نحو رؤية منهجية في «فقه الواقع»
الدكتور أنور أبو طه
عضو المكتب العام لحركة الجهاد الاسلامي في فلسطين.
تمهيد:
اشتهرت وشاعت في العصر الحديث كلمات الواقع، والواقعي، والواقعة، والواقعية لا ككلمات لغوية لها دلالاتها المفردة، بل كاصطلاحات ومفاهيم مذهبية في الأدب والفن والفلسفة والسياسة.
فـ«الواقعية»( ) ـ Realism ـ كاصطلاح مذهبي ظهرت في لحظات التحولات الاجتماعية والفكرية في الفكر الغربي ضمن حركة الطرد والاستبعاد للتصورات التي تحيل الحوادث والظواهر وتفسرها وفق منظور لاهوتي كنسي، أو مثالي طوباوي.
وغدت «الواقعية» مجموعة جديدة من القيم المعرفية والاجتماعية تعمل على تحرير الإنسان من القيود اللاهوتية، وإحلال الواقع الموضوعي المادي كمرجع وحيد للإنسان يستمد منه قيمه وتصوراته، وأعادت الاعتبار إلى العقل الإنساني، وإلى الشرط الاجتماعي أساساً لتكوين العقل والإنسان، وتمجيد العقل كقيمة عليا، وجعل الإنسان صانعاً للتاريخ وفق القانون العلمي القادر هو على اكتشافه في الواقع المادي المحسوس.
وشاع أن الإنسان «الواقعي» هو الذي يقبل التعامل مع الواقع كما هو، ولا يرفضه تبعاً لعقيدته أو مرجعيته الفكرية. والذي تتحدد علاقته بالواقع علاقة فهم واستيعاب للاستفادة من المتاحات الموجودة فيه، وتطويره وفق ما يسمح به الواقع نفسه، وليس تغييره على مقتضى تصور أيديولوجي سابق.
تباينت تيارات الفكر والسياسة في عالمنا العربي الإسلامي في تعاملها مع هذه النزعة المذهبية بين ممتثل ومتبن لها، وبين متشكك ورافض. إلا أن مصطلح «الواقع» كان يتفاعل على نحو مختلف، ذلك أن الغرب مع غزوه العسكري والثقافي للمجتمعات العربية، ومع حضوره فيها أظهر للعرب وللمسلمين حالة التخلف والفوات الحضاري التي يعيشونها في مقابل تقدمه وتفوقه الحضاري، الأمر الذي أثار العقل العربي الإسلامي، ودفعه إلى البحث عن أسباب وعوامل هذا الفوات وسبل الخروج منه. وطرحت التيارات المختلفة العلمانية منها والإسلامية حلولاً مختلفة وفق مرجعياتها الأيديولوجية والثقافية والسياسية، ولكن الطرفين فشلا في حل أزمة الفوات الحضاري أو تجاوز أزمة التحدي الغربي الحديث.
فتيار العلمنة كما تيار الأسلمة ألغيا الواقع من حيث أرادا تغييره ورفعه لمستوى التحدي المفروض وحل مأزوميته. ووقف كلاهما من الواقع موقف الإدانة والمصادرة. فالأول اتهم الواقع بالتخلف، والثاني اتهمه بالجاهلية. استجاب تيار العلمنة ـ الذي يدعي «الواقعية» ـ لإكراهات الواقع المنتصر والمتفوق و«العلمي»، ودعا إلى نقله واستنساخه والأخذ به جملة وتفصيلاً، وإحلاله محل واقع التأخر والتخلف. أما تيار الأسلمة فقد أراد سحب مثال وصورة واقع نموذجي طهراني [دولة الرسول () والخلفاء الراشدين (رض)] على الواقع «الجاهلي» بعد تدميره أو تفكيكه. وكلاهما( ) لم يتعاملا مع واقع محلي مشخص وقائم، بل مع مثالين لواقعين في التصور، وكلا المثالين مشروطين ثقافياً وتاريخياً. وعلى خلاف المشروطية الثقافية والتاريخية للمجتمع العربي المعاصر.
لم يستمر عموم التيار الإسلامي على هذا التوجه تجاه الواقع والتعامل معه( )، بل إن استمرار الفوات الحضاري، وفشل الطروحات السابقة في التغيير وبناء المجتمع العربي الإسلامي وإقامة الدولة الإسلامية التي ستنجز التحرر والوحدة وستحقق العدل والمساواة، أدى هذا الفشل إلى إعادة النظر وعلى المستويين الفكري والفقهي في الصياغات النظرية التي قُدِّمت تجاه مسائل التغيير، والاجتهاد، والتجديد. وبرزت كتابات نقدية وتأسيسية تجاه هذه المسائل الثلاث ضمن مستويين اثنين: الأول يتعلق بالنص ـ قرآناً وسنة( ) ـ، وبالتراث ـ الفقهي والسياسي( ) ـ. والثاني يتعلق بالواقع وإعادة الاعتبار له لجهة فهمه واستيعاب حركته، ومن ثم تفسيره وإنزال الأحكام عليه.
وفي مقالتنا هذه سنعمد إلى بعض المقاربات المنهجية ضمن المستوى الثاني الخاص بالواقع، أو بما اشتهر تسميته بـ «فقه الواقع».
«الواقع» لغة واصطلاحاً:
لم تعرف اللغة العربية مفهوم «الواقع» كمفهوم مجازي حديث يدل على ما يدل عليه عند سماعه لدى الإنسان العربي المعاصر وإن اشترك مع المعنى القديم في شيء من معناه الحديث.
