حماس .. رافعة الظاهرة الإسلامية وعنوانها الأبرز
المتابع الحقيقي لقضايا الأمة لا بد أنه لاحظ جملة من الظواهر التي برزت مع مطلع الألفية الجديدة، وهي ظواهر على درجة كبيرة من الأهمية لو أخذت كل واحدة منها على حدة، لكنها تبدو أكثر أهمية وتأثيراً بكثير عندما تقرأ في سياق واحد، وعلى نحو متداخل عنوانه الأمة الإسلامية؛ حاضرها ومستقبلها.
الظاهرة الأولى هي ظاهرة المقاومة والاستشهاد، أو لنقل ثقافة المقاومة والاستشهاد التي عرفتها الأمة على نحو مميز من خلال الفعل الفلسطيني منذ الشهيد القائد يحيى عياش عام 1994، لكنها تكرست وأصبحت ظاهرة أكثر شيوعاً وتأثيراً خلال الألفية الجديدة مع بداية انتفاضة الأقصى نهاية أيلول من العام 2000.
ربما قيل إن ثقافة الاستشهاد قديمة، سبقت إليها تنظيمات أخرى، كما هو حال حزب الدعوة في العراق وحزب الله في لبنان، وهو قول صحيح، لكنها في حالة حماس ويحيى عياش وما بعده حملت عنوان فلسطين، وما أدراك ما تعنيه فلسطين في الوعي الجمعي للأمة الإسلامية، من المحيط إلى الخليج ومن طنجة إلى جاكرتا، وصولاً إلى جميع الأقليات الإسلامية في العالم أجمع. إنها تعني الطهر والقداسة، وتعني الإسراء والمعراج وموئل الأنبياء وتعني القدس وأقصاها، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
إلى جانب حملها لعنوان فلسطين (أعني ثقافة الاستشهاد في حالة حماس وعياش ومن بعده)، فقد حملت الطابع الإسلامي السنّي الذي رماه البعض بالتخاذل في مواجهة الظلم والفساد والعدوان، فضلاً عن أن تطورها التالي قد جاء ضمن معطيات أو ظواهر أخرى سنشير إليها في السطور التالية.
الظاهرة الثانية، هي ظاهرة التدين والوعي الإسلامي، وهنا ينبغي أن يلاحظ المعنيون أن انتشار الظاهرة بهذا المستوى هذه الأيام لم يعرف منذ قرون، وهذه ليست مبالغة بحال، ومن يقرأ التاريخ سيدرك ذلك. فعلى امتداد العالم العربي والإسلامي، وفي مناطق الأقليات تشيع مظاهر التدين من الحجاب إلى المساجد التي تضاعفت على نحو مذهل، فضلاً عن طقوس التدين الأخرى، لاسيما ما يتصل بالمناسبات الدينية.
الظاهرة الثالثة، هي الهجمة الشرسة على الإسلام والمسلمين التي اتخذت من الحادي عشر من أيلول متكأ لها، فيما يدرك المخلصون أنها جاءت بعد اقتناع الصهاينة الذين يتحكمون بالسياسة الخارجية الأمريكية بأن مشروع أوسلو لم يحقق لهم التسوية المطلوبة، ومعها الهيمنة على الشرق الأوسط كما كانوا يأملون، فكانت فكرة احتلال العراق التي تبلورت قبل هجمات أيلول ثم نفذت بعدها بهدف إعادة تشكيل المنطقة كي تكون جاهزة للزعامة الإسرائيلية. وهنا يمكن القول إن كل مظاهر الاحترام للدين الإسلامي التي يحرص القادة الأمريكيون على إظهارها لم يكن بوسعها إخفاء حقيقة الهجمة، وكونها تمس جوهر الدين في مجتمعاتنا بوصفه عنوان التمرد على الظلم والفساد والعدوان والاحتلال والتبعية للأجنبي.
الظاهرة الرابعة، هي الثورة المعلوماتية والسطوة الإعلامية؛ سطوة الصورة على وجه التحديد، تلك التي صاغت للأمة وعياً جمعياً لا يمكن إنكاره بحال من الأحوال، الأمر الذي ساهم في نشر ثقافة المقاومة، ونشر ثقافة التدين أيضاً. وهنا من العبث التقليل من شأن هذه الظاهرة وقدرتها على خلق وعي جمعي بهموم الأمة، فضلاً عن الوعي الديني وما يترتب عليه من التزام، ثم ما ينطوي عليه من تكريس لمعالم الخير وتفجير لما توفر من طاقات في جماهير الأمة.
في صلب هذه الظواهر جميعاً كانت فلسطين سيدة الموقف، فمن أجلها عيون محتليها الصهاينة كانت الهجمة الأمريكية الشرسة على الإسلام والمسلمين، وعلى وقع دماء شهدائها وبطولاتهم انتشرت ثقافة المقاومة، فكانت مقاومة العراق وأفغانستان، وها هي الصومال، ومن معينها ومعين بطولاتها ساد التدين عالمنا الإسلامي.
