الوحدة الوطنية أغنية أم برنامج عمل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
فيصل حوراني
الشأن الفلسطيني الداخلي في الوطن كما في الشتات فيه عجر كثير، لكن عجره لم يكنس بجره بعد، خصوصاً حين يتعلق الأمر بما اصطلح على تسميته الوحدة الوطنية. وبالرغم من وفرة الظواهر المقلقة، فما زال هذا الشأن يظهر مقداراً من التوافق بين الأطراف الناشطة في حقل العمل الوطني وهو توافق لا ينكر وجوده إلا المغرقون في التشاؤم. وأظهر مظاهر التوافق يتجلى الآن في هذا الإجماع على ضرورة التخلص من الاحتلال وما يقترن به من رغبة أغلبية الجمهور في تطوير الشأن الداخلي ليخدم الحاجة إلى كنس هذا الاحتلال.
ــــــ
* كاتب من فلسطين
وبوجود هذا التوافق تبرز مسألة الوحدة الوطنية، وهي مسألة قديمة قدم الحركة الوطنية الفلسطينية، والكلام عليها والحاجة إليها يتجددان كلما تأزمت الأحوال وكلما انفرجت أو كلما بدا أن هذه الأحوال ستتأزم وكلما بدا أنها ستنفرج. فهو، إذاً، كلام قد يصخب أو يخفف لكنه لا يتوقف. والآن، فيما الحال يتأزم والحاجة إلى منفرج تشتد، يتجدد الكلام وينهمك الجميع فيه. لكن هذا لا يعني أن جولة الكلام الحالية سوف تفضي بالضرورة إلى جديد لم تفض إليه جولات سابقة، كما أنه لا يعني بالضرورة أن هذه الجولة لن تفضي إلى شيء. بكلمات أخرى: يدور الكلام على الموضوع القديم الجديد فيما تحضر في البال التجارب السابقة الفاشلة والحاجات الراهنة. وبامتزاج عبر الفشل وضغط الحاجات، قد لا تنتعش آمال خابت في الماضي. إلا أن الآمال المحمولة على حاجات الراهن قد لا تغيض. والحاصل أن الأمل بتحقيق الوحدة الوطنية المتوخاة يبقى بين بين كما كان عليه شأنه في معظم الأوقات.
وفي الذين خابت آمالهم فركنوا إلى اليأس كثيرون يؤثرون الكف عن العزف الذي لا يأتي بنتيجة. غير أن ثمة آخرين، كاتب هذه السطور واحد منهم، يرون أن ما هو مطلوب حقاً هو الكف عن نمط من ذلك العزف على نغم الوحدة الوطنية وليس عن العزف بإطلاقه. بكلمات أوضح: مطلوب تغيير نمط الأداء، استبدال النمط القديم بنمط يستهدف تشييد العمل الوطني المشترك على أسس تلائم المرحلة، أو وحدة لها هدف يمكن تحقيقه كما يمكن التوصل إليه بوسائل أرقى وبالتالي أنجع من الوسائل التي خيّبت الآمال. وإذا شكك أحد في جدوى الدعوة إلى الوحدة الوطنية واستحضر مخاطر الفشل المتواتر في تحقيقها فإن التشكيك لا يلغي الحاجة إليها. والواقع أن هذه الحاجة صارت، خصوصاً في ضوء نتائج سنتي الانتفاضة الأخيرة أشد إلحاحاً وأكثر ضرورة. وإلحاح الحاجة وضرورتها يكمنان في هذا السؤال الذي لا يجوز لناشط في الحقل الوطني أن يتجاهله: ما الذي سيحدث وإلى أي هوة سيتردى الحال إذا ظل كل طرف فلسطيني يغني على ليلى غير ليلى الأطراف الأخرى؟ ولهذا السؤال بقية من طبيعته، فهل يجوز أن تظل جهود الأطراف المنهمكة في التصدي للاحتلال متعارضة يبطل جهد كل طرف منها جهد الطرف الآخر فيما المحتل ينصرف إلى الفتك بالجميع؟
كنس الاحتلال، وأكلافه
للوهلة الأولى قد يبدو أن للسؤال إجابة واحدة. غير أن تعقيدات الوضع الفلسطيني الداخلي، التعقيدات الناجمة من طبيعة الوضع والأخرى المؤثرة عليه من خارجه، لا توفر الفرصة الكافية للتيقن من أي شيء، لا من صوابه ولا من خطئه. وحتى لو أمكن صياغة إجابة بدرجة ما من التيقن، فإن تعقيدات الوضع تقلص إمكانية التنبؤ بما يمكن أن يقع في هدى إجابة أو هدى إجابة أخرى. وإذا زعم أيما أحد أنه قادر على التنبؤ فأغلب الظن أنه واحد من اثنين، فإما أن يكون متبجحاً أو دعياً. وقد نسأل: من الذين كانوا على حق خلال السنوات العشر المنقضية، الذين جاؤوا باتفاق أوسلو وتشبثوا به أم الذين عارضوه وجعلوا هدف جهدهم كلّه هو إحباط جهد الأوسلويين؟ ثم قد نستطرد في السؤال فنسأل: من الذين هم الآن على حق، الذين يغلبون الحاجة إلى الوسائل السياسية أم الذين يصرون على مواصلة العنف؟ وقد نستطرد أكثر فنسأل عن جدوى الوسائل المتبعة ومن الذين هم على حق، الذين يسعون إلى المفاوضات أم الذين يركزون جهدهم على إحباطها، الذين يتسلحون بشرعية دولية فقدت في ظل التسلط الأميركي كثيراً من فعاليتها أم الذين يديرون الظهر صراحة أو ضمناً لها؟
فمن الذي يزعم أنه يمكن تقديم إجابة يقينية على أي من هذه الأسئلة. ومن الذي يزعم أنه قادر على التنبؤ اليقيني إذا لم يتوفر مثل هذا الإجابة.