يفيد لغة( ) الفعل الثلاثي وَقَعَ، واشتقاقاته يقع، وقعاً، ووقوعاً السقوط وإنزال الشيء على الشيء. وهذا ما يفيده في الكلام حقيقة كأن تقول وقع الطير على أرض أو شجر، أو وقع المطر على الأرض، أو وقعت الدواب أي ربضت على الأرض... الخ ومن هنا بالموقع هو مكان الوقوع، أي وقوع الشيء موقعه أو في موضعه كمواقع المطر أي مساقطه. أما في الاستخدام المجازي فما وقع هو بمعنى حصول الشيء وثبوته، كالقول وقع الحق أي ثبت، ووقع الحق عليه أي ثبت، ووقع في الشِرْك حصل فيه. ومن هنا فمفردة الواقع ضمن هذا السياق المجازي تعني الحاصل ومنها النازل. ومنها كلمة الواقعة أي النازلة، ووقائع أي نوازل. وقال الراغب الأصفهاني: «ولا تقال إلا في الشدة والمكروه». وقد عُرفت الوقائع عند العرب بـ«أيام العرب» ودلت الواقعة على «النازلة من صنوف الدهر»، وبهذا سمّى القرآن يوم القيامة بالواقعة في قوله تعالى: {إذا وقعت الواقعة} أي القيامة بما فيها من شدة وأهوال.
والواقع أو الوقائع بمعنى النوازل في الاصطلاح التقليدي للغة العربية له دلالة مرتبطة بفعل «وَقَعَ» في اللغة، أي ما حَصَلَ وتَعَيَّن، وأصبح عياناً منظوراً، أو خبراً متحصلاً لواقعة أو نازلة أو حدث، وهو بذلك وقع في زمن محصور وغير ممتد.
وأما «الواقع» فنعرفه بـ: ما يحيط بالإنسان والجماعة من حال ومجال وعصر، ويؤثر فيهما على سبيل التشكيل الراهن ضمن زمن متحرك، و«الواقع» بذلك هو حال الإنسان والجماعة بما يحملانه من قيم وأفكار وطبائع وخصائص وسمات ضمن مجالات يحياها كل منهما ويعيشانها من اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، وفق المرحلة التاريخية العامة التي تمر بها المجتمعات بسماتها المختلفة، وهو ما نطلق عليه العصر. والحال والمجال والعصر معيوش من قبل الإنسان والجماعة في زمن ممتد متحول. والواقع بذلك ليس إلا معاصرة الحال والمجال وتشكلهما في صيرورة الزمن المعاش.
فقه الواقع:
وفق ما تقدم من تعريف للواقع يمكننا تعريف فقه الواقع بأنه: الوعي بالواقع. وبتعريف تفصيلي آخر يحدد طبيعته وميادينه فهو: الوعي بحال ومجال الأفراد والجماعات. وتشخيص وتحليل وتفسير الظواهر المجتمعية (الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية) في سياقاتها الفكرية أو العملية، الموضوعية أو الذاتية، الحقيقي أو الرمزي، ضمن صيرورة الزمن المعاش.
وليس الفقه مجرد الفهم فحسب، بل هو امتلاك المقدرة المعرفية والمنهجية على تشخيص الواقع وتحليله وتفسيره، تلك المقدرة الموصلة إلى الوعي العميق والتفصيلي بالواقع، والتي تقدم للفقيه وللقانوني المقدرة على تنزيل النص على الواقع وتحقيق فاعليته فيه، والكشف عن أبعاد الواقع وآفاقه داخل النص.
الأصول والأدلة الشرعية لفقه الواقع:
نقل ابن قيم الجوزية في «أعلام الموقعين» عن الإمام أحمد خصال خمس يجب تحققها فيمن ينصِّب نفسه للفتيا. عدَّها دعائم الفتوى ومنها الخصلة الخامسة وهي «معرفة الناس». وشرحها ابن القيم قائلاً: «فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم... وإلا كان ما يُفْسد أكثر مما يصلح، فإنه إذا لم يكن فقيهاً في الأمر له معرفة بالناس، تصوَّر له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال...»( ).
وقد عدّ الشيخ القرضاوي ـ مستنداً على ما تقدم ـ «معرفة الناس والحياة» شرطاً من الشروط الواجب توفرها في المجتهد. ولكن وبالرغم مما ذهب إليه القرضاوي من أن هذا الشرط هو شرط لصحة الاجتهاد لا لبلوغه، وأن الأصوليين لم يذكروه في شروط الاجتهاد، إلا أن الأمر يقع ضمن قاعدة «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» وكما يقول القرضاوي من أن المجتهد «لا يجتهد في فراغ، بل في وقائع تَنزل بالأفراد والمجتمعات من حوله»( ). وظننا أن الواقع كمحل للأحكام لدى الأصوليين من المسائل البدهية التي لم يُحتاج إلى ذكرها، ذلك أن الشريعة ومدار أحكامها ومتعلقاتها ما أُرسلت وما أُنزلت إلا لأجل صلاح الناس وأحوالهم ومعايشهم في العاجل، والفلاح في الآجل.
ويمكننا أن نلخص الأصول التشريعية لفقه الواقع كما هي متضمنة في أصول الإسلام وعلومه ـ وعلى وجه الاختصار ـ على النحو التالي:( ) ـ
- غائية إرسال الرسول وإنزال الكتاب بما تتضمنه هذه الغائية من رحمة وهداية للناس وصلاح لدنياهم ومعايشهم.
- أثر الإيمان بالله ورسوله وطاعتهما، وتحكيم آياته من توسعه في الرزق والخيرات والحياة الطيبة، وعكس ذلك من ضنك العيش ومصائب الدنيا.
- أسباب نزول الأحكام، وكيفية تعلقها بالحوادث والنوازل والمستجدات.
- حكمة نزول القرآن منجماً، والتدرج في الأحكام (مثال الخمر)، ومرحلية الدعوة المحمدية (مثال الجهاد)، كل ذلك مراعاة لواقع التنزيل، ووعياً لواقع الدعوة وما يحيط به من قوى ومعيقات.
- ما اهتدى إليه الأصوليون في بيانهم لمصادر التشريع الإسلامي من الاستحسان، والعرف، والعادة، والمصالح المرسلة، وقاعدة سد الذرائع... الخ.
