فتحي الشقاقي الإنسان ..بقلم: باسم شعبان
طلب مني الأخ الدكتور خضر عباس أن أكتب له عن فتحي الشقاقي الإنسان, لأنه يعد بحثا بنفس هذا العنوان تقريبا, و لمعرفته بقربي من الدكتور فتحي رحمه الله تعالى منذ فترة الدراسة في الزقازيق, و أعتقد أن الموضوع ليس سهلا بهذه البساطة, فالحديث عن فتحي ليس بالحديث اليسير الذي نزجي به وقتنا, ففتحي الإنسان يصعب الحديث عنه إذا كنا سنتكلم عن إنسان أديب و شاعر ذي حس مرهف و نظرة ثاقبة للأمور, فكل ما يمر به يثير لديه إحساسا ما, فهكذا تجد صعوبة في الكتابة عنه, لأنك ستكتب عن ثقافته و فكره وما كتب و ما قرأ و ما حاضر, فهو إنسان مثقف مسلم عربي فلسطيني ثوري طلائعي مجاهد عنيد و مصمم, و ترى سلسلة الأوصاف لا تتوقف و أنك توقفها تحكما منك في ذلك الانسياب في الأفكار.
فهو كأي إنسان فلسطيني و لد في فترة النكبة لشعب منكوب و أسرة منكوبة تنتظر قوتها بالوقوف على أبواب الأونروا لتستلم الطعام و الملابس القديمة, ضاعت و نهبت بلادهم و أرضهم و صاروا ينتظرون المعونات التي تجود بها الدول للشعوب المنكوبة , أصبحنا شعبا منكوبا تتصدق علينا الأمم بعد أن كنا كراما أعزاء في مدننا و قرانا.
في هذا الظرف الإنساني الكئيب ولد فتحي و عاش و ترعرع, و رضع حليب النكبة و عاش قهرها و ذلها, و لكن كل ذلك القهر للإنسان لم يقض على فتحي, فلقد نجح في امتحان التحدي, بل و قبل هذا التحدي الوجودي, و استشعر أبيات محمود درويش و جعلها شعارا له في مرحلة الشباب
" خيول الروم أعرفها
و إن يتبدل الميدان
و أعرف قبلها أني
أنا زين الشباب و فارس الفرسان"
عرف نفسه و أعدها لدور فارس الفرسان, فلم يلن أو يتخاذل, بل ظل مشتعلا ليلا نهارا يبحث عن خلاص لأمته و عزة و كرامة.
لذلك فتحي الإنسان كان دائما حزينا و إن رأيته يبتسم, فهو يختزن مقدارا هائلا من الحزن, و حزن فتحي كبير بكبر أمته بتاريخها و حضارتها, بانتصاراتها و بهزائمها, فهو يقرأ التاريخ ويحزن, يقرأ عن المعارك الفتن كالجمل و صفين فيحزن, و يدرك أن ما أصابنا من هزائم الآن له خيوط ممتدة من تلك اللحظات الكئيبة في تاريخنا, و يحزن بوعيه الفذ عندما يرى كيف أن خيول الروم المعاصرة تدوس على شوارع القدس ببساطيرها الثقيلة بتواطؤ مع بعض الأعراب تعلن مرحلة جديدة للهزيمة و النكبة و التآمر على الأمة و مقدراتها, كيف لا يحزن و القهر و الفقر يلفان هذه الأمة و في أكبر العواصم تجد الفقراء طوابير أو سيل جارف لا نهاية له, فيحزن لفقر الأمة و يحزن لتأخر نهضتها, يحزن و هو ينظر إلى علامات الفقر في وجوه الفقراء البائسين الذين لا يستطيعون تدبير قوت عيالهم, بينما هناك أناس آخرون متخمون و مسرفون