http://drakramhijazi.maktoobblog.com/?post=243004
في أعقاب خطاب النعي للظواهري:
حماس ولحظة الحقيقة
أحدث خطاب الظواهري "فلسطين شأننا وشأن كل مسلم" الذي وجهه بتاريخ (12 / 3 /2007) إلى حركة حماس ما يمكن وصفه، بامتياز، بالزلزال الذي ضرب بعنف غير مسبوق صفوف الحركة وأفقدها بعض من رباطة الجأش التي اعتادت عليها. فبعد سلسلة من الخطابات التي تعرض فيها الظواهري للشأن الفلسطيني تضمنت نصائح وتوجيهات عدة لحماس بوجوب الرجوع عن الطريق السياسي الذي تسير فيه انفجر الظواهري غاضبا وحانقا على الحركة قائلا: " يؤسفني أن أواجه الأمة المسلمة بالحقيقة فأقول لها:عظم الله أجرك في قيادة حماس فقد سقطت في مستنقع الاستسلام ... لحقت قيادة حماس أخيرا بقطار السادات للذل والاستذلال، باعت قيادة حماس فلسطين، وباعت قبلها التحاكم للشريعة، باعت كل هذا، من أجل أن يسمح لها بالاحتفاظ بثلث الحكومة".
هذه الكلمات من القوة لدرجة أن الخطاب ذاته يكاد يكون الأقوى للقاعدة وللظواهري خاصة بعد خطاب القسم الشهير لبن لادن في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر. كما أنه الخطاب الأول والفريد من نوعه الذي يوجَّه إلى جماعة سياسية فلسطينية مسلحة من خارج الإطار الفلسطيني ويحمل في طياته اتهاما صريحا بالتفريط بفلسطين، وهو اتهام لم تتعرض له أية جماعة فلسطينية منذ اغتصاب فلسطين. فهل يحق للظواهري أن يكون بهذه القسوة بحيث ينعى جماعة إسلامية مسلحة قدمت قيادتها وخيرة أعضائها شهداء على مذبح فلسطين والأمة العربية؟
أحسب أن المقالة موضع النظر ستتبعها سلسلة من المقالات ستكون مهمتها فقط النظر في تداعيات خطاب الظواهري على الشأن الفلسطيني وتركيبته المقاتلة. ولكن لتكن البداية في محاولة التعرف على خلفيات الخطاب أو الأسس التي استند عليها في نعي حركة حماس ثم نتناول ردود الفعل على الخطاب من قبل الحركة ومناصريها، وأخيرا نتطرق إلى الجانب الأهم من المقالة والمتعلق بتداعيات الخطاب على مجمل النضال الفلسطيني.
أولا: مبررات الخطاب
من المفترض ألا يكون خطاب الظواهري مفاجئا لحركة حماس التي تقول أنها لم تعترض على الخطاب إلا بسبب صيغته التهجمية والتخوينية التي تتهمها ببيع فلسطين والتفريط بها في وقت هي أحوج ما يكون إلى النصرة والمؤازرة. وحقيقة فالكثير من هذا الطرف أو ذاك عبر عن غضبه أو عتبه على صاحب الخطاب ومضمونه. فهو يأتي في وقت تتعرض فيه حماس والشعب الفلسطيني لحصار ظالم غير مسبوق في تاريخ الكفاح العالمي. فإذا بالطعنة تأتي من الخلف فيصدق المثل على الظواهري والقاعدة "وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند".
والواقع أن الخطاب سبقته عدة تحذيرات وتنبيهات ونصائح لم تلق آذانا صاغية من قيادة حماس. وتلك هي الطامة الكبرى في عقليتها. فالظواهري لم يأت أصلا بجديد لولا أن المس بقيادة الحركة جاء من جماعة تسود العالم الإسلامي وتشغل بال الرأي العام في العالم أجمع وهي تصول وتجول في الولايات المتحدة والعراق وأفغانستان وأوروبا وبعض الدول العربية وغيرها من ساحات المواجهة المباشرة متحدية أعتى القوى العالمية ومفضلة المطاردة وحياة الكهوف والجحور، كما يقول بعض أنصار حماس، وتعاني من شظف العيش والخوف ونقص في الأموال والأنفس والثمرات. مثل هذه التوصيفات التي تعج بها المنتديات الجهادية يجعل من القاعدة جماعة ذات قيادة مستأمنة على مصالح الأمة برمتها بنظر الكثير من الناس ناهيك عن أعضائها وأنصارها ومحبيها. فمثل هذه الحياة القاسية يصعب النيل من أصحابها بكيل الاتهامات والشتائم لها. ويصعب مواجهتها بعصبية تنظيمية.
