تعليق