تطورات المشهد الجهادي في العراق
د. أكرم حجازي / كاتب وأستاذ جامعي
صحف – 20/4/2008
ثلاثة خطابات صدرت تباعا عن قادة القاعدة ودولة العراق الإسلامية كلها تتحدث عن حال المشروع الجهادي في العراق معطوفا عليها تعليق الظواهري على أحداث المحلة في مصر والذي سنتركه لمناسبة قادمة. والخطابات الثلاثة هي:
1) "البنيان المرصوص" لأبي عمر البغدادي أمير دولة العراق الإسلامية بتاريخ 15/4/2008.
2) "خمس سنوات على غزو العراق وعقود على ظلم الطغاة" للدكتور أيمن الظواهري بتاريخ 18/4/2008.
3) "مسالك النصر" لأبي حمزة المهاجر وزير الحرب بدولة العراق الإسلامية 19/4/2008
وفي الحقيقة فقد تعمدت التريث في تحليل الخطابات بانتظار صدور خطاب المهاجر الذي أعلن مسبقا عن وجوده بانتظار النشر. وما أن صدر حتى اكتملت الصورة، ولا شك لدي أن الخطابات الثلاثة تأتي بمناسبة الذكرى الخامسة لسقوط العراق بيد القوات الأمريكية والحليفة لها. لكن أكثر ما يلفت الانتباه فيها أن الظواهري تولى الشأن الأمريكي والبغدادي تولى الشأن السياسي في العراق خاصة مسألة الصحوات والعشائر أما المهاجر فاهتم بتقديم جردة حساب شرعية لجنوده. والأرجح أن الخطابات الثلاثة ما كانت لتصدر إلا بعد تنسيق مسبق بين القادة الثلاثة حيث اهتم كل منهم بمعالجة مسألة معينة تقع في نطاق مسؤولياته وصلاحياته.
إذن ثمة ثلاث قضايا كبرى تتناولها الخطابات الثلاثة، فالموقف الأمريكي في العراق والصحوات والخطاب الشرعي للمهاجر قضايا لا يمكن أن تفهم إلا في سياق السنوات الخمس من الحرب الطاحنة وما آل إليه المشروع الجهادي، حتى لو كان ظاهر خطاب المهاجر، بلسانه، الإعلان عن "غزوة البر". فلننظر قليلا في القضايا الثلاث.
أولا: الاستراتيجية الأمريكية في العراق
منذ سقوط بغداد لم يجرؤ الأمريكيون حتى الآن على إعلان النصر في حربهم على العراق. وعلى العكس من ذلك فقد توالى اختفاء قادة الحرب ومنظريها عن الساحة السياسية الأمريكية ابتداء من وزير الدفاع دونالد رامسفيلد وانتهاء بالقادة العسكريين والميدانيين. وقد لا يكون لمثل هذا الأمر من معنى في دولة بحجم الولايات المتحدة لكن توالي الشهادات أمام اللجان المختصة في الكونغرس وتغير التكتيكات يطرح علامات تعجب عن قدرة الولايات المتحدة على إدارة الحرب، على الأقل، وليس الانتصار فيها. أما آخر الشهادات المثيرة التي تلقيناها فهي نصيحة من الجنرال الركن المتقاعد وليام أودم أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي (2/4/2008) حول الوضع في العراق والتي ترى بأن: "الإستراتيجية العقلانية الوحيدة هي الانسحاب بسرعة ولكن بشكل منظم... والخطوة التالية هي اختيار هدف جديد: الاستقرار الإقليمي، لا تحقيق نصر بلا معنى في العراق".
لا شك أن نصيحة الجنرال الأمريكي بالغة الأهمية وهي تحيلنا إلى أن الحديث عن السياسة الأمريكية في العراق لم تعد تهتم كثيرا بتحقيق النصر بقدر ما يشغل بالها "الاستقرار الإقليمي" في المنطقة. ولا شك أن المقصود بالاستقرار الإقليمي مسألتين فقط هما النفط وإسرائيل لا أكثر ولا أقل. بطبيعة الحال يعتقد صاحب النصيحة أن الانسحاب الأمريكي وتغيير الهدف سيؤديان إلى توفير أرواح الجنود، أما في العراق فهو يعتقد أن: "القلق الذي نسمع الرئيس ومساعديه يبدونه حول بقاء بقايا للقاعدة إذا انسحبنا هو محض هراء. فالسنة سوف يجهزون على القاعدة فور انسحابنا من العراق، الأكراد لا يسمحون للقاعدة بدخول منطقتهم، والشيعة كالإيرانيين، يمقتون القاعدة".
بالتأكيد للجنرال الأمريكي نظريته، وهي موضع احترام بشرط أن يفسر لنا فشل القوات الأمريكية وكل حلفائها وعملائها من السنة والشيعة في القضاء ليس على القاعدة في العراق فقط بل على كل تيار السلفية الجهادية ناهيك عن القوى الجهادية الأخرى. فمن أشهَر عداءه للقاعدة وأعلن الحرب عليها فعل ذلك بحماية أمريكية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وإذا لم يكن ثمة نصر في الحرب على العراق فالأكيد أنه الفشل. وحبذا لو طرح الجنرال الأمريكي سؤالا على نفسه: فإذا كانت القوى المعادية للقاعدة في العراق قد فشلت في ظل الدعم الأمريكي فكيف يمكن لهذه القوى أن تصمد في غيابه؟ وبأية أدوات أو آليات؟ ألم يكن السؤال التالي أجدى في الطرح: إلى أي مدى يمكن للقوى الحليفة للأمريكيين، سنية أو شيعية، أن تصمد فيما إذا انسحبت القوات الأمريكية من العراق؟
الحقيقة أن شهادة الجنرال الأمريكي، على أهميتها، إلا أنها تعج بالتناقضات أو في أحسن الأحوال غامضة للغاية إلا فيما يتعلق بضرورة تغيير السياسة الأمريكية باتجاه التفاهم مع إيران حتى يمكن الشروع بخطوة "الانسحاب المنظم". لكن لماذا يتحدث جنرال أمريكي كبير عن ضرورة التفاهم مع إيران؟
تقول بعض المصادر العربية أن وزير الدفاع الأمريكي ديك تشيني زار إحدى الدول العربية وطلب من زعيمها المشاركة في حرب محتملة ضد إيران إلا أنه رفض قائلا له: "هذه حرب المائة العام" وليس من المعقول أن نشارك في حرب طويلة الأمد، ولما فشل حضر جورج بوش بنفسه للترويج للحرب إلا أنه فشل أيضا.
