استشهاد القادة سنة وقاعدة
أبو سعد ألعاملي
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وتنجلي الكربات ، القائل {ويتخذ منكم شهداء}، والصلاة والسلام على إمام المجاهدين القائل لوددت أني أجاهد فأُقتل ثم أجاهد فأُقتل ثم أجاهد فُقتل لما للشهيد من درجة عند الله، ثم اما بعد
فإن الله عز وجل خلق الخلق لعبادته، وجعل لهم سبلاً ووسائل لتحقيق هذه العبودية في أجل صورها وأكثرها نصاعة ونقاء وصفاء، وفرض على عباده عبادة الجهاد لإزالة كل المعوقات التي تقف دون تحقيق هذه العبودية، فيقول سبحانه {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}[الأنفال]، ولم يأمر الله عز وجل بممارسة الظلم خلال عملية الجهاد { وقاتلوا الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}[البقرة]، ولكنه في المقابل أمر ببدء القتال نصرة لدين الله عز وجل وهو ما يسمى بجهاد الطلب، وعدم الاكتفاء بجهاد الدفع وهو الدفاع عن حرمات الإسلام والمسلمين، فيقول{ وقاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن الله عزيز حكيم}[التوبة]
كتب عليكم القتال وهو كره لكم
نعم فالقتال كره للنفس ، فهي تود لو تُعمر ألف سنة، فيمني الانسان نفسه بأنه يحب الحياة ليُصلح وينشر الخير بين الناس، ويتمنى أن لا يُذكّره أحد بالموت خشية أن يُعكّر عليه صفاء ما يعيشه من نشوة الحياة.
وقد بين الله عز وجل هذه الحقيقة وهو خالق النفوس والخبير بها { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}[الملك]، فقال {كتب عليكم القتال وهو كره لكم }[البقرة]، وأعظم ما تخشاه النفس هو الموت وكل ما دونه يهون على النفس وبإمكانها أن تتحمله في حدود.
لكن الموت في عملية الجهاد ليس كالموت الذي يلاقيه المرء في حياته العادية، لأنه باب إلى الخلود في الجنة، وجسر يمر عليه المؤمن لكي يلقى أجراً وثواباً استثنائياً لا يمكن أن يجده في غيرها من العبادات التي فرضها عليه رب العزة.
القتال فرض على الأمة : جنود وقادة
لقد فرض الله القتال على عباده ليصونوا دينه وينشروا شريعته، وليس فقط من أجل الدفاع عن أنفسهم وأعراضهم وأموالهم كما يفهم البعض اليوم، حيث حصروا الجهاد في مفهوم ضيق ألا وهو جهاد الدفع، وهذا مخالف لنصوص الكتاب والسنة.
{إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون }[التوبة 111].
فالجهاد قد فرضه الله علينا شرعاً وهو في الوقت ذاته مفروض علينا واقعاً، حيث أن أعداءنا على الأبواب وهم يعيثون على أراضينا فساداً، ويذيقون أهالينا ذلاً وهواناً، فما ينبغي على عاقل فضلاً عن مؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر أن يقعد متفرجاً ممسكاً يده ولسانه عما يحدث من حوله، بل إن أقل الواجب أن ينهض مستجيباً لنداء ربه {انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم }، وتفادياً لتحذير ربه جل وعلا {ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } [التوبة 38].
الشهادة هي أسمى غاية
كل الناس يموتون عاجلاً أم آجلاً وتتعدد أسباب الموت، وهذه حقيقة نعيشها في كل لحظة ولكننا نغفل عنها ولا يعيها إلا من رحم الله، لذلك ترى الذين فهموا وفقهوا حقيقة الموت يحرصون أن يكون موتهم متميزاً وفريداً ، فهم يريدون أن يكون باباً للشرف والرفعة في الدنيا والآخرة.
فالمؤمن يبتغي النصر والفتح والتمكين لدينه، ويتمنى أن يعيش في ظل دولة الخلافة الراشدة التي تُحكّم شريعة الرحمن، وإذا لم يتمكن من تحقيق ذلك فإن بغيته الثانية هي أن ينال شهادة في سبيل الله كدليل يجسد نيته الأولى وينال على ذلك رضا الله وثواباً في الآخرة لا يناله غير الشهداء.
