«أريد لو إصبعاً واحداً من جسد ابنتي بجانبي هنا.. اريد ان اقرأ عليها السلام، كل عظمة هي حقي انا، وحق كل فلسطيني». هذا ما قاله محمد الأخرس، والد الفتاة آيات، التي يحتجز الجيش الاسرائيلي جثمانها في احدى المقابر المعروفة لدى الفلسطينيين بـ«مقابر الارقام». وقد اكتسبت تسميتها تلك، لأن كل قبر فيها يحمل فقط رقماً، سجل فوق لوحة معدنية، يرمز الى ساكن القبر الذي لا يعرف هويته إلا الجيش الاسرائيلي. ومنذ نفذت آيات الأخرس عملية فدائية عام 2002، ووالدها، ينتظر «بشوق كبير»، لقاء جثمان ابنته، ويقول لـ«الشرق الاوسط»، انه لم ينسى يوماً، وان جرحه سيبقى مفتوحاً الى حين يدفنها بيديه قريبة منه، ليطمئن اليها. وقال «نفسي لن تهدأ قط إلا باحتضان ابنتي ولو كانت عظاماً». ومثل الاخرس، فان العشرات من اهالي «الشهداء» الفلسطينيين، ينتظرون لقاء جثامين أبنائهم، بغضِّ النظر ان كانت على حالها، او بعض اعضاء، او بقايا عظام. وحتى اليوم، لا تملك السلطة الفلسطينية، او ايٌّ من المؤسسات الحقوقية ولا حتى الصليب الاحمر، اي معلومات دقيقة، اواحصاءات حول عدد «مقابر الارقام» او مكانها او عدد ساكنيها وهوياتهم. وقال عيسى قراقع، مقرر لجنة الاسرى في المجلس التشريعي، لـ«الشرق الاوسط»: « ان عدد هذه المقابر غير معروف، الا انه تم الكشف عن 4 منها فقط، كما ان لا أحد يستطيع إعطاء رقم حول عدد الشهداء الاسرى المدفونين في هذه المقابر». ويقدر قراقع الذي ينشط في متابعة هذا الملف عدد المقابر بالعشرات، وعدد «الشهداء الاسرى» بالمئات. وقال «ان الاحتلال يحتجز جثامين شهداء منذ عام 1967، ويدفنهم في مقابر مفتوحة وغير معروفة». ويقول قراقع إن بعض هذه المقابر قد يكون ازيل عن الوجود بفعل انجرافات التربة. ويشير باحثون فلسطيينون، الى الحالة المتردية التي تكون عليها هذه المقابر، اذ تتناثر قبور لا فواصل بينها على الجوانب. وقال قراقع «انهم يدفنون شهداءنا وابناءنا وبناتنا بدون اخلاق، ولا استبعد ان تكون هناك جثث مكدسة فوق بعضها، او ان يضعوا شابا وفتاة في قبر واحد». وتابع «هذه طريقة لا إنسانية ولا أخلاقية ولا دينية، انهم يضعون أرقاماً على مقابرهم، بدلا من الأسماء، وفي أماكن غير لائقة، وتفتقر للحد الأدنى من المقومات الإنسانية والقانونية». ويقول باحثون فلسطينيون ان المقابر الاربع التي كشف عنها خلال السنوات الاخيرة، تقع داخل أراضي عام 1948. وهي مقبرة جسر «بنات يعقوب» التي تقع في منطقة عسكرية عند ملتقى حدود فلسطين ولبنان وسورية، وتضم رفات مئات الفلسطينيين واللبنانيين الذين قتلوا في حرب 1982 وما بعد ذلك وفيها قرابة 500 قبر، ومقبرة «بير المكسور» او «جسر دامية» التي تقع في منطقة عسكرية مغلقة بين أريحا وغور الأردن، ويحيط بها جدار فيه بوابة حديدية معلق عليها لافتة كبيرة كتب عليها بالعبرية «مقبرة