وقبل بضعة شهور صدر تقرير صاغته ستة عشر وكالة أمنية تابعة للمخابرات الأمريكية "برأت" إيران من تهمة السعي لامتلاك أسلحة نووية. وفي حينه وجه التقرير صفعة قوية للبيت الأبيض والبنتاغون وعلى وجه الخصوص لتيار المحافظين الساعي لشن حرب على إيران، وصدرت أكثر الاحتجاجات والتصريحات الغاضبة على التقرير الأمريكي ليس من الإدارة الأمريكية بل من الحكومة الإسرائيلية التي سارعت إلى الدعوة لانعقاد المجلس الوزاري المصغر ولجنة الأمن لبحث تداعيات التقرير الأمريكي على إسرائيل. أما لماذا؟ فلأن صدور التقرير بما يخالف رغبات المحافظين كشف حقيقة عن خلافات عميقة وتصفية حساب بين الإدارة الأمريكية وقوى الأمن فيها، والتي خشيت من تورط الولايات المتحدة بحروب ليس لها فيها ناقة ولا جمل فضلا عن أنها تعرضها والمنطقة لمخاطر مدمرة.
حتى الآن فشلت السياسة الأمريكية تجاه شن الحرب على إيران لغياب أي دعم إقليمي لها فضلا عن تقرُّب دول الخليج من إيران واستضافتها كعضو مراقب في مجلس التعاون الخليجي في محاولة منها لاسترضائها خاصة أن قوتها العسكرية تتضخم والتورط معها ليس سهلا. ولكل هذه الأسباب قد تتجه الولايات المتحدة بدلا من التصادم مع إيران إلى التفاهم معها خاصة أنها لم تقصِّر في دعم الحروب الأمريكية السابقة على أفغانستان والعراق. ثم ببساطة: إذا كانت إيران تسعى فعلا لامتلاك أسلحة نووية؛ فمن هو عدوها؟ وضد من ستمارس بواسطتها الردع؟
الأكيد أن التفاهم مع إيران يعني الإقرار بأن لها حقوقا أكثر في المنطقة في ضوء نموها العسكري كقوة إقليمية ناهضة، وبما أن إيران تسعى لاعتراف أمريكي بدورها الجديد في المنطقة فمن الطبيعي أن تناضل عبر عناصر القوة لديها كالبرنامج النووي أو نمو الصناعة العسكرية لديها أو تضخم نفوذها في العراق ولبنان لانتزاع هذا الاعتراف منها. هذا كل ما تسعى إليه إيران. وإن حصل فسيحصل المشروع الصفوي الإيراني على غطاء دولي شاء العرب أو أبوا.
وفي هذا السياق بالضبط، وللمرة الأولى، يأتي التخوف الذي عبر عنه الظواهري في خطابه من احتمال أن يؤدي التفاهم الأمريكي الإيراني إلى توسع المشروع الصفوي بما يكفي للتمهيد لانفجار شامل في المنطقة دون أن تفوته شهادة الجنرال الأمريكي: "أما الديمقراطيون فيحاولون أن يخادعوا قومهم بزعمهم أنهم سيسحبون قواتهم من العراق عبر التفاهم مع إيران، ليركزوا على القاعدة وطالبان في باكستان وأفغانستان. وإيران أهدافها واضحةٌ؛ ضم جنوب العراق وشرق الجزيرة، والتمدد للتواصل مع أتباعها في جنوب لبنان". وسواء تم هذا التفاهم "على أساس تلبية كل أو بعض أهدافها في مقابل غض الطرف عن الهيمنة الأمريكية في المنطقة" أو لم يتم فالحديث عن "تواطؤ أمريكي – إيراني" أصبح واردا أكثر من أي وقت مضى. لذا فالقاعدة باتت تدرك أن "الاستقرار الإقليمي" المقترح يقضي بطي صفحة العراق أو إحالتها (القاعدة) إلى إيران والتوجه كي تتفرغ الولايات المتحدة للباكستان وأفغانستان المنطقتين الأخطر خاصة وأنهما قريبتين من آسيا الوسطى المرتع الخصب للحركات الإسلامية.
بهذه الصيغة تكون الولايات المتحدة قد خسرت النصر الذي سعت إليه ولكنها نجت من الهزيمة الساحقة في العراق ونجحت في تأمين المنطقة. فلنعِد طرح ذات السؤال: كيف يمكن لإيران أن تنجح من حيث فشلت الولايات المتحدة وكلاهما يحتل العراق زيادة على تقدم النفوذ الإيراني على القوة الأمريكية في العراق؟
ثانيا: عشائر ممزقة
يقول البغدادي في خطابه أن بعضا من شيوخ العشائر السنية حمل إليه هموم الوسط العشائري مشيرا إلى شكاوى تلقاها منهم تتصل بـ:
· "ما أسموه هم بالقتال في المنطقة السنية بين أبناء العشائر"، ومتسائلين في الوقت ذاته: "إلى متى سيبقى القتال السني هكذا؟ وألم يحن الوقت لنوجه هذاالسلاح في وجه المحتل فحسب؟".
· الدور الأمريكي وحلفائهم في الزج بالعشائر: "في متاهة ونفق أسود مسمى بالقوات الوطنية وصحوة العشائر"، مشيرين إلى: "أن سبب المشكلة في المنطقة السنية هو الحزب الإسلامي وحاشيته من علماء السوء وشيوخ العشائر وأكاذيبهم المستمرة منذ دخولهم العملية السياسية المشئومة".