- ما تدور عليه مقاصد الشريعة من حفظ مقومات الوجود الإنساني (الدين، والعقل، والنفس، والمال، والنسب، والعدل، والحرية) والتي تدور عليها أحوال الناس كلها.
- ربط القرآن للعبادات من الصلاة والصوم والحج والزكاة بالمنافع العاجلة للناس في محياهم، إضافة لأُخراهم.
- تشريع الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة وما في كل ذلك من رفع لظلم وإحقاق لحق، ودفعاً لضرر وجلب لمنفعة.
- تعلق التغيير في الواقع (المجال والعصر) بتغيير ما بالأنفس (الحال) وتعذره دون وعي بواقع الحال والمجال والعصر ابتداءً.
- نظرية الأهلية التي تأخذ بعين الاعتبار حال المكلف.
- ما اهتدى إليه الفقهاء من «فقه النوازل» و«الظروف الطارئة».
- ما ذهب إليه الأصوليون من تبدل الفتاوي بتبدل الأزمنة والأمكنة.
- تغيُّر الحكم بتغيُّر المصلحة التي بني عليها.
- تغيُّر الحكم بتغيُّر العرف الذي بني عليه.
- الاجتهاد ـ فيما لا نص فيه ـ مما يُستحدث ويُستجد من وقائع.
- نظرية الضرورة الشرعية المعتبرة التي تأخذ بعين الاعتبار إكراهات الواقع على مسار الحكم الشرع وتكييفه.
عيانية فقه الواقع:
إضافة لما يحدده التعريف المتقدم من بيان لمجال اشتغال فقيه الواقع فإننا نشير إلى أن فقه الواقع لا يتعلق بمساحة «الاجتهاد» المعروفة وفق التعريف الفقهي المتداول فحسب، بل يتجاوزه إلى مساحات «التجديد» التي تناط بالمصلحين الذين يجددون للأمة أمر دينها كما جاء في نص الحديث.
ونشير هنا إلى أن فقه الواقع لا يطال الواقع الغيبي. فالغيب لا يدركه الإنسان، وواقعية الغيب التي تعني الوجود الحقيقي نأتيها من باب الإيمان والتسليم والتصديق الاعتقادي، ومن البرهان العقلي. أما موجوداته ومشخصاته ومكوناته فهي متحصلة من النقل. وليس لأحد المقدرة على إخضاعه للدرس والتحليل كمعطى تجريبي. وإن شعر الإنسان بوطأة وجوده وحضوره، وخاض بعض الأفراد تجارب وجودية خاصة بهم.
كما أن هذا الواقع الغيبي ليس مَنَاطاً للأحكام ومحلاً لتنزيلها، وفق ما نطلق عليه فقه الواقع المتعلق بأحوال الناس ومعايشهم أفراداً وجماعات، فهؤلاء ليسوا أحياءً في واقع غيبي مستور، بل أحياءٌ في واقع عياني منظور، ووفق حالتهم هذه تتعلق بهم الأحكام. والغيب لا يدخل في باب الفقه وفق التصنيف التقليدي لعلوم الشريعة، بل يدخل في دائرة العقائد وعلم الكلام. ومن نافلة الكلام أن نذكر هنا أن إجماع الأصوليين قد انعقد على أن الرؤية والمنامات لا يحتج بها في تقرير الأحكام التكليفية حتى لو صدرت من أهل الصلاح والتقوى.
تاريخانية فقه الواقع:
وفقه الواقع ـ في أحد ميادينه ـ بما هو درس وتشخيص وتحليل وتفسير للظواهر المجتمعية، فهو درس ظواهر تاريخية لمجتمعات متحولة متحركة، ولذلك لا يمكن فهم فقه الواقع إلا إذا وضعناه في سياق التحول لا الثبات، التغيُّر لا السكون، التطور لا الجمود، التحديث لا التقليد.
ودلالة تاريخيته أنه فقه غايته الوعي بالواقع الراهن بغية تنزيل الحكم عليه. فـ«فقه النوازل» كما سماه القدماء أي ما ينزل في الزمن المعاش من جديد بالإنسان وبالمجتمع، هو فقه الحكم الجديد، الحكم الحديث في الوقائع الجديدة. وهو بذلك يفترض بداهة أن الأحكام السابقة أحكام تاريخية لا تصلح أن تسحب على الواقع المعاصر، لأنها أحكام قائمة على وقائع زمن مضى لا تتكرر في التاريخ، وإن بدا للبعض أنها متكررة. ذلك أن الواقع مشروط بتاريخيته وبكافة الأطر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي تحيط به في زمنه. ولا يصح استنساخ حكم تاريخي ماضوي على واقع راهن بدعوى القياس أو المشابهة أو المناظرة، لأن فقه الحال والمجال وظواهر المجتمع وسمة العصر لابد مختلفة أشد الاختلاف عما هي في الماضي.
وتاريخية فقه الواقع، أو العودة للواقع لبيان الأحكام لا تعني البتة أنه فقه وضعي لأن الواقع في فقه الواقع ليس حُكماً بل هو دليل الحكم، الهادي إليه، وشارحه، ومصداقه. ولكنه في الوقت نفسه جاء لاعتبار الواقع في تقرير الأحكام وبذلك تتحدد زاوية النظر المنهجي تجاه الواقع.
وضمن هذه الرؤية نتجاوز كل من إكراهات الواقع، وتغيب الواقع. فكلا النظرتين تَحُول دون التطور والتحديث ومن ثم التغيُّر والترقي. لأن الوقوع تحت أسر الواقع وإكراهاته يعني عدم مغادرته والوقوع رهينة له ولمحدداته وآلياته( ). وتغيب الواقع يلغي الفاعلية الإنسانية فيه، ويضع الإنسان خارج التاريخ في حد من العطالة والسكونية وفقدان معنى الوجود ذاته.