يتحيرون في إنفاق نقودهم على أتفه الأشياء, و لقد كان يؤلمه و هو يقرأ الصحف المصرية و هي تنشر إعلانات الكباريهات و الكازينوهات و حفلات الرقص كيف أن سعر التذكرة الواحدة يصل إلى أربعين جنيها في الحفلة الواحدة و ذلك في أواخر السبعينات بينما الفقير لا يجد مثل هذه المبلغ طول الشهر لينفقه على عياله, فالفقر في الوطن غربة, و كثير هم أولئك الغرباء في أوطانهم يطحنهم حجر الفقر و لا يجدون من يرحمهم,فتراه خاصة بعد العشاء و نحن جالسون يقلب صفحات هذه الصحف على هذه الإعلانات الكبيرة و يقول انظروا إلى الناس الفقراء و انظروا إلى هذه الإعلانات و هذه الكباريهات التي كأنها في عالم آخر غير مصر, و لقد سعدت عندما علمت أنه كان يقوم في إجازة الصيف في غزة بجمع بعض التبرعات و النقود لبعض الطلبة المصريين الفقراء لمساعدتهم في تكميل دراستهم و لسد بعض ما يحتاجون, و خاصة أنه كان يفعل ذلك سرا بدون أن يشعر به إلا أحد قليل, فقد كان حريصا على ألا يجرح مشاعر أحد من الطلاب, و لقد كانت الشقة عنده مفتوحة للضيافة و قد كان يأتي كثير من الطلاب للزيارة و المبيت حيث كان يستقبلهم باحترام و مودة كبيرة, حيث أن كثير منهم يسمع عنه و يتمنى أن يلتقي به أو يتعرف عليه, و لم يكن ذلك ليزعجه أو يغضبه.
يحزن و هو يقرأ عن النهضة و معوقاتها وشروطها , لذلك حزن الإنسان المثقف مضاعف, و هذا يحضه على القبول بالتحدي و المواجهة, و ليس على الهزيمة و التراجع, فلقد تراجع الكثير و انبهر و انهزم بل و تصالح مع هازمه و قاتله, بينما نجده يتحدى و يواجه و يثور و ينتصر و يستشهد, فيحصل كل القيم النبيلة من الثورة و المواجهة و النصر و الشهادة, فهو قد سجل شهادته لأمته و مضى إلى وجه ربه الكريم ناهضا في وجه مرحلة كئيبة من الاستسلام المذل والتصالح مع العدو الذي يريد أخذ كل شيء.
و فرح فتحي كبير أيضا كفرح الأطفال برغم المآسي الكبيرة, فقلبه مطمئن بنصر الله تعالى لهذه الأمة, فالنصر قادم لا محالة و أبناء هذه الأمة سينتصرون عاجلا أم آجلا, يرى ذلك في همة الشباب المسلم و عزيمته على التصدي للمؤامرات و للتصدي للغزو و التغريب, و التصدي للكيان الغاصب للقدس, فكان يفرح و هو يرى جموع الناس تأتي للأقصى للصلاة فيه, و يفرح عندما يرى الشباب يأتون إليه للاعتكاف في رمضان و إحياء ليلة القدر, يأتون من كل ربوع فلسطين, أفواجا أفواجا, معظمهم أو جلهم من جيل الشباب, و كان عندما يرى أو يعجبه شيء من فعل الشباب المسلم يبتسم و يقول "الله يحمي الشباب" بنبرة فرح و سعادة, لأنه يعرف أنهم جيل وعد الآخرة القادم بالنصر و التمكين و تتبير ما علا بنو إسرائيل تتبيرا, فكان جيل الشباب همه و أمله و رجاؤه.