في المقابل قدم البغدادي جردة حساب للعشائر خصوصا وللوسط السني عموما على هذه الإشكاليات مقترحا احتواء الصف السني، الذي باتت عمليات القتل والتصفية فيه تقع في نطاق العشيرة ذاتها، عبر صيغة تصالحية تقضي باتفاق يعفو بموجبه عن المتورطين بشرط أن: "يذهب علماء الدين وشيوخ العشائر إلى تفعيله ووضعه حَيز التنفيذ, وعلى الأقل ضمن أي منطقة يتيسر فيها الأخذ بهذا الاتفاق دون اجتزاء لبعض بنوده أو فقراته". وبالتأكيد ما كان للبغدادي أن يتوصل لاتفاق لو لم يكن قد تفاهم فعلا مع العشائر بحيث يكون الإعلان الإعلامي عنه بمثابة التزام. لكن الأهم في المبادرة أنها تكشف حقيقة عن الوضع القائم في العراق وما آل إليه مشروع الصحوات من جهة والعملية السياسية من جهة أخرى.
لو انطلقنا من شهادة الجنرال الأمريكي ذاته حول الوضع الاجتماعي والسياسي في العراق سيتبين لنا أن ما كشفه البغدادي على لسان شيوخ العشائر ليس سوى قطرة من بحر. فما اختزله البغدادي اعترف به الجنرال الأمريكي وفصّل به على نحو مريع. فهو يقرّ مبدئيا بانخفاض العنف لكنه يتصاعد في بغداد والبصرة ويلاحظ في في أجزاء أخرى من العراق وثابت في الموصل ومتوتر في كركوك والنجاح الظاهر في الأنبار وقلة من المناطق السنية. لكن ماذا عن الوضع السياسي والاجتماعي؟
ينتقد الجنرال الأمريكي سياسة بلاده في العراق والباحثة عن تماسك سياسي أو إقامة دولة تتمتع بمركزية سياسية. ويعبر عن سخريته من هكذا هدف بما أن القوات الأمريكية هي من قام بتمزيق العراق وإنشاء الصحوات وتوزيع النفوذ على رجال وتقويتهم بحيث تبدو الصورة الآن عبارة بقعة جغرافية لا ولاء فيها ولا انتماء إلا لأفراد، فالسياسي وشيخ القبيلة وزعيم الحزب وقطاع الطرق وأمثالهم ليسوا سوى رجال محليين أقوياء ولكل منهم جماعاته ومليشياته ومنطقته، وكلهم يبحثون عن المال. ويقول الجنرال: "نحن لا نملك هؤلاء الناس. نحن نستأجرهم فقط"، ولا شك أن أطرف ما قاله الجنرال في شهادته هو ذاك الذي يتطابق مع شكوى العشائر للبغدادي من الحديث عن قتال بين عشائر السنة وتصفيتهم للمجاهدين والتربص بهم فضلا عن الخصومات فيما بينهم بما أن الولاءات عندهم هي للمال لا لشيء آخر. فلنتابع ما ورد في الشهادة: "إنهم أبعد ما يكون عن الاتفاق فيما بينهم. وبعضهم ما برح مع القاعدة. بعض الذين ينشقون وينضمون لقواتنا لا يدينون بالولاء لأحد... ويتحاربون من حين لأخر فيما بينهم". فأية دولة مركزية يمكن أن تقام بمثل هذا التوزيع من الولاءات؟ ولأنه يرى، استنادا إلى تجارب تاريخية مرت بها شعوب كثيرة، استحالة: "تجميع النفوذ بيد الحكومة المركزية من يد الرجال المحليين الأقوياء إلا بالعنف الدموي الذي يقود إلى رابح وحيد، ديكتاتور في أغلب الأحوال" يصر على تحدي السياسة الأمريكية، وفي نفس الوقت يطرح السؤال:"كيف يستطيع قادتنا أن يحتفوا بتوزيع النفوذ كعملية بناء فعال للدولة؟! في حين أن: "توزيع النفوذ يسمح لكل الجهات أن تعزز وضعها، وأن تعيد تسليح نفسها، وأن تعيد ملء صناديقها بالمال على حساب الولايات المتحدة"؟
لا شك أن تكوين الصحوات وتوزيع الولاءات فتت اللحمة الاجتماعية في العراق وأجهز فعليا على أي تماسك سياسي، بل أنه كشف عن تحوله إلى نتوءات اجتماعية وسياسية متصارعة. ومثل هذا الحال من المؤكد أنه سينتهي إلى الفشل الذريع وربما إلى الحرب الدموية بين من تنازعوا مصيرهم وباعوا كل ما لديهم بدراهم معدودة. صحيح أن المشروع الجهادي انتكس لكنه يبقى المشروع الوحيد الثابت والقابل للحياة بخلاف المشروع السياسي الحكومي الذي تتنازعه الولاءات المتعددة والمصالح الفردية والأحقاد والانتقامات وغيرها.
ثالثا: مرجعية العلاقة
المهم أن خطاب المهاجر لم يكن محاضرة وعظية خاصة بعد خمس سنوات من الحرب. والأهم أنها المرة الأولى في خطابات كافة قيادات القاعدة التي نستمع فيها لخطاب شرعي يستهدف، على وجه الخصوص، الجنود قبل غيرهم، وإذا اعتبرنا أن ما قالته وكالة جهاد برس نقلا عن مركز الفجر التابع للقاعدة عن كون خطاب البغدادي مثّل: [ أول رد عملي على خطاب الشيخ أسامة بن لادن إلى "أهلنا في العراق"] والذي دعا فيه إلى "تشكيل المحاكم الشرعية" هو تحليل صحيح؛ فمن الأصح القول أن خطاب المهاجر مثّل الجزء الآخر من الاتفاق مع العشائر، والرسالة الأوضح لضبط العلاقة ليس بين العشائر ودولة العراق فحسب بل ومع جميع القوى الجهادية على أسس شرعية.