فمنذ أن قررت حماس دخول الحلبة السياسية عبر الانتخابات البلدية والمجلس التشريعي قيل لها أنها تدخل في مأزق وعلى أساس مؤسسات واتفاقات أوسلو وأنها بقرارها هذا ستمنح الشرعية لاتفاق سبق وتبرأت منه وحاربته بضراوة وأعلنت أن الدخول في أتونه باطل شرعا بحجة أن ما بني على باطل فهو باطل، وأنها ستتسبب بمشكلة فلسطينية لا يتمناها أحد، مثلما ستتسبب بخسارة في شعبيتها وهيبتها وعظم تاريخها وجهادها فما كان منها إلا مزيد من العزم والتبرير على "المشاركة في كل شي"! فقالوا لها دعي فتح تتحمل وزر أفعالها واستمري في المقاومة ولا تدخلي يا حماس مستنقعا قذرا لا يتلاءم وسمعتك؟ فكان الرد مزيدا من الإصرار على التحدي حتى لو جرت الانتخابات بدون القدس. ثم قالوا لها أنت وقعت في فخ الدعوة الأمريكية القاضية باستيعاب ما يسمى بـ "الإسلام المعتدل"، فكان الصمم يضرب الآذان. فحذروها من أنها ستتسبب بحرج حتى لمحبيها من العلمانيين والوطنيين والمستقلين ممن لا ينتمون لأي تنظيم والذين سيضطرون للدفاع عنها برغم الخطأ، فلم يسمع أحد من هؤلاء حمدا ولا شكورا. قالوا لها أن اللعب في الحلبة السياسية يعني أنك ستضطرين لاستعمال أدوات سياسية وبالتالي ستنجرين من حيث لا تدرين إلى أتون جذاب وقذر في الوقت نفسه مما يجردك حق الزعم بكونك جماعة إسلامية، فلن تستطيعي استعمال الأدوات الإسلامية في حلبة علمانية دولية متصهينة ولن يكون أمامك إلا اللعب بخيارات الخصم وطروحاته؟ ولكنك أسمعت لو ناديت حيا. فماذا كانت النتيجة؟
النتيجة الأقسى، بحسابات السياسة ومصطلحاتها، كانت في انقلاب الموازين رأسا على عقب فيما يتعلق في الصراع العربي الإسرائيلي، فقد تغولت اللجنة الرباعية الدولية مطالبة حماس بشروط لا يمكن أن تحلم بها إسرائيل ولا غيرها. وبات المطلوب من حماس وليس من إسرائيل الاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف والقبول بالاتفاقات الدولية الموقعة مع السلطة دون أن يترتب على إسرائيل أية مسؤولية أو مطلب. وعليه فالمجرم، قبل هذه الشروط، هو الشعب الفلسطيني الذي يستحق القتل والحصار والتجويع بوصفه المعتدي الغاصب وليس إسرائيل! أليست هذه عجيبة من عجائب الزمن؟ وكيف سيكون حال الشعب الفلسطيني لو اعترفت حماس بشروط العرب والعالم المتحضر؟
رغم اختراق إسرائيل للتهدئة عشرات المرات وما خلفته من مذابح ظلت حماس حريصة على استمرار الهدنة من جانبها بالتحديد. بل أن بعض المعلومات تقول أن خالد مشعل أعطى تطمينات للرئيس الروسي في زيارته الأخيرة بأن حماس لن تعود للعمل العسكري. وفيما يتعلق بالجندي الأسير جلعاد شاليط فحماس مفوضة بإجراء عملية تبادل عليه ولكنها ليست هي من يمسك بزمام الأمر، فهي لا تملك أية سلطة على الأسير، ولم تكن عملية الوهم المبدد قد خطط لها أو تمت بعلم من حماس ولا من غيرها. والحقيقة أن لغة الخطاب السياسي لحماس تغيرت كثيرا وباتت الحركة تستعمل عبارات لم يألفها عضو في الحركة ولا صحافي ولا مراقب ولا محلل. فبعد فوزها في الانتخابات التشريعية عقد خالد مشعل مؤتمرا صحفيا في دمشق سئل فيه عن موقف الحركة من التسوية السياسية فقال بالحرف الواحد: " لم يعرض علينا شيء، وحين يعرضوا علينا مشروعا ما سننظر في الأمر"، ثم تابع مشعل تصريحاته بأن" إسرائيل واقع مادي"، وقبله محمود الزهار حين تساءل أمام مراسل شبكة CNN وهو يوجه له سؤالا حول نية الحركة بالاعتراف بإسرائيل فقال: "عن أي إسرائيل تتحدث؟ أرني حدودها لأعرف بماذا أعترف".
