الحلقه الاولي من كتاب بسام ابو شريف عن حياة الشهيد باذن الله ياسر عرفات
ابو عمار يخلع ثيابه العسكرية ويتنكر بدشداشة كويتية لحضور قمة ايلول الأسود
السادات أسرّ لعرفات بساعة حرب 1973
الملتقي المقدسي : بعد تصاعد العمليات الفدائية الفلسطينية ضد قوات الاحتلال الاسرائيلية، انطلاقا من غور الأردن وعبر نهر الأردن، قررت القيادة الاسرائيلية شن هجوم بري وجوي واسع النطاق، لتدمير مواقع الفدائيين الفلسطينيين التي امتدت من شمال غور الأردن لجنوبه.
وجاءت نتائج هذه الحملة (معركة الكرامة) عكس ما توقع الاسرائيليون، فقد خسرت اسرائيل المعركة ودمرت دباباتها وشاهد المواطنون العرب، ولأول مرة منذ هزيمة حزيران (يونيو) 1967، دبابات اسرائيلية مدمرة.
هزيمة حزيران (يونيو) ومناظر الطائرات الحربية العربية المدمرة فوق مدارجها، ومناظر الدبابات العربية المدمرة، وصور الجنود العرب الأسري، هذه المناظر التي كانت تبث علي مدي أشهر منذ الهزيمة، لاحباط الجماهير العربية ولكسر معنوياتها واشعارها في كل لحظة بذل الهزيمة.
لكن المناظر التي بثت لميدان معركة الكرامة أعادت جزءا من كرامة العرب لهم. فهاهي حفنة من المقاتلين المسلحين تسليحا خفيفا تلحق الهزيمة بالجيش الذي أسمته أجهزة الاعلام الغربية الجيش الذي لا يقهر .
وبدأ سيل عارم من المتطوعين الفلسطينيين والعرب وأحرار العالم، في التدفق علي معسكرات الثورة الفلسطينية للالتحاق بالقتال ضد قوات الاحتلال الاسرائيلية. وكان هذا مصدر قلق شديد للحكومة الاسرائيلية والجيش الاسرائيلي. فقد تصاعدت العمليات حتي وصلت الي معدل عشر عمليات فدائية يوميا، استهدفت الآليات العسكرية الاسرائيلية وجنود الاحتلال الاسرائيلي.
فقامت بشن حملة اعتقالات في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقررت اللجوء لأسلوب القصف الجوي، بدلا من الحملات البرية التي كلفتها سابقا الكثير.
الاستراتيجية الاسرائيلية الجديدة لم تقتصر علي قصف مواقع وقواعد الفدائيين الفلسطينيين، بل استهدفت كافة القري والبلدات القريبة من تلك المواقع في أوساط المدنيين ليمارسوا الضغط علي الفدائيين للرحيل من مواقعهم القريبة من تلك القري والبلدات.
وصعدت اسرائيل، غاراتها الجوية، وكثفتها وصارت حدثا يوميا.
وفي مواجهة ذلك خففت فصائل الثورة الفلسطينية من حجم القواعد القتالية وعدد المقاتلين، وتراجعت نحو التلال والجبال المطلة علي غور الأردن، لكنها استمرت في شن عملياتها، التي أصبحت أكثر صعوبة لأن المسافة التي أصبح علي الدوريات القتالية قطعها، مشيا علي الأقدام، نحو نهر الأردن أطول بكثير، ولأن نقاط المراقبة الاسرائيلية، أتيح لها مزيد من الوقت لاكتشاف الدوريات القتالية المتقدمة نحو نهر الأردن عبر المزارع.
وازداد حجم المقاتلين الذين تمركزوا في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في عمان العاصمة وغيرها من المدن.
وأصبح للفصائل الفلسطينية مكاتب علنية ومقرات قيادة في مدينة عمان مما بدأ يثير قلقا لدي السلطات الأردنية، لأن هذا قد يعني أن تستهدف الغارات الاسرائيلية في المستقبل القريب عمان العاصمة ومخيماتها.
وبدأت حوادث الاحتكاك بين المقاتلين الفلسطينيين والجيش الأردني تتتابع، رغم النجاح في حل المشاكل الناجمة عن هذه الاحتكاكات، الا أن التراكمات أدت الي توتر شديد، واصرار رسمي أردني علي تنظيم العلاقة بحيث تحرم اسرائيل فرصة توجيه ضربات جوية لعمان.
اتفاق، يتلوه، اتفاق.
وسرعان ما تنتهي الاتفاقات الي فشل.
تياران متطرفان
ومع مرور الوقت تبلور تياران متطرفان سببا مزيدا من الاحتكاك والتوتر، المتطرفون في الجانب الأردني بدأوا العمل لافتعال الاحتكاك، ونشر الاشاعات حول أعمال مخلة بالنظام، وامن المواطن الأردني، يرتكبها مقاتلون فلسطينيون، ومتطرفون فلسطينيون راحوا يرفعون شعارات غير مقبولة فلسطينيا وأردنيا مثل شعار السلطة كل السلطة للمقاومة .
وشهد شهر حزيران (يونيو) من العام 1970 تصعيدا غير مسبوق، ودارت اشتباكات واسعة استخدم فيها الجيش الأردني الدبابات والأسلحة الثقيلة. مما حدا بفصائل المقاومة الي شن هجوم مضاد، خرج خلاله المقاتلون نحو شوارع عمان وسيطروا علي فندق الأردن (انتركونتننتال) الذي كان مزدحما بالأجانب والزوار والصحافيين.