إنه استشهاد أو شهادة في سبيل الله، وهي الموتة التي يتمناها الأنبياء والمرسلون، وعلى رأسهم سيد المرسلين محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وكان يجسد هذه المنية بخروجه بنفسه في أغلب الغزوات التي خاضها المسلمون مع الأعداء.
والمجاهد حينما يخرج للجهاد فإنه يودع الدنيا بأكملها ويقطع كل الروابط والأواصر التي يمكن أن تمنعه وتكبله ، فلا غاية له سوى الشهادة في سبيل الله .
القادة جنود قبل أن يكونوا قادة
المؤمن يسعى في الأساس إلى مرضاة ربه فيحرص على تقديم الأعمال التي تقربه إلى الله والابتعاد عن النواهي والمحرمات، ولا يهمه على أي ثغر تحقق ذلك، حسبه أن يكون حيث أمره الله وأن لا يكون حيث نهاه.
من هنا فقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام على نبذ الذات وتحطيم حظوظ النفس من الدنيا والرياء وحب الظهور، فنرى ذلك جلياً في طريقة التربية التي كان يعتمدها رسولنا الكريم مع الصحابة رغم اختلاف مستوياتهم الإيمانية، وكان يحرص صلى الله عليه وسلم أشد الحرص على أن تكون أعمال أصحابه خالصة لله عز وجل لكي تثبت أجورهم عند الله.
فمرة يعين صحابياً قائداً في مهمة أو سرية أو غزوة، ومرات يبقيه جندياً عادياً تحت إمرة صحابي آخر، وهكذا كان يصنع مع بقية الصحابة لكي يعلمهم الإخلاص وعدم التعلق بالمناصب.
وفي المقابل كان هؤلاء الصحابة ينفذون أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام في طاعة كاملة بل إنهم يهربون من المسؤولية ويعتبرونها مصيبة على رؤوسهم.
وحتى في الجماعات الجهادية المعاصرة وعلى رأسها قاعدة الجهاد نجد هذه النماذج الفريدة حيث ترى تسابق الإخوة الى تلبية أوامر القادة بعيداً عن كل مظاهر الرياء والظهور،وحتى وهم في مواقع المسؤولية لا تكاد تفرق بينهم وبين إخوانهم في الصف لكثرة تواضعهم ونكرانهم للذات وهدم لحظوظ النفس.
القادة أقرب إلى العدو من جنودهم
في العرف الاسلامي هناك قاعدة تختلف عن القواعد الجاهلية بخصوص تعامل القادة مع جنودهم وكذلك فيما يخص تصرفات وتحركات هؤلاء القادة أثناء فترات السلم والحرب على حد سواء، ففي الوقت الذي نجد فيه القادة في التجمعات الجاهلية المادية محاطة بالكثير من الحراسة والهالات المصطنعة لكي تبقى دوماً في مقامات أعلى وأسمى في عيون أتباعهم وعيون أعدائهم على حد سواء، بينما حقيقتهم أقل وقيمتهم أدنى بكثير مما يحاولون إظهاره.
من هنا فإنهم يبقون بعيداً عن حمى المعارك وعن كل المخاطر، بينما في التجمعات الإيمانية وبخاصة الجهادية منها فإن هذه القاعدة مقلوبة ومعكوسة ويأبى القادة المسلمون إلا أن يكونوا في مقدمة الصفوف والأسبق الى التضحية والنفقة بالوقت والمال في سبيل نصرة الدين.
وهذه سنة قائمة منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى تقوم الساعة في كل التجمعات الإيمانية، قادة يتسابقون الى طاعة الله وخدمة أتباعهم أكثر مما يتسابق هؤلاء الجنود الى خدمة هؤلاء القادة.
فالقادة لابد أن يكونوا قدوة لمن حولهم وأول ما ينبغي القيام به هو تقدم الصفوف في السراء والضراء ليكون الجنود أكثر طاعة لهم وأحرص على التضحية.
فهناك القولة المعروفة التي نُسبت ألى أحد القادة المعاصرين ولعله الشيخ أبو أنس الشامي – تقبله الله - في بلاد الرافدين : كن أمامي تكن إمامي، إذ لابد للقادة أن يكونوا أول المنفذين لما يأمرون به أتباعهم {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} .