وهذا ، إن صح، فهو يشي بأن الحوارات التي جرت بين الجانبين (الدولة والعشائر) كانت حوارات صريحة للغاية وحازمة من كلا الطرفين. ولعلنا لا نغامر إذا قلنا أن المشايخ الذين التقوا بالبغدادي ووصفهم بـ "بعض شيوخ العشائر الشرفاء" كانوا مجرد وسطاء حملوا رسالة واضحة له برغبة بعض العشائر والقوى المتورطة في الصحوات والجيش والشرطة وقوى الأمن الحكومية، لسبب أو لآخر، في وضع حد لهذه الظاهرة. أما لماذا استجاب البغدادي؟
· فلأن الظاهرة أتعبت الجميع وأرهقتهم وتسببت بإعاقة تقدم المشروع الجهادي؛
· فضلا عما خلفته من انقسامات وتقاتل بين أبناء العشيرة الواحدة؛
· علاوة على الحرب الطاحنة التي حصدت الكثير من رؤوس الصحوات وقوى الأمن وأمثالهم؛
· والخداع الأمريكي والحكومي للعشائر الذين أيقن الكثير منهم أنهم لم يعودوا يرقون إلى مستوى المرتزقة، وبالتالي حشرهم قسرا في مرتبة الخونة للدين والوطن، هذا الخداع الذي لخصه خطاب البغدادي بالقول: "ليس لكم الآن إلا التعاون معنا أو قطع الرؤوس من الدولة الإسلامية بعد محاربتكم لهم, فقد أصبحتم أهدافاً مكشوفة لا غطاء لكم إلا الأمريكان".ولا شك بأن الأمريكيين لن ينظروا إليهم بأقل من "الخونة" ولا بأكثر من "الأجراء"، وكلا النظرتين تأتي على ما تبقى حتى من القيم العشائرية إن بقي منها شيء.
لكن تظل المصالحة دائما خاضعة لنوع من التنازلات أو الترضيات بحيث يحتفظ كل طرف بمكانته ويحصل في ذات الوقت على حقوقه، وفي أحايين كثيرة يكون الواجب فيها تقديم المنفعة على المفسدة، ويبدو أن الاتفاق كان من هذا النوع، فقد التزم الطرفان بتعهدات يتوجب عليهما القيام بها، لكن أكثر ما يلفت الانتباه في الاتفاق مسألتين:
· البند الخامس الذي نص على أن: "تُشكل محكمةٌ قضائيةٌ عُليا تتولى الفصل في كل خصومات مضت من تاريخ هذا الإعلان وفق الشريعة الإسلامية"، وفي هذا السياق يمكن ملاحظة أنه ما من مرجعية أخرى يمكن الاحتكام إليها غير الشريعة، وما من ضمانة يمكن تقديمها غير الضمانات الشرعية وهو ما وَسَم خطاب أبو حمزة المهاجر الذي جاء على ما يبدو كضمانة تضبط كل السلوكيات وخاصة احترام وطاعة الأمراء وعدم التصرف بعيدا عن الأمير. وهذا يعني إخضاع سلوك الجنود، في علاقتهم مع العامة سواء كانوا مجاهدين أو مدنيين، إلى مراقبة دائمة لعلها لم تكن قائمة قبل ذلك. والأهم في محتوى البند، علاوة على العفو قبل القدرة، أنه يمنح العشائر حق التظلم للفصل في كافة الخصومات السابقة.
· البند السادس وهو ينص على أن: "تَتعهد الدولة الإسلامية وغيرها من الجماعات الجهادية بتسليم أي شخص ثبت عليه ثبوتاً شرعياً أنه ارتكب دماً حراماً إلى اللجنة المشكلة سابقاً"، وليس الغريب في مضمون التعهد بل في ماهية الجماعات المقصودة، وقد يشي هذا أيضا بأن جماعات جهادية أخرى شاركت في الحوارات واتفقت على مضمون الاتفاق مما يجعله اتفاقا غير مسبوق طالما أنه صدر عن أكثر من جماعة أو على الأقل يجعل من الجماعات الأخرى كضامنة للاتفاق وشاهدة على تنفيذه.
إذن ثمة حراك واضح في العراق وصارم قوامه نشاط عسكري ملحوظ تنفذه الجماعات الجهادية بشراسة لم تفلت منه المنطقة الخضراء التي باتت تتعرض إلى هجمات قاتلة ومتعددة بين الحين والآخر، علاوة على الأنبار والرمادي والموصل وبغداد وديالى وصلاح الدين وكركوك وبعقوبة، ونشاط اجتماعي، غير مسبوق، هدفه إعادة تفعيل دور السنة بما يوقف النزيف والقتال الداخلي ومواجهة الخطر الرافضي. وكل هذا يجري وسط وصراع بين الشيعة والحكومة من جهة وصراع آخر بين قادة الصحوات والحزب الإسلامي خاصة في الأنبار والفلوجة على المغانم والامتيازات، ووسط تواطؤ أميركي إيراني وصل إلى حد السماح باستضافة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في المنطقة الخضراء. لكن الأكثر إثارة هي تلك التصريحات والتحضيرات المتوالية عن معركة الموصل القادمة، ولا ندري كيف يمكن مهاجمة الموصل وسط هذه الصراعات؟ وبأي محتوى علينا أن نصدق أن معركة الموصل هي الأخيرة مع القاعدة بينما المنطقة الخضراء تدفن قتلاهها بين الحين والحين!؟ لكن السؤال الكبير الذي نطرحه هو: إذا ما نجحت مبادرة البغدادي في المصالحة مع العشائر فكيف سيكون الموقف بين دولة العراق الإسلامية والجماعات الخصيمة لها كالجيش الإسلامي وحماس العراق؟
د. أكرم حجازي / كاتب وأستاذ جامعي
صحف – 20/4/2008
ثلاثة خطابات صدرت تباعا عن قادة القاعدة ودولة العراق الإسلامية كلها تتحدث عن حال المشروع الجهادي في العراق معطوفا عليها تعليق الظواهري على أحداث المحلة في مصر والذي سنتركه لمناسبة قادمة. والخطابات الثلاثة هي:
1) "البنيان المرصوص" لأبي عمر البغدادي أمير دولة العراق الإسلامية بتاريخ 15/4/2008.