غير أن الأسئلة جميعها تفضي إلى السؤال الجوهري المتصل بمسألة الوحدة الوطنية التي ينصب عليها هذا الحديث وهو سؤال لا ينبغي أن يمل أحد من تكراره: ألا يمكن تنسيق جهود الجميع وصبها في المجرى الذي يستهدف كنس الاحتلال الإسرائيلي للضفة الفلسطينية وقطاع غزة والخروج من هذه الحالة التي يحبط فيها جهد طرف جهد الطرف الآخر؟
إن ضيق فرص الاحتياز على يقين لا يلغي هذا المتحقق يقيناً الذي يمكن لمسه باليد ورؤيته بأي عين مبصرة وهو الإجماع على ضرورة التخلص من الاحتلال وقناعة الجميع باستحالة تحقيق أي منجز ما دام الاحتلال مستمراً.
والواقع أن الأطراف الفلسطينية جميعها، الناهض منها لمقاومة الاحتلال والقاصر، الراغب في بلوغ استقلال تام لا شائبة فيه والمكتفي بالمتيسر، الذي يتوسل بوسائل العنف والذي يؤثر الوسائل السياسية والذي يجمع بين النوعين، الحريص على التواؤم مع الشرعية الدولية وغير الحريص، هذه الأطراف قد تختلف على أي شيء، وهي مختلفة فعلاً على أشياء كثيرة، وقد يضيق بعضها بسلوك بعضها الآخر ويشكك في جدوى وسائله، والضيق والشك موجودان بوفرة، إلا أنها جميعها قد بلغت خلال سنوات أوسلو العشر نقطة اليقين بأن بقاء الاحتلال تحت أي مسمى وفي أي درجة من درجات سطوته معيق إعاقة تامة لتحقيق مطالب أي منها، ولا بد إذاً من كنسه.
شيء آخر أظهرته تجربة السنوات العشر وعممت القناعة به. ففي البداية، تصور بعضهم أن الحل السياسي المقبول صار في اليد وبنى على هذا أن الدولة التي سيظل هو الحاكم فيها قادمة. وبتأثير هذا التصور وما اقترن به من وعد التفرد بحكم الدولة المأمولة، لم يول هذا البعض مسألة الوحدة الوطنية أو الاتفاق على برنامج عمل وطني مشترك ما يستحقانه من اهتمام. وقد لا نخطئ لو قلنا إن بعض هذا البعض كان عازماً على أن يستأثر بنتائج ما شرع فيه وتقصد إبقاء الآخرين بعيدين عنه حتى حين لم يبعد الآخرون أنفسهم بأنفسهم. وبعض بعض هذا البعض واصل العزم على التفرد حتى بعد أن توالت الظواهر التي زكمت روائحها كل أنف واتضح أن مآل اتفاق أوسلو لن يتطابق مع الآمال التي بثتها البداية. هذا الوضع اختلف الآن عن بدايته. فما من شيء صار في أي يد. وما من أحد قادر على الاستمرار في التفرد، إلا أن يكون التفرد في تحمل مسؤولية خيبة الآمال. وفي سنتي الانتفاضة، بدأ الأمر يعود إلى نصابه، بالتدريج وليس بدون معيقات وعثرات، لكن بلا تراجع.
والحال الآن أن الأغلبية التي تحمست لأوسلو لم تبق على حماسها والأقلية التي عارضته أو تحفظت عليه لم تعد محكومة بأن تظل أقلية. وتحت مطارق البطش الإسرائيلي التي استهدفت من أيدوا أوسلو مثلما استهدفت غيرهم، أدرك الجميع أن جهود الجميع مطلوبة كلها من أجل التصدي للاحتلال. وفي الصورة ما تزال ثمة أغلبية تؤيد التوق إلى تسوية سياسية تقيم دولة مستقلة على أرض الضفة والقطاع لكنها لم تعد ترى في أوسلو ونهجه طريقاً إلى مثل هذه التسوية وهي تدرك على أي حال أن التسوية المقبولة ليست بعد في المتناول. وفي الصورة، بقيت الأقلية التي ترفض أي تسوية وتتشبث بالحدّ الأقصى دون أن توفر أي فسحة معقولة للأمل ببلوغ هذا الحد. والطرفان، إذاً، في مأزق وكل منهما محتاج إلى تلمس مخرج. وما من أحد يجهل كم هو عسير إيجاد أي مخرج ما دام الاحتلال قد مدد سطوته فشملت كل شبر وإنسان، وما دام كل طرف فلسطيني يغني على ليلاه.