كان يفرح لانتصارات و فتوح الإسلام و هداية البشرية لهذا الدين العظيم, فكان أشد الفرح لديه عندما يسمع أن فلانا او فلانة قد تحول إلى الإسلام و ترك العلمانية أو الشيوعية, و كان يفرح للمفكرين خاصة لأنهم كانوا يتحولون إلى خدمة و الدفاع عن هذا الدين العظيم الذي يحتاج إلى جهود كل المخلصين من أبنائه, و أيضا ليثبت أن معركة التغريب و رهان الغرب على أن تغير هذه الأمة عقيدتها و دينها و ارتباطها بالسماء قد فشل, ففرح بإسلام الأستاذ منير شفيق, و اتصل بي هاتفيا في أحد الليالي ليبلغني ذلك من مستشفى المطّلع الذي كان يعمل به هو شديد الفرح و السرور و يبدو ذلك من نبرة صوته, و أخبرني أنه سيأتيني بكتابه الإسلام في معركة الحضارة عندما يعود من القدس, وكذلك من قبل فرح بإسلام المستشار طارق البشري الذي يحترمه كثيرا و يقرأ ما يكتب عن الحركة الوطنية في مصر,و أيضا فرح بعودة الدكتورة صافيناز كاظم التي كان يحترمها و يقدرها, و لا نريد أن نطيل ذكر الأسماء فهي كثيرة و لله الحمد.
لقد فرح فرحا شديدا بانتصار الثورة الإسلامية في إيران, التي أثبتت عكس مقولات الشيوعية أن الدين أفيون الشعوب, فلقد أنتجت نموذجا ثوريا دينيا يتحدى الظلم المتمثل في الشاه والمتمثل في أمريكا الراعية لنظام هذا الشاه, فكانت الثورة الإسلامية ثورة على الظلم و القهر و ثورة على الإمبريالية الغربية المتمثلة في دولة الاستكبار العالمي أمريكا, و لقد كان يتابع إذاعة مونتكارلو على رأس كل ساعة بفرح و شوق ليسمع ما هو جديد عن ثورة هذا الشعب العظيم في وجه الشاه الطاغية, و كم كان يتمنى أن تحصل ثورة مشابهة عندنا لتحرير هذه الأمة من أنظمة القهر و الهزيمة و الاستتباع للأجنبي.
لقد كان فتحي رحمه الله تعالى شديد التواضع, فلم يكن يتكبر على الشباب و معظمهم أصغر منه سنا, بل كان يحبهم و يجاملهم و يمازحهم, وينكت معهم و إن كانت النكتة السياسية هي الغالبة, و خاصة أن مصر هي بلاد النكتة, لما لها من تأثير مفرغ لشحنة العواطف لدى هذا الشعب المقهور, و ربما كانت توازي عملية التفريج أو التطهير في مسرح الدراما الأرسطي, فكان ينزل ليلعب كرة القدم مع إخوانه الشباب و لكن ليس كثيرا, لم يكن يتكبر على أي نوع من الطعام, فيأكل ما يتيسر, و إن جاء ضيوف فإنه كان يحب أن يكرمهم بأكلة المقلوبة,و كان يحب شرب الشاي و خاصة في الليل بعد تناول العشاء, فكان يشرب كأسا كبيرا و خاصة أن الكؤوس كانت عندنا كبيرة,و كذلك الحال في الملبس فلا يحب الظهور بملابس فخمة ولكن بملابس عادية , و لا أذكر أني رأيته بربطة عنق, و كنا نتهادى الملابس عندما تضيق أو تتسع على أحد منا بكل عفوية, و كذلك العفوية في التعامل بالنقود و مصاريف البيت من الطعام و الشراب, و أذكر في أحد المرات عندما اقترب موعد معرض الكتاب في القاهرة حيث يبدأ الطلاب في الاستعداد للذهاب لشراء الكتب و خاصة أنه كان حول فتحي مجموعة كبيرة من الشباب المثقفين الذين يشترون و يقرؤون الكتب, فعلم من بعض الأخوة أنني لن أذهب هذا العام لأن النقود التي معي لا تكفي في هذا الشهر لشراء الكتب الثقافية, فكا أن جاءني في الغرفة و أعطاني ثلاثين جنيها وقال هذه لتذهب بها إلى معرض الكتاب و تشتري ما تشاء من كتب, فقلت لا داعي هذا العام للذهاب إلى معرض الكتاب, فقال لا يجب أن تهب كباقي الشباب, فقلت له آخذها دينا فقال لا, هذه خمسة عشر مني و خمسة عشر من باسل (زميلنا باسل يونس حفظه الله و الذي طرده الأمن المصري بعد اغتيال السادات نكاية حيث كان قد أكمل ثلاث سنوات في دراسة الطب), و بعد فترة عدما توفرت النقود عرضت عليه أن يستردها فرفض و أخذ يعطيني درسا عن تعامل الأخوة في النقود و يجب أن تكون بينهم سهلة التعامل و أن لا يكون هناك حساسية في التعامل بها لأن الأخوة و الصداقة أهم و أكبر منها بكثير.