2) "خمس سنوات على غزو العراق وعقود على ظلم الطغاة" للدكتور أيمن الظواهري بتاريخ 18/4/2008.
3) "مسالك النصر" لأبي حمزة المهاجر وزير الحرب بدولة العراق الإسلامية 19/4/2008
وفي الحقيقة فقد تعمدت التريث في تحليل الخطابات بانتظار صدور خطاب المهاجر الذي أعلن مسبقا عن وجوده بانتظار النشر. وما أن صدر حتى اكتملت الصورة، ولا شك لدي أن الخطابات الثلاثة تأتي بمناسبة الذكرى الخامسة لسقوط العراق بيد القوات الأمريكية والحليفة لها. لكن أكثر ما يلفت الانتباه فيها أن الظواهري تولى الشأن الأمريكي والبغدادي تولى الشأن السياسي في العراق خاصة مسألة الصحوات والعشائر أما المهاجر فاهتم بتقديم جردة حساب شرعية لجنوده. والأرجح أن الخطابات الثلاثة ما كانت لتصدر إلا بعد تنسيق مسبق بين القادة الثلاثة حيث اهتم كل منهم بمعالجة مسألة معينة تقع في نطاق مسؤولياته وصلاحياته.
إذن ثمة ثلاث قضايا كبرى تتناولها الخطابات الثلاثة، فالموقف الأمريكي في العراق والصحوات والخطاب الشرعي للمهاجر قضايا لا يمكن أن تفهم إلا في سياق السنوات الخمس من الحرب الطاحنة وما آل إليه المشروع الجهادي، حتى لو كان ظاهر خطاب المهاجر، بلسانه، الإعلان عن "غزوة البر". فلننظر قليلا في القضايا الثلاث.
أولا: الاستراتيجية الأمريكية في العراق
منذ سقوط بغداد لم يجرؤ الأمريكيون حتى الآن على إعلان النصر في حربهم على العراق. وعلى العكس من ذلك فقد توالى اختفاء قادة الحرب ومنظريها عن الساحة السياسية الأمريكية ابتداء من وزير الدفاع دونالد رامسفيلد وانتهاء بالقادة العسكريين والميدانيين. وقد لا يكون لمثل هذا الأمر من معنى في دولة بحجم الولايات المتحدة لكن توالي الشهادات أمام اللجان المختصة في الكونغرس وتغير التكتيكات يطرح علامات تعجب عن قدرة الولايات المتحدة على إدارة الحرب، على الأقل، وليس الانتصار فيها. أما آخر الشهادات المثيرة التي تلقيناها فهي نصيحة من الجنرال الركن المتقاعد وليام أودم أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي (2/4/2008) حول الوضع في العراق والتي ترى بأن: "الإستراتيجية العقلانية الوحيدة هي الانسحاب بسرعة ولكن بشكل منظم... والخطوة التالية هي اختيار هدف جديد: الاستقرار الإقليمي، لا تحقيق نصر بلا معنى في العراق".
لا شك أن نصيحة الجنرال الأمريكي بالغة الأهمية وهي تحيلنا إلى أن الحديث عن السياسة الأمريكية في العراق لم تعد تهتم كثيرا بتحقيق النصر بقدر ما يشغل بالها "الاستقرار الإقليمي" في المنطقة. ولا شك أن المقصود بالاستقرار الإقليمي مسألتين فقط هما النفط وإسرائيل لا أكثر ولا أقل. بطبيعة الحال يعتقد صاحب النصيحة أن الانسحاب الأمريكي وتغيير الهدف سيؤديان إلى توفير أرواح الجنود، أما في العراق فهو يعتقد أن: "القلق الذي نسمع الرئيس ومساعديه يبدونه حول بقاء بقايا للقاعدة إذا انسحبنا هو محض هراء. فالسنة سوف يجهزون على القاعدة فور انسحابنا من العراق، الأكراد لا يسمحون للقاعدة بدخول منطقتهم، والشيعة كالإيرانيين، يمقتون القاعدة".
بالتأكيد للجنرال الأمريكي نظريته، وهي موضع احترام بشرط أن يفسر لنا فشل القوات الأمريكية وكل حلفائها وعملائها من السنة والشيعة في القضاء ليس على القاعدة في العراق فقط بل على كل تيار السلفية الجهادية ناهيك عن القوى الجهادية الأخرى. فمن أشهَر عداءه للقاعدة وأعلن الحرب عليها فعل ذلك بحماية أمريكية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وإذا لم يكن ثمة نصر في الحرب على العراق فالأكيد أنه الفشل. وحبذا لو طرح الجنرال الأمريكي سؤالا على نفسه: فإذا كانت القوى المعادية للقاعدة في العراق قد فشلت في ظل الدعم الأمريكي فكيف يمكن لهذه القوى أن تصمد في غيابه؟ وبأية أدوات أو آليات؟ ألم يكن السؤال التالي أجدى في الطرح: إلى أي مدى يمكن للقوى الحليفة للأمريكيين، سنية أو شيعية، أن تصمد فيما إذا انسحبت القوات الأمريكية من العراق؟
الحقيقة أن شهادة الجنرال الأمريكي، على أهميتها، إلا أنها تعج بالتناقضات أو في أحسن الأحوال غامضة للغاية إلا فيما يتعلق بضرورة تغيير السياسة الأمريكية باتجاه التفاهم مع إيران حتى يمكن الشروع بخطوة "الانسحاب المنظم". لكن لماذا يتحدث جنرال أمريكي كبير عن ضرورة التفاهم مع إيران؟
تقول بعض المصادر العربية أن وزير الدفاع الأمريكي ديك تشيني زار إحدى الدول العربية وطلب من زعيمها المشاركة في حرب محتملة ضد إيران إلا أنه رفض قائلا له: "هذه حرب المائة العام" وليس من المعقول أن نشارك في حرب طويلة الأمد، ولما فشل حضر جورج بوش بنفسه للترويج للحرب إلا أنه فشل أيضا.