ولئن وجدت في السابق تيارات تتهيب دفع الثمن الذي توجب مقاومة الاحتلال دفعه وآثرت إتباع وسائل أقل كلفة ظنت أنها فعالة، فقد شمل تبدل الحالة تنحية هذا التهيب. حدث هذا بتأثير سلوك إسرائيل ودلالته أو دلالاته السافرة. فقد استهدف البطش الإسرائيلي في موجته الأخيرة أول ما استهدف هؤلاء الذين تهيبوا أو تجنبوا المجازفة بتكبد هذه الكلفة وقسى عليهم حتى بأكثر مما قسى على الآخرين. والحقيقة كما ينبغي التنويه بها أن التبدل بدأ منذ ما قبل الانتفاضة الأخيرة واستمر ثم تعزز بعدها. فقسوة إسرائيل السياسية على الذين انهمكوا في التفاوض معها لم تكن أقل إيذاء لهم من قسوة بطشها العسكري.
والحال الآن، في جوهره، بصرف النظر عن التفاصيل، هو هذا: لا يمكن كنس الاحتلال إلا بثمن باهظ، ولا بدّ من توطيد النفس على الاستعداد لمواصلة تكبده. وما يشكل خطراً ماثلاً الآن ليس هو النكوص عن الاستعداد لدفع الثمن، بل هو الفهم المغلوط لطبيعة هذا الثمن. ومخطئ دون شك من يتصور أن الثمن الذي سيجلب دفعة تسوية مقبولة هو تقديم مزيد من التنازلات. ومن حسن الحظ أن الذين يراودهم مثل هذا التصور قليلون وأن نفوذ هؤلاء قد تضاءل وهو مرشح لأن يتضاءل أكثر فأكثر إذا اتبعت الأغلبية ما يمليه الفهم الصائب لطبيعة إسرائيل وأهدافها السافرة أو المضمرة وسلوك حكامها.
تطوير مفهوم الوحدة الوطنية
عبارة الوحدة الوطنية لها في حدّ ذاتها جاذبية. ويبدو أن هذه الجاذبية هي التي أذنت بترويج عبارة الدعوة إلى الوحدة الوطنية حتى حين يكون المقصود هو الدعوة إلى برنامج عمل مشترك تتفق عليه وتلتزمه القوى الناشطة في الحقل الوطني كافة. ولكي لا يتشتت الكلام في استعراض التعاريف المتعددة التي قد تختلف بتعدد الحالات، يجدر أن نوجز فنقصر الكلام على الحالة الفلسطينية. هنا، سيتضح أن دعوة الوحدة الوطنية تعني أن يظل الشعب الفلسطيني المجزأ والموزع على مناطق جغرافية متباعدة موحداً حول قضيته العامة. بكلمات أوضح: تعني الدعوة إلى الوحدة الفلسطينية الإبقاء على وحدة الشعب الذي قسمته النكبة بين مقيم في وطنه ولاجئ فيه أو مجموعات لاجئين موزعة في بلدان عدة. وتشمل هذه الدعوة الحرص على إدامة العوامل التي تبقي الفلسطينيين شعباً واحداً ذا سمات مشتركة والعمل على مقاومة العوامل التي تزعزع وحدة الشعب وتبدد أو تمحو السمات المشتركة. هذه الدعوة بمعناها الشامل ليست هي موضوع هذا الحديث.
أما الرائج من الدعوات إلى الوحدة الوطنية فإن مضمونه يجعل من الأصوب تحديد العبارة التي تتطابق مع المضمون المتوخي. وكاتب هذه السطور يرى أن الدعوات المتعاقبة على الساحة الفلسطينية إن استفادت من جاذبية عبارة الوحدة الوطنية فقد عنت أكثر ما عنت دعوة إلى التفاهم على برنامج مشترك تلتزمه القوى الناشطة ويؤيده الجمهور وإقامة هيئات وطنية تمثل الجميع وتتولى مسؤولية توحيد الجهود في هدى هذا البرنامج. وإذا قبلنا هذا التحديد فينبغي أن نضيف أن البرنامج المشترك ذاته قابل للتعديل أو الاستبدال وفق ظروف كل مرحلة وفي هدى متطلباتها. والتعديل أو الاستبدال يمكن أن يتما بتوافق الجميع، فيستمر العمل المشترك.
الآن، ثمة كما سبق أن قلنا وكررنا أغلبية وأقلية، هكذا على العموم، تم تمايزهما بسبب اختلاف المواقف بشأن التسوية السياسية. لكن، ثمة في طيات العام أغلبيات وأقليات متعددة بتعدد المسائل التي يواجهها العمل الوطني والعمل الاجتماعي. أما ما تتفق عليه الغالبية الكاسحة في الفصائل كلها وفيما حولهما فهي ضرورة التصدي للاحتلال الإسرائيلي القائم منذ العام 1967 وكنسه. ولا ينكر إلا ذوو النوايا السيئة أو المنشغلون باهتمامات ضيقة أن الاتفاق القائم على ضرورة كنس هذا الاحتلال يشكل قاعدة تامة الأركان لصياغة برنامج عمل مشترك، أو، لمن تغويهم العبارة أكثر من غيرها، لبناء وحدة وطنية.