كان فتحي رحمه الله تعالى من الناس الذين لا يظهرون شخصيتهم, بحيث لا تشعر بحضرته أنك تجلس أمام رجل قد نفخ شخصيته و أظهر عظمتها و مركزها, فلم نكن نحن القريبين منه نناديه بغير اسمه أو كان بعضنا يناديه " أبو الفتوح" تدليلا و خاصة الأخ ربحي بلبل الذي أطلق عليه هذه التسمية, و حتى بعد التخرج كنا لا نخاطبه يا دكتور, التي أصبح يخاطبه بها كثير من الناس, فنقول له "يا أبو إبراهيم", نسبة لوالده كعادة الناس عندنا, فقل أنه لم يكن يأخذ هذا الشكل الرسمي في التعامل, و كنا نزوره في القدس في غرفة السكن المخصصة له في مستشفى المطلع, التي كان بها سرير و مكتب و عدة كراسي, و في أحد المرات و نحن جلوس عنده و قد حان موعد صلاة العصر, و إذ به يصلي على السرير خلفنا, فقلنا له ما لك, فقال أجريت لي عملية قبل يومين في المستشفى, فثارت عاصفة من الاحتجاج و كنا حوالي ستة أو سبعة, فقلنا ليس من المعقول أن نجلس عندك و أنت مريض و لم نقل لك على الأقل الحمد لله على السلامة, فكان أجدر أن تخبرنا, فقال لا أحب أن أزعج أحدا, فإن علم الناس أني مريض فسيأتون من غزة و من كل مدن الضفة و لا أحب أن يكون مجيؤهم بسبب مرضي, فكان رحمه الله تعالى لا يحب أن يظهر مرضه أو ألمه أو يتحدث عن شخصه, و خاصة أنه كان ينتقد بعض الناس الذين يخرجون من السجن و الذين لا هم لهم إلا الحديث عما لاقوه من صنوف العنت و الشدة بنوع من التلذذ و المباهاة, وكان يحترم أكثر السجناء الذين يصمتون عن ذكر معاناتهم أمام الناس, و أذكر في هذه الغرفة أنه قدر لى أن أحضر وقت مجيء الصهاينة له لاعتقاله, و إن كان قدر لي أيضا حضور اعتقاله في مصر بعد نشر كتاب الخميني الحل الإسلامي و البديل, فقد كان في المرتين مطمئن النفس و إن كان أمر الاعتقال قد جاء على حين غرة أو غفلة, فلقد أخبره عامل الاستقبال بالتلفون أن ضباط المخابرات جاءوا إلى المستشفى يسألون عنه و أنهم يسألون عن غرفته, فأمرنا أن نخرج على الفور حتى لا يجدونا عنده فيأخذونا جميعا, فخرجنا متفرقين في ممرات المستشفى, ثم رأينا بعد ذلك عدة سيارات عسكرية تخرج من المستشفى و كان هو في أحدها, و كنا نحن تقريبا نتمشى متفرقين خارج المستشفى نتفرج على هذا المشهد الحزين الذي لا حول لنا فيه و لا قوة أمام جبروت هذا الاحتلال البغيض, و هذا المشهد يذكرني بسيدنا عيسى عليه السلام عندما جاء اليهود ليأخذوه و حوارييه ربما من نفس المنطقة التي أخذ منها فتحي رحمه الله تعالى, فلم يكن معهم سلاح سوى سيف واحد, بينما نحن لم يكن معنا إلا إيماننا بعدالة قضيتنا و بأن الله تعالى سينصرنا كما نصر سيدنا عيسى عليه السلام و نجاه من كيد اليهود و رفعه إليه.