أما على المستوى الداخلي فقد سحب أبو مازن صلاحيات رئيس الحكومة إسماعيل هنية من بين يديه وجرده من أهم السلطات على المعابر والقضاء وأجهزة الأمن والإعلام ولم يبق له صلاحية يعتد بها وسلطوا على وزير الداخلية سعيد صيام كل المجرمين والقتلة من الأجهزة الأمنية وعصابات الفلتان والقتل على الهوى. ودارت مماحكات بين الزهار وأبو اللطف على أحقية من يمثل فلسطين في المحافل العربية والدولية، واضطرت حماس ومحبوها ومناصروها إلى الدخول في مواجهات إعلامية للرد على هجمات عصبة أوسلو في حركة فتح، ثم ما لبثت عمليات التحشيد والاحتقان والاستقطاب أن أدخلت الشعب الفلسطيني في حالة يرثى لها بسبب الفلتان الأمني والصراعات الدموية وتدمير البنى والمؤسسات الوطنية واقتحام المساجد وشل حركة التعليم وشيوع ظاهرة التخوين والاتهامات المتبادلة والتعرض للإهانات من القريب والبعيد ومن العدو والصديق حتى انتهت هذه الكوارث كلها باتفاق مكة القاضي باحترام القرارات الدولية والشرعية العربية، بل والشروع بتشكيل حكومة وحدة وطنية على أساسها.
• وما يجري الآن بالذات هو صفقة على التسوية وليس فقط تشكيل حكومة وحدة وطنية، وتوسيع للهدنة بحيث تشمل الضفة الغربية، ومزيد من الغرق في مستنقع التسوية. وها هي حماس عادت لتحابي هذا وذاك بعيدا عن كل الكوارث والمآسي التي حلت بالشعب الفلسطيني. فهل كان فتح الباب لكافة قوى الأرض بالتدخل في الشأن الفلسطيني ومحاصرة الشعب وتجويعه وابتزازه ومواجهة عصبة من المجرمين بدلا من مواجهة حاجات الشعب الفلسطيني هو من المصالح العليا للشعب الفلسطيني؟ وهل الإعلان عن عدم تطبيق الشريعة الإسلامية لا بالقوة ولا بغير القوة هو في مصلحة حماس؟ قبل أن نتساءل عما إذا كان في مصلحة المقاومة أو الشعب؟ وهل من العدل أن تتسبب حماس بإثارة الرعب في نفوس الأمة من احتمال انزلاقها نحو الاعتراف بإسرائيل؟ ألا تدرك حماس أن اعترافها سيعني أننا كنا مخطئين ومجرمين بحق اليهود؟ وأننا زعمنا طوال آلاف السنين باطلا أن هذه الأرض لنا وهي في الحقيقة لليهود؟ ولماذا دخلت حماس حلبة صراع لم يرضاها أحد لها؟
لا أعتقد أن أحدا ينكر على حماس ما تعرضت له من ظلم وقهر، ويدرك الكثير من الناس أن نوايا حماس تجاه المجتمع الفلسطيني سليمة ولعلها مستأمنة أكثر من غيرها على مصالحه، إلا أنها، بموجب أدائها السياسي خلال عام من توليها الحكومة أثبتت أنها عبء على الشعب الفلسطيني وعبء على القضية وخطر على مستقبلها. فحماس اليوم تتحدث عن تسوية بحدود العام 1967 بشرط أن تقوم على الهدنة وليس الاعتراف بإسرائيل، وهي تمتنع عن تقديم ورقة الاعتراف خشية أن يؤول مصيرها إلى الإذلال كما حصل مع حركة فتح التي مُزقت شر ممزق، وبالتالي فهي لا يمكن أن تفرط بورقة قد تقضي عليها ما لم تنجز شيء ما تحاجج به الآخرين. ثم من قال أن تسوية بهدنة قد لا تنتهي باعتراف كما هو حال الدول العربية التي وقعت على اتفاقيات الهدنة مع إسرائيل سنة 1948 وها هي اليوم من أشد المدافعين عن وجود إسرائيل والاعتراف بها والشعب الفلسطيني يذبح يوميا أمام ناظري العالم أجمع؟ فماذا بقي على حماس غير التوقيع؟