هنا، قد ينبغي أن نبرز حقيقة أخرى لها صلة بموضوع حديثنا. فالتمايز بين أغلبية وأقلية عامتين ليس تمايزاً ميكانيكياً، لم يكن كذلك في أي وقت سابق وهو ليس كذلك الآن. فالواقع يظهر اختلاطاً في المواقع وأوجه التفكير والسلوك. والاختلاط موجود ليس بين الأغلبية وبين الأقلية فحسب، بل داخل كل طرف على حدة. ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إن الاختلاط موجود حتى داخل الشخص الواحد. وهل هم قليلون القابلون بالتسوية الذين يضيقون بما يعدونه اضطراراً للقبول بها ويتمنون لو أمكن حقاً أن يجد الرفض ما يسوغه وتتحقق شعاراته. بل هل هم قليلون الرافضون الذين يعاينون واقع الحال ويتمنون في قرارة نفوسهم لو أمكن أن تتحقق تسوية متوازنة.
وما دام صحيحاً وملموساً أن الرغبة في الخلاص من الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع هي الطاغية على أي رغبة أضأل منها أو أعظم، وما دام صحيحاً أيضاً أن الأغلبية الكاسحة في أي طرف كما هي في المجتمع كله متمسكة بضرورة المثابرة على التصدي للاحتلال دون تنازلات سياسية أو إقليمية جديدة، فلماذا لا يتم الانتباه بما فيه الكفاية إلى أن هذا يشكل أرضية قلما توفر ما هو أصلب منها لصياغة برنامج عمل مشترك يشكل بدوره الأساس الذي يسند الوحدة الوطنية المنشودة التي تلائم ظروف المرحلة ويسهل بوجوده الاتفاق على تشكيل هيئات للعمل المشترك أو تفعيل الهيئات القائمة. ومن الذي بإمكانه أن ينكر أن في الاتفاق على برنامج مشترك وهيئات مشتركة قوة للجميع. ومن الذي يجهل أو ينكر أن من شأن اتفاق كهذا أن يصلب إرادة التصدي للاحتلال حتى لدى الذين يتهيبون دفع الثمن. وهل يملك أيما أحد أن يزعم أن في الاتفاق على برنامج مشترك ضرراً لأي طرف، إذا لم يحسب في الضرر اضطرار بعض الأطراف إلى التضحية بمنافع خاصة يجبيها ثمناً لما يبذله من جهد ضد جهد غيره. ألا تحصل بعض أطراف الرفض على منافع ذاتية لأن جهدها موجه ضد آخرين. ألا تحصل بعض أطراف القابلين بالتسوية على مثل هذه المنافع لتحفيزها على التشدد في تدمير جهود الرافضين. ولماذا لا نضع هذه الحقيقة في الحساب ونزن تأثيرها: ألا يرى كثيرون ممن يعنيهم الأمر أن التشبث بهذا النوع القبيح من المنافع يقف بين العثرات التي تعرقل مساعي صياغة برنامج مشترك. وهل من المعقول أن تقصر مدارك الجميع عن وضع اليد على حقيقة مقابلة هي أن المنافع التي سيجنيها الجميع ثمرة لاتفاقهم، وبضمنها المنافع التي سيختص بها كل طرف على حدة، تفوق هذه المنافع القبيحة.
ولو أمكن إجراء حسبة سديدة فسيظل من المؤكد عليه أن الكلام على وحدة تتوخى جلب الجميع إلى حظيرة واحدة تامة التجانس، أي الكلام على وحدة ميكانيكية، سيظل مجرد كلام لا يجتذب أحداً إلى أي حظيرة. ولأن هذا الكلام خاطئ فإنه لم يحقق ما يدعو إليه في أي وقت سابق، ولن يحققه الآن.
وفي مسار العمل الوطني الفلسطيني في موجتيه الكبيرتين، قبل 1948 وبعده، لم تتحقق وحدة من هذا النوع في أي وقت. أما ما تحقق بين وقت وآخر فكان الاتفاق على برنامج عمل مشترك. وعندما جرى تأسيس م.ت.ف. في العام 1964، توخى المؤسسون تحقيق وحدة ونصوا على ذلك في الميثاق القومي، ميثاق م.ت.ف. الأول، ووصلوا حدّ نفي وجود حاجة لأحزاب وتيارات متعددة، واشتطوا في هذا السياق فعدّوا وجود التعددية ضرراً. لكن، ما من وحدة تحققت في هدى مثل هذه الدعوة والمفاهيم. وعندما تولت فصائل العمل المسلح سدّة القيادة بعد حرب 1967، أدخل الميثاق الوطني الفلسطيني الذي جاءت الفصائل به تعديلات جوهرية على الميثاق السابق، وأعيد الاعتبار إلى وجود التعددية. لكن الميثاق نص على أن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد فأبرز بهذا استهانة سافرة بالعمل الفكري والسياسي فضيّق مفهوم التعددية حتى كاد يقصرها على تعدد فصائل حملة البنادق. وفي ظل التأثيرات المتعارضة لما هو إيجابي وما هو سلبي في المفاهيم والسلوك، نشأت وتعاقبت أشكال من التوحيد سميت وحدة وطنية دون أن يبلغ أي منها حدّ شمول الجميع أو حدّ الكمال. وأنشئت في هذا السياق هيئات قيادية موحدة: اللجنة المركزية لحركة المقاومة الفلسطينية، ثم القيادة العامة لقوات الثورة، ثم مجلس الأمناء العامين للفصائل وما إلى ذلك. غير أن المحاولات جميعها قصرت عن تحقيق وحدة بين الفصائل. أما ما أعطى ثمراً فكان ما نشأ في هدى متطلبات ظرف اقتنع الجميع بضرورتها وقام على تفاهمات سياسية وبرامج عمل وطني مشتركة.
