حين نتحدث عن التاريخ العربي المعاصر، منقبين أو ناقدين أو مستعرضين، فليس الهدف من ذلك هو نكأ الجروح، أو مجرد فتح ملفات قديمة من أجل هذا الهدف الذاتي أو ذاك، أو حتى لمجرد التحسر على ما مضى، بقدر ما أن القصد هو محاولة النظر إلى الماضي القريب بعين موضوعية فاحصة قدر المستطاع، بعد أن شوه هذا التاريخ من أجل غايات إيديولوجية أو سياسية أو غيرها، أو حتى شخصية بعض الأحيان، فتشوهت عقول، وضُللت جماعات، وضاعت مجتمعات نتيجة ذلك. ما مضى قد مضى بحسنه وقبحه، وعجلة الزمان لا يمكن إرجاعها إلى الوراء بأي حال من الأحوال، ولكن يبقى الماضي درساً لمن يُريد أن يتعلم ويتجنب أخطاء ذلك الماضي، على افتراض أن هنالك من يريد أن يتعلم، وإلا فإن كل شيء هو إلى العبث أقرب.
من ذلك الماضي الذي شوه كثيراً، هو تاريخ العراق قبل أن يدخل في دوامة الانقلابات ولعبة العسكر، التي أجهضت اللحظة الليبرالية والتجربة التنموية لعراق كان يسير حثيثاً على طريق مستقبل واعد، حتى جاء العسكر، وجعلوا من الدولة والمجتمع ساحة لصراعاتهم ومطامحهم، ومعملاً لتجاربهم، بعد أن تحول الناس إلى مجرد فئران تجارب، وأصبحت المصائر معلقة بمزاج هذا الزعيم، أو طموحات ذاك «الحكيم». نصف قرن تقريباً مضت منذ سقوط «النظام القديم» في العراق، والآن حين نقارن عراق اليوم بعراق الأمس، بعيداً عن خدر الشعارات وخداع الإيديولوجيات، لا نستطيع إلا أن نقر بتفوق عراق الأمس، رغم كل المثالب التي من الممكن حصرها أو عدم حصرها. ولعل في استعراض بعض من سيرة رئيس الوزراء الأسبق نوري السعيد، شيئا من الضوء يبين كيف كان الأمر وكيف آل إليه، وكيف كان رجال السياسة في العراق وكيف أصبحوا.
لا يُذكر اسم نوري السعيد إلا وتتداعى إلى الذهن كل تلك التهم التي أحاطت به، والتي كان يروجها الإعلام «الثوري» لتلك المرحلة، فهو عميل الاستعمار، والطاغية، وناهب ثروات العراق، والشاذ عن الجماعة العربية، والخائن للأمة العربية، وغير ذلك من تهم تبدأ ولا تنتهي، والرجل حين يُدقق في الأمر منها براء، ولكنه إعلام العسكر، وبروبغاندا أهل الانقلاب. لقد كان الرجل محباً لوطنه، عاملاً على مصلحته وفق اجتهاد قد يُخطئ وقد يُصيب، ولكنه في كل الأحوال لا يؤدي إلى كوارث كالتي شهدها العراق وغير العراق بعد حكم العسكر وتجارب الانقلابيين. كان نوري السعيد سياسياً واقعياً، يحاول أن يقرأ الظرف ويستغله بقدر الإمكان لصالح بلده، فما لا يُدرك كله لا يُترك كله، وفي ذلك يقول: «أما عقيدتي فهي ألا تكون قط مثالياً، بل اعمل بما هو متوافر لديك، وإياك أن تنتظر وتسوف حتى يُصبح كل شيء كاملاً لا عيب فيه وتفوت على نفسك فرصة قد لا تعود» (نقلاً عن مجيد خدوري. عرب معاصرون: أدوار القادة في السياسة. بيروت: الدار المتحدة للنشر، 1973. ص. 49). يا ترى لو طبقنا مثل هذه السياسة في حياتنا، كم من الكوارث والنوازل كان من الممكن تجنبها؟ وقضية فلسطين أبرز مثل في هذا المجال، فكم من فرص أُتيحت لو أنها اقتُنصت في وقتها، لما وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. جاء الزعماء الذين لا يرتضون بغير النجوم تخوماً، عندما كنا في أمس الحاجة إلى ما دون النجوم بكثير، فلم نصل إلى النجوم، ولا حققنا هدفاً على الأرض، فأصبحنا أوهى من بيت العنكبوت، وأهش من خشاش الأرض.