وقاموا باحتجاز الجميع كرهائن وهددوا بقتلهم ونسف الفندق ان لم توقف السلطات الأردنية هجومها.
وعقد الأمين العام للجبهة الشعبية مؤتمرا صحافيا في الفندق، ليشرح أهداف العملية والمطالب الفلسطينية، وتوقف القصف ورضخ الجانب الأردني للمطالب ولكن علي مضض.
لكن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت عملية اختطاف الطائرات وانزالها في مكان من صحراء الزرقاء. أطلق عليه اسم مطار الثورة .
مئات من الرهائن الأجانب والاسرائيليين احتجزوا في مطار الثورة، الذي كانت القوات البريطانية قد استخدمته أثناء الحرب العالمية الثانية كمهبط للطوارئ، وأطلق عليه اسم دوسون فيلد.
وتتابعت الاحداث الخطيرة بسرعة شديدة.
قامت اسرائيل باحتجاز مئات من أقارب قادة الجبهة الشعبية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ووجهت انذارا للأردن مفاده أن اسرائيل ستضطر للقيام بعملية كبيرة لتحرير الرهائن ان لم يقم الأردن بذلك.
وأبلغت الولايات المتحدة بذلك. وبحث الملك حسين الأمر مع الرئيس جمال عبد الناصر، الذي رأي بوضوح التعقيدات والمخاطر الناشئة عن ذلك الوضع. واتفق مع الملك حسين علي ضرورة أن يقوم الأردن بعملية محدودة مع بذل جهود مصرية سياسية لحل الاشكالات، تفاديا لتدخل اسرائيل.
لكن العملية الأردنية كانت أوسع وأقسي بكثير مما اتفق عليه، واستنفر الأسطول السادس الأمريكي خلال الاشتباكات التي حصلت لاحقا بعد تشكيل حكومة عسكرية أردنية كانت انذارا ببدء الهجوم.
ما ان شكلت الحكومة العسكرية في الأردن في السادس عشر من ايلول (سبتمبر) عام 1970، حتي بدأ القصف المدفعي وهجوم الدبابات علي مواقع منظمة التحرير الفلسطينية، والتنظيمات الفلسطينية، في مخيمات عمان وضواحي المدينة وفي المدن الأخري.
كان الهجوم كثيفا ومركزا وطال القصف جميع المواقع دون استثناء. لكن مواقع فتح في ضواحي جبل الحسين ومخيم الحسين، تعرضت في بداية الهجوم، لأكبر ضغط عسكري مما أدي الي سقوط هذه المواقع واعتقال عدد كبير من قيادات فتح. وكان من بينهم أعضاء من اللجنة المركزية لحركة فتح.
لكن الرئيس عرفات، الذي أخلي مكتبه،تحرك مع المقاتلين للدفاع عن المواقع، وساهم في وضع المتاريس عند دوار مكسيم (الذي أصبح يسمي دوار فراس في جبل الحسين) لكنه كان يعلم أن وضع المتاريس لن يؤدي الا الي عرقلة مؤقتة، ستمنحه مزيدا من الوقت للتحرك لموقع امن، أو أكثر حماية.
وبالفعل تراجع الرئيس ومجموعة من المقاتلين تحيط به، ورئيس جهاز أمنه علي سلامة (أبو حسن سلامة) من دوار مكسيم (فراس) الي مخيم اللاجئين (مخيم الحسين) ومن هناك هبطوا نحو شارع السلط (قرب البنك المركزي) عبر الدرج الطويل الذي كان يربط ذلك الجزء من جبل الحسين بشارع السلط (وسط مدينة عمان القديمة).
كان شارع السلط والشوارع المحيطة به خالية من المارة والمحال مقفلة ولا وجود للدبابات أو الجنود، فتحركت المجموعة بسرعة شديدة متنقلة من زقاق لآخر حتي وصلت الي سوق الذهب الذي كان قريبا جدا من جامع الحسين الكبير الذي بني وسط المدينة عند نقطة محورية تلتقي فيها الطرق (في الوادي) والتي تؤدي الي شتي أنحاء عمان ومخارجها.
وسلكت المجموعة راجلة طريق المصدار الذي يؤدي للأشرفية ومخيم الوحدات. حيث تتمركز قوات فلسطينية للدفاع عن المخيم.
مع حلول الظلام وصل الرئيس والمجموعة المقاتلة، المرافقة له الي مركز قوات صلاح الدين في الأشرفية، وكانت تلك القوات تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ويقودها الحاج فايز جابر (الذي استشهد في مطار عنتيبي باشتباك مع القوات الخاصة الاسرائيلية).
رحب به أحسن ترحيب وأحيط وصوله بكتمان شديد. ووصل رسول من قوات صلاح الدين لمركز القيادة في الوحدات ليبلغ عن وصول الرئيس لمركز قوات صلاح الدين سالما. وكانت الاشاعات قد انتشرت حول مقتله بعد أن اعتقل عدد كبير من القيادات وزملاء الرئيس في اللجنة المركزية لحركة فتح.
فتوجه عدد منا علي وجه السرعة لمركز صلاح الدين، وعانقناه مهنئين بسلامته.
وفيما كنا نشرب الشاي دار حديث حول اختيار مكان ليتمركز فيه، يكون بعيدا عن القصف وغير معروف من الناحية الأمنية.
وأعطيت التعليمات.