فلقد كان رحمه الله تعالى مثال التفاني و الأخوة و المحبة و الصداقة مع جميع الناس مع أخوانه و أصدقائه, و حتى مع المخالفين أو المسيئين له, فكان ذو خلق رفيع, ينأى بنفسه عن المهاترات و السب و الشتم, و يحاجج بالتي هي أحسن و أقوم.
نسأل الله تعالى أن يتقبل فتحي الإنسان البسيط المتواضع في الصديقين و الشهداء و حسن أولئك رفيقا.
فهو كأي إنسان فلسطيني و لد في فترة النكبة لشعب منكوب و أسرة منكوبة تنتظر قوتها بالوقوف على أبواب الأونروا لتستلم الطعام و الملابس القديمة, ضاعت و نهبت بلادهم و أرضهم و صاروا ينتظرون المعونات التي تجود بها الدول للشعوب المنكوبة , أصبحنا شعبا منكوبا تتصدق علينا الأمم بعد أن كنا كراما أعزاء في مدننا و قرانا.
في هذا الظرف الإنساني الكئيب ولد فتحي و عاش و ترعرع, و رضع حليب النكبة و عاش قهرها و ذلها, و لكن كل ذلك القهر للإنسان لم يقض على فتحي, فلقد نجح في امتحان التحدي, بل و قبل هذا التحدي الوجودي, و استشعر أبيات محمود درويش و جعلها شعارا له في مرحلة الشباب
" خيول الروم أعرفها
و إن يتبدل الميدان
و أعرف قبلها أني
أنا زين الشباب و فارس الفرسان"
عرف نفسه و أعدها لدور فارس الفرسان, فلم يلن أو يتخاذل, بل ظل مشتعلا ليلا نهارا يبحث عن خلاص لأمته و عزة و كرامة.
لذلك فتحي الإنسان كان دائما حزينا و إن رأيته يبتسم, فهو يختزن مقدارا هائلا من الحزن, و حزن فتحي كبير بكبر أمته بتاريخها و حضارتها, بانتصاراتها و بهزائمها, فهو يقرأ التاريخ ويحزن, يقرأ عن المعارك الفتن كالجمل و صفين فيحزن, و يدرك أن ما أصابنا من هزائم الآن له خيوط ممتدة من تلك اللحظات الكئيبة في تاريخنا, و يحزن بوعيه الفذ عندما يرى كيف أن خيول الروم المعاصرة تدوس على شوارع القدس ببساطيرها الثقيلة بتواطؤ مع بعض الأعراب تعلن مرحلة جديدة للهزيمة و النكبة و التآمر على الأمة و مقدراتها, كيف لا يحزن و القهر و الفقر يلفان هذه الأمة و في أكبر العواصم تجد الفقراء طوابير أو سيل جارف لا نهاية له, فيحزن لفقر الأمة و يحزن لتأخر نهضتها, يحزن و هو ينظر إلى علامات الفقر في وجوه الفقراء البائسين الذين لا يستطيعون تدبير قوت عيالهم, بينما هناك أناس آخرون متخمون و مسرفون يتحيرون في إنفاق نقودهم على أتفه الأشياء, و لقد كان يؤلمه و هو يقرأ الصحف المصرية و هي تنشر إعلانات الكباريهات و الكازينوهات و حفلات الرقص كيف أن سعر التذكرة الواحدة يصل إلى أربعين جنيها في الحفلة الواحدة و ذلك في أواخر السبعينات بينما الفقير لا يجد مثل هذه المبلغ طول الشهر لينفقه على عياله, فالفقر في الوطن غربة, و كثير هم أولئك الغرباء في أوطانهم يطحنهم حجر الفقر و لا يجدون من يرحمهم,فتراه خاصة بعد العشاء و نحن جالسون يقلب صفحات هذه الصحف على هذه الإعلانات الكبيرة و يقول انظروا إلى الناس الفقراء و انظروا إلى هذه الإعلانات و هذه الكباريهات التي كأنها في عالم آخر غير مصر, و لقد سعدت عندما علمت أنه كان يقوم في إجازة الصيف في غزة بجمع بعض التبرعات و النقود لبعض الطلبة المصريين الفقراء لمساعدتهم في تكميل دراستهم و لسد بعض ما يحتاجون, و خاصة أنه كان يفعل ذلك سرا بدون أن يشعر به إلا أحد قليل, فقد كان حريصا على ألا يجرح مشاعر أحد من الطلاب, و لقد كانت الشقة عنده مفتوحة للضيافة و قد كان يأتي كثير من الطلاب للزيارة و المبيت حيث كان يستقبلهم باحترام و مودة كبيرة, حيث أن كثير منهم يسمع عنه و يتمنى أن يلتقي به أو يتعرف عليه, و لم يكن ذلك ليزعجه أو يغضبه.