لضحايا العدو»، ويوجد فيها أكثر من 100 قبر. ومقبرة «ريفيديم» بغور الأردن، ومقبرة «شحيطة» في قرية وادي الحمام شمالطبريا، وبالتحديد في سفح الجبل الذي شهد معركة حطين. واجبر الجيش الاسرائيلي اهالي قرى قريبة من هذه المقابر على دفن جثامين «الشهداء» بالكشف عنها، إلا انه لم يسمح لهم بمعرفة هوية الجثث او من اين اتت. وقال عبد الناصر فروانه، الباحث في شؤون الاسرى ومدير دائرة الاحصاء في وزارة شؤون الاسرى، لـ«الشرق الاوسط»: «ان سياسة احتجاز جثامين الشهداء، اصبحت جزءاً أساسياً من سياسة اسرائيل في تعاملها مع الفلسطينيين والعرب، فهي الوحيدة في العالم التي تعاقب الإنسان بعد موته، من خلال احتجاز جثته بالثلاجات لفترة من الزمن قد تمتد لسنوات، أو دفنه في ما يسمى مقابر الأرقام الجماعية». ويرى فروانه «ان إسرائيل تتعمد معاقبة الشهداء بعد موتهم، ومضاعفة آلام وأحزان ذويهم، وحرمانهم من إكرام شهدائهم ودفنهم وفقاً للشريعة الإسلامية، وأحياناً أخرى تستخدم هذه الجثامين ورقة للمساومة والابتزاز». وقال في دراسة ارسلها لـ«الشرق الاوسط»: إن احتجاز جثامين الشهداء لا يقتصر على منفذي العمليات ضد اسرائيل، أو من قتلوا خلال اشتباكات مسلحة، بل تحتجز قوات الاحتلال الإسرائيلي أيضاً جثامين عدد من القتلى الذين اغتالتهم وحداتها الخاصة، أو ممن توفوا في السجون الإسرائيلية، وتلك الجثث تُحتجز في ثلاجات، أوفي مقابر سرية تقع في مناطق عسكرية مغلقة ويمنع زيارتها أو الاقتراب منها أو حتى تصويرها، وهي خاضعة لسيطرة الجيش ووزارة الدفاع، وأن هذه المقابر تزدحم بعشرات الأضرحة، وهي عبارة عن مدافن بسيطة أحيطت بالحجارة بدون شواهد، ومثبت فوقها لوحات معدنية تحمل أرقاماً بعضها تلاشى بشكل كامل، وهي غير معدة بشكل ديني وإنساني، إذ أن كل شهيد يحمل رقماً معيناً، ولذا سُميت بمقابر الأرقام لأنها تتخذ من الأرقام أسماء للشهداء، ولكل رقم ملف خاص تحتفظ به الجهة الأمنية المسؤولة ويشمل المعلومات والبيانات الخاصة بكل شهيد، وتلك المقابر تضم أرشيفاً طويلاً وتتسع للمزيد وقابلة للتوسع». ويؤكد فروانه «أن إسرائيل لجأت للعديد من المبررات لمواصلة احتجازها للجثامين، فتارة تدعي بأنها تحتجز الجثامين إلى حين الانتهاء من تشخيصها، وتارة أخرى تدعي أنها تحتجزها للفحص، في حين أن ادعاءاتها باطلة، لأن التشخيص والفحص لا يتطلبان احتجاز الجثامين لسنوات عدة». وتطرق فروانه الى حالات قال فيها ان اسرائيل تشترط الإفراج عن الجثث مقابل تلبية شروط معينة، «فمثلاً تحتجز جثتي الشهيدين محمد فروانة وحامد الرنتيسي، اللذين استشهدا في عملية «الوهم المتبدد» وتربط الإفراج عنهما بالإفراج عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، وأن الأمر ذاته ينطبق على احتجاز جثث شهداء حزب الله في حرب يوليو (تموز) من العام الماضي».