الإجماع أم الأغلبية والأقلية
وقد ظلت المشكلة في م.ت.ف. لعدة عقود هي مشكلة الحرص على الإجماع. واستقر في الأذهان أن الوحدة الوطنية تتحقق حين يتحقق الإجماع وتنفرط إذا انفرط. وإذا كان نشدان الإجماع غواية فإن الغواية وحدها لا تجعل الإجماع ممكناً أو حتى ضرورياً في كل وقت. والواقع أن الإجماع لم يتحقق ويستمر في أي حركة تحرر وطني حتى في الحركات التي نهضت بين شعب مستقر وغير مشتت، إلا إذا اعتبر تغلب الأغلبية على الأقلية أو إقصاؤه إياها عن الساحة بالقوة وحدة وطنية. وفي الساحة الفلسطينية بالذات، بوجود التفاعلات الداخلية المحتدمة على الدوام ووجود التدخلات الخارجية التي لا يمكن وقفها، عجزت أي أغلبية وستظل عاجزة عن إقصاء أي أقلية عن الساحة حتى لو كانت أغلبية وافرة القدرات. فالتعددية على الساحة الفلسطينية أمر طبيعي. والإجماع هنا متعذر إلا إذا نشأ حول أمور شديدة العمومية كما هو مثلاً حال اتفاق الفلسطينيين كلهم في الرأي على أن إسرائيل دولة معتدية وأن الإمبريالية تساندها. وقد يقع الإجماع في ظرف طارئ أو نتيجة ضغط هائل ينصب على الجميع أو ثمرة مساومات غالباً ما تكون غير مبدئية. لكن كل إجماع من هذا النوع لا بد من أن يكون قصير الأمد وقابلاً للعطب في أي لحظة.
وإذا استحضرنا وقائع أي إجماع في ظرف أو غيره، أو شبه إجماع، على قرارات أو مواقف أو برامج، فستحضر على الفور وقائع تملص جهة أو غيرها من هذا الإجماع. وما أكثر ما كان التملص مضمراً حتى عند التصويت بالموافقة!
ولنأخذ واقعة إجماع شهيرة تظهر دلالات الوقائع الأخرى كلها. فقد تم إجماع في العام 1974 على برنامج العمل الوطني المرحلي الذي سمي أيضاً برنامج النقاط العشر. صيغ البرنامج بموافقة الأمناء العامين للفصائل المنضوية تحت لواء م.ت.ف. كلهم. وصادق المجلس الوطني على البرنامج بإجماع، لم يشذ عنه سوى أربعة أعضاء ليس منهم من تجاوز مغزى اعتراضه حاجته إلى التبرؤ من الموافقة. وقد جاء البرنامج ثمرة تبلور أغلبية تصدرتها أغلبية "فتح" العازمة على القبول بالتسوية السياسية في وجه أقلية لم تكن قليلة متشبثة بهدف التحرير الكامل ورافضة لأي تسوية. أما الإجماع فأملته ضغوط انصبت على الرافضين وكان أشدّها ضغوط عربية اشتدت بعد أن التحقت سورية بركب الموافقين على القرار 242، أي القابلين بالتسوية. لكن الضغوط هذه لم تكن في جوهرها العام جديدة ولم تكن هي العامل الوحيد الذي أملى الإجماع، فقد انضاف إليها استعداد "فتح" ومن يتفقون معها في الرأي لعقد مساومات مع الرافضين في صياغة بنود البرنامج. فحفل البرنامج بعبارات تسترضي الرافضين إلى جانب العبارات التي أرادها القابلون، فحفل بذلك بالتباينات التي أملتها مساومات لا تتسق مع مبادئ هذا الطرف ولا مبادئ طرف آخر. وما أن اصطدمت أولى محاولات التسوية التي أعقبت الحرب بالتعنت الإسرائيلي، ثم ما أن وجدت سورية نفسها غير راغبة في الاستمرار في هذه المحاولة، حتى توالى نكوص فصائل الرفض عن موافقتها على البرنامج وانفرط عقد الإجماع. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تخطاه حين شدد الرافضون هجماتهم على دعاة التسوية واشتد التنابذ والتنابز بالألقاب ووقعت مشاحنات حادة وصدامات بالسلاح. غير أن نكوص فصائل الرفض لم يلغ حقيقة أن الأغلبية تسلحت ببرنامج النقاط العشر بما هو برنامج تمت الموافقة عليه بالإجماع وواصلت السير على طريق التسوية. وقد خلف هذا بالذات مضاضة في نفوس الرافضين لم تبرأ الساحة من تأثيراتها, وصار من الصعب بعد هذه التجربة الإجماع على برنامج واحد مرة أخرى.
