بقلم/ محمد صبحي السويركي
- متى تدرك حماس أنها ستدفع مستقبلا ثمنا غاليا لطريقة تعاملها مع الأزمة التي أوجدتها نتيجة قلة حكمتها وقلة تبصرها؟!
- متى تدرك حماس أن القوة وحدها لا تكفي لحل المشاكل، وأن من عاش بالقوة عاش عمرا قصيرا!؟!
- متى تدرك حماس أن ما قامت به أعطى الشرعية لفساد بعض الفاسدين على امتداد عمر السلطة الفلسطينية؟
- متى تدرك حماس أن ما قامت به في غزة من ضرب البيوت الآمنة بالقذائف إنما يصب في صالح تجميل صورة الاحتلال؟!
- متى تدرك حماس أن نموذج حكمها في غزة نسف الأساس الأخلاقي للحكم الإسلامي لأنها لم تنتج إلا قتلا وترويعا؟!
- متى تدرك حماس أن ما فعلته في غزة ستنعكس آثاره السلبية على مجمل الحركات الإسلامية في المنطقة؟!
- وأخيرا متى تدرك حماس أنه آن الأوان للنزول عن شجرة المكابرة التي تسلقتها، وذلك من خلال التراجع عما قامت به، وتطييب خواطر الأسر الفلسطينية التي فقدت أبناءها وأعزاءها وممتلكاتها؟!
قبل عام من اليوم أرسلنا للسيدين إسماعيل هنية وخالد مشعل رسالة جاء فيها بأن حماس باستمرارها على نهجها الذي سارت عليه آنذاك ستتحول إلى نظام قمعي يحافظ على نفسه بالعصا وقوة المساندة، واليوم نعترف بأننا أخطأنا، فحماس اليوم تحافظ على نظامها بالياسين والبي سيفن! وهذا ما لم نتخيل أن يحدث في غضون عام واحد من كتابتنا لتلك الرسالة!!.. لقد ذهبنا آنذاك إلى هذا الاستنتاج لدى رؤيتنا لأفراد القوة التنفيذية مع بداية تشكيلها وهم يحملون الهراوات الغليظة، فحتى بدون أن نراهم وهم يستخدمونها لم يكن لنا إلا أن نقلق، فبتجرؤ تلك القوة على حمل تلك الهراوات كانت قد كسرت الحاجز النفسي بينها وبين استخدام العنف ضد الجمهور الفلسطيني، وتبقى مسألة الاستخدام الفعلي للقوة مسألة وقت، وهو ما حصل فيما بعد.. واليوم فقد أصبح استخدام حماس للقذائف ضد بيوت فلسطينية مدنية أمرا يكاد يكون روتينيا!.
اليوم ونحن نعود بذاكرتنا إلى الوراء فلا يسعنا إلا أن نأسف للمسار الذي اتخذته الأحداث، والتي تطورت من سيء إلى أسوأ، وهنا لابد من الاعتراف بأن هذا المقال سبقته محاولات عديدة فاشلة للكتابة حول الأوضاع في قطاع غزة، لكن أسبابا عديدة حالت دون ذلك؛ أهمها أن الحالة السائدة اليوم شطرت الشعب والوعي الفلسطيني إلى شطرين، فلم يبق مسجد أو بيت أو مجموعة أصدقاء بعيدة عن التأثيرات الشريرة لما حدث، ولغاية اليوم فإن مزيدا من النقاش حول هذه الموضوعات يكاد لا يجر إلا مزيدا من سوء الحال!.
حين ننظر إلى الشهور القليلة التي تلت استيلاء حماس على قطاع غزة نفاجأ بحجم الممارسات العنيفة والقاسية التي وقعت.. فعلى هذه الأرض ، أرض قطاع غزة التي جلا عنها الاحتلال لكنها بقيت تعيش تأثيراته؛ تم تجاوز كل ما يمت للأخوة ،وأحيانا للإنسانية، بصلة.. فإذا نحن أمام تصرفات جعلتنا جلادين بعد أن كنّا ضحايا، لأعوام طويلة كنا ،كإسلاميين، ننتقد ونصرخ باستمرار منددين بالأنظمة الفاسدة التي تقهر شعوبها، وبالفاسدين في الاتجاه الوطني، فإذا نحن اليوم نمارس أفعالا أسوأ، ونقدم للعالم صوراً تماثل في أثرها الصادم ما كان يقوم به الاحتلال إذ يقمع أبناء فلسطين الباسلة..