وبحسب الدراسة، فان هناك ترابطا وثيقا بين السجون السرية الإسرائيلية ومقابر الأرقام السرية، وإن عشرات بل مئات الأسرى الفلسطينيين والعرب الذين اختفوا منذ سنوات واعتبروا في تعداد المفقودين، إما أن يكونوا قد اختفوا في السجون السرية وإما يقضون حكماً بالسجن لسنوات في ثلاجات الموتى، وإما دفنوا في مقابر الأرقام السرية وللأبد». وبرغم مرور 6 سنوات على تنفيذ ايات عملية فدائية في اسرائيل، لا زال والدها يمني النفس بمعرفة مكان ابنته. وفي أيِّ مقبرة دفنت وما هي، وما هي الهيئة التي دفنت عليها. ولم يترك الرجل بابا إلا وطرقه. وحتى التقته «الشرق الاوسط»، كان قد توجه الى عشرات مؤسسات حقوق انسان فلسطينية واسرائيلية ودولية. وقال «لا احد استطاع ان يحصل على معلومة واحدة». واضاف «حتى اعضاء كنيست اهتموا بجثمان ابنتي، وتابعوا لدى وزارة الدفاع الاسرائيلية ولم يحصلوا على اجوبة». ويحمل والد آيات بشدة على السلطة الفلسطينية، «التي لا تحرك ساكنا ولا تطالب حتى بإنهاء هذا الملف». وقال «انهم يطالبون بالاسرى الاحياء فقط، نحن نريد الاسرى الشهداء». واستدرك يقول بعد تنهيدة طويلة «انهم (السلطة) ايضا اسرى للاحتلال.. الكل اسير». ويقر قراقع بتقصير السلطة في متابعة هذا الملف وتشكيل لجنة قانونية لمحاكمة اسرائيل، لكنه يقول ان الدول العربية ايضا مقصرة، اذ تحتجز اسرائيل جثامين لمقاتلين عرب. ويطالب قراقع بلجنة دولية لمحاكمة اسرائيل على ارتكابها «جرائم حرب»، قائلا «إن هذا مخالف للقانون الدولي الانساني الذي يعتبر الاختفاء القصري جريمة حرب». ويعتقد اهالي «الشهداء الاسرى» كما يحلو للفلسطينيين تسميتهم، ان جثامين ابنائهم مجهولة المكان، عرضة لتنهشها الكلاب الضارية والوحوش والطيور، في مقابر غير معروفة العدد، اذ يدفنهم الجيش الاسرائيلي، بحسب الشهادات، في حفرة لا تتجاوز 60 سنتيمترا، بحيث يلف الجثمان بغطاء يحمل شعار وزارة الصحة الاسرائيلية، او بكيس بلاستيكي اسود، ويتم الدفن دون وجود عازل بين الجثمان والتراب».
وتحتفظ سجلات «جمعية أصدقاء المعتقل والسجين» في الناصرة، بشهادات مهمة ادلى بها سكان ورعاة اغنام من قرى قريبة لمقابر الارقام. وقال احدهم إنه شاهد جنود الجيش الاسرائيلي عام 1982 يدفنون مئات القتلى والجرحى الأحياء في مدافن جماعية داخل مقبرة «جسر بنات يعقوب». ونقلت الجمعية عن أحد سكان قرية «وادي الحمام»، ان الجيش استخدم جانباً من مقبرة القرية، لدفن «شهداء العمليات العسكرية الفلسطينية» بدءاً من 1970، وحتى 1977. وقال الرجل العجوز، إنه دفن بيديه 16 مقاتلا من حركة «فتح» استشهدوا في معركة «عين البيضاء» عام 1970، كما دفن امرأة سورية قتلها جنود الاحتلال عندما ضلت الطريق، وهي تجمع نباتا، في هضبة الجولان عام 1975. ويبدي الفلسطينيون قلقا كذلك، من سرقة اعضاء قتلاهم، واستخدامها في معالجة اسرائيليين. إلا ان «الطقوس المقدسة» في احترام ودفن «الشهداء» الذين تعيدهم اسرائيل لاحقا، او بعد ايام الى ذويهم يحول دون التحقق من سلامة اعضائهم. وقد شاهدت «الشرق الاوسط» صورا لشهداء تم تخييط جثامينهم بطريقة توحي بانه تم شق الجثمان كاملا، وقال اهالي شهداء من الانتفاضة الاولى