وتاريخية فقه الواقع لا يعني الانحباس في زمن اللحظة المعاشة، لأن زمن اللحظة هذا هو امتداد لزمن سابق عليه وآخر يلحق به. ولكن ذلك لا يعني أن يتحول فقه الواقع إلى علم دراسة التاريخ أو التنبؤ بالمستقبليات. إن التاريخ الماضي يحضر على سبيل الكشف عن السنن الحاكمة لتحولاته وسيرورته من ناحية. والاعتبار والتأسي بأحداثه وحركته من ناحية أخرى. أي يحضر في مستوى السُنَنِيِّة التاريخية، والسَنَنِيَّة الاعتبارية. أما المستقبل وامتداداته الزمنية فلا شغل للفقيه والمفكر المعاصر في أن يقبض عليه أو يصادره، لأنه ملك جيل المستقبل، وليس للفقيه إلا أن يشتغل عليه في حدود زمن جيله بما يؤسس من حرية وإرادة ووعي تُعين الأجيال اللاحقة على الإبداع والتجديد، وامتلاك ناصية تاريخها وواقعها. فمن لا يريد أن يصادر الفقيه السابق على الفقه المعاصر حقه في الاجتهاد والتجديد وإعادة النظر، فعليه أن يقرر أن ليس للفقيه المعاصر أن يصادر على فقيه المستقبل حقه كذلك.
وعليه ففقه الواقع ليس هو فقه ما وقع وما سيقع، وكون الواقع الحاضر له ذاكرة تاريخية وله آثار مستقبلية لا تحوّل فقه الواقع إلى الاستغراق فيهما كما هو الاستغراق في الواقع ذاته، فذاكرته تنحصر في مجال السنن والاعتبار، ومستقبليته محدودة في التخطيط الراهن المنظور دون رشوة للمستقبل أو امتلاكه.
«أواقع» في الزمن الواحد:
والواقع الذي يتم الحديث عنه ليس بالضرورة واقعاً موحداً في الزمن الواحد المعاش، بل قد يتعدد في المجتمع الواحد بحسب حال شخص إلى شخص آخر، أو جماعة إلى جماعة أخرى، أو بلدة إلى بلدة أخرى. كما ويختلف من واقع داخلي إلى واقع خارجي. وعلى الدارس للواقع أن يلحظ حدود التأثُّر والتأثير بين «الأواقع» في الزمن الواحد، بين داخل وداخل، وداخل وخارج، وخارج وداخل، وفي المستويات كافة، ولا يكتفي الدارس بالمعطى الظرفي (الزماني والمكاني) المباشر للحالة الفردية أو الظاهرة المجتمعية، بل عليه لحظ التبادلية القائمة بين «الأواقع المختلفة» سواء كانت تبادلية صراعية، أو تحاورية، أو تعارفية. تبادلية مؤقتة أو مستديمة، متوازنة أو مختلة، قهرية أو اختيارية.
ونشير ختاماً إلى قضايا إشكالية متعددة نأمل أن نوفق لبحثها في أعداد قادمة منها:
- حدود الشراكة بين الشرع والواقع، والسؤال عن حدود اعتبار الشرع للواقع، ومدى هذا الاعتبار في تقرير الأحكام؟ وما هي أولويات كل من الشرع والواقع وحاجاتهما؟ وهل أولويات الشرع وغايته هي التي توجه الواقع وتسعى لضبطه وتوجيهه وتسييره وفق مقاصده وغايته؟ وهل من حركة تضاد بين حركية الواقع وغائية الشريعة؟ أم أنهما متحايثان؟ أم متحالفان؟.
- الإشكالية الأخرى هي العلاقة التفسيرية بين النص والواقع؟ ومدى حضور كل منهما في الآخر؟ وكيف يحضر الواقع في النص؟ وإذا حضر النص في الواقع هل هو حضور مهيمن، أم توجيهي، أم مثبّت، أم ملغي؟ أم أن النص يحضر باعتبار حالة الواقع أن كان مستقيماً أو منحرفاً؟ في المقابل كيف لنا أن نشهد الواقع في النص؟ هل يمكننا أن نشهده أو نقاربه بعيداً عن الآليات المنهجية المخصوصة التي تم بها بناء النص نفسه كالآليات النحوية والبلاغية والمنطقية.. الخ، وهل يمكننا أن نقاربه وفق مناهج غربية منقولة؟ وما مشروعية ذلك معرفياً وتاريخياً واجتماعياً؟ هل يمكن أن نشهد الواقع إسلامياً بمعزل عن المقاصد الكلية للشريعة؟ وهل لنا أن نرتفع بالواقع إلى مقاصد النص، وننزل النص على الواقع، دون أن نلغي النص أو نتنكر للواقع؟ هل لنا أن نقدم علاقة ما بين النص بما هو نص إلهي فوق تاريخي وللواقع باعتباره تاريخي متغير، ونحقق في الوقت نفسه صلاح في الدنيا وفلاح في الآخرة؟.
- إضافة لذلك ما هي المناهج التي سيتم بموجبها تحديد زاوية النظر للواقع من ناحية، وتشخيصه وتحليله وتفسيره من ناحية أخرى؟ هل هي مناهج مسبقة معلومة أم تجريبية تخضع للمران والبحث المستمر؟ وهل هناك زاوية نظر ومناهج إسلامية لمرحلة التشخيص تختلف عن زاوية النظر الغربية ومناهجها.
وسيبقى سؤال هام في هذا السياق مفاده: هل سيؤثر الالتزام الديني المسبق في التوجه نحو دراسة الواقع؟ وهل سيؤثر الإيمان بجملة مقاصد وحقائق دينية وبرامج للدعوة والتغيير في تشخيص وتفسير الواقع؟ أم أن هذه المسألة ليست سلبية بالمطلق وأنها تحقق فاعلية الإنسان ومسؤوليته تجاه واقعه الخاص ما دام التحديث والتجديد مطلباً معرفياً واجتماعياً.