بعد ساعة من الزمن أبلغه الحاج فايز قائد قوات صلاح الدين، أننا وجدنا قبوا، يصلح ليكون موقعا مؤقتا له. وتحرك الجميع، فردا فردا حتي لا يلاحظ الذين يراقبون الأشرفية شارعا شارعا، ووصلنا الي ذلك القبو.
كان موقع القبو قريبا من مقر الاذاعة الفلسطينية وقريبا من مستوصف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في نهاية شارع بارطو الذي يفصل الأشرفية عن مخيم الوحدات.
وانتشر خبر وصول عرفات للمنطقة وأنه سليم ولم يصب بأذي.
وعند منتصف الليل خرج الآلاف من سكان المنطقة متوجهين لجامع أبو درويش يهللون ويكبرون ويطالبون بوقف القصف والقتال.
وفي اليوم التالي دعا الرئيس جمال عبد الناصر لقمة عربية طارئة وعاجلة لبحث المأساة المتفاقمة في الأردن.
وكان القتال قد نشب في الشمال (منطقة اربد) والزرقاء (شرق عمان) واستنفر الأسطول السادس، ووجهت الولايات المتحدة انذارا لسورية التي فتحت حدودها لقوات فلسطينية معززة للتوجه لنجدة القوات الفلسطينية المحاصرة.
تفاقم الوضع وازداد خطورة فتحرك الرئيس عبد الناصر لعقد ذلك الاجتماع.
وتم الاتفاق علي ابقاء القمة منعقدة، فيما تتوجه من بين القادة المشاركين فيها لجنة رباعية للأردن في محاولة لوقف القتال والتوصل لاتفاق.
ورحلت اللجنة الي عمان.
كان الرئيس جعفر النميري يرأس تلك اللجنة وكان من بين أعضائها الشيخ سعد ولي العهد الكويتي.
أجرت اللجنة اتصالات بالجانب الأردني ولم تتمكن من أجراء اتصال مع الرئيس أو القيادة الفلسطينية.
وأصدرت بيانا بعد يومين تطالب فيه بحقن الدماء وتعلن أنها أدت مهمتها وستغادر عمان. في تلك الأثناء بثت الاذاعة الأردنية نداءات موجهة للرئيس عرفات من بعض اخوانه أعضاء اللجنة المركزية يدعونه فيها لوقف القتال وحقن الدماء.
توجهنا فورا للقبو كان الرئيس مطرقا وغارقا في التفكير. فقلت له اللجنة ستغادر. ولم تلتق بنا، وعلينا أن نعلمها بأن عليها أن تلتقي بك.
فقال بنوع من الحدة والتوتر وكيف نعلمها؟
فقلت فورا : الاذاعة توجه رسالة للجنة عبر الاذاعة وتطلب منها ان تلتقي بالقيادة الفلسطينية حتي تطلع علي الحقائق من كافة زواياها.
وتم ذلك.
تهريب عرفات الي المطار
وراح الشباب يجمعون كما درجت العادة كل يوم، كمية من المازوت لتشغيل مولدات الاذاعة (ليكون الصوت واضحا) وبثت رسالة الرئيس ورحنا ننتظر الرد. ولم يأت الرد سريعا. لكن عند ساعات الفجر الأولي وصل الي مقر قوات صلاح الدين ضابط مخابرات مصري. فطلب أن يرتب له لقاء مع عرفات بأسرع وقت ممكن.
رحب به، وتحرك رسول نحو القبو ليبلغ الرئيس. رحب الرئيس بذلك وطلب احضاره. وشرح الضابط باختصار وتركيز. عندما سمعت اللجنة الرسالة الاذاعية قررت تأجيل السفر وبحثت عن سبل ووسائل تأمين اللقاء دون معرفة الجانب الأردني خشية حدوث مكروه. وبما أن اللجنة الرباعية غير قادرة علي الوصول الي هذا المكان لأسباب عديدة، فقد أوكلت له مهمة ترتيب وصول الرئيس عرفات لمقر السفارة المصرية حيث ينتظره أعضاء اللجنة.
الطريق للسفارة كانت محفوفة بالخطر والسفارة نفسها تقع في منطقة يسيطر عليها كليا الجيش الأردني.
فطلب الرئيس من أبو حسن سلامة دراسة خطة الوصول مع الضابط المصري (مقدم في المخابرات).
وتم الاتفاق علي كل التفاصيل.
اختار رجلا الأمن طريقا بعيدة عن الشوارع الرئيسية ويتخللها الانتقال من بيت لآخر عبر الأسوار المحيطة بتلك البيوت تفاديا لأي صدام.
ودرس موقع السفارة المصرية ومداخلها ومخارجها وتم الاتفاق من أين يتم دخول الرئيس مبني السفارة. طبعا لم يكن الدخول اليها من مدخلها الرئيسي.
وتحرك الجميع مع الغروب.
كان القصف شديدا وأزيز الرصاص في كل مكان وصوت رصاص رشاشات 500 الثقيلة ينفجر في الجو متواصلا.
أثناء القصف والقتال وتحت أزيز الرصاص تتغير المعالم. فما كنت أليفا معه سابقا يصبح غريبا أو علي الأقل متغيرا، وينتابك شعور بالغربة. فهذا المكان الذي كنت أعرفه، حق المعرفة، أصبح غريبا عني وأنا غريب عنه.
حتي الوجوه تختلف وتري وجوها جديدة ويختلط القديم بالجديد. وحتي الوجوه القديمة تتغير ملامحها، اما قلقا أو خوفا أو شراسة.
الكل مختبيء لا يطل برأسه من نافذة خوفا من رصاصة طائشة أو مستهدفة. الكل ينبطح أرضا داخل المنازل خوفا من شظية.