لـ«الشرق الاوسط» انهم تسلموا جثامين لأبنائهم بدون اعين او اعضاء داخلية، الا انه لم يتم توثيق ذلك بالطريقة التي يمكن ان تدين الاحتلال، اذ يمنع الفلسطينيون العبث او اعادة تشريح جثمان الشهيد لاعتبارات دينية. وبلهفة كبيرة تنتظر امهات «الشهداء الاسرى»، عودة اي قطعة من اجساد ابنائهن. وفي غزة قالت والدة «الشهيد» محمود زهير سالم من جباليا منفذ عملية ميناء أسدود البحرية ، في مارس (آذار) 2003 للصحافيين بعد صفقة حزب الله مع الاسرائيليين «اعيدوا لي ذراعه، او قدمه، او أي قطعة من جسده، احب أن اقرأ عليها السلام وأهديها التحية وأدفنها في قبر قريب». واضافت بلهفة الأم «أعلم أن جسده قد تحلل بعضه، وقد اكلته الكلاب الضارية والوحوش ولكن أرغب أن أزوره في قبر قريب واحتضن التراب الذي يحميه». وبالبكاء المر تحدثت لـ«الشرق الاوسط» ام فيصل، والدة خميس جروان الذي نفذ عملية ضد اسرائيل عام 2003 وقالت، «انا مشتاقة لابني». وبرغم انها اكدت انها تحتسبه عند الله، واينما دفن فتلك فلسطين، إلا ان روح ام فيصل لا تهدأ بانتظار ان تحتضن جثمان ابنها. اما والده فقال ان كل محاولاته لاستعادة ابنه، باءت بالفشل، الا انه يتمنى ان يلتقي ابنه مجددا، وإن كان مجرد اشلاء. وفتحت صفقة حزب الله التي سيتسلم الحزب بموجبها عشرات «الجثامين» لفلسطينيين وعرب، الجرح الفلسطيني عميقاً. وقال الاخرس «انا بانتظار ابنتي وان لم يفرجوا عنها هذه المرة، فانا بانتظار ابنتي الاخرى» (دلال المغربي). وتتحول دلال المغربي، في الاراضي الفلسطينية مجددا الى رمز، يشبه طائر الفينيق الذي ينبعث من تحت الركام. وبدأت حركة فتح التي تنتمي لها دلال بالتجهيز لجنازات مهيبة لدلال ورفاقها في كل المدن الفلسطينية، وطالبت السلطة الفلسطينية بدفن جثامين «الشهداء الفلسطينيين» في رام الله. وتقدمت بطلب رسمي لاسرائيل، ومن غير المعروف ما اذا كانت اسرائيل ستسمح بذلك، اذ تخشى من ان تتحول مقابر هؤلاء الى مزارات ورموز. وفي الوقت الذي يحتفي فيه الفلسطينيون بتحرير دلال، شابة فلسطينية ولدت عام 1958 في أحد مخيمات بيروت لأسرة من يافا ولجأت إلى لبنان عقب نكبة عام 1948، بعد 30 عاما على رحيلها. قالت صحيفة «يديعوت احرنوت» الاسرائليية، اكبر الصحف انتشارا في اسرائيل ان «عروس يافا.. دلال المغربي في طريقها للحرية». وتحت هذا العنوان بالضبط كتب الصحافي الاسرائيلي روني شكيد «الشارع الفلسطيني ينتظر عودة دلال منفذة العملية الاخطر والاقسى في تاريخ الدولة بفارغ الصبر». وتطرقت «يديعوت احرنوت» الى تفاصيل عملية الساحل التي نفذتها دلال، قائلة انها العملية الاقسى في التاريخ الاسرائيلي، وانها حصدت 35 قتيلا اسرائيلياً وعشرات الجرحى كان معظمهم في الحافلة التي سيطرت عليها مجموعة دلال يوم السبت الموافق 11/3/1978. وعرفت العملية التي نفذتها دلال مع مجموعة من المقاتلين الفلسطينيين باسم عملية كمال عدوان، وهو القائد الفلسطيني، الذي قتل مع كمال ناصر والنجار في بيروت. وكان ايهود باراك رئيسا للفرقة التي تسللت آنذاك إلى بيروت وقتلتهم في بيوتهم في شارع السادات قلب بيروت. أما اسم الفرقة التي قادتها دلال المغربي فعرفت باسم فرقة دير ياسين.