أليس هذا هو السياق الذي يأتي به خطاب الظواهري. وهو سياق يحذر منه الظواهري قبل الوقوع فيه. فلم يكن الخطاب ليشمت في حماس ولا ليحرض عليها ولا ليمس جهادها ولا شهداءها، ولكن ليضع الأمور في نصابها، وأجزم أن الرسالة وصلت في الصميم وهو ما أثار ردود فعل هستيرية كما لو أن فضيحة انكشفت. ولم لا؟ فمن لم يستمع لنصائح الآخرين ولا يقيم لها وزنا سيأتي من يهز له عرشه ولو بعد حين. فإذا كانت حماس جماعة إسلامية فعليها أن تتصرف كذلك، وإذا كانت جماعة سياسية وطنية فعليها أيضا أن تتصرف كذلك، أما الأحسن لها فأن تعود إلى مصدر قوتها وقوة الشعب الفلسطيني، إلى المقاومة حيث بدأت فتكسب عزتها وتحمي شعبها وتحظى برعاية الأمة لها واحترامها وتحول دون الكثير من الأخطار التي باتت تهدد الشعب الفلسطيني.
لا شك أن للحديث بقية ..
في أعقاب خطاب النعي للظواهري:
حماس ولحظة الحقيقة
أحدث خطاب الظواهري "فلسطين شأننا وشأن كل مسلم" الذي وجهه بتاريخ (12 / 3 /2007) إلى حركة حماس ما يمكن وصفه، بامتياز، بالزلزال الذي ضرب بعنف غير مسبوق صفوف الحركة وأفقدها بعض من رباطة الجأش التي اعتادت عليها. فبعد سلسلة من الخطابات التي تعرض فيها الظواهري للشأن الفلسطيني تضمنت نصائح وتوجيهات عدة لحماس بوجوب الرجوع عن الطريق السياسي الذي تسير فيه انفجر الظواهري غاضبا وحانقا على الحركة قائلا: " يؤسفني أن أواجه الأمة المسلمة بالحقيقة فأقول لها:عظم الله أجرك في قيادة حماس فقد سقطت في مستنقع الاستسلام ... لحقت قيادة حماس أخيرا بقطار السادات للذل والاستذلال، باعت قيادة حماس فلسطين، وباعت قبلها التحاكم للشريعة، باعت كل هذا، من أجل أن يسمح لها بالاحتفاظ بثلث الحكومة".
هذه الكلمات من القوة لدرجة أن الخطاب ذاته يكاد يكون الأقوى للقاعدة وللظواهري خاصة بعد خطاب القسم الشهير لبن لادن في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر. كما أنه الخطاب الأول والفريد من نوعه الذي يوجَّه إلى جماعة سياسية فلسطينية مسلحة من خارج الإطار الفلسطيني ويحمل في طياته اتهاما صريحا بالتفريط بفلسطين، وهو اتهام لم تتعرض له أية جماعة فلسطينية منذ اغتصاب فلسطين. فهل يحق للظواهري أن يكون بهذه القسوة بحيث ينعى جماعة إسلامية مسلحة قدمت قيادتها وخيرة أعضائها شهداء على مذبح فلسطين والأمة العربية؟
أحسب أن المقالة موضع النظر ستتبعها سلسلة من المقالات ستكون مهمتها فقط النظر في تداعيات خطاب الظواهري على الشأن الفلسطيني وتركيبته المقاتلة. ولكن لتكن البداية في محاولة التعرف على خلفيات الخطاب أو الأسس التي استند عليها في نعي حركة حماس ثم نتناول ردود الفعل على الخطاب من قبل الحركة ومناصريها، وأخيرا نتطرق إلى الجانب الأهم من المقالة والمتعلق بتداعيات الخطاب على مجمل النضال الفلسطيني.