(لن أنس منظر أخي الصغير نائما في حوض الاستحمام، ظنا منه أن حوض الاستحمام سيحميه من رصاصة أو شظية).
وكذلك تختلف مناظر البيوت التي تعرفها. غريب أن الحزن كان أيضا يكسوها فبدت قاتمة، صامتة,حزينة ومخيفة.
من سور لاخر قفز أفراد المجموعة يتقدمون الرئيس، ثم يشيرون له ولمن معه بان يتبعوهم، بعد ان يتأكدوا من سلامة الموقع وعدم وجود خطر أمني.
وهكذا استمر القفز الي أن وصل. وأطل مرة أخري ورفع يده باشارة متفق عليها. فتقدم اثنان من المرافقين يحملان السلاح وعبرا الشارع بسرعة وقفزا لينضما للسابقين وساد صمت مرة أخري.
جاء دور الرئيس. فالمسلحان سبقا ليؤمنا غطاء ناريا في حال حدوث أي هجوم. وجاءت الاشارة فتحرك الرئيس بسرعة يحيط به خمسة مسلحين وعبروا الشارع بسرعة وقفزوا نحو حديقة السفارة.
كانت الحركة بعد هذا سريعة جدا. دخل الرئيس مبني السفارة يرافقه أبو حسن سلامة فقط وأغلق الباب.
دار حديث طويل ونقاش طويل وطرحت أفكار وأفكار، كل هذا وأصداء القصف تهيمن علي أجواء الاجتماع.
وعرضت اللجنة ما بحثه الملك حسين، وكان واضحا أن الملك لن يقبل مطلقا، بأي حل يمس السيادة الأردنية المطلقة، وان أي وجود فلسطيني يجب أن يكون منسقا وتحت السلطة الأردنية الكاملة.
في نهاية النقاش اقترح الشيخ سعد أن يتوجه الرئيس عرفات معهم الي القاهرة لحضور القمة، وانه من الممكن أن يتم الاتفاق في القاهرة بوجود القادة العرب وبما لعبد الناصر من تأثير كبير.
وافق الرئيس وبدأ أبو حسن سلامة بدراسة خطة خروج الرئيس ياسر عرفات مع الوفد للمطار، والمغادرة للقاهرة، فقد كانت هذه المرحلة أخطر مرحلة اذ أن الطريق من السفارة المصرية للمطار مدججة بالآليات والمصفحات والجنود.
اقترح أبو حسن سلامة ان يتنكر الرئيس بخلع ثيابه العسكرية،واستبدالها بدشداشة كويتية والحطة والعقال الكويتيين.
الشيخ سعد طويل وجسده ضخم فيما الرئيس رفيع متوسط القامة.
وانهمك أبو حسن وضباط المخابرات المصرية في ترتيب الدشداشة بحيث تبدو (قدر الامكان) مناسبة.
عندما انتهي الأمر ووضع الرئيس الدشداشة والحطة والعقال، أصبح الوفد جاهزا للتحرك، كان قد رتب للوفد ثلاث مصفحات (أو مدرعات) لنقلهم للمطار واستخدم الشيخ سعد والرئيس وأبو حسن سلامة الذي ناسبته الدشداشة لطول قامته وضخامة جسمه احدي المصفحات، فيما استخدم بقية أعضاء اللجنة العربية المصفحتين الأخريين.
وسار الموكب نحو المطار. الحواجز منتشرة علي طول الطريق أوقفت الموكب عدة مرات، كان خلالها ضباط الحواجز يصرون علي تفتيش المصفحات. لكن سرعان ما كانت الاتصالات تتم ويكمل الموكب مساره.
(أعتقد أن الأمر كان معلوما، وأن تكثيف الحواجز كان مقصودا لاظهار السيطرة من ناحية ولبث القلق في ركاب المصفحات من الناحية الأخري).
وصل الموكب للمطار وأصدر الرئيس النميري التعليمات بالصعود للطائرة فورا دون بروتوكولات بسبب الوضع الطاريء وللالتحاق بالقمة بأسرع وقت ممكن. وصعد الرئيس للطائرة مع الشيخ سعد يتبعه أبو حسن سلامة.
عندما أقلعت الطائرة تنفس الجميع الصعداء.
وبدأت معركة من نوع آخر. معركة سياسية في القمة العربية التي اجتمعت لوقف القتال وحقن الدماء وللمساهمة في أبرام اتفاق بين الأردن و م.ت.ف .
وتم الاتفاق علي الأسس. وشكلت لجنة عليا من الطرفين لوضع آلية لتنفيذ الاتفاق. وخرجت القوات الفلسطينية من كافة المخيمات وتجمعت حسب الاتفاق في منطقة دبين. وجمعت أسلحة المليشيات واقفل عليها في مخازن تحت اشراف اللجنة المشتركة ولم تطل الهدنة كثيرا. فقد شن الجيش الأردني هجوما ساحقا علي المناطق التي حددت للقوات الفلسطينية واضطر جزء منها وعدد من القادة كان علي رأسهم الرئيس ياسر عرفات للتوجه شمالا. اذ أن مواقع الرئيس بالذات كانت مستهدفه بقصف شديد واضطر قادة آخرون بينهم الدكتور جورج حبش للتوجه شمالا نحو الحدود السورية.
وأسدل ستار علي مرحلة من مراحل الصراع وبدأت مرحلة أخري، هي مرحلة لبنان التي انتقل الي جنوبها المقاتلون الفلسطينيون بعد أن عبروا من الأردن لسورية ومنها للبنان.