في صباح يوم 11 مارس 1978، نزلت دلال مع فرقتها من قارب كان يمر أمام الساحل الفلسطيني، واستقلت مع مجموعتها قاربين مطاطيين ليوصلهما إلى الشاطئ في منطقة غير مأهولة ونجحت عملية الإنزال والوصول إلى الشاطئ. نجحت دلال وفرقتها في الوصول إلى الشارع العام المتجه نحو تل أبيب، وقامت بالاستيلاء على حافلة إسرائيلية بجميع ركابها من الجنود كانت متجهة إلى تل أبيب حيث اتخذتهم كرهائن واتجهت بالحافلة نحو تل أبيب وكانت تطلق خلال الرحلة النيران مع فرقتها على جميع السيارات العسكرية التي تمر بقربها مما أوقع مئات الإصابات في صفوف جنود الاحتلال، خاصة ان الطريق الذي سارت فيه دلال كانت تستخدمه السيارات العسكرية لنقل الجنود من المستعمرات الاسرائيلية في الضواحي إلى العاصمة تل أبيب. بعد ساعتين من النزول على الشاطئ، وبسبب كثرة الإصابات بصفوف الجنود وبعد أن أصبحت دلال على مشارف تل أبيب كلفت الحكومة الإسرائيلية فرقة خاصة من الجيش يقودها باراك بإيقاف الحافلة وقتل واعتقال ركابها من الفلسطينيين. فقامت وحدات كبيرة من الدبابات وطائرات الهليوكوبتر برئاسة باراك بملاحقة الحافلة إلى أن تم إيقافها وتعطيلها قرب مستعمرة هرتسليا. وهناك اندلعت حرب حقيقية بين دلال والقوات الإسرائيلية حيث فجرت دلال الحافلة بركابها الجنود فقتلوا جميعاً. ولما فرغت الذخيرة من دلال وفرقتها أمر باراك بحصد الجميع بالرشاشات فقتلوا كلهم. وتركت دلال المغربي، التي صُوِّرَ باراك وهو يشد شعرها وجثتها أمام المصورين الاسرائيليين بعد العملية، وصية تطلب فيها بدفنها في فلسطين، فهل تسلم الى عائلتها بعد غياب 30 عاماً؟
وبحسب الدراسة، فان هناك ترابطا وثيقا بين السجون السرية الإسرائيلية ومقابر الأرقام السرية، وإن عشرات بل مئات الأسرى الفلسطينيين والعرب الذين اختفوا منذ سنوات واعتبروا في تعداد المفقودين، إما أن يكونوا قد اختفوا في السجون السرية وإما يقضون حكماً بالسجن لسنوات في ثلاجات الموتى، وإما دفنوا في مقابر الأرقام السرية وللأبد». وبرغم مرور 6 سنوات على تنفيذ ايات عملية فدائية في اسرائيل، لا زال والدها يمني النفس بمعرفة مكان ابنته. وفي أيِّ مقبرة دفنت وما هي، وما هي الهيئة التي دفنت عليها. ولم يترك الرجل بابا إلا وطرقه. وحتى التقته «الشرق الاوسط»، كان قد توجه الى عشرات مؤسسات حقوق انسان فلسطينية واسرائيلية ودولية. وقال «لا احد استطاع ان يحصل على معلومة واحدة». واضاف «حتى اعضاء كنيست اهتموا بجثمان ابنتي، وتابعوا لدى وزارة الدفاع الاسرائيلية ولم يحصلوا على اجوبة». ويحمل والد آيات بشدة على السلطة الفلسطينية، «التي لا تحرك ساكنا ولا تطالب حتى بإنهاء هذا الملف». وقال «انهم يطالبون بالاسرى الاحياء فقط، نحن نريد الاسرى الشهداء». واستدرك يقول بعد تنهيدة طويلة «انهم (السلطة) ايضا اسرى للاحتلال.. الكل اسير». ويقر قراقع بتقصير السلطة في متابعة هذا الملف وتشكيل لجنة قانونية لمحاكمة اسرائيل، لكنه يقول ان الدول العربية ايضا مقصرة، اذ تحتجز اسرائيل جثامين لمقاتلين عرب. ويطالب قراقع بلجنة دولية لمحاكمة اسرائيل على ارتكابها «جرائم حرب»، قائلا «إن هذا مخالف للقانون الدولي الانساني الذي يعتبر الاختفاء القصري جريمة حرب». ويعتقد اهالي «الشهداء الاسرى» كما يحلو للفلسطينيين تسميتهم، ان جثامين ابنائهم مجهولة المكان، عرضة لتنهشها الكلاب الضارية والوحوش والطيور، في مقابر غير معروفة العدد، اذ يدفنهم الجيش الاسرائيلي، بحسب الشهادات، في حفرة لا تتجاوز 60 سنتيمترا، بحيث يلف الجثمان بغطاء يحمل شعار وزارة الصحة الاسرائيلية، او بكيس بلاستيكي اسود، ويتم الدفن دون وجود عازل بين الجثمان والتراب».