أولا: مبررات الخطاب
من المفترض ألا يكون خطاب الظواهري مفاجئا لحركة حماس التي تقول أنها لم تعترض على الخطاب إلا بسبب صيغته التهجمية والتخوينية التي تتهمها ببيع فلسطين والتفريط بها في وقت هي أحوج ما يكون إلى النصرة والمؤازرة. وحقيقة فالكثير من هذا الطرف أو ذاك عبر عن غضبه أو عتبه على صاحب الخطاب ومضمونه. فهو يأتي في وقت تتعرض فيه حماس والشعب الفلسطيني لحصار ظالم غير مسبوق في تاريخ الكفاح العالمي. فإذا بالطعنة تأتي من الخلف فيصدق المثل على الظواهري والقاعدة "وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند".
والواقع أن الخطاب سبقته عدة تحذيرات وتنبيهات ونصائح لم تلق آذانا صاغية من قيادة حماس. وتلك هي الطامة الكبرى في عقليتها. فالظواهري لم يأت أصلا بجديد لولا أن المس بقيادة الحركة جاء من جماعة تسود العالم الإسلامي وتشغل بال الرأي العام في العالم أجمع وهي تصول وتجول في الولايات المتحدة والعراق وأفغانستان وأوروبا وبعض الدول العربية وغيرها من ساحات المواجهة المباشرة متحدية أعتى القوى العالمية ومفضلة المطاردة وحياة الكهوف والجحور، كما يقول بعض أنصار حماس، وتعاني من شظف العيش والخوف ونقص في الأموال والأنفس والثمرات. مثل هذه التوصيفات التي تعج بها المنتديات الجهادية يجعل من القاعدة جماعة ذات قيادة مستأمنة على مصالح الأمة برمتها بنظر الكثير من الناس ناهيك عن أعضائها وأنصارها ومحبيها. فمثل هذه الحياة القاسية يصعب النيل من أصحابها بكيل الاتهامات والشتائم لها. ويصعب مواجهتها بعصبية تنظيمية.
فمنذ أن قررت حماس دخول الحلبة السياسية عبر الانتخابات البلدية والمجلس التشريعي قيل لها أنها تدخل في مأزق وعلى أساس مؤسسات واتفاقات أوسلو وأنها بقرارها هذا ستمنح الشرعية لاتفاق سبق وتبرأت منه وحاربته بضراوة وأعلنت أن الدخول في أتونه باطل شرعا بحجة أن ما بني على باطل فهو باطل، وأنها ستتسبب بمشكلة فلسطينية لا يتمناها أحد، مثلما ستتسبب بخسارة في شعبيتها وهيبتها وعظم تاريخها وجهادها فما كان منها إلا مزيد من العزم والتبرير على "المشاركة في كل شي"! فقالوا لها دعي فتح تتحمل وزر أفعالها واستمري في المقاومة ولا تدخلي يا حماس مستنقعا قذرا لا يتلاءم وسمعتك؟ فكان الرد مزيدا من الإصرار على التحدي حتى لو جرت الانتخابات بدون القدس. ثم قالوا لها أنت وقعت في فخ الدعوة الأمريكية القاضية باستيعاب ما يسمى بـ "الإسلام المعتدل"، فكان الصمم يضرب الآذان. فحذروها من أنها ستتسبب بحرج حتى لمحبيها من العلمانيين والوطنيين والمستقلين ممن لا ينتمون لأي تنظيم والذين سيضطرون للدفاع عنها برغم الخطأ، فلم يسمع أحد من هؤلاء حمدا ولا شكورا. قالوا لها أن اللعب في الحلبة السياسية يعني أنك ستضطرين لاستعمال أدوات سياسية وبالتالي ستنجرين من حيث لا تدرين إلى أتون جذاب وقذر في الوقت نفسه مما يجردك حق الزعم بكونك جماعة إسلامية، فلن تستطيعي استعمال الأدوات الإسلامية في حلبة علمانية دولية متصهينة ولن يكون أمامك إلا اللعب بخيارات الخصم وطروحاته؟ ولكنك أسمعت لو ناديت حيا. فماذا كانت النتيجة؟