يحزن و هو يقرأ عن النهضة و معوقاتها وشروطها , لذلك حزن الإنسان المثقف مضاعف, و هذا يحضه على القبول بالتحدي و المواجهة, و ليس على الهزيمة و التراجع, فلقد تراجع الكثير و انبهر و انهزم بل و تصالح مع هازمه و قاتله, بينما نجده يتحدى و يواجه و يثور و ينتصر و يستشهد, فيحصل كل القيم النبيلة من الثورة و المواجهة و النصر و الشهادة, فهو قد سجل شهادته لأمته و مضى إلى وجه ربه الكريم ناهضا في وجه مرحلة كئيبة من الاستسلام المذل والتصالح مع العدو الذي يريد أخذ كل شيء.
و فرح فتحي كبير أيضا كفرح الأطفال برغم المآسي الكبيرة, فقلبه مطمئن بنصر الله تعالى لهذه الأمة, فالنصر قادم لا محالة و أبناء هذه الأمة سينتصرون عاجلا أم آجلا, يرى ذلك في همة الشباب المسلم و عزيمته على التصدي للمؤامرات و للتصدي للغزو و التغريب, و التصدي للكيان الغاصب للقدس, فكان يفرح و هو يرى جموع الناس تأتي للأقصى للصلاة فيه, و يفرح عندما يرى الشباب يأتون إليه للاعتكاف في رمضان و إحياء ليلة القدر, يأتون من كل ربوع فلسطين, أفواجا أفواجا, معظمهم أو جلهم من جيل الشباب, و كان عندما يرى أو يعجبه شيء من فعل الشباب المسلم يبتسم و يقول "الله يحمي الشباب" بنبرة فرح و سعادة, لأنه يعرف أنهم جيل وعد الآخرة القادم بالنصر و التمكين و تتبير ما علا بنو إسرائيل تتبيرا, فكان جيل الشباب همه و أمله و رجاؤه.
كان يفرح لانتصارات و فتوح الإسلام و هداية البشرية لهذا الدين العظيم, فكان أشد الفرح لديه عندما يسمع أن فلانا او فلانة قد تحول إلى الإسلام و ترك العلمانية أو الشيوعية, و كان يفرح للمفكرين خاصة لأنهم كانوا يتحولون إلى خدمة و الدفاع عن هذا الدين العظيم الذي يحتاج إلى جهود كل المخلصين من أبنائه, و أيضا ليثبت أن معركة التغريب و رهان الغرب على أن تغير هذه الأمة عقيدتها و دينها و ارتباطها بالسماء قد فشل, ففرح بإسلام الأستاذ منير شفيق, و اتصل بي هاتفيا في أحد الليالي ليبلغني ذلك من مستشفى المطّلع الذي كان يعمل به هو شديد الفرح و السرور و يبدو ذلك من نبرة صوته, و أخبرني أنه سيأتيني بكتابه الإسلام في معركة الحضارة عندما يعود من القدس, وكذلك من قبل فرح بإسلام المستشار طارق البشري الذي يحترمه كثيرا و يقرأ ما يكتب عن الحركة الوطنية في مصر,و أيضا فرح بعودة الدكتورة صافيناز كاظم التي كان يحترمها و يقدرها, و لا نريد أن نطيل ذكر الأسماء فهي كثيرة و لله الحمد.