تابع البقيه
ابو عمار يخلع ثيابه العسكرية ويتنكر بدشداشة كويتية لحضور قمة ايلول الأسود
السادات أسرّ لعرفات بساعة حرب 1973
الملتقي المقدسي : بعد تصاعد العمليات الفدائية الفلسطينية ضد قوات الاحتلال الاسرائيلية، انطلاقا من غور الأردن وعبر نهر الأردن، قررت القيادة الاسرائيلية شن هجوم بري وجوي واسع النطاق، لتدمير مواقع الفدائيين الفلسطينيين التي امتدت من شمال غور الأردن لجنوبه.
وجاءت نتائج هذه الحملة (معركة الكرامة) عكس ما توقع الاسرائيليون، فقد خسرت اسرائيل المعركة ودمرت دباباتها وشاهد المواطنون العرب، ولأول مرة منذ هزيمة حزيران (يونيو) 1967، دبابات اسرائيلية مدمرة.
هزيمة حزيران (يونيو) ومناظر الطائرات الحربية العربية المدمرة فوق مدارجها، ومناظر الدبابات العربية المدمرة، وصور الجنود العرب الأسري، هذه المناظر التي كانت تبث علي مدي أشهر منذ الهزيمة، لاحباط الجماهير العربية ولكسر معنوياتها واشعارها في كل لحظة بذل الهزيمة.
لكن المناظر التي بثت لميدان معركة الكرامة أعادت جزءا من كرامة العرب لهم. فهاهي حفنة من المقاتلين المسلحين تسليحا خفيفا تلحق الهزيمة بالجيش الذي أسمته أجهزة الاعلام الغربية الجيش الذي لا يقهر .
وبدأ سيل عارم من المتطوعين الفلسطينيين والعرب وأحرار العالم، في التدفق علي معسكرات الثورة الفلسطينية للالتحاق بالقتال ضد قوات الاحتلال الاسرائيلية. وكان هذا مصدر قلق شديد للحكومة الاسرائيلية والجيش الاسرائيلي. فقد تصاعدت العمليات حتي وصلت الي معدل عشر عمليات فدائية يوميا، استهدفت الآليات العسكرية الاسرائيلية وجنود الاحتلال الاسرائيلي.
فقامت بشن حملة اعتقالات في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقررت اللجوء لأسلوب القصف الجوي، بدلا من الحملات البرية التي كلفتها سابقا الكثير.
الاستراتيجية الاسرائيلية الجديدة لم تقتصر علي قصف مواقع وقواعد الفدائيين الفلسطينيين، بل استهدفت كافة القري والبلدات القريبة من تلك المواقع في أوساط المدنيين ليمارسوا الضغط علي الفدائيين للرحيل من مواقعهم القريبة من تلك القري والبلدات.
وصعدت اسرائيل، غاراتها الجوية، وكثفتها وصارت حدثا يوميا.
وفي مواجهة ذلك خففت فصائل الثورة الفلسطينية من حجم القواعد القتالية وعدد المقاتلين، وتراجعت نحو التلال والجبال المطلة علي غور الأردن، لكنها استمرت في شن عملياتها، التي أصبحت أكثر صعوبة لأن المسافة التي أصبح علي الدوريات القتالية قطعها، مشيا علي الأقدام، نحو نهر الأردن أطول بكثير، ولأن نقاط المراقبة الاسرائيلية، أتيح لها مزيد من الوقت لاكتشاف الدوريات القتالية المتقدمة نحو نهر الأردن عبر المزارع.
وازداد حجم المقاتلين الذين تمركزوا في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في عمان العاصمة وغيرها من المدن.
وأصبح للفصائل الفلسطينية مكاتب علنية ومقرات قيادة في مدينة عمان مما بدأ يثير قلقا لدي السلطات الأردنية، لأن هذا قد يعني أن تستهدف الغارات الاسرائيلية في المستقبل القريب عمان العاصمة ومخيماتها.
وبدأت حوادث الاحتكاك بين المقاتلين الفلسطينيين والجيش الأردني تتتابع، رغم النجاح في حل المشاكل الناجمة عن هذه الاحتكاكات، الا أن التراكمات أدت الي توتر شديد، واصرار رسمي أردني علي تنظيم العلاقة بحيث تحرم اسرائيل فرصة توجيه ضربات جوية لعمان.
اتفاق، يتلوه، اتفاق.
وسرعان ما تنتهي الاتفاقات الي فشل.
تياران متطرفان
ومع مرور الوقت تبلور تياران متطرفان سببا مزيدا من الاحتكاك والتوتر، المتطرفون في الجانب الأردني بدأوا العمل لافتعال الاحتكاك، ونشر الاشاعات حول أعمال مخلة بالنظام، وامن المواطن الأردني، يرتكبها مقاتلون فلسطينيون، ومتطرفون فلسطينيون راحوا يرفعون شعارات غير مقبولة فلسطينيا وأردنيا مثل شعار السلطة كل السلطة للمقاومة .
وشهد شهر حزيران (يونيو) من العام 1970 تصعيدا غير مسبوق، ودارت اشتباكات واسعة استخدم فيها الجيش الأردني الدبابات والأسلحة الثقيلة. مما حدا بفصائل المقاومة الي شن هجوم مضاد، خرج خلاله المقاتلون نحو شوارع عمان وسيطروا علي فندق الأردن (انتركونتننتال) الذي كان مزدحما بالأجانب والزوار والصحافيين.