كان حلف بغداد عام 1955، والذي كان يضم كلا من بريطانيا والعراق وإيران وباكستان وتركيا، هو المشروع الأهم الذي وصم به نوري السعيد بالخيانة، خاصة بعد مشاركة بريطانيا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وكانت إذاعة صوت العرب القاهرية تلهب الجماهير وتثيرهم ضد هذا الحلف، وضد «خيانة» نوري السعيد لأمته، وهو المهندس الأكبر لهذا الحلف، فما هي مبررات نوري السعيد للدخول في الحلف، وهل كان يعمل لصالح بريطانيا أم لصالح العراق؟ كانت وجهة النظر المصرية آنذاك هي إنشاء ميثاق عسكري عربي مشترك، يتكفل بالدفاع عن الدول العربية تتزعمه القاهرة وبغداد، ضد أي عدوان خارجي أو داخلي، فيما كانت وجهة النظر العراقية، ممثلة بنوري السعيد، تقول بعجز الدول العربية عن الدفاع عن نفسها، مجتمعة أو منفردة، وبالتالي يجب الاعتماد على قوة كبرى في هذا المجال. وفي ذلك يقول نوري السعيد في اجتماع مع الرئيس جمال عبدالناصر في 15 سبتمبر (أيلول) عام 1954، وقبيل إعلان حلف بغداد: «أين هي تلك الدول العربية التي تريدونني عقد ميثاق مشترك للدفاع معها..أين هو العالم العربي الذي تريدون مني أن أتفق معه للدفاع عن بلادي..أنا رجل واقعي ولا أحب في حال من الأحوال أن أتعلق بالأوهام بينما بلادي في خطر لا يُنقذها منه سوى الارتباط بدولة كبرى. ونحن في العراق نشارككم الحساسية ضد بريطانيا..ولهذا قررت أنا بدلاً من أن أعقد مع بريطانيا اتفاقية أو معاهدة، أن أعقد معها ميثاقاً جماعياً مشتركاً فيه عدة أطراف حتى لا تتمكن بريطانيا من فرض سيطرتها على بلادي..» (ناصر الدين النشاشيبي. ماذا جرى في الشرق الأوسط؟ بيروت: المكتب التجاري، 1962. ص. 405). وقد أثبتت الأيام أن وجهة نظر نوري السعيد هي الأصح في مثل هذه الحالات، وعندما تكون الذات غير قادرة على الدفاع عن نفسها، ولعل في حرب الخليج الثانية خير مثال على ذلك، حيث لم تستطع الدول العربية مجتمعة أن تفعل شيئاً، لولا التحالف الدولي بقيادة قوة كبرى هي الولايات المتحدة. ومات نوري السعيد ميتة شنعاء على يد الجماهير التي كان يفكر في تحسين أحوالها، وهي الجماهير التي تقودها الشعارات وتتلاعب بها الكلمات، ولم يترك لأهله ما يسدون به الرمق، وهو المتهم بنهب الثروات، لدرجة أن الحكومة البريطانية خصصت مبلغاً زهيداً من المال لزوجته، وانتهت الحياة بابنته في دار للرعاية الاجتماعية في بغداد. لقد «اتفق جميع الذين عرفوا نوري، ومنهم بعض خصومه»، يقول الدكتور مجيد خدوري في تقويمه لحياة نوري السعيد السياسية، «على أنه كان يتحلى بصفتين بارزتين: الشجاعة والاستقامة، إلا أنه لم يكن زعيماً شعبياً. ففي الوقت الذي كان فيه خطباء متقدون حماسة، أمثال عبدالناصر وبورقيبة وغيرهما، يثيرون الجماهير ويلهبونهم، كان نوري يحاول اللجوء إلى الحكمة والعقل بدلاً من العواطف والانفعال. ويبدو اليوم أن السياسي الذي يعجز عن إثارة الانفعالات والحماسة لدى الجماهير سياسي غير مرغوب فيه، ومع هذا فلا غنى عن الحكمة والتبصر عند رسم السياسة العامة، وقد برع نوري في تخطيطه للمشاريع الاقتصادية والسياسية ولكنه برهن عن عجز مطبق في عرضها على الجماهير» (ص. 87). هذا هو الوضع الذي كان، وهذا هو الوضع الذي ما زال، طالما غُيب العقل ووئد الوعي وضاعت الدروس، ولذلك نحن في مواقعنا من المراوحين، وما أشبه الليلة بالبارحة..