وتحتفظ سجلات «جمعية أصدقاء المعتقل والسجين» في الناصرة، بشهادات مهمة ادلى بها سكان ورعاة اغنام من قرى قريبة لمقابر الارقام. وقال احدهم إنه شاهد جنود الجيش الاسرائيلي عام 1982 يدفنون مئات القتلى والجرحى الأحياء في مدافن جماعية داخل مقبرة «جسر بنات يعقوب». ونقلت الجمعية عن أحد سكان قرية «وادي الحمام»، ان الجيش استخدم جانباً من مقبرة القرية، لدفن «شهداء العمليات العسكرية الفلسطينية» بدءاً من 1970، وحتى 1977. وقال الرجل العجوز، إنه دفن بيديه 16 مقاتلا من حركة «فتح» استشهدوا في معركة «عين البيضاء» عام 1970، كما دفن امرأة سورية قتلها جنود الاحتلال عندما ضلت الطريق، وهي تجمع نباتا، في هضبة الجولان عام 1975. ويبدي الفلسطينيون قلقا كذلك، من سرقة اعضاء قتلاهم، واستخدامها في معالجة اسرائيليين. إلا ان «الطقوس المقدسة» في احترام ودفن «الشهداء» الذين تعيدهم اسرائيل لاحقا، او بعد ايام الى ذويهم يحول دون التحقق من سلامة اعضائهم. وقد شاهدت «الشرق الاوسط» صورا لشهداء تم تخييط جثامينهم بطريقة توحي بانه تم شق الجثمان كاملا، وقال اهالي شهداء من الانتفاضة الاولى لـ«الشرق الاوسط» انهم تسلموا جثامين لأبنائهم بدون اعين او اعضاء داخلية، الا انه لم يتم توثيق ذلك بالطريقة التي يمكن ان تدين الاحتلال، اذ يمنع الفلسطينيون العبث او اعادة تشريح جثمان الشهيد لاعتبارات دينية. وبلهفة كبيرة تنتظر امهات «الشهداء الاسرى»، عودة اي قطعة من اجساد ابنائهن. وفي غزة قالت والدة «الشهيد» محمود زهير سالم من جباليا منفذ عملية ميناء أسدود البحرية ، في مارس (آذار) 2003 للصحافيين بعد صفقة حزب الله مع الاسرائيليين «اعيدوا لي ذراعه، او قدمه، او أي قطعة من جسده، احب أن اقرأ عليها السلام وأهديها التحية وأدفنها في قبر قريب». واضافت بلهفة الأم «أعلم أن جسده قد تحلل بعضه، وقد اكلته الكلاب الضارية والوحوش ولكن أرغب أن أزوره في قبر قريب واحتضن التراب الذي يحميه». وبالبكاء المر تحدثت لـ«الشرق الاوسط» ام فيصل، والدة خميس جروان الذي نفذ عملية ضد اسرائيل عام 2003 وقالت، «انا مشتاقة لابني». وبرغم انها اكدت انها تحتسبه عند الله، واينما دفن فتلك فلسطين، إلا ان روح ام فيصل لا تهدأ بانتظار ان تحتضن جثمان ابنها. اما والده فقال ان كل محاولاته لاستعادة ابنه، باءت بالفشل، الا انه يتمنى ان يلتقي ابنه مجددا، وإن كان مجرد اشلاء. وفتحت صفقة حزب الله التي سيتسلم الحزب بموجبها عشرات «الجثامين» لفلسطينيين وعرب، الجرح الفلسطيني عميقاً. وقال الاخرس «انا بانتظار ابنتي وان لم يفرجوا عنها هذه المرة، فانا بانتظار ابنتي الاخرى» (دلال المغربي). وتتحول دلال المغربي، في الاراضي الفلسطينية مجددا الى رمز، يشبه طائر الفينيق الذي ينبعث من تحت الركام. وبدأت حركة فتح التي تنتمي لها دلال بالتجهيز لجنازات مهيبة لدلال ورفاقها في كل المدن الفلسطينية، وطالبت السلطة الفلسطينية بدفن جثامين «الشهداء الفلسطينيين» في رام الله. وتقدمت