لم تكن لتتخيل "الحمير" في غزة أنها ستصبح بتلك الأهمية، ويصبح الإقبال عليها بهذا الشكل الذي لم يسبق له مثيل، حتى بات من يملك حمارا "شخصا محظوظا"، لسببين أولهما أنه يملك وسيلة للتنقل أصبحت تتصدر وسائل المواصلات، وثانيهما أن أسعار الحمير ارتفعت بشكل كبير، لدرجة أن بعضها وصل سعره إلى 800 دولار، وربما تكسر قريبا حاجز الـ 1000 دولار، إن استمر الحصار الإسرائيلي على غزة بهذا الشكل، وظل القطاع محروما من إمدادات الوقود لتحريك سياراته التي أصبحت على مقاعد البدلاء أمام العربات التي تقودها الحمير!. ومنذ أن فرضت إسرائيل حصارها المشدد على غزة قبل نحو عامين – أي منذ فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية – وحياة الفلسطينيين تزيد ضيقا وخياراتهم في الحياة الكريمة، تتقلص يوما بعد يوم على وقع حصار طال كل شيئ، وألقى بظلاله على جميع مناحي الحياة، وجاء القرار الإسرائيلي الأخير ..
بوقف إمدادات الوقود ليزيد من المأساة، ويشل الحركة في الشوارع، ليجد الغزيين ضالتهم في "الحمير" بعدما كانوا قد اشتكوا مرارا وتكرارا منها ومن أعدادها الكبيرة في وقت الرخاء، حتى أن بلدية غزة كانت تنوي اتخاذ إجراءات مشددة للعمل على الحد منها، قبل أن تتعثر تلك المساعي بسبب اندلاع انتفاضة الأقصى التي أجلت الكثير من البرامج والمخططات.
ولعل السائر في شوارع غزة هذه الأيام يكتشف مدى الأهمية التي باتت تحظى بها "الحمير"، ولا يعجب المرء إن شاهد عليّة القوم يتصارعون على حجز مكان لهم على عربة يجرها حمار يسير بخطى واثقة، مشرئب الرأس يمشي الهوينى، بينما صاحبه يرسم ابتسامة عريضة وجهه بعد أن وجد مصدرا للرزق في ظل تفرده بالساحة حاصدا الأموال وعبارات الثناء والشكر والعرفان من الركاب، الذين لطالما كالوا له الشتائم والسباب بسبب محاولاته قطع الطريق أمام سياراتهم الفارهة، دون أي التزام بإشارات المرور وقوانين السير.
ورغم أن الكثير من المواطنين تغلبوا على مشكلة عدم وجود السولار والبنزين بتحويل سياراتهم للعمل على الغاز المنزلي – وهي بدعة جديدة ابتكرها الغزيون – رغم ذلك، ظل سوق "الحمير" نشطا، باعتبار أن بعض السيارات لا يمكن تحويلها للعمل باستخدام الغاز، بالإضافة إلى خشية الكثير من المواطنين من الركوب في سيارات اضطر سائقوها لوضع أنبوب من الغاز فيها، وما ينطوي على ذلك من مخاطر، خصوصا أن الكثير من الحوادث وقعت بالفعل، ولولا العناية الإلهية لسقط ضحايا أكثر من مرة.
ولعلي أضع نموذجيا حيا لتلك القصة حينما "اعترف" شخصيا بأنني كنت أحد هؤلاء الذين خاضوا بالفعل تجربة الصعود على عربة يجرها حمار، من أجل الوصول إلى بيتي، بعدما طال انتظاري لقدوم سيارة أجرة، لا أضمن إيجاد مكان فيها حتى إن هي وصلت، لذا لم يكن أمامي من "خيار سوى انتظار أول حمار"، أو "عربة يجرها حمار" تلطيفا للعبارة!.
لكن أكثر ما يثير في النفس الحزن والألم هو استخدام تلك العربات في نقل الجرحى إلى المستشفيات في كثير من الأحيان، بعد أن توقفت أكثر من نصف سيارات الإسعاف في غزة عن العمل بفعل غياب السولار والبنزين، ولا يتطلب الأمر لضمان مشاهدة ذلك سوى الوقوف لبرهة من الزمن أمام بوابة إحدى مستشفيات القطاع في يوم تقوم به إسرائيل بعملية عسكرية.
واستكمالا للتأكيد على دور "الحمير" الإيجابي، و"الخطورة" الكبيرة التي تشكلها على الأمن الإسرائيلي، لا بد من الإشارة إلى أن الطائرات الإسرائيلية كانت قد قصفت منذ عدة أشهر أحدها بينما كان يحمل على عربته عجوزا فلسطينية وابنها بينما كانا عائدين من السوق، فاستشهد كلاهما، وذهب الحمار ضحية لهذا القصف، في حين لا زال الغزيون يتذكرون عملية "فدائية" قام بها حمار في السنوات الأولى للانتفاضة عندما حمل في "بردعته" كمية من المتفجرات قبل أن ينفجر داخل احد المواقع العسكرية قبيل إخلائها من قبل الجيش الإسرائيلي!.
- إبراهيم عمر - الجزيرة توك - غزة
تعليق