وقاموا باحتجاز الجميع كرهائن وهددوا بقتلهم ونسف الفندق ان لم توقف السلطات الأردنية هجومها.
وعقد الأمين العام للجبهة الشعبية مؤتمرا صحافيا في الفندق، ليشرح أهداف العملية والمطالب الفلسطينية، وتوقف القصف ورضخ الجانب الأردني للمطالب ولكن علي مضض.
لكن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت عملية اختطاف الطائرات وانزالها في مكان من صحراء الزرقاء. أطلق عليه اسم مطار الثورة .
مئات من الرهائن الأجانب والاسرائيليين احتجزوا في مطار الثورة، الذي كانت القوات البريطانية قد استخدمته أثناء الحرب العالمية الثانية كمهبط للطوارئ، وأطلق عليه اسم دوسون فيلد.
وتتابعت الاحداث الخطيرة بسرعة شديدة.
قامت اسرائيل باحتجاز مئات من أقارب قادة الجبهة الشعبية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ووجهت انذارا للأردن مفاده أن اسرائيل ستضطر للقيام بعملية كبيرة لتحرير الرهائن ان لم يقم الأردن بذلك.
وأبلغت الولايات المتحدة بذلك. وبحث الملك حسين الأمر مع الرئيس جمال عبد الناصر، الذي رأي بوضوح التعقيدات والمخاطر الناشئة عن ذلك الوضع. واتفق مع الملك حسين علي ضرورة أن يقوم الأردن بعملية محدودة مع بذل جهود مصرية سياسية لحل الاشكالات، تفاديا لتدخل اسرائيل.
لكن العملية الأردنية كانت أوسع وأقسي بكثير مما اتفق عليه، واستنفر الأسطول السادس الأمريكي خلال الاشتباكات التي حصلت لاحقا بعد تشكيل حكومة عسكرية أردنية كانت انذارا ببدء الهجوم.
ما ان شكلت الحكومة العسكرية في الأردن في السادس عشر من ايلول (سبتمبر) عام 1970، حتي بدأ القصف المدفعي وهجوم الدبابات علي مواقع منظمة التحرير الفلسطينية، والتنظيمات الفلسطينية، في مخيمات عمان وضواحي المدينة وفي المدن الأخري.
كان الهجوم كثيفا ومركزا وطال القصف جميع المواقع دون استثناء. لكن مواقع فتح في ضواحي جبل الحسين ومخيم الحسين، تعرضت في بداية الهجوم، لأكبر ضغط عسكري مما أدي الي سقوط هذه المواقع واعتقال عدد كبير من قيادات فتح. وكان من بينهم أعضاء من اللجنة المركزية لحركة فتح.
لكن الرئيس عرفات، الذي أخلي مكتبه،تحرك مع المقاتلين للدفاع عن المواقع، وساهم في وضع المتاريس عند دوار مكسيم (الذي أصبح يسمي دوار فراس في جبل الحسين) لكنه كان يعلم أن وضع المتاريس لن يؤدي الا الي عرقلة مؤقتة، ستمنحه مزيدا من الوقت للتحرك لموقع امن، أو أكثر حماية.
وبالفعل تراجع الرئيس ومجموعة من المقاتلين تحيط به، ورئيس جهاز أمنه علي سلامة (أبو حسن سلامة) من دوار مكسيم (فراس) الي مخيم اللاجئين (مخيم الحسين) ومن هناك هبطوا نحو شارع السلط (قرب البنك المركزي) عبر الدرج الطويل الذي كان يربط ذلك الجزء من جبل الحسين بشارع السلط (وسط مدينة عمان القديمة).
كان شارع السلط والشوارع المحيطة به خالية من المارة والمحال مقفلة ولا وجود للدبابات أو الجنود، فتحركت المجموعة بسرعة شديدة متنقلة من زقاق لآخر حتي وصلت الي سوق الذهب الذي كان قريبا جدا من جامع الحسين الكبير الذي بني وسط المدينة عند نقطة محورية تلتقي فيها الطرق (في الوادي) والتي تؤدي الي شتي أنحاء عمان ومخارجها.
وسلكت المجموعة راجلة طريق المصدار الذي يؤدي للأشرفية ومخيم الوحدات. حيث تتمركز قوات فلسطينية للدفاع عن المخيم.
مع حلول الظلام وصل الرئيس والمجموعة المقاتلة، المرافقة له الي مركز قوات صلاح الدين في الأشرفية، وكانت تلك القوات تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ويقودها الحاج فايز جابر (الذي استشهد في مطار عنتيبي باشتباك مع القوات الخاصة الاسرائيلية).
رحب به أحسن ترحيب وأحيط وصوله بكتمان شديد. ووصل رسول من قوات صلاح الدين لمركز القيادة في الوحدات ليبلغ عن وصول الرئيس لمركز قوات صلاح الدين سالما. وكانت الاشاعات قد انتشرت حول مقتله بعد أن اعتقل عدد كبير من القيادات وزملاء الرئيس في اللجنة المركزية لحركة فتح.
فتوجه عدد منا علي وجه السرعة لمركز صلاح الدين، وعانقناه مهنئين بسلامته.
وفيما كنا نشرب الشاي دار حديث حول اختيار مكان ليتمركز فيه، يكون بعيدا عن القصف وغير معروف من الناحية الأمنية.
وأعطيت التعليمات.
بعد ساعة من الزمن أبلغه الحاج فايز قائد قوات صلاح الدين، أننا وجدنا قبوا، يصلح ليكون موقعا مؤقتا له. وتحرك الجميع، فردا فردا حتي لا يلاحظ الذين يراقبون الأشرفية شارعا شارعا، ووصلنا الي ذلك القبو.