بطلب رسمي لاسرائيل، ومن غير المعروف ما اذا كانت اسرائيل ستسمح بذلك، اذ تخشى من ان تتحول مقابر هؤلاء الى مزارات ورموز. وفي الوقت الذي يحتفي فيه الفلسطينيون بتحرير دلال، شابة فلسطينية ولدت عام 1958 في أحد مخيمات بيروت لأسرة من يافا ولجأت إلى لبنان عقب نكبة عام 1948، بعد 30 عاما على رحيلها. قالت صحيفة «يديعوت احرنوت» الاسرائليية، اكبر الصحف انتشارا في اسرائيل ان «عروس يافا.. دلال المغربي في طريقها للحرية». وتحت هذا العنوان بالضبط كتب الصحافي الاسرائيلي روني شكيد «الشارع الفلسطيني ينتظر عودة دلال منفذة العملية الاخطر والاقسى في تاريخ الدولة بفارغ الصبر». وتطرقت «يديعوت احرنوت» الى تفاصيل عملية الساحل التي نفذتها دلال، قائلة انها العملية الاقسى في التاريخ الاسرائيلي، وانها حصدت 35 قتيلا اسرائيلياً وعشرات الجرحى كان معظمهم في الحافلة التي سيطرت عليها مجموعة دلال يوم السبت الموافق 11/3/1978. وعرفت العملية التي نفذتها دلال مع مجموعة من المقاتلين الفلسطينيين باسم عملية كمال عدوان، وهو القائد الفلسطيني، الذي قتل مع كمال ناصر والنجار في بيروت. وكان ايهود باراك رئيسا للفرقة التي تسللت آنذاك إلى بيروت وقتلتهم في بيوتهم في شارع السادات قلب بيروت. أما اسم الفرقة التي قادتها دلال المغربي فعرفت باسم فرقة دير ياسين.
في صباح يوم 11 مارس 1978، نزلت دلال مع فرقتها من قارب كان يمر أمام الساحل الفلسطيني، واستقلت مع مجموعتها قاربين مطاطيين ليوصلهما إلى الشاطئ في منطقة غير مأهولة ونجحت عملية الإنزال والوصول إلى الشاطئ. نجحت دلال وفرقتها في الوصول إلى الشارع العام المتجه نحو تل أبيب، وقامت بالاستيلاء على حافلة إسرائيلية بجميع ركابها من الجنود كانت متجهة إلى تل أبيب حيث اتخذتهم كرهائن واتجهت بالحافلة نحو تل أبيب وكانت تطلق خلال الرحلة النيران مع فرقتها على جميع السيارات العسكرية التي تمر بقربها مما أوقع مئات الإصابات في صفوف جنود الاحتلال، خاصة ان الطريق الذي سارت فيه دلال كانت تستخدمه السيارات العسكرية لنقل الجنود من المستعمرات الاسرائيلية في الضواحي إلى العاصمة تل أبيب. بعد ساعتين من النزول على الشاطئ، وبسبب كثرة الإصابات بصفوف الجنود وبعد أن أصبحت دلال على مشارف تل أبيب كلفت الحكومة الإسرائيلية فرقة خاصة من الجيش يقودها باراك بإيقاف الحافلة وقتل واعتقال ركابها من الفلسطينيين. فقامت وحدات كبيرة من الدبابات وطائرات الهليوكوبتر برئاسة باراك بملاحقة الحافلة إلى أن تم إيقافها وتعطيلها قرب مستعمرة هرتسليا. وهناك اندلعت حرب حقيقية بين دلال والقوات الإسرائيلية حيث فجرت دلال الحافلة بركابها الجنود فقتلوا جميعاً. ولما فرغت الذخيرة من دلال وفرقتها أمر باراك بحصد الجميع بالرشاشات فقتلوا كلهم. وتركت دلال المغربي، التي صُوِّرَ باراك وهو يشد شعرها وجثتها أمام المصورين الاسرائيليين بعد العملية، وصية تطلب فيها بدفنها في فلسطين، فهل تسلم الى عائلتها بعد غياب 30 عاماً؟
تعليق