الطريق الذي سارت الأغلبية عليه منذ 1974 أفضى إلى المبادرة السلمية التي أقرها المجلس الوطني بعد أربع سنوات، ثم إلى قرار الموافقة الصريحة على قرار مجلس الأمن 242 في العام التالي، ثم إلى قرار المشاركة في مؤتمر مدريد العام 1991، ثم إلى إقدام بعض قادة الأغلبية على مفاوضات أوسلو وإبرام اتفاق المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي في العام 1993. في هذه المحطات جميعها جرت، ربما بحكم استمرار العادة، محاولات للتوصل إلى إجماع، غير أنها كانت محاولات واهنة. فالرفض لم يكرر تجربة الموافقة ثم النكوص فتشبث برفضه. والأغلبية اكتفت بكونها أغلبية حتى وهي مستمرة في الكلام على مغويات الإجماع. وفي هذه المحطات المتميزة في مسيرة العمل الوطني الفلسطيني، صدرت القرارات بموافقة الأغلبية وعارضتها الأقلية، ونشأ الوضع الذي بهت فيه هوس الإجماع.
ولو قارن المرء حجوم المنابذات والصدامات التي أعقبت الإجماع والنكوص عنه مع حجوم مثيلاتها التي تبعت تصويت الأغلبية بالموافقة والأقلية بالمعارضة، ولو أدخل في الحسبان طبائع المسائل المبحوثة في الحالتين وحجوم تأثيرها على المصير العام، لتوصل إلى نتيجة مؤداها أن من الخير دائماً أن يقتصر الإجماع على ما هو مجمع عليه حقاً وحده وأن تصدر القرارات بشأن المختلف عليه بالتصويت، أي بوجود أكثرية وأقلية.
ولقد ثبت أن بالإمكان الإبقاء على مؤسسات العمل الجماعي وإبقاء دورها فاعلاً مع بقاء الاختلافات والتباينات حتى لو مست أموراً جوهرية. وإذا كان حضور هذه المؤسسات قد بهت، خصوصاً منذ ما بعد أوسلو، أو كان دورها قد اضمحل، فإن لهذا أسباباً قد يخرجنا الخوض في معظمها عن عرض هذا الحديث. فعمل المؤسسات لم تبهت فعاليته بسبب وجود معارضات فيها وإلا فما معنى بهوت فعالية مؤسسات يتمتع القادة الممسكون بزمام العمل من أجل التسوية أو غيرها بأغلبية مضمونة فيها. وما دام من الضروري إيراد السبب الذي له صلة وثيقة بغرض حديثنا هذا، فهو كما ينبغي أن يجاهر به السبب المتصل بالرغبة في التفرد. والتفرد له في الساحة الفلسطينية مستويات عدة. تفرد تكتل والاستهانة بغيره؛ تفرد فصيل في التكتل، تفرد قيادة الفصيل، تفرد قائد واحد. وهذه ظواهر وجدت واستشرت واستمرت ليس في صف القابلين بالتسوية وحدهم بل في صف الرافضين، وليس في فصيل واحد وحده بل في الفصائل كلها. وإذا تفاوتت حجوم الضرر فبسبب التفاوت في حجوم القوى ومكانات القادة وقدراتهم على ممارسة التفرد.
والواقع أن تنحية هوس الإجماع والرضى بوجود أغلبية وأقلية واقتران ذلك باستمرار التعددية عوامل كان من شأنها أن تكرس تقليد العمل المشترك في كل مرحلة في ضوء برنامج مشترك تمليه احتياجات هذه المرحلة. لكن هوس التفرد في مستوياته كلها انضاف إلى غيره من العوامل غير المسعفة فحالت جميعها دون ترسيخ هذا التقليد وتطويره وجني ثمراته. والحال أن وضعاً غير مسعف نشأ هو هذا الوضع: أقلية تدير الظهر لحاجات الأغلبية وتقيم تفرداً في مواجهة تفرد وتستأثر بما يمكنها جهدها وعلاقاتها من الاستئثار به مغلبة المواقف والمصالح الذاتية على الموقف العام المطلوب والمصالح الوطنية؛ وأغلبية تفعل الشيء ذاته ويفتك بها هي ذاتها تفرد فصيل من فصائلها أو حلقة في الفصيل أو شخص في الحلقة. وبهذا وذاك، وبغيره بالطبع مما هو على شاكلته، تغيب فرصة الاتفاق على برنامج مشترك.