كان موقع القبو قريبا من مقر الاذاعة الفلسطينية وقريبا من مستوصف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في نهاية شارع بارطو الذي يفصل الأشرفية عن مخيم الوحدات.
وانتشر خبر وصول عرفات للمنطقة وأنه سليم ولم يصب بأذي.
وعند منتصف الليل خرج الآلاف من سكان المنطقة متوجهين لجامع أبو درويش يهللون ويكبرون ويطالبون بوقف القصف والقتال.
وفي اليوم التالي دعا الرئيس جمال عبد الناصر لقمة عربية طارئة وعاجلة لبحث المأساة المتفاقمة في الأردن.
وكان القتال قد نشب في الشمال (منطقة اربد) والزرقاء (شرق عمان) واستنفر الأسطول السادس، ووجهت الولايات المتحدة انذارا لسورية التي فتحت حدودها لقوات فلسطينية معززة للتوجه لنجدة القوات الفلسطينية المحاصرة.
تفاقم الوضع وازداد خطورة فتحرك الرئيس عبد الناصر لعقد ذلك الاجتماع.
وتم الاتفاق علي ابقاء القمة منعقدة، فيما تتوجه من بين القادة المشاركين فيها لجنة رباعية للأردن في محاولة لوقف القتال والتوصل لاتفاق.
ورحلت اللجنة الي عمان.
كان الرئيس جعفر النميري يرأس تلك اللجنة وكان من بين أعضائها الشيخ سعد ولي العهد الكويتي.
أجرت اللجنة اتصالات بالجانب الأردني ولم تتمكن من أجراء اتصال مع الرئيس أو القيادة الفلسطينية.
وأصدرت بيانا بعد يومين تطالب فيه بحقن الدماء وتعلن أنها أدت مهمتها وستغادر عمان. في تلك الأثناء بثت الاذاعة الأردنية نداءات موجهة للرئيس عرفات من بعض اخوانه أعضاء اللجنة المركزية يدعونه فيها لوقف القتال وحقن الدماء.
توجهنا فورا للقبو كان الرئيس مطرقا وغارقا في التفكير. فقلت له اللجنة ستغادر. ولم تلتق بنا، وعلينا أن نعلمها بأن عليها أن تلتقي بك.
فقال بنوع من الحدة والتوتر وكيف نعلمها؟
فقلت فورا : الاذاعة توجه رسالة للجنة عبر الاذاعة وتطلب منها ان تلتقي بالقيادة الفلسطينية حتي تطلع علي الحقائق من كافة زواياها.
وتم ذلك.
تهريب عرفات الي المطار
وراح الشباب يجمعون كما درجت العادة كل يوم، كمية من المازوت لتشغيل مولدات الاذاعة (ليكون الصوت واضحا) وبثت رسالة الرئيس ورحنا ننتظر الرد. ولم يأت الرد سريعا. لكن عند ساعات الفجر الأولي وصل الي مقر قوات صلاح الدين ضابط مخابرات مصري. فطلب أن يرتب له لقاء مع عرفات بأسرع وقت ممكن.
رحب به، وتحرك رسول نحو القبو ليبلغ الرئيس. رحب الرئيس بذلك وطلب احضاره. وشرح الضابط باختصار وتركيز. عندما سمعت اللجنة الرسالة الاذاعية قررت تأجيل السفر وبحثت عن سبل ووسائل تأمين اللقاء دون معرفة الجانب الأردني خشية حدوث مكروه. وبما أن اللجنة الرباعية غير قادرة علي الوصول الي هذا المكان لأسباب عديدة، فقد أوكلت له مهمة ترتيب وصول الرئيس عرفات لمقر السفارة المصرية حيث ينتظره أعضاء اللجنة.
الطريق للسفارة كانت محفوفة بالخطر والسفارة نفسها تقع في منطقة يسيطر عليها كليا الجيش الأردني.
فطلب الرئيس من أبو حسن سلامة دراسة خطة الوصول مع الضابط المصري (مقدم في المخابرات).
وتم الاتفاق علي كل التفاصيل.
اختار رجلا الأمن طريقا بعيدة عن الشوارع الرئيسية ويتخللها الانتقال من بيت لآخر عبر الأسوار المحيطة بتلك البيوت تفاديا لأي صدام.
ودرس موقع السفارة المصرية ومداخلها ومخارجها وتم الاتفاق من أين يتم دخول الرئيس مبني السفارة. طبعا لم يكن الدخول اليها من مدخلها الرئيسي.
وتحرك الجميع مع الغروب.
كان القصف شديدا وأزيز الرصاص في كل مكان وصوت رصاص رشاشات 500 الثقيلة ينفجر في الجو متواصلا.
أثناء القصف والقتال وتحت أزيز الرصاص تتغير المعالم. فما كنت أليفا معه سابقا يصبح غريبا أو علي الأقل متغيرا، وينتابك شعور بالغربة. فهذا المكان الذي كنت أعرفه، حق المعرفة، أصبح غريبا عني وأنا غريب عنه.
حتي الوجوه تختلف وتري وجوها جديدة ويختلط القديم بالجديد. وحتي الوجوه القديمة تتغير ملامحها، اما قلقا أو خوفا أو شراسة.
الكل مختبيء لا يطل برأسه من نافذة خوفا من رصاصة طائشة أو مستهدفة. الكل ينبطح أرضا داخل المنازل خوفا من شظية.