لقد فرح فرحا شديدا بانتصار الثورة الإسلامية في إيران, التي أثبتت عكس مقولات الشيوعية أن الدين أفيون الشعوب, فلقد أنتجت نموذجا ثوريا دينيا يتحدى الظلم المتمثل في الشاه والمتمثل في أمريكا الراعية لنظام هذا الشاه, فكانت الثورة الإسلامية ثورة على الظلم و القهر و ثورة على الإمبريالية الغربية المتمثلة في دولة الاستكبار العالمي أمريكا, و لقد كان يتابع إذاعة مونتكارلو على رأس كل ساعة بفرح و شوق ليسمع ما هو جديد عن ثورة هذا الشعب العظيم في وجه الشاه الطاغية, و كم كان يتمنى أن تحصل ثورة مشابهة عندنا لتحرير هذه الأمة من أنظمة القهر و الهزيمة و الاستتباع للأجنبي.
لقد كان فتحي رحمه الله تعالى شديد التواضع, فلم يكن يتكبر على الشباب و معظمهم أصغر منه سنا, بل كان يحبهم و يجاملهم و يمازحهم, وينكت معهم و إن كانت النكتة السياسية هي الغالبة, و خاصة أن مصر هي بلاد النكتة, لما لها من تأثير مفرغ لشحنة العواطف لدى هذا الشعب المقهور, و ربما كانت توازي عملية التفريج أو التطهير في مسرح الدراما الأرسطي, فكان ينزل ليلعب كرة القدم مع إخوانه الشباب و لكن ليس كثيرا, لم يكن يتكبر على أي نوع من الطعام, فيأكل ما يتيسر, و إن جاء ضيوف فإنه كان يحب أن يكرمهم بأكلة المقلوبة,و كان يحب شرب الشاي و خاصة في الليل بعد تناول العشاء, فكان يشرب كأسا كبيرا و خاصة أن الكؤوس كانت عندنا كبيرة,و كذلك الحال في الملبس فلا يحب الظهور بملابس فخمة ولكن بملابس عادية , و لا أذكر أني رأيته بربطة عنق, و كنا نتهادى الملابس عندما تضيق أو تتسع على أحد منا بكل عفوية, و كذلك العفوية في التعامل بالنقود و مصاريف البيت من الطعام و الشراب, و أذكر في أحد المرات عندما اقترب موعد معرض الكتاب في القاهرة حيث يبدأ الطلاب في الاستعداد للذهاب لشراء الكتب و خاصة أنه كان حول فتحي مجموعة كبيرة من الشباب المثقفين الذين يشترون و يقرؤون الكتب, فعلم من بعض الأخوة أنني لن أذهب هذا العام لأن النقود التي معي لا تكفي في هذا الشهر لشراء الكتب الثقافية, فكا أن جاءني في الغرفة و أعطاني ثلاثين جنيها وقال هذه لتذهب بها إلى معرض الكتاب و تشتري ما تشاء من كتب, فقلت لا داعي هذا العام للذهاب إلى معرض الكتاب, فقال لا يجب أن تهب كباقي الشباب, فقلت له آخذها دينا فقال لا, هذه خمسة عشر مني و خمسة عشر من باسل (زميلنا باسل يونس حفظه الله و الذي طرده الأمن المصري بعد اغتيال السادات نكاية حيث كان قد أكمل ثلاث سنوات في دراسة الطب), و بعد فترة عدما توفرت النقود عرضت عليه أن يستردها فرفض و أخذ يعطيني درسا عن تعامل الأخوة في النقود و يجب أن تكون بينهم سهلة التعامل و أن لا يكون هناك حساسية في التعامل بها لأن الأخوة و الصداقة أهم و أكبر منها بكثير.