بلبلة في زمن أوسلو
وأياً ما كان عليه الأمر، فإن اتفاق أوسلو وتوابعه أنشأوا وضعاً جديداً انسحبت تأثيراته على الشأن الفلسطيني في مجالاته كلها بما في ذلك مجال الوحدة الوطنية أو العمل في هدى برنامج مشترك، بل خصوصاً هذا المجال الأخير.
صدم الاتفاق الرافضين حين أظهر أن دعاة التسوية انتقلوا من التبشير بدعوتهم والسعي لتحقيقها إلى مرحلة الشروع في تحقيقها فعلاً. ولم يعد الأمر مع الرفض أمر آراء تتفق أو تتعارض مع آراء دعاة التسوية، بل صار أمر وقائع تنشأ على الأرض. وقد كانت الصدمة كما ينبغي أن يقال شديدة الوقع على الرافضين بأطرافهم جميعها. وبتأثير الصدمة، عادت إلى الساحة فور إعلان اتفاق أوسلو لغة خطاب جرى تخطيها من قبل، لغة الاتهامات والتنابز بالألقاب ووقعت مشاحنات. ولم يطلب الرفض آنذاك أقل من إلغاء الاتفاق وما ترتب عليه وإقصاء الذين جاؤوا به عن الصف الوطني.
وفي صفوف دعاة التسوية أنفسهم صدم كثيرون، وجهرت أطراف وأصوات يعتد بها بالاعتراض أو التحفظات، وحدثت بلبلة. ولم يكن انضمام أطراف من دعاة التسوية إلى تكتل الفصائل العشرة التي دعت إلى إسقاط الاتفاق إلا نتيجة واحدة من نتائج الصدمة ومظهراً واحداً من مظاهر البلبلة. وأنصار أوسلو، هؤلاء أنفسهم، لم يسلم صفهم من البلبلة التي عصفت أنواؤها بالجميع.
وإلى هذا، يمكن أن نضيف تأثير ما حصل بعد الشروع في تطبيق الاتفاق. فالتطبيق تعثر. والآمال التي راجت لم تتحقق. فالانسحابات الإسرائيلية الموعودة أو المأمولة لم ينجز منها إلا القليل. والاستيطان الذي قيل إنه سيقف فوراً عند الحد الذي بلغه قبل الاتفاق توسع واقترنت به عمليات مصادرة الأراضي. والنازحون المأمولة عودتهم إلى الضفة والقطاع لم يعد منهم إلا قليلون. وطرق الحركة الآمنة لم تفتح وما فتح منها بعد لأي لم يكن آمناً. والاقتصاد الذي قيل إنه سيزدهر انسدت في وجهه طرق الازدهار بل حتى طرق الاستمرار على ما كان عليه. وغير هذا كثير. فتآكلت الآمال وتآكل الحماس الأول للاتفاق. ونتج ما لا يمكن أن ينتج سواه: تردي الأحوال المعيشية بأكثر مما كانت متردية واستفحال المضايقات الإسرائيلية على حركة الناس وحرياتهم وضمور الأمل بخلاص وشيك من سطوة الاحتلال. ومع تعثر الأحوال وترديها وبتأثير جهد إسرائيلي مبرمج وغير مبرمج، استفحلت السلبيات السابقة وبرزت سلبيات جديدة. وقد أدى هذا كله إلى تشدد الرافضين في رفضهم وغرق ناس أوسلو في المشاكل التي أحاطت بهم.
بالرغم من هذا، وربما بسببه في نحو ما، استمرت الدعوة إلى الوحدة الوطنية، بتأثير آلية الاستمرار وبدعوى الحاجة إلى التكاتف لمواجهة تردي الأحوال. لكن دعوة الوحدة الوطنية صارت أغنية إن رددها كثيرون فقد غناها كل منهم على ليلى غير ليلى الآخر واستهدف كل واحد مرمى مختلفاً عن مرمى غيره.
و"فتح" استهدفت في المقام الأول تخفيف حرجها هي التي تتولى أو يتصور الناس أنها تتولى مسؤولية سلطة تتراكم في وجهها العقبات. مثلما ظنت "فتح" أنها بهذا تحرج المعارضة. وقد أبرزت "فتح" هذه الدعوة بوصفها دعوة للآخرين كي يلتفوا حول السلطة وعرضت مقابل إيواء المعارضين في الحظيرة الواحدة، أو لنقل إن السلطة هي التي عرضت أن تبيح للآخرين حرية العمل السياسي وحق الاحتفاظ بوجهات نظرهم في الاتفاق. وعنى هذا دعوة الرافضين ومعارضي السلطة الآخرين إلى الكف عن المعارضة بوسائل فعالة مقابل الاحتفاظ بحق التعبير. ولم يغو العرض أيما أحد.
و"حماس" المتشبثة بأعتق عتيق الشعارات الفلسطينية وغير الفلسطينية عارضت السلطة بالطول والعرض، وراحت تقوي مواقع استنادها ومرتكزات نفوذها ووسائل الظفر بالشعبية على حساب السلطة، متشبثة باستمرار استقلال عملها عن م.ت.ف. وقد استفادت "حماس" من البلبلة العامة واستثمرت عثرات تطبيق اتفاق أوسلو مثلما استثمرت أخطاء السلطة وسلبياتها. لكن "حماس" لم تنحّ هي الأخرى، بالرغم من هذا، دعوتها إلى الوحدة الوطنية. وقد عرضت "حماس" مفهوماً للوحدة من طينة مفهوم "فتح" والسلطة حتى وإن اختلفت البنود. فالوحدة الوطنية عند "حماس" عنت أن يؤيد الجميع موقفها ويتبعوا نهجها حتى دون أن تعد بحق المختلفين معها في التعبير عن آرائهم. وعنى هذا، سواء أدركت "حماس" المعنى أو لم تدركه، أن ترتد الساحة الفلسطينية كلها عن منجزات جوهرية حققها الفكر والممارسات الفلسطينية طيلة عقود. وكما كان شأن دعوة "فتح" لم تغو دعوة "حماس" إلا النفر القليل من القابلين للارتداد.
وبين "فتح" و"حماس"، تماوجت مواقف الآخرين، ما اقترب منها من موقف الطرف أو موقف ذاك وما امتد بينهما.
وكان في هذا تأكيد جديد على أن فصائل العمل الوطني جميعها لم تسلك بما يتفق مع دعوة أي منها إلى الوحدة الوطنية ولم تقدم ما ينشئ متطلبات هذه الوحدة على أرض الواقع. وفي اعتقاد كاتب هذه السطور أن غلبة الدعوة إلى الوحدة الوطنية بإطلاقها على الدعوة إلى برنامج عمل وطني يلائم المرحلة القائمة ناجمة من هذه الحقيقة. وفي الظن، والظن ليس كله إثماً، أنه لولا الانتفاضة وما قابلها من اشتداد الأعباء، ولولا المخاطر الثقيلة على الجميع، لما بقي لأغنية الوحدة الوطنية كثيرون يرددونها. ولو أن اتفاق أوسلو أفضى إلى ما بناه عليه الذين جاؤوا به أو لو أن الظروف أذنت للانتفاضة بأن تكنس الاحتلال لخرجت هذه الأغنية من التداول.
قوام الوحدة برنامج مشترك
إن للوحدة الوطنية قواماً لا تقوم أي وحدة بدونه: التفاهم على هامش مشترك متفق عليه بين الجميع، وصياغة برنامج للعمل المشترك يستجيب للحاجات التي تنشئ التفاهم، وتنحية المسائل المختلف عليها إلى أن يحين أوان التعاطي معها، أي إلى مرحلة أخرى. ولكي يتحقق ما يتم التفاهم عليه وفق حاجات المرحلة لا بد من إنشاء الهيئات التي تضم ممثلين عن الجميع وأن يكون لهذه الهيئات حق القرار ومتابعة التنفيذ ومحاسبة الناكصين والمقصرين. كما لا بد من تفعيل هيئات التمثيل العام للشعب بأسره، المجلس الوطني ولجنته التنفيذية، والمجلس التشريعي والحكومة التي لا ينبغي أن تبقى إلا إذا ظلت متمتعة بثقته، والمنظمات الشعبية والمهنية والهيئات صاحبة القرار فيها. وفي كل مستوى من هذه المستويات لا بد من أن يكون للقرارات التي تصدر عنها بأغلبية الأصوات القيمة ذاتها التي لقرارات قد يمكن صدورها بالإجماع. بكلمات أخرى: العمل المشترك يوجب أول ما يوجب الاتفاق على أولويات المرحلة. وليس في أي ظن أن أحداً سينكر أن أولى الأولويات هي كنس الاحتلال عن الأرض التي استولت إسرائيل عليها في العام 1967، خصوصاً بعد أن كف اتفاق أوسلو عن أن يكون عقبة فقد مزّق مقاومو الانتفاضة ما فيه من سلبي ومزقت إسرائيل ما فيه من إيجابي.
إن القصور في إيلاء حقائق سافرة الوضوح ما تستحقه من اعتبار قصور مريع. وقد يكون مبعث القصور سوء نية هنا أو هناك أو تدخلات واعتبارات خارجية معيقة. كما قد يكون مبعث القصور هو هذا العجز الذي صار مزمناً عن التقاط مكونات المرحلة والارتقاء بالفكر والسلوك إلى المستوى الذي يلبيها. أما المؤكد عليه فهو أن تغليب الأدنى على الأرقى واستهداف المتعذر مع التعفف عن استهداف ما في المتناول سمات صارت أو كادت تصير غالبة. وليس أمام الذين تثقل عليهم المخاطر ويضيقون بالقصور إلا أن يشددوا جهودهم للارتقاء بالحالة أو لوقف ترديها المتواتر.
وفي أي ظرف، إما أن يتكاتف الجميع ضد الاحتلال ويتفقوا على منهاج مشترك لكنسه وإما أن يبقى الاحتلال. والطريق ليس مسدوداً أمام الارتقاء. أما أن ترتقي القوى البارزة الآن على الساحة بإرادتها أو أن يتحقق الارتقاء بدفع القوى الجديدة التي تتشكل على كل مستوى، فهذه مسألة أخرى.