النتيجة الأقسى، بحسابات السياسة ومصطلحاتها، كانت في انقلاب الموازين رأسا على عقب فيما يتعلق في الصراع العربي الإسرائيلي، فقد تغولت اللجنة الرباعية الدولية مطالبة حماس بشروط لا يمكن أن تحلم بها إسرائيل ولا غيرها. وبات المطلوب من حماس وليس من إسرائيل الاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف والقبول بالاتفاقات الدولية الموقعة مع السلطة دون أن يترتب على إسرائيل أية مسؤولية أو مطلب. وعليه فالمجرم، قبل هذه الشروط، هو الشعب الفلسطيني الذي يستحق القتل والحصار والتجويع بوصفه المعتدي الغاصب وليس إسرائيل! أليست هذه عجيبة من عجائب الزمن؟ وكيف سيكون حال الشعب الفلسطيني لو اعترفت حماس بشروط العرب والعالم المتحضر؟
رغم اختراق إسرائيل للتهدئة عشرات المرات وما خلفته من مذابح ظلت حماس حريصة على استمرار الهدنة من جانبها بالتحديد. بل أن بعض المعلومات تقول أن خالد مشعل أعطى تطمينات للرئيس الروسي في زيارته الأخيرة بأن حماس لن تعود للعمل العسكري. وفيما يتعلق بالجندي الأسير جلعاد شاليط فحماس مفوضة بإجراء عملية تبادل عليه ولكنها ليست هي من يمسك بزمام الأمر، فهي لا تملك أية سلطة على الأسير، ولم تكن عملية الوهم المبدد قد خطط لها أو تمت بعلم من حماس ولا من غيرها. والحقيقة أن لغة الخطاب السياسي لحماس تغيرت كثيرا وباتت الحركة تستعمل عبارات لم يألفها عضو في الحركة ولا صحافي ولا مراقب ولا محلل. فبعد فوزها في الانتخابات التشريعية عقد خالد مشعل مؤتمرا صحفيا في دمشق سئل فيه عن موقف الحركة من التسوية السياسية فقال بالحرف الواحد: " لم يعرض علينا شيء، وحين يعرضوا علينا مشروعا ما سننظر في الأمر"، ثم تابع مشعل تصريحاته بأن" إسرائيل واقع مادي"، وقبله محمود الزهار حين تساءل أمام مراسل شبكة CNN وهو يوجه له سؤالا حول نية الحركة بالاعتراف بإسرائيل فقال: "عن أي إسرائيل تتحدث؟ أرني حدودها لأعرف بماذا أعترف".
أما على المستوى الداخلي فقد سحب أبو مازن صلاحيات رئيس الحكومة إسماعيل هنية من بين يديه وجرده من أهم السلطات على المعابر والقضاء وأجهزة الأمن والإعلام ولم يبق له صلاحية يعتد بها وسلطوا على وزير الداخلية سعيد صيام كل المجرمين والقتلة من الأجهزة الأمنية وعصابات الفلتان والقتل على الهوى. ودارت مماحكات بين الزهار وأبو اللطف على أحقية من يمثل فلسطين في المحافل العربية والدولية، واضطرت حماس ومحبوها ومناصروها إلى الدخول في مواجهات إعلامية للرد على هجمات عصبة أوسلو في حركة فتح، ثم ما لبثت عمليات التحشيد والاحتقان والاستقطاب أن أدخلت الشعب الفلسطيني في حالة يرثى لها بسبب الفلتان الأمني والصراعات الدموية وتدمير البنى والمؤسسات الوطنية واقتحام المساجد وشل حركة التعليم وشيوع ظاهرة التخوين والاتهامات المتبادلة والتعرض للإهانات من القريب والبعيد ومن العدو والصديق حتى انتهت هذه الكوارث كلها باتفاق مكة القاضي باحترام القرارات الدولية والشرعية العربية، بل والشروع بتشكيل حكومة وحدة وطنية على أساسها.