وقبل بضعة شهور صدر تقرير صاغته ستة عشر وكالة أمنية تابعة للمخابرات الأمريكية "برأت" إيران من تهمة السعي لامتلاك أسلحة نووية. وفي حينه وجه التقرير صفعة قوية للبيت الأبيض والبنتاغون وعلى وجه الخصوص لتيار المحافظين الساعي لشن حرب على إيران، وصدرت أكثر الاحتجاجات والتصريحات الغاضبة على التقرير الأمريكي ليس من الإدارة الأمريكية بل من الحكومة الإسرائيلية التي سارعت إلى الدعوة لانعقاد المجلس الوزاري المصغر ولجنة الأمن لبحث تداعيات التقرير الأمريكي على إسرائيل. أما لماذا؟ فلأن صدور التقرير بما يخالف رغبات المحافظين كشف حقيقة عن خلافات عميقة وتصفية حساب بين الإدارة الأمريكية وقوى الأمن فيها، والتي خشيت من تورط الولايات المتحدة بحروب ليس لها فيها ناقة ولا جمل فضلا عن أنها تعرضها والمنطقة لمخاطر مدمرة.
حتى الآن فشلت السياسة الأمريكية تجاه شن الحرب على إيران لغياب أي دعم إقليمي لها فضلا عن تقرُّب دول الخليج من إيران واستضافتها كعضو مراقب في مجلس التعاون الخليجي في محاولة منها لاسترضائها خاصة أن قوتها العسكرية تتضخم والتورط معها ليس سهلا. ولكل هذه الأسباب قد تتجه الولايات المتحدة بدلا من التصادم مع إيران إلى التفاهم معها خاصة أنها لم تقصِّر في دعم الحروب الأمريكية السابقة على أفغانستان والعراق. ثم ببساطة: إذا كانت إيران تسعى فعلا لامتلاك أسلحة نووية؛ فمن هو عدوها؟ وضد من ستمارس بواسطتها الردع؟
الأكيد أن التفاهم مع إيران يعني الإقرار بأن لها حقوقا أكثر في المنطقة في ضوء نموها العسكري كقوة إقليمية ناهضة، وبما أن إيران تسعى لاعتراف أمريكي بدورها الجديد في المنطقة فمن الطبيعي أن تناضل عبر عناصر القوة لديها كالبرنامج النووي أو نمو الصناعة العسكرية لديها أو تضخم نفوذها في العراق ولبنان لانتزاع هذا الاعتراف منها. هذا كل ما تسعى إليه إيران. وإن حصل فسيحصل المشروع الصفوي الإيراني على غطاء دولي شاء العرب أو أبوا.
وفي هذا السياق بالضبط، وللمرة الأولى، يأتي التخوف الذي عبر عنه الظواهري في خطابه من احتمال أن يؤدي التفاهم الأمريكي الإيراني إلى توسع المشروع الصفوي بما يكفي للتمهيد لانفجار شامل في المنطقة دون أن تفوته شهادة الجنرال الأمريكي: "أما الديمقراطيون فيحاولون أن يخادعوا قومهم بزعمهم أنهم سيسحبون قواتهم من العراق عبر التفاهم مع إيران، ليركزوا على القاعدة وطالبان في باكستان وأفغانستان. وإيران أهدافها واضحةٌ؛ ضم جنوب العراق وشرق الجزيرة، والتمدد للتواصل مع أتباعها في جنوب لبنان". وسواء تم هذا التفاهم "على أساس تلبية كل أو بعض أهدافها في مقابل غض الطرف عن الهيمنة الأمريكية في المنطقة" أو لم يتم فالحديث عن "تواطؤ أمريكي – إيراني" أصبح واردا أكثر من أي وقت مضى. لذا فالقاعدة باتت تدرك أن "الاستقرار الإقليمي" المقترح يقضي بطي صفحة العراق أو إحالتها (القاعدة) إلى إيران والتوجه كي تتفرغ الولايات المتحدة للباكستان وأفغانستان المنطقتين الأخطر خاصة وأنهما قريبتين من آسيا الوسطى المرتع الخصب للحركات الإسلامية.
بهذه الصيغة تكون الولايات المتحدة قد خسرت النصر الذي سعت إليه ولكنها نجت من الهزيمة الساحقة في العراق ونجحت في تأمين المنطقة. فلنعِد طرح ذات السؤال: كيف يمكن لإيران أن تنجح من حيث فشلت الولايات المتحدة وكلاهما يحتل العراق زيادة على تقدم النفوذ الإيراني على القوة الأمريكية في العراق؟
ثانيا: عشائر ممزقة
يقول البغدادي في خطابه أن بعضا من شيوخ العشائر السنية حمل إليه هموم الوسط العشائري مشيرا إلى شكاوى تلقاها منهم تتصل بـ:
· "ما أسموه هم بالقتال في المنطقة السنية بين أبناء العشائر"، ومتسائلين في الوقت ذاته: "إلى متى سيبقى القتال السني هكذا؟ وألم يحن الوقت لنوجه هذاالسلاح في وجه المحتل فحسب؟".
· الدور الأمريكي وحلفائهم في الزج بالعشائر: "في متاهة ونفق أسود مسمى بالقوات الوطنية وصحوة العشائر"، مشيرين إلى: "أن سبب المشكلة في المنطقة السنية هو الحزب الإسلامي وحاشيته من علماء السوء وشيوخ العشائر وأكاذيبهم المستمرة منذ دخولهم العملية السياسية المشئومة".