كان فتحي رحمه الله تعالى من الناس الذين لا يظهرون شخصيتهم, بحيث لا تشعر بحضرته أنك تجلس أمام رجل قد نفخ شخصيته و أظهر عظمتها و مركزها, فلم نكن نحن القريبين منه نناديه بغير اسمه أو كان بعضنا يناديه " أبو الفتوح" تدليلا و خاصة الأخ ربحي بلبل الذي أطلق عليه هذه التسمية, و حتى بعد التخرج كنا لا نخاطبه يا دكتور, التي أصبح يخاطبه بها كثير من الناس, فنقول له "يا أبو إبراهيم", نسبة لوالده كعادة الناس عندنا, فقل أنه لم يكن يأخذ هذا الشكل الرسمي في التعامل, و كنا نزوره في القدس في غرفة السكن المخصصة له في مستشفى المطلع, التي كان بها سرير و مكتب و عدة كراسي, و في أحد المرات و نحن جلوس عنده و قد حان موعد صلاة العصر, و إذ به يصلي على السرير خلفنا, فقلنا له ما لك, فقال أجريت لي عملية قبل يومين في المستشفى, فثارت عاصفة من الاحتجاج و كنا حوالي ستة أو سبعة, فقلنا ليس من المعقول أن نجلس عندك و أنت مريض و لم نقل لك على الأقل الحمد لله على السلامة, فكان أجدر أن تخبرنا, فقال لا أحب أن أزعج أحدا, فإن علم الناس أني مريض فسيأتون من غزة و من كل مدن الضفة و لا أحب أن يكون مجيؤهم بسبب مرضي, فكان رحمه الله تعالى لا يحب أن يظهر مرضه أو ألمه أو يتحدث عن شخصه, و خاصة أنه كان ينتقد بعض الناس الذين يخرجون من السجن و الذين لا هم لهم إلا الحديث عما لاقوه من صنوف العنت و الشدة بنوع من التلذذ و المباهاة, وكان يحترم أكثر السجناء الذين يصمتون عن ذكر معاناتهم أمام الناس, و أذكر في هذه الغرفة أنه قدر لى أن أحضر وقت مجيء الصهاينة له لاعتقاله, و إن كان قدر لي أيضا حضور اعتقاله في مصر بعد نشر كتاب الخميني الحل الإسلامي و البديل, فقد كان في المرتين مطمئن النفس و إن كان أمر الاعتقال قد جاء على حين غرة أو غفلة, فلقد أخبره عامل الاستقبال بالتلفون أن ضباط المخابرات جاءوا إلى المستشفى يسألون عنه و أنهم يسألون عن غرفته, فأمرنا أن نخرج على الفور حتى لا يجدونا عنده فيأخذونا جميعا, فخرجنا متفرقين في ممرات المستشفى, ثم رأينا بعد ذلك عدة سيارات عسكرية تخرج من المستشفى و كان هو في أحدها, و كنا نحن تقريبا نتمشى متفرقين خارج المستشفى نتفرج على هذا المشهد الحزين الذي لا حول لنا فيه و لا قوة أمام جبروت هذا الاحتلال البغيض, و هذا المشهد يذكرني بسيدنا عيسى عليه السلام عندما جاء اليهود ليأخذوه و حوارييه ربما من نفس المنطقة التي أخذ منها فتحي رحمه الله تعالى, فلم يكن معهم سلاح سوى سيف واحد, بينما نحن لم يكن معنا إلا إيماننا بعدالة قضيتنا و بأن الله تعالى سينصرنا كما نصر سيدنا عيسى عليه السلام و نجاه من كيد اليهود و رفعه إليه.
فلقد كان رحمه الله تعالى مثال التفاني و الأخوة و المحبة و الصداقة مع جميع الناس مع أخوانه و أصدقائه, و حتى مع المخالفين أو المسيئين له, فكان ذو خلق رفيع, ينأى بنفسه عن المهاترات و السب و الشتم, و يحاجج بالتي هي أحسن و أقوم.
نسأل الله تعالى أن يتقبل فتحي الإنسان البسيط المتواضع في الصديقين و الشهداء و حسن أولئك رفيقا.
تعليق