الدكتور أنور أبو طه
عضو المكتب العام لحركة الجهاد الاسلامي في فلسطين.
تمهيد:
اشتهرت وشاعت في العصر الحديث كلمات الواقع، والواقعي، والواقعة، والواقعية لا ككلمات لغوية لها دلالاتها المفردة، بل كاصطلاحات ومفاهيم مذهبية في الأدب والفن والفلسفة والسياسة.
فـ«الواقعية»( ) ـ Realism ـ كاصطلاح مذهبي ظهرت في لحظات التحولات الاجتماعية والفكرية في الفكر الغربي ضمن حركة الطرد والاستبعاد للتصورات التي تحيل الحوادث والظواهر وتفسرها وفق منظور لاهوتي كنسي، أو مثالي طوباوي.
وغدت «الواقعية» مجموعة جديدة من القيم المعرفية والاجتماعية تعمل على تحرير الإنسان من القيود اللاهوتية، وإحلال الواقع الموضوعي المادي كمرجع وحيد للإنسان يستمد منه قيمه وتصوراته، وأعادت الاعتبار إلى العقل الإنساني، وإلى الشرط الاجتماعي أساساً لتكوين العقل والإنسان، وتمجيد العقل كقيمة عليا، وجعل الإنسان صانعاً للتاريخ وفق القانون العلمي القادر هو على اكتشافه في الواقع المادي المحسوس.
وشاع أن الإنسان «الواقعي» هو الذي يقبل التعامل مع الواقع كما هو، ولا يرفضه تبعاً لعقيدته أو مرجعيته الفكرية. والذي تتحدد علاقته بالواقع علاقة فهم واستيعاب للاستفادة من المتاحات الموجودة فيه، وتطويره وفق ما يسمح به الواقع نفسه، وليس تغييره على مقتضى تصور أيديولوجي سابق.
تباينت تيارات الفكر والسياسة في عالمنا العربي الإسلامي في تعاملها مع هذه النزعة المذهبية بين ممتثل ومتبن لها، وبين متشكك ورافض. إلا أن مصطلح «الواقع» كان يتفاعل على نحو مختلف، ذلك أن الغرب مع غزوه العسكري والثقافي للمجتمعات العربية، ومع حضوره فيها أظهر للعرب وللمسلمين حالة التخلف والفوات الحضاري التي يعيشونها في مقابل تقدمه وتفوقه الحضاري، الأمر الذي أثار العقل العربي الإسلامي، ودفعه إلى البحث عن أسباب وعوامل هذا الفوات وسبل الخروج منه. وطرحت التيارات المختلفة العلمانية منها والإسلامية حلولاً مختلفة وفق مرجعياتها الأيديولوجية والثقافية والسياسية، ولكن الطرفين فشلا في حل أزمة الفوات الحضاري أو تجاوز أزمة التحدي الغربي الحديث.
فتيار العلمنة كما تيار الأسلمة ألغيا الواقع من حيث أرادا تغييره ورفعه لمستوى التحدي المفروض وحل مأزوميته. ووقف كلاهما من الواقع موقف الإدانة والمصادرة. فالأول اتهم الواقع بالتخلف، والثاني اتهمه بالجاهلية. استجاب تيار العلمنة ـ الذي يدعي «الواقعية» ـ لإكراهات الواقع المنتصر والمتفوق و«العلمي»، ودعا إلى نقله واستنساخه والأخذ به جملة وتفصيلاً، وإحلاله محل واقع التأخر والتخلف. أما تيار الأسلمة فقد أراد سحب مثال وصورة واقع نموذجي طهراني [دولة الرسول () والخلفاء الراشدين (رض)] على الواقع «الجاهلي» بعد تدميره أو تفكيكه. وكلاهما( ) لم يتعاملا مع واقع محلي مشخص وقائم، بل مع مثالين لواقعين في التصور، وكلا المثالين مشروطين ثقافياً وتاريخياً. وعلى خلاف المشروطية الثقافية والتاريخية للمجتمع العربي المعاصر.
لم يستمر عموم التيار الإسلامي على هذا التوجه تجاه الواقع والتعامل معه( )، بل إن استمرار الفوات الحضاري، وفشل الطروحات السابقة في التغيير وبناء المجتمع العربي الإسلامي وإقامة الدولة الإسلامية التي ستنجز التحرر والوحدة وستحقق العدل والمساواة، أدى هذا الفشل إلى إعادة النظر وعلى المستويين الفكري والفقهي في الصياغات النظرية التي قُدِّمت تجاه مسائل التغيير، والاجتهاد، والتجديد. وبرزت كتابات نقدية وتأسيسية تجاه هذه المسائل الثلاث ضمن مستويين اثنين: الأول يتعلق بالنص ـ قرآناً وسنة( ) ـ، وبالتراث ـ الفقهي والسياسي( ) ـ. والثاني يتعلق بالواقع وإعادة الاعتبار له لجهة فهمه واستيعاب حركته، ومن ثم تفسيره وإنزال الأحكام عليه.
وفي مقالتنا هذه سنعمد إلى بعض المقاربات المنهجية ضمن المستوى الثاني الخاص بالواقع، أو بما اشتهر تسميته بـ «فقه الواقع».
«الواقع» لغة واصطلاحاً:
لم تعرف اللغة العربية مفهوم «الواقع» كمفهوم مجازي حديث يدل على ما يدل عليه عند سماعه لدى الإنسان العربي المعاصر وإن اشترك مع المعنى القديم في شيء من معناه الحديث.