..وكأننا لم نتعرض لصدمة من قبل، فما نراه أمام أعينا اليوم يتجاوز كل ما يمكن أن يستوعبه العقل! فكيف يمكن استيعاب حقيقة أن من يدير هذه الممارسات هم نحن الإسلاميون القرآنيون ذوو الأيدي المتوضئة؟! وهل هذا هو كل ما يمكن أن نقدمه للعالم المحيط بنا من نماذج الحكم الصالح؟!
أصل المشكلة!
لكي نستوعب ما يحدث اليوم على أرض قطاع غزة من أحداث فلا بد من البحث عن الأفكار التي أنتجت سلوكنا المستهجن، والثقافة التي احتضنته، ففي البدء كانت الفكرة.. لكن قبل أن نحاول تفسير ما حدث فلابد من الإشارة إلى أن الهزيمة التي تجتاح العالم الإسلامي اليوم إنما هي هزيمة عقل وفكر، أنتجت هزيمة نفسية ما عادت تنتج إلا سلوكا بائساً مهزوما. من هنا فلابد من الإشارة إلى أن الاتجاهات الوطنية والإسلامية على اختلاف توجهاتها ما عادت تختلف اختلافا جوهريا في استعداداتها السلوكية، فهي مرشحة لإنتاج نفس السلوك إذا ما وضعت تحت نفس الظروف، ذلك أن الطبيعة النفسية والثقافية والانفعالية لإنسان العالم العربي ،بشكل خاص، هي من طبيعة واحدة تنتج نفس ردة الفعل إذا ما تعرضت لنفس الظروف مع اختلافات طفيفة في التفاصيل.. وعليه فإن سلوك ابن حماس أو الجهاد الإسلامي وغيرهما من الاتجاهات الإسلامية ستكون ،تقريبا، من نفس نوعية سلوك أبناء الاتجاهات الوطنية الأخرى؛ مع قليل من الاختلافات المتعلقة بالتفاصيل، مما يجب أن يدفع الجميع لمحاولة إيجاد حلول مشتركة قائمة على التعاون.
في البدء كانت الثورة..!
مع نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي كانت الثورة الإيرانية تحل عهدا جديدا في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وعهدا جديداً مقابلا في المنطقة كلها، فبينما كانت الثورة الإيرانية بزعامة الإمام الخميني ،رحمه الله، تواجه قدرها المتمثل في الحرب العراقية الإيرانية كان العالم العربي ينشطر إلى نصفين في مواجهتها، نصفٌ مؤيدٌ والآخر معارض، وقد وقفت الأنظمة العربية بعمومها مع النظام العراقي، معتبرة أن انتصار الثورة الإيرانية يشكل تهديدا لعروشها، وقد شارك شطر كبير من الحركة الإسلامية الفلسطينية (الإخوان المسلمون تحديدا) في هذه الحرب من خلال إثارة نعرات شيعية إيران، بينما مارس شطرٌ آخر من الحركة الإسلامية الفلسطينية (الجهاد الإسلامي تحديدا) أحلاما من نوع آخر، تمثلت في آمال التغيير، وتغيير أنظمة الحكم، وتحقيق أحلام التحرير من خلال مقارعة إسرائيل؛ هم شرقي النهر ونحن غربيه!..
إن إشارتنا للثورة الإيرانية بشكل خاص يبررها ما نتج بعد ذلك من اندفاع الحركة الإسلامية الفلسطينية في مسار غير عادي، نمت من خلاله بسرعة غير عادية، فقد حلّقت الحركة الإسلامية بعمومها؛ مع أن تحليقها بقي قريبا من الأرض، وحتى أولئك الذين عارضوا الثورة الإيرانية وهاجموها استفادوا من زخم تلك المرحلة، فمن عارضها وهاجمها استفاد من دعم الأنظمة العربية التي كانت من قبل قد دعمت نظام صدام حسين ،رحمه الله، أما من أيدها فقد استفاد من شعبيتها ونَفَسِها الثوري..