تم نقل المقال من بوابة العرب
من ذلك الماضي الذي شوه كثيراً، هو تاريخ العراق قبل أن يدخل في دوامة الانقلابات ولعبة العسكر، التي أجهضت اللحظة الليبرالية والتجربة التنموية لعراق كان يسير حثيثاً على طريق مستقبل واعد، حتى جاء العسكر، وجعلوا من الدولة والمجتمع ساحة لصراعاتهم ومطامحهم، ومعملاً لتجاربهم، بعد أن تحول الناس إلى مجرد فئران تجارب، وأصبحت المصائر معلقة بمزاج هذا الزعيم، أو طموحات ذاك «الحكيم». نصف قرن تقريباً مضت منذ سقوط «النظام القديم» في العراق، والآن حين نقارن عراق اليوم بعراق الأمس، بعيداً عن خدر الشعارات وخداع الإيديولوجيات، لا نستطيع إلا أن نقر بتفوق عراق الأمس، رغم كل المثالب التي من الممكن حصرها أو عدم حصرها. ولعل في استعراض بعض من سيرة رئيس الوزراء الأسبق نوري السعيد، شيئا من الضوء يبين كيف كان الأمر وكيف آل إليه، وكيف كان رجال السياسة في العراق وكيف أصبحوا.
لا يُذكر اسم نوري السعيد إلا وتتداعى إلى الذهن كل تلك التهم التي أحاطت به، والتي كان يروجها الإعلام «الثوري» لتلك المرحلة، فهو عميل الاستعمار، والطاغية، وناهب ثروات العراق، والشاذ عن الجماعة العربية، والخائن للأمة العربية، وغير ذلك من تهم تبدأ ولا تنتهي، والرجل حين يُدقق في الأمر منها براء، ولكنه إعلام العسكر، وبروبغاندا أهل الانقلاب. لقد كان الرجل محباً لوطنه، عاملاً على مصلحته وفق اجتهاد قد يُخطئ وقد يُصيب، ولكنه في كل الأحوال لا يؤدي إلى كوارث كالتي شهدها العراق وغير العراق بعد حكم العسكر وتجارب الانقلابيين. كان نوري السعيد سياسياً واقعياً، يحاول أن يقرأ الظرف ويستغله بقدر الإمكان لصالح بلده، فما لا يُدرك كله لا يُترك كله، وفي ذلك يقول: «أما عقيدتي فهي ألا تكون قط مثالياً، بل اعمل بما هو متوافر لديك، وإياك أن تنتظر وتسوف حتى يُصبح كل شيء كاملاً لا عيب فيه وتفوت على نفسك فرصة قد لا تعود» (نقلاً عن مجيد خدوري. عرب معاصرون: أدوار القادة في السياسة. بيروت: الدار المتحدة للنشر، 1973. ص. 49). يا ترى لو طبقنا مثل هذه السياسة في حياتنا، كم من الكوارث والنوازل كان من الممكن تجنبها؟ وقضية فلسطين أبرز مثل في هذا المجال، فكم من فرص أُتيحت لو أنها اقتُنصت في وقتها، لما وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. جاء الزعماء الذين لا يرتضون بغير النجوم تخوماً، عندما كنا في أمس الحاجة إلى ما دون النجوم بكثير، فلم نصل إلى النجوم، ولا حققنا هدفاً على الأرض، فأصبحنا أوهى من بيت العنكبوت، وأهش من خشاش الأرض.