يفيد لغة( ) الفعل الثلاثي وَقَعَ، واشتقاقاته يقع، وقعاً، ووقوعاً السقوط وإنزال الشيء على الشيء. وهذا ما يفيده في الكلام حقيقة كأن تقول وقع الطير على أرض أو شجر، أو وقع المطر على الأرض، أو وقعت الدواب أي ربضت على الأرض... الخ ومن هنا بالموقع هو مكان الوقوع، أي وقوع الشيء موقعه أو في موضعه كمواقع المطر أي مساقطه. أما في الاستخدام المجازي فما وقع هو بمعنى حصول الشيء وثبوته، كالقول وقع الحق أي ثبت، ووقع الحق عليه أي ثبت، ووقع في الشِرْك حصل فيه. ومن هنا فمفردة الواقع ضمن هذا السياق المجازي تعني الحاصل ومنها النازل. ومنها كلمة الواقعة أي النازلة، ووقائع أي نوازل. وقال الراغب الأصفهاني: «ولا تقال إلا في الشدة والمكروه». وقد عُرفت الوقائع عند العرب بـ«أيام العرب» ودلت الواقعة على «النازلة من صنوف الدهر»، وبهذا سمّى القرآن يوم القيامة بالواقعة في قوله تعالى: {إذا وقعت الواقعة} أي القيامة بما فيها من شدة وأهوال.
والواقع أو الوقائع بمعنى النوازل في الاصطلاح التقليدي للغة العربية له دلالة مرتبطة بفعل «وَقَعَ» في اللغة، أي ما حَصَلَ وتَعَيَّن، وأصبح عياناً منظوراً، أو خبراً متحصلاً لواقعة أو نازلة أو حدث، وهو بذلك وقع في زمن محصور وغير ممتد.
وأما «الواقع» فنعرفه بـ: ما يحيط بالإنسان والجماعة من حال ومجال وعصر، ويؤثر فيهما على سبيل التشكيل الراهن ضمن زمن متحرك، و«الواقع» بذلك هو حال الإنسان والجماعة بما يحملانه من قيم وأفكار وطبائع وخصائص وسمات ضمن مجالات يحياها كل منهما ويعيشانها من اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، وفق المرحلة التاريخية العامة التي تمر بها المجتمعات بسماتها المختلفة، وهو ما نطلق عليه العصر. والحال والمجال والعصر معيوش من قبل الإنسان والجماعة في زمن ممتد متحول. والواقع بذلك ليس إلا معاصرة الحال والمجال وتشكلهما في صيرورة الزمن المعاش.
فقه الواقع:
وفق ما تقدم من تعريف للواقع يمكننا تعريف فقه الواقع بأنه: الوعي بالواقع. وبتعريف تفصيلي آخر يحدد طبيعته وميادينه فهو: الوعي بحال ومجال الأفراد والجماعات. وتشخيص وتحليل وتفسير الظواهر المجتمعية (الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية) في سياقاتها الفكرية أو العملية، الموضوعية أو الذاتية، الحقيقي أو الرمزي، ضمن صيرورة الزمن المعاش.
وليس الفقه مجرد الفهم فحسب، بل هو امتلاك المقدرة المعرفية والمنهجية على تشخيص الواقع وتحليله وتفسيره، تلك المقدرة الموصلة إلى الوعي العميق والتفصيلي بالواقع، والتي تقدم للفقيه وللقانوني المقدرة على تنزيل النص على الواقع وتحقيق فاعليته فيه، والكشف عن أبعاد الواقع وآفاقه داخل النص.
الأصول والأدلة الشرعية لفقه الواقع:
نقل ابن قيم الجوزية في «أعلام الموقعين» عن الإمام أحمد خصال خمس يجب تحققها فيمن ينصِّب نفسه للفتيا. عدَّها دعائم الفتوى ومنها الخصلة الخامسة وهي «معرفة الناس». وشرحها ابن القيم قائلاً: «فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم... وإلا كان ما يُفْسد أكثر مما يصلح، فإنه إذا لم يكن فقيهاً في الأمر له معرفة بالناس، تصوَّر له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال...»( ).
وقد عدّ الشيخ القرضاوي ـ مستنداً على ما تقدم ـ «معرفة الناس والحياة» شرطاً من الشروط الواجب توفرها في المجتهد. ولكن وبالرغم مما ذهب إليه القرضاوي من أن هذا الشرط هو شرط لصحة الاجتهاد لا لبلوغه، وأن الأصوليين لم يذكروه في شروط الاجتهاد، إلا أن الأمر يقع ضمن قاعدة «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» وكما يقول القرضاوي من أن المجتهد «لا يجتهد في فراغ، بل في وقائع تَنزل بالأفراد والمجتمعات من حوله»( ). وظننا أن الواقع كمحل للأحكام لدى الأصوليين من المسائل البدهية التي لم يُحتاج إلى ذكرها، ذلك أن الشريعة ومدار أحكامها ومتعلقاتها ما أُرسلت وما أُنزلت إلا لأجل صلاح الناس وأحوالهم ومعايشهم في العاجل، والفلاح في الآجل.
ويمكننا أن نلخص الأصول التشريعية لفقه الواقع كما هي متضمنة في أصول الإسلام وعلومه ـ وعلى وجه الاختصار ـ على النحو التالي:( ) ـ
- غائية إرسال الرسول وإنزال الكتاب بما تتضمنه هذه الغائية من رحمة وهداية للناس وصلاح لدنياهم ومعايشهم.
- أثر الإيمان بالله ورسوله وطاعتهما، وتحكيم آياته من توسعه في الرزق والخيرات والحياة الطيبة، وعكس ذلك من ضنك العيش ومصائب الدنيا.
- أسباب نزول الأحكام، وكيفية تعلقها بالحوادث والنوازل والمستجدات.
- حكمة نزول القرآن منجماً، والتدرج في الأحكام (مثال الخمر)، ومرحلية الدعوة المحمدية (مثال الجهاد)، كل ذلك مراعاة لواقع التنزيل، ووعياً لواقع الدعوة وما يحيط به من قوى ومعيقات.
- ما اهتدى إليه الأصوليون في بيانهم لمصادر التشريع الإسلامي من الاستحسان، والعرف، والعادة، والمصالح المرسلة، وقاعدة سد الذرائع... الخ.