في المقابل قدم البغدادي جردة حساب للعشائر خصوصا وللوسط السني عموما على هذه الإشكاليات مقترحا احتواء الصف السني، الذي باتت عمليات القتل والتصفية فيه تقع في نطاق العشيرة ذاتها، عبر صيغة تصالحية تقضي باتفاق يعفو بموجبه عن المتورطين بشرط أن: "يذهب علماء الدين وشيوخ العشائر إلى تفعيله ووضعه حَيز التنفيذ, وعلى الأقل ضمن أي منطقة يتيسر فيها الأخذ بهذا الاتفاق دون اجتزاء لبعض بنوده أو فقراته". وبالتأكيد ما كان للبغدادي أن يتوصل لاتفاق لو لم يكن قد تفاهم فعلا مع العشائر بحيث يكون الإعلان الإعلامي عنه بمثابة التزام. لكن الأهم في المبادرة أنها تكشف حقيقة عن الوضع القائم في العراق وما آل إليه مشروع الصحوات من جهة والعملية السياسية من جهة أخرى.
لو انطلقنا من شهادة الجنرال الأمريكي ذاته حول الوضع الاجتماعي والسياسي في العراق سيتبين لنا أن ما كشفه البغدادي على لسان شيوخ العشائر ليس سوى قطرة من بحر. فما اختزله البغدادي اعترف به الجنرال الأمريكي وفصّل به على نحو مريع. فهو يقرّ مبدئيا بانخفاض العنف لكنه يتصاعد في بغداد والبصرة ويلاحظ في في أجزاء أخرى من العراق وثابت في الموصل ومتوتر في كركوك والنجاح الظاهر في الأنبار وقلة من المناطق السنية. لكن ماذا عن الوضع السياسي والاجتماعي؟
ينتقد الجنرال الأمريكي سياسة بلاده في العراق والباحثة عن تماسك سياسي أو إقامة دولة تتمتع بمركزية سياسية. ويعبر عن سخريته من هكذا هدف بما أن القوات الأمريكية هي من قام بتمزيق العراق وإنشاء الصحوات وتوزيع النفوذ على رجال وتقويتهم بحيث تبدو الصورة الآن عبارة بقعة جغرافية لا ولاء فيها ولا انتماء إلا لأفراد، فالسياسي وشيخ القبيلة وزعيم الحزب وقطاع الطرق وأمثالهم ليسوا سوى رجال محليين أقوياء ولكل منهم جماعاته ومليشياته ومنطقته، وكلهم يبحثون عن المال. ويقول الجنرال: "نحن لا نملك هؤلاء الناس. نحن نستأجرهم فقط"، ولا شك أن أطرف ما قاله الجنرال في شهادته هو ذاك الذي يتطابق مع شكوى العشائر للبغدادي من الحديث عن قتال بين عشائر السنة وتصفيتهم للمجاهدين والتربص بهم فضلا عن الخصومات فيما بينهم بما أن الولاءات عندهم هي للمال لا لشيء آخر. فلنتابع ما ورد في الشهادة: "إنهم أبعد ما يكون عن الاتفاق فيما بينهم. وبعضهم ما برح مع القاعدة. بعض الذين ينشقون وينضمون لقواتنا لا يدينون بالولاء لأحد... ويتحاربون من حين لأخر فيما بينهم". فأية دولة مركزية يمكن أن تقام بمثل هذا التوزيع من الولاءات؟ ولأنه يرى، استنادا إلى تجارب تاريخية مرت بها شعوب كثيرة، استحالة: "تجميع النفوذ بيد الحكومة المركزية من يد الرجال المحليين الأقوياء إلا بالعنف الدموي الذي يقود إلى رابح وحيد، ديكتاتور في أغلب الأحوال" يصر على تحدي السياسة الأمريكية، وفي نفس الوقت يطرح السؤال:"كيف يستطيع قادتنا أن يحتفوا بتوزيع النفوذ كعملية بناء فعال للدولة؟! في حين أن: "توزيع النفوذ يسمح لكل الجهات أن تعزز وضعها، وأن تعيد تسليح نفسها، وأن تعيد ملء صناديقها بالمال على حساب الولايات المتحدة"؟
لا شك أن تكوين الصحوات وتوزيع الولاءات فتت اللحمة الاجتماعية في العراق وأجهز فعليا على أي تماسك سياسي، بل أنه كشف عن تحوله إلى نتوءات اجتماعية وسياسية متصارعة. ومثل هذا الحال من المؤكد أنه سينتهي إلى الفشل الذريع وربما إلى الحرب الدموية بين من تنازعوا مصيرهم وباعوا كل ما لديهم بدراهم معدودة. صحيح أن المشروع الجهادي انتكس لكنه يبقى المشروع الوحيد الثابت والقابل للحياة بخلاف المشروع السياسي الحكومي الذي تتنازعه الولاءات المتعددة والمصالح الفردية والأحقاد والانتقامات وغيرها.
ثالثا: مرجعية العلاقة
المهم أن خطاب المهاجر لم يكن محاضرة وعظية خاصة بعد خمس سنوات من الحرب. والأهم أنها المرة الأولى في خطابات كافة قيادات القاعدة التي نستمع فيها لخطاب شرعي يستهدف، على وجه الخصوص، الجنود قبل غيرهم، وإذا اعتبرنا أن ما قالته وكالة جهاد برس نقلا عن مركز الفجر التابع للقاعدة عن كون خطاب البغدادي مثّل: [ أول رد عملي على خطاب الشيخ أسامة بن لادن إلى "أهلنا في العراق"] والذي دعا فيه إلى "تشكيل المحاكم الشرعية" هو تحليل صحيح؛ فمن الأصح القول أن خطاب المهاجر مثّل الجزء الآخر من الاتفاق مع العشائر، والرسالة الأوضح لضبط العلاقة ليس بين العشائر ودولة العراق فحسب بل ومع جميع القوى الجهادية على أسس شرعية.