• وما يجري الآن بالذات هو صفقة على التسوية وليس فقط تشكيل حكومة وحدة وطنية، وتوسيع للهدنة بحيث تشمل الضفة الغربية، ومزيد من الغرق في مستنقع التسوية. وها هي حماس عادت لتحابي هذا وذاك بعيدا عن كل الكوارث والمآسي التي حلت بالشعب الفلسطيني. فهل كان فتح الباب لكافة قوى الأرض بالتدخل في الشأن الفلسطيني ومحاصرة الشعب وتجويعه وابتزازه ومواجهة عصبة من المجرمين بدلا من مواجهة حاجات الشعب الفلسطيني هو من المصالح العليا للشعب الفلسطيني؟ وهل الإعلان عن عدم تطبيق الشريعة الإسلامية لا بالقوة ولا بغير القوة هو في مصلحة حماس؟ قبل أن نتساءل عما إذا كان في مصلحة المقاومة أو الشعب؟ وهل من العدل أن تتسبب حماس بإثارة الرعب في نفوس الأمة من احتمال انزلاقها نحو الاعتراف بإسرائيل؟ ألا تدرك حماس أن اعترافها سيعني أننا كنا مخطئين ومجرمين بحق اليهود؟ وأننا زعمنا طوال آلاف السنين باطلا أن هذه الأرض لنا وهي في الحقيقة لليهود؟ ولماذا دخلت حماس حلبة صراع لم يرضاها أحد لها؟
لا أعتقد أن أحدا ينكر على حماس ما تعرضت له من ظلم وقهر، ويدرك الكثير من الناس أن نوايا حماس تجاه المجتمع الفلسطيني سليمة ولعلها مستأمنة أكثر من غيرها على مصالحه، إلا أنها، بموجب أدائها السياسي خلال عام من توليها الحكومة أثبتت أنها عبء على الشعب الفلسطيني وعبء على القضية وخطر على مستقبلها. فحماس اليوم تتحدث عن تسوية بحدود العام 1967 بشرط أن تقوم على الهدنة وليس الاعتراف بإسرائيل، وهي تمتنع عن تقديم ورقة الاعتراف خشية أن يؤول مصيرها إلى الإذلال كما حصل مع حركة فتح التي مُزقت شر ممزق، وبالتالي فهي لا يمكن أن تفرط بورقة قد تقضي عليها ما لم تنجز شيء ما تحاجج به الآخرين. ثم من قال أن تسوية بهدنة قد لا تنتهي باعتراف كما هو حال الدول العربية التي وقعت على اتفاقيات الهدنة مع إسرائيل سنة 1948 وها هي اليوم من أشد المدافعين عن وجود إسرائيل والاعتراف بها والشعب الفلسطيني يذبح يوميا أمام ناظري العالم أجمع؟ فماذا بقي على حماس غير التوقيع؟
أليس هذا هو السياق الذي يأتي به خطاب الظواهري. وهو سياق يحذر منه الظواهري قبل الوقوع فيه. فلم يكن الخطاب ليشمت في حماس ولا ليحرض عليها ولا ليمس جهادها ولا شهداءها، ولكن ليضع الأمور في نصابها، وأجزم أن الرسالة وصلت في الصميم وهو ما أثار ردود فعل هستيرية كما لو أن فضيحة انكشفت. ولم لا؟ فمن لم يستمع لنصائح الآخرين ولا يقيم لها وزنا سيأتي من يهز له عرشه ولو بعد حين. فإذا كانت حماس جماعة إسلامية فعليها أن تتصرف كذلك، وإذا كانت جماعة سياسية وطنية فعليها أيضا أن تتصرف كذلك، أما الأحسن لها فأن تعود إلى مصدر قوتها وقوة الشعب الفلسطيني، إلى المقاومة حيث بدأت فتكسب عزتها وتحمي شعبها وتحظى برعاية الأمة لها واحترامها وتحول دون الكثير من الأخطار التي باتت تهدد الشعب الفلسطيني.
لا شك أن للحديث بقية ..
تعليق