من هنا؛ فإنه وابتداء من أوائل الثمانينات شهدت الحركة الإسلامية في فلسطين توسعا غير عادي لنشاطها، مما ساعد على توسع قاعدتها بشكل غير عادي أيضا. على سبيل المثال فإن الجهاد الإسلامي قاد عملية تحول الحركة الإسلامية الفلسطينية بعمومها باتجاه مقارعة إسرائيل بعد أن كانت الحركة الإسلامية (بعمومها) عرضة للصراع الداخلي بين الاتجاهين الوطني والإسلامي، فما إن وصلنا أعوام ال 86، و87 حتى كانت الأجواء الموضوعية في قطاع غزة تُنضج ظروفا ملائمة لاندلاع انتفاضة ال 87، مما أدّى إلى تحولات مقابلة في حركة الإخوان المسلمين الفلسطينية دفعت بها باتجاه العمل المقاوم ضد إسرائيل، وبالتالي؛ التحول باتجاه الخيار الذي طالما راود خيال الجماهير!..
زخم لا يعكس نضجا..!
لقد كانت انطلاقة حركة حماس انطلاقة ميمونة باتجاه استثمار الجهد الفلسطيني لأجل مقارعة الغزاة، بعد أن كان تم تجميد ذلك الجهد لسنين عديدة بحجّة عدم نضج الظروف الموضوعية للعمل ضد إسرائيل، لكن من سوء حظ الشعب الفلسطيني أن التوجه ضد إسرائيل ترافق مع ارتفاع حدّة التنافس غير المحمود بين الخطين الوطني والإسلامي على خلفية استثمار الانتفاضة، فحتى فعاليات الانتفاضة لم يكن هناك اتفاق عليها، بل كان كل اتجاه يمارس نشاطاته وفعالياته بما يخدم مصالحه الحزبية..!
إن السؤال الذي نود أن نطرحه هنا هو حول عملية استلهام النموذج الإيراني واستمداد الدعم النفسي والروحي ،بل والمادي، منه، فمع الإقرار بعظمة الثورة الإيرانية التي أنتجتها ظروف موضوعية خاصة بالشعب الإيراني، فلا يمكننا إلا التساؤل عن الأثر الذي أحدثته تلك الثورة لدى بعض التنظيمات الإسلامية التي وجدت نفسها تتمتع بقوى تتجاوز قوتها حقيقية! بما لا يعكس نضجا في التعامل مع الواقع المحلي.. وقد كانت هذه إحدى إشكاليات الحركة الإسلامية السنية في المنطقة العربية؛ التي استلهمت النموذج الإيراني أو استفادت من زخمه!
شيئا فشيئا استطاعت الحركة الإسلامية (حماس والجهاد الإسلامي بشكل خاص) أن تقود المرحلة، وأن تحوز مزيدا من التأييد في الساحة الفلسطينية، على خلفية الأعمال البطولية التي فاقت الخيال في كثير من الأحيان، من ذلك: عمليات الطعن في عام 86، وتفجير الانتفاضة الأولى التي أشعل شرارتها الجهاد الإسلامي، وعمليات التفجير وحفر الأنفاق واختطاف الجنود التي قادتها حركة حماس..
لابد هنا من الاعتراف أنه وحتى الانسحاب الإسرائيلي من القطاع وتنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية في فلسطين لم تكن الحركة الإسلامية قد اختُبرت أخلاقيا بالقدر الكافي! فطوال الوقت كانت تلك الحركة في حالة 'ردع متبادل' و'توازن قوة' مع الاتجاه الوطني المتمثل بشكل أساسي في حركة 'فتح' لكن حين تم تنظيم الانتخابات في عام 2006 وفوز حركة حماس بدأ الاختبار الحقيقي المتمثل في السؤال: إلى أي حدٍ يتمتع الاتجاه الإسلامي بالمصداقية الأخلاقية التي طالما ادعاها، وهل يمكن للاتجاه الإسلامي أن يتماهى فعلا مع الإسلام فيتمثل جمالَه وجلالَه ولطفَه في السلوك والعمل؟! أم أن انفصاما بين القول والعمل يمكن أن يكون هو الاحتمال الأقرب للواقع؟!
من الشرعية إلى الانقلاب..!
وحتى نكون عادلين هنا فلابد من الاعتراف مرة أخرى أن حركة 'حماس' حين تسلمت الحكم من خلال صناديق الاقتراع لم تأخذ فرصةً كافية، فوضعت العراقيل في طريقها، وقد قادت أمريكا وأوروبا وإسرائيل وفريق في الداخل الفلسطيني هذا التوجه، لكن بعكس ما تعتقده حركة حماس