كان حلف بغداد عام 1955، والذي كان يضم كلا من بريطانيا والعراق وإيران وباكستان وتركيا، هو المشروع الأهم الذي وصم به نوري السعيد بالخيانة، خاصة بعد مشاركة بريطانيا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وكانت إذاعة صوت العرب القاهرية تلهب الجماهير وتثيرهم ضد هذا الحلف، وضد «خيانة» نوري السعيد لأمته، وهو المهندس الأكبر لهذا الحلف، فما هي مبررات نوري السعيد للدخول في الحلف، وهل كان يعمل لصالح بريطانيا أم لصالح العراق؟ كانت وجهة النظر المصرية آنذاك هي إنشاء ميثاق عسكري عربي مشترك، يتكفل بالدفاع عن الدول العربية تتزعمه القاهرة وبغداد، ضد أي عدوان خارجي أو داخلي، فيما كانت وجهة النظر العراقية، ممثلة بنوري السعيد، تقول بعجز الدول العربية عن الدفاع عن نفسها، مجتمعة أو منفردة، وبالتالي يجب الاعتماد على قوة كبرى في هذا المجال. وفي ذلك يقول نوري السعيد في اجتماع مع الرئيس جمال عبدالناصر في 15 سبتمبر (أيلول) عام 1954، وقبيل إعلان حلف بغداد: «أين هي تلك الدول العربية التي تريدونني عقد ميثاق مشترك للدفاع معها..أين هو العالم العربي الذي تريدون مني أن أتفق معه للدفاع عن بلادي..أنا رجل واقعي ولا أحب في حال من الأحوال أن أتعلق بالأوهام بينما بلادي في خطر لا يُنقذها منه سوى الارتباط بدولة كبرى. ونحن في العراق نشارككم الحساسية ضد بريطانيا..ولهذا قررت أنا بدلاً من أن أعقد مع بريطانيا اتفاقية أو معاهدة، أن أعقد معها ميثاقاً جماعياً مشتركاً فيه عدة أطراف حتى لا تتمكن بريطانيا من فرض سيطرتها على بلادي..» (ناصر الدين النشاشيبي. ماذا جرى في الشرق الأوسط؟ بيروت: المكتب التجاري، 1962. ص. 405). وقد أثبتت الأيام أن وجهة نظر نوري السعيد هي الأصح في مثل هذه الحالات، وعندما تكون الذات غير قادرة على الدفاع عن نفسها، ولعل في حرب الخليج الثانية خير مثال على ذلك، حيث لم تستطع الدول العربية مجتمعة أن تفعل شيئاً، لولا التحالف الدولي بقيادة قوة كبرى هي الولايات المتحدة. ومات نوري السعيد ميتة شنعاء على يد الجماهير التي كان يفكر في تحسين أحوالها، وهي الجماهير التي تقودها الشعارات وتتلاعب بها الكلمات، ولم يترك لأهله ما يسدون به الرمق، وهو المتهم بنهب الثروات، لدرجة أن الحكومة البريطانية خصصت مبلغاً زهيداً من المال لزوجته، وانتهت الحياة بابنته في دار للرعاية الاجتماعية في بغداد. لقد «اتفق جميع الذين عرفوا نوري، ومنهم بعض خصومه»، يقول الدكتور مجيد خدوري في تقويمه لحياة نوري السعيد السياسية، «على أنه كان يتحلى بصفتين بارزتين: الشجاعة والاستقامة، إلا أنه لم يكن زعيماً شعبياً. ففي الوقت الذي كان فيه خطباء متقدون حماسة، أمثال عبدالناصر وبورقيبة وغيرهما، يثيرون الجماهير ويلهبونهم، كان نوري يحاول اللجوء إلى الحكمة والعقل بدلاً من العواطف والانفعال. ويبدو اليوم أن السياسي الذي يعجز عن إثارة الانفعالات والحماسة لدى الجماهير سياسي غير مرغوب فيه، ومع هذا فلا غنى عن الحكمة والتبصر عند رسم السياسة العامة، وقد برع نوري في تخطيطه للمشاريع الاقتصادية والسياسية ولكنه برهن عن عجز مطبق في عرضها على الجماهير» (ص. 87). هذا هو الوضع الذي كان، وهذا هو الوضع الذي ما زال، طالما غُيب العقل ووئد الوعي وضاعت الدروس، ولذلك نحن في مواقعنا من المراوحين، وما أشبه الليلة بالبارحة..
تم نقل المقال من بوابة العرب
تعليق