(لن أنس منظر أخي الصغير نائما في حوض الاستحمام، ظنا منه أن حوض الاستحمام سيحميه من رصاصة أو شظية).
وكذلك تختلف مناظر البيوت التي تعرفها. غريب أن الحزن كان أيضا يكسوها فبدت قاتمة، صامتة,حزينة ومخيفة.
من سور لاخر قفز أفراد المجموعة يتقدمون الرئيس، ثم يشيرون له ولمن معه بان يتبعوهم، بعد ان يتأكدوا من سلامة الموقع وعدم وجود خطر أمني.
وهكذا استمر القفز الي أن وصل. وأطل مرة أخري ورفع يده باشارة متفق عليها. فتقدم اثنان من المرافقين يحملان السلاح وعبرا الشارع بسرعة وقفزا لينضما للسابقين وساد صمت مرة أخري.
جاء دور الرئيس. فالمسلحان سبقا ليؤمنا غطاء ناريا في حال حدوث أي هجوم. وجاءت الاشارة فتحرك الرئيس بسرعة يحيط به خمسة مسلحين وعبروا الشارع بسرعة وقفزوا نحو حديقة السفارة.
كانت الحركة بعد هذا سريعة جدا. دخل الرئيس مبني السفارة يرافقه أبو حسن سلامة فقط وأغلق الباب.
دار حديث طويل ونقاش طويل وطرحت أفكار وأفكار، كل هذا وأصداء القصف تهيمن علي أجواء الاجتماع.
وعرضت اللجنة ما بحثه الملك حسين، وكان واضحا أن الملك لن يقبل مطلقا، بأي حل يمس السيادة الأردنية المطلقة، وان أي وجود فلسطيني يجب أن يكون منسقا وتحت السلطة الأردنية الكاملة.
في نهاية النقاش اقترح الشيخ سعد أن يتوجه الرئيس عرفات معهم الي القاهرة لحضور القمة، وانه من الممكن أن يتم الاتفاق في القاهرة بوجود القادة العرب وبما لعبد الناصر من تأثير كبير.
وافق الرئيس وبدأ أبو حسن سلامة بدراسة خطة خروج الرئيس ياسر عرفات مع الوفد للمطار، والمغادرة للقاهرة، فقد كانت هذه المرحلة أخطر مرحلة اذ أن الطريق من السفارة المصرية للمطار مدججة بالآليات والمصفحات والجنود.
اقترح أبو حسن سلامة ان يتنكر الرئيس بخلع ثيابه العسكرية،واستبدالها بدشداشة كويتية والحطة والعقال الكويتيين.
الشيخ سعد طويل وجسده ضخم فيما الرئيس رفيع متوسط القامة.
وانهمك أبو حسن وضباط المخابرات المصرية في ترتيب الدشداشة بحيث تبدو (قدر الامكان) مناسبة.
عندما انتهي الأمر ووضع الرئيس الدشداشة والحطة والعقال، أصبح الوفد جاهزا للتحرك، كان قد رتب للوفد ثلاث مصفحات (أو مدرعات) لنقلهم للمطار واستخدم الشيخ سعد والرئيس وأبو حسن سلامة الذي ناسبته الدشداشة لطول قامته وضخامة جسمه احدي المصفحات، فيما استخدم بقية أعضاء اللجنة العربية المصفحتين الأخريين.
وسار الموكب نحو المطار. الحواجز منتشرة علي طول الطريق أوقفت الموكب عدة مرات، كان خلالها ضباط الحواجز يصرون علي تفتيش المصفحات. لكن سرعان ما كانت الاتصالات تتم ويكمل الموكب مساره.
(أعتقد أن الأمر كان معلوما، وأن تكثيف الحواجز كان مقصودا لاظهار السيطرة من ناحية ولبث القلق في ركاب المصفحات من الناحية الأخري).
وصل الموكب للمطار وأصدر الرئيس النميري التعليمات بالصعود للطائرة فورا دون بروتوكولات بسبب الوضع الطاريء وللالتحاق بالقمة بأسرع وقت ممكن. وصعد الرئيس للطائرة مع الشيخ سعد يتبعه أبو حسن سلامة.
عندما أقلعت الطائرة تنفس الجميع الصعداء.
وبدأت معركة من نوع آخر. معركة سياسية في القمة العربية التي اجتمعت لوقف القتال وحقن الدماء وللمساهمة في أبرام اتفاق بين الأردن و م.ت.ف .
وتم الاتفاق علي الأسس. وشكلت لجنة عليا من الطرفين لوضع آلية لتنفيذ الاتفاق. وخرجت القوات الفلسطينية من كافة المخيمات وتجمعت حسب الاتفاق في منطقة دبين. وجمعت أسلحة المليشيات واقفل عليها في مخازن تحت اشراف اللجنة المشتركة ولم تطل الهدنة كثيرا. فقد شن الجيش الأردني هجوما ساحقا علي المناطق التي حددت للقوات الفلسطينية واضطر جزء منها وعدد من القادة كان علي رأسهم الرئيس ياسر عرفات للتوجه شمالا. اذ أن مواقع الرئيس بالذات كانت مستهدفه بقصف شديد واضطر قادة آخرون بينهم الدكتور جورج حبش للتوجه شمالا نحو الحدود السورية.
وأسدل ستار علي مرحلة من مراحل الصراع وبدأت مرحلة أخري، هي مرحلة لبنان التي انتقل الي جنوبها المقاتلون الفلسطينيون بعد أن عبروا من الأردن لسورية ومنها للبنان.
تابع البقيه
تعليق