وهذا ، إن صح، فهو يشي بأن الحوارات التي جرت بين الجانبين (الدولة والعشائر) كانت حوارات صريحة للغاية وحازمة من كلا الطرفين. ولعلنا لا نغامر إذا قلنا أن المشايخ الذين التقوا بالبغدادي ووصفهم بـ "بعض شيوخ العشائر الشرفاء" كانوا مجرد وسطاء حملوا رسالة واضحة له برغبة بعض العشائر والقوى المتورطة في الصحوات والجيش والشرطة وقوى الأمن الحكومية، لسبب أو لآخر، في وضع حد لهذه الظاهرة. أما لماذا استجاب البغدادي؟
· فلأن الظاهرة أتعبت الجميع وأرهقتهم وتسببت بإعاقة تقدم المشروع الجهادي؛
· فضلا عما خلفته من انقسامات وتقاتل بين أبناء العشيرة الواحدة؛
· علاوة على الحرب الطاحنة التي حصدت الكثير من رؤوس الصحوات وقوى الأمن وأمثالهم؛
· والخداع الأمريكي والحكومي للعشائر الذين أيقن الكثير منهم أنهم لم يعودوا يرقون إلى مستوى المرتزقة، وبالتالي حشرهم قسرا في مرتبة الخونة للدين والوطن، هذا الخداع الذي لخصه خطاب البغدادي بالقول: "ليس لكم الآن إلا التعاون معنا أو قطع الرؤوس من الدولة الإسلامية بعد محاربتكم لهم, فقد أصبحتم أهدافاً مكشوفة لا غطاء لكم إلا الأمريكان".ولا شك بأن الأمريكيين لن ينظروا إليهم بأقل من "الخونة" ولا بأكثر من "الأجراء"، وكلا النظرتين تأتي على ما تبقى حتى من القيم العشائرية إن بقي منها شيء.
لكن تظل المصالحة دائما خاضعة لنوع من التنازلات أو الترضيات بحيث يحتفظ كل طرف بمكانته ويحصل في ذات الوقت على حقوقه، وفي أحايين كثيرة يكون الواجب فيها تقديم المنفعة على المفسدة، ويبدو أن الاتفاق كان من هذا النوع، فقد التزم الطرفان بتعهدات يتوجب عليهما القيام بها، لكن أكثر ما يلفت الانتباه في الاتفاق مسألتين:
· البند الخامس الذي نص على أن: "تُشكل محكمةٌ قضائيةٌ عُليا تتولى الفصل في كل خصومات مضت من تاريخ هذا الإعلان وفق الشريعة الإسلامية"، وفي هذا السياق يمكن ملاحظة أنه ما من مرجعية أخرى يمكن الاحتكام إليها غير الشريعة، وما من ضمانة يمكن تقديمها غير الضمانات الشرعية وهو ما وَسَم خطاب أبو حمزة المهاجر الذي جاء على ما يبدو كضمانة تضبط كل السلوكيات وخاصة احترام وطاعة الأمراء وعدم التصرف بعيدا عن الأمير. وهذا يعني إخضاع سلوك الجنود، في علاقتهم مع العامة سواء كانوا مجاهدين أو مدنيين، إلى مراقبة دائمة لعلها لم تكن قائمة قبل ذلك. والأهم في محتوى البند، علاوة على العفو قبل القدرة، أنه يمنح العشائر حق التظلم للفصل في كافة الخصومات السابقة.
· البند السادس وهو ينص على أن: "تَتعهد الدولة الإسلامية وغيرها من الجماعات الجهادية بتسليم أي شخص ثبت عليه ثبوتاً شرعياً أنه ارتكب دماً حراماً إلى اللجنة المشكلة سابقاً"، وليس الغريب في مضمون التعهد بل في ماهية الجماعات المقصودة، وقد يشي هذا أيضا بأن جماعات جهادية أخرى شاركت في الحوارات واتفقت على مضمون الاتفاق مما يجعله اتفاقا غير مسبوق طالما أنه صدر عن أكثر من جماعة أو على الأقل يجعل من الجماعات الأخرى كضامنة للاتفاق وشاهدة على تنفيذه.
إذن ثمة حراك واضح في العراق وصارم قوامه نشاط عسكري ملحوظ تنفذه الجماعات الجهادية بشراسة لم تفلت منه المنطقة الخضراء التي باتت تتعرض إلى هجمات قاتلة ومتعددة بين الحين والآخر، علاوة على الأنبار والرمادي والموصل وبغداد وديالى وصلاح الدين وكركوك وبعقوبة، ونشاط اجتماعي، غير مسبوق، هدفه إعادة تفعيل دور السنة بما يوقف النزيف والقتال الداخلي ومواجهة الخطر الرافضي. وكل هذا يجري وسط وصراع بين الشيعة والحكومة من جهة وصراع آخر بين قادة الصحوات والحزب الإسلامي خاصة في الأنبار والفلوجة على المغانم والامتيازات، ووسط تواطؤ أميركي إيراني وصل إلى حد السماح باستضافة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في المنطقة الخضراء. لكن الأكثر إثارة هي تلك التصريحات والتحضيرات المتوالية عن معركة الموصل القادمة، ولا ندري كيف يمكن مهاجمة الموصل وسط هذه الصراعات؟ وبأي محتوى علينا أن نصدق أن معركة الموصل هي الأخيرة مع القاعدة بينما المنطقة الخضراء تدفن قتلاهها بين الحين والحين!؟ لكن السؤال الكبير الذي نطرحه هو: إذا ما نجحت مبادرة البغدادي في المصالحة مع العشائر فكيف سيكون الموقف بين دولة العراق الإسلامية والجماعات الخصيمة لها كالجيش الإسلامي وحماس العراق؟
تعليق