وفي ذلك كله كانت حماس هي قطب الرحى وسيدة الموقف، ولم يعد بوسع أبناء الأمة التفريق بين فلسطين وحماس، ولا بين حماس والإسلام المجاهد، ما جعل للشيخ الشهيد أحمد ياسين منزلة خيرة الأولياء في وعيهم، ومعه زينة الشهداء والأبطال من أمثال عبد العزيز الرنتيسي وصلاح شحادة وإبراهيم المقادمة وجمال منصور وجمال سليم، وقبلهم يحيى عياش وعماد عقل ومحيي الدين الشريف وسواهم.
في هذا السياق بكل مفرداته أخذت حماس مكانتها ومنزلتها الحقيقية، وما كان يقال على سبيل التنظير فقط، من أن فلسطين هي القضية المركزية للأمة تحول واقعاً عملياً، وما كان يقال من أن حماس هي رأس الحربة في صراع الأمة مع المشروع الصهيوني لم يعد مجرد كلام يكتب في البيانات. فهنا يرتقي أجمل الشهداء إلى العلى، وهنا يرسم آلاف من أجمل الرجال عنوان الصمود للأمة في معتقلات العدو.
لقد كانت حماس بالفعل رافعة المشروع الإسلامي، الذي هو مشروع النهوض للأمة، وما من حركة حازت الإجماع في صفوف جماهير الأمة كما حازت حماس، مع العلم أن في الدول العربية والإسلامية حركات لها من الأعضاء والأنصار عشرات أضعاف حماس، لكنها غائبة عن وعي المناطق الأخرى. ونذكّر هنا بأن صعود حماس في فلسطين قد حل العقدة الأبرز في تاريخ الإسلاميين ممثلة في سؤال وجودهم ودورهم في فلسطين، والذي ظل بلا إجابة أمام جحافل القوميين واليساريين. ولا يختلف أحد على أن شهداء حماس وبطولاتها وفعالياتها كانت تستخدم من قبل الإسلاميين في العالم أجمع في سياق نشر الظاهرة الإسلامية وتعميق انحياز الناس إليها، فمثل هذه الظاهرة التي تصنع كل هذه الروعة والبطولة والتضحية تستحق أن يحاكيها المسلمون في كل مكان.
ليس هذا كلام شعر وتحريض وتعبئة، لكنها الحقيقة التي تشهد لها صور أحمد ياسين في كل قرية من قرى المغرب والمشرق، والمأتم الذي عرفه كل بيت مسلم يوم استشهاد القائد البطل عبد العزيز الرنتيسي، وجنازة الشهيد أحمد ياسين وقبله يحيى عياش في فلسطين والجنازات الرمزية في العالم العربي والإسلامي.
حماس كانت رافعة الأمة وعنوان النهوض، وحين تصمد وتواصل الصمود ستصعد الأمة، وحين تتراجع سيعم الإحباط. إنها معادلة كبيرة لمن شاء أن يراها: مقاومة فلسطين بثوبها الإسلامي تنشر التدين وثقافة المقاومة، فيتورط الأمريكان في العراق ويبدأون التراجع ومن ورائهم الصهاينة بسبب المقاومة، فيكون الخير للأمة ولجميع المستضعفين في الأرض، وبذلك يصدق ربنا عز وجل حين يقول: «ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين».
على إيقاع هذا النبض، سيكون على قادة حماس ورجالها، وبمناسبة مرور عشرين عاماً على تأسيسها أن يدركوا عظم دورهم وحساسية المهمة التي يتصدون لها، والتي تتجاوز مهمة تحرير الأرض إلى تحرير أمة من أسر مستعمرين يطاردونها من دون هوادة، بهدف إبقائها تابعة ذليلة إلى يوم الدين. وقد آن أن تعيد الحركة النظر في المسار البائس الذي بدأ بدخول الانتخابات التشريعية ولم تنته فصوله ولا تداعياته بعد.
من جهة أخرى، على رجالات الأمة وعلمائها ومفكريها أن لا يقفوا صامتين أمام أي خلل في مسيرة هذه الحركة المباركة، وعليهم قبل ذلك أن يسندوها بكل ما تستحق من إسناد، ومعها كل المدافعين عن حياض هذه الأمة، إذ من العبث أن يركن المخلصون إلى تقسيمات الاستعمار في تعاطيهم مع قضايا الأمة، فهنا ثمة أمة واحدة، قلبها واحد وجراحها واحدة وهدفها واحد، والمستقبل لها بعون الله مهما تعددت المؤامرات وكثر المتآمرون.
تعليق