العدو يستهدف القادة أولاً
{وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك...} [الأنفال ]، وهذه حقيقة قرآنية نجد لها تطبيقاً على أرض الواقع، إذ أن الأعداء يسخرون جهداً كبيراً ووسائل عديدة للوصول إلى القادة إما لتصفيتهم جسدياً أو اعتقالهم أو في أضعف الحالات حصارهم أو تهجيرهم للحد من تحركاتهم.
هذه هي الحالة التي يعيشها قادة الجهاد في كل مكان في هذه المرحلة من الصراع الدائر بيننا وبين أعدائنا، فما زلنا في مرحلة المخاض وتأسيس اللبنات الأساسية للدولة الإسلامية او للخلافة الراشدة ، ومن الطبيعي جداً أن يتواجد القادة وكذا الجنود في هذا الوضع غير المريح ظاهراً ولكنه إيجابي جداً لمستقبل الجهاد، حيث أن هذه الحالة تحتم يقظة كاملة وأخذاً بكل الأسباب من قبل المجاهدين، بخلاف حالة الرخاء التي تكون فيها الهمم هابطة جداً وتنخفض فيها درجة الحذر الى أدنى مستوياتها كما أن أبواب الاحتواء تكون مفتوحة على مصراعيها.
فالشدة والحصار والضيق من نعم الله عز وجل على عباده المجاهدين حتى تبقى نفوسهم يقظة وهممهم عالية ودرجة الحذر في أعلى مستوياتها وهذا من أهم أسباب النصر وتفادي الهزيمة .
قادتنا مستهدفون أكثر من غيرهم وهم بدورهم يفقهون هذه الحقيقة ويتحركون على أساسها فلا يتركون سبباً من أسباب القوة إلا واتخذوه ولا ثغرة إلا وسدوها تقرباً إلى الله تعالى ،وبعد هذا كله إذا جاء الابتلاء فسيكون قدراً من عند الله لابد من قبوله والإيمان به بل والرضا به.
استشهاد القادة قوة للجهاد
ومن هنا يتبين لنا جلياً أن من حكمة الله تعالى في هذا الدين ضرورة دفع الثمن والنفقة في سبيل الله بالأموال والأنفس ، وليس هناك أغلى ما يقدمه المؤمن لربه من نفسه التي بين جنبيه وبها ينال أعلى الدرجات وأسمى المقامات ، {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، فسواء بالنسبة للفرد المجاهد أو للجماعة المجاهدة فإنه لابد من التضحية لنقدم البرهان على صدق الإيمان من جهة، ولنيل الجزاء والأجر المنتظر من جهة أخرى.
{يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم، وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين} [الصف 12-13]، فإن النصر المبين والفتح القريب الذي ينتظره المؤمنون لايمكن أن يتحقق بغير الشهادة، وبخاصة شهادة القادة وهو أمر مخالف لمنطق العقل إذ كيف يمكن التحدث عن نصر وتمكين بغياب القيادات المجاهدة التي ستقود الجماعة المجاهدة لتحقيق النصر ولما بعد النصر ؟
ولكن في عالم الجهاد تختلف هذه القاعدة فتكون القيادات الحاضرة مجرد جسر يمر عليها جنود الحق ووقود لابد منه سرعان ما ينتج عنه ظهور قيادات جديدة تكون أشد فتكاً وأكثر علماً من سابقاتها، لأنها جمعت علم وتجارب من سبقها إلى علمها وتجاربها هي وهي بلاشك نقطة قوة للتجمع الجهادي وضمان لاستمرار المسيرة الجهادية.
وبهذا يتحقق النفع للشهداء الذين قضوا نحبهم بحيث ينالون ما جاهدوا من أجله وهو الشهادة وفي الوقت ذاته يتحقق للتجمع الجهادي تلك القوة والصمود والاستمرارية وتنهار أحلام الأعداء التي كانوا ينتظرون تحقيقها بسبب استشهاد هؤلاء القادة، لان التجمع الجهادي يكسب قوة وتجربة ولاتنال منه رياح فقدان القادة شيئاً.
هذه هي حقيقة الشهادة في ميزان الله ، والقوة الذاتية العجيبة التي يكسبها التجمع الجهادي بانتقال قادتهم إلى العالم الأخروي تاركين وراءهم كنوزاً من التجارب تنير الطريق لمن بعدهم وتحرق آمال وقلوب أعدائهم.
ولن تتوقف هذه السنة ولن تتغير مادامت السماوات والأرض، وما دام الصراع بين الحق والباطل {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
تعليق