- ما تدور عليه مقاصد الشريعة من حفظ مقومات الوجود الإنساني (الدين، والعقل، والنفس، والمال، والنسب، والعدل، والحرية) والتي تدور عليها أحوال الناس كلها.
- ربط القرآن للعبادات من الصلاة والصوم والحج والزكاة بالمنافع العاجلة للناس في محياهم، إضافة لأُخراهم.
- تشريع الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة وما في كل ذلك من رفع لظلم وإحقاق لحق، ودفعاً لضرر وجلب لمنفعة.
- تعلق التغيير في الواقع (المجال والعصر) بتغيير ما بالأنفس (الحال) وتعذره دون وعي بواقع الحال والمجال والعصر ابتداءً.
- نظرية الأهلية التي تأخذ بعين الاعتبار حال المكلف.
- ما اهتدى إليه الفقهاء من «فقه النوازل» و«الظروف الطارئة».
- ما ذهب إليه الأصوليون من تبدل الفتاوي بتبدل الأزمنة والأمكنة.
- تغيُّر الحكم بتغيُّر المصلحة التي بني عليها.
- تغيُّر الحكم بتغيُّر العرف الذي بني عليه.
- الاجتهاد ـ فيما لا نص فيه ـ مما يُستحدث ويُستجد من وقائع.
- نظرية الضرورة الشرعية المعتبرة التي تأخذ بعين الاعتبار إكراهات الواقع على مسار الحكم الشرع وتكييفه.
عيانية فقه الواقع:
إضافة لما يحدده التعريف المتقدم من بيان لمجال اشتغال فقيه الواقع فإننا نشير إلى أن فقه الواقع لا يتعلق بمساحة «الاجتهاد» المعروفة وفق التعريف الفقهي المتداول فحسب، بل يتجاوزه إلى مساحات «التجديد» التي تناط بالمصلحين الذين يجددون للأمة أمر دينها كما جاء في نص الحديث.
ونشير هنا إلى أن فقه الواقع لا يطال الواقع الغيبي. فالغيب لا يدركه الإنسان، وواقعية الغيب التي تعني الوجود الحقيقي نأتيها من باب الإيمان والتسليم والتصديق الاعتقادي، ومن البرهان العقلي. أما موجوداته ومشخصاته ومكوناته فهي متحصلة من النقل. وليس لأحد المقدرة على إخضاعه للدرس والتحليل كمعطى تجريبي. وإن شعر الإنسان بوطأة وجوده وحضوره، وخاض بعض الأفراد تجارب وجودية خاصة بهم.
كما أن هذا الواقع الغيبي ليس مَنَاطاً للأحكام ومحلاً لتنزيلها، وفق ما نطلق عليه فقه الواقع المتعلق بأحوال الناس ومعايشهم أفراداً وجماعات، فهؤلاء ليسوا أحياءً في واقع غيبي مستور، بل أحياءٌ في واقع عياني منظور، ووفق حالتهم هذه تتعلق بهم الأحكام. والغيب لا يدخل في باب الفقه وفق التصنيف التقليدي لعلوم الشريعة، بل يدخل في دائرة العقائد وعلم الكلام. ومن نافلة الكلام أن نذكر هنا أن إجماع الأصوليين قد انعقد على أن الرؤية والمنامات لا يحتج بها في تقرير الأحكام التكليفية حتى لو صدرت من أهل الصلاح والتقوى.
تاريخانية فقه الواقع:
وفقه الواقع ـ في أحد ميادينه ـ بما هو درس وتشخيص وتحليل وتفسير للظواهر المجتمعية، فهو درس ظواهر تاريخية لمجتمعات متحولة متحركة، ولذلك لا يمكن فهم فقه الواقع إلا إذا وضعناه في سياق التحول لا الثبات، التغيُّر لا السكون، التطور لا الجمود، التحديث لا التقليد.
ودلالة تاريخيته أنه فقه غايته الوعي بالواقع الراهن بغية تنزيل الحكم عليه. فـ«فقه النوازل» كما سماه القدماء أي ما ينزل في الزمن المعاش من جديد بالإنسان وبالمجتمع، هو فقه الحكم الجديد، الحكم الحديث في الوقائع الجديدة. وهو بذلك يفترض بداهة أن الأحكام السابقة أحكام تاريخية لا تصلح أن تسحب على الواقع المعاصر، لأنها أحكام قائمة على وقائع زمن مضى لا تتكرر في التاريخ، وإن بدا للبعض أنها متكررة. ذلك أن الواقع مشروط بتاريخيته وبكافة الأطر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي تحيط به في زمنه. ولا يصح استنساخ حكم تاريخي ماضوي على واقع راهن بدعوى القياس أو المشابهة أو المناظرة، لأن فقه الحال والمجال وظواهر المجتمع وسمة العصر لابد مختلفة أشد الاختلاف عما هي في الماضي.
وتاريخية فقه الواقع، أو العودة للواقع لبيان الأحكام لا تعني البتة أنه فقه وضعي لأن الواقع في فقه الواقع ليس حُكماً بل هو دليل الحكم، الهادي إليه، وشارحه، ومصداقه. ولكنه في الوقت نفسه جاء لاعتبار الواقع في تقرير الأحكام وبذلك تتحدد زاوية النظر المنهجي تجاه الواقع.
وضمن هذه الرؤية نتجاوز كل من إكراهات الواقع، وتغيب الواقع. فكلا النظرتين تَحُول دون التطور والتحديث ومن ثم التغيُّر والترقي. لأن الوقوع تحت أسر الواقع وإكراهاته يعني عدم مغادرته والوقوع رهينة له ولمحدداته وآلياته( ). وتغيب الواقع يلغي الفاعلية الإنسانية فيه، ويضع الإنسان خارج التاريخ في حد من العطالة والسكونية وفقدان معنى الوجود ذاته.
وتاريخية فقه الواقع لا يعني الانحباس في زمن اللحظة المعاشة، لأن زمن اللحظة هذا هو امتداد لزمن سابق عليه وآخر يلحق به. ولكن ذلك لا يعني أن يتحول فقه الواقع إلى علم دراسة التاريخ أو التنبؤ بالمستقبليات. إن التاريخ الماضي يحضر على سبيل الكشف عن السنن الحاكمة لتحولاته وسيرورته من ناحية. والاعتبار والتأسي بأحداثه وحركته من ناحية أخرى. أي يحضر في مستوى السُنَنِيِّة التاريخية، والسَنَنِيَّة الاعتبارية. أما المستقبل وامتداداته الزمنية فلا شغل للفقيه والمفكر المعاصر في أن يقبض عليه أو يصادره، لأنه ملك جيل المستقبل، وليس للفقيه إلا أن يشتغل عليه في حدود زمن جيله بما يؤسس من حرية وإرادة ووعي تُعين الأجيال اللاحقة على الإبداع والتجديد، وامتلاك ناصية تاريخها وواقعها. فمن لا يريد أن يصادر الفقيه السابق على الفقه المعاصر حقه في الاجتهاد والتجديد وإعادة النظر، فعليه أن يقرر أن ليس للفقيه المعاصر أن يصادر على فقيه المستقبل حقه كذلك.
وعليه ففقه الواقع ليس هو فقه ما وقع وما سيقع، وكون الواقع الحاضر له ذاكرة تاريخية وله آثار مستقبلية لا تحوّل فقه الواقع إلى الاستغراق فيهما كما هو الاستغراق في الواقع ذاته، فذاكرته تنحصر في مجال السنن والاعتبار، ومستقبليته محدودة في التخطيط الراهن المنظور دون رشوة للمستقبل أو امتلاكه.
«أواقع» في الزمن الواحد:
والواقع الذي يتم الحديث عنه ليس بالضرورة واقعاً موحداً في الزمن الواحد المعاش، بل قد يتعدد في المجتمع الواحد بحسب حال شخص إلى شخص آخر، أو جماعة إلى جماعة أخرى، أو بلدة إلى بلدة أخرى. كما ويختلف من واقع داخلي إلى واقع خارجي. وعلى الدارس للواقع أن يلحظ حدود التأثُّر والتأثير بين «الأواقع» في الزمن الواحد، بين داخل وداخل، وداخل وخارج، وخارج وداخل، وفي المستويات كافة، ولا يكتفي الدارس بالمعطى الظرفي (الزماني والمكاني) المباشر للحالة الفردية أو الظاهرة المجتمعية، بل عليه لحظ التبادلية القائمة بين «الأواقع المختلفة» سواء كانت تبادلية صراعية، أو تحاورية، أو تعارفية. تبادلية مؤقتة أو مستديمة، متوازنة أو مختلة، قهرية أو اختيارية.
ونشير ختاماً إلى قضايا إشكالية متعددة نأمل أن نوفق لبحثها في أعداد قادمة منها:
- حدود الشراكة بين الشرع والواقع، والسؤال عن حدود اعتبار الشرع للواقع، ومدى هذا الاعتبار في تقرير الأحكام؟ وما هي أولويات كل من الشرع والواقع وحاجاتهما؟ وهل أولويات الشرع وغايته هي التي توجه الواقع وتسعى لضبطه وتوجيهه وتسييره وفق مقاصده وغايته؟ وهل من حركة تضاد بين حركية الواقع وغائية الشريعة؟ أم أنهما متحايثان؟ أم متحالفان؟.
- الإشكالية الأخرى هي العلاقة التفسيرية بين النص والواقع؟ ومدى حضور كل منهما في الآخر؟ وكيف يحضر الواقع في النص؟ وإذا حضر النص في الواقع هل هو حضور مهيمن، أم توجيهي، أم مثبّت، أم ملغي؟ أم أن النص يحضر باعتبار حالة الواقع أن كان مستقيماً أو منحرفاً؟ في المقابل كيف لنا أن نشهد الواقع في النص؟ هل يمكننا أن نشهده أو نقاربه بعيداً عن الآليات المنهجية المخصوصة التي تم بها بناء النص نفسه كالآليات النحوية والبلاغية والمنطقية.. الخ، وهل يمكننا أن نقاربه وفق مناهج غربية منقولة؟ وما مشروعية ذلك معرفياً وتاريخياً واجتماعياً؟ هل يمكن أن نشهد الواقع إسلامياً بمعزل عن المقاصد الكلية للشريعة؟ وهل لنا أن نرتفع بالواقع إلى مقاصد النص، وننزل النص على الواقع، دون أن نلغي النص أو نتنكر للواقع؟ هل لنا أن نقدم علاقة ما بين النص بما هو نص إلهي فوق تاريخي وللواقع باعتباره تاريخي متغير، ونحقق في الوقت نفسه صلاح في الدنيا وفلاح في الآخرة؟.
- إضافة لذلك ما هي المناهج التي سيتم بموجبها تحديد زاوية النظر للواقع من ناحية، وتشخيصه وتحليله وتفسيره من ناحية أخرى؟ هل هي مناهج مسبقة معلومة أم تجريبية تخضع للمران والبحث المستمر؟ وهل هناك زاوية نظر ومناهج إسلامية لمرحلة التشخيص تختلف عن زاوية النظر الغربية ومناهجها.
وسيبقى سؤال هام في هذا السياق مفاده: هل سيؤثر الالتزام الديني المسبق في التوجه نحو دراسة الواقع؟ وهل سيؤثر الإيمان بجملة مقاصد وحقائق دينية وبرامج للدعوة والتغيير في تشخيص وتفسير الواقع؟ أم أن هذه المسألة ليست سلبية بالمطلق وأنها تحقق فاعلية الإنسان ومسؤوليته تجاه واقعه الخاص ما دام التحديث والتجديد مطلباً معرفياً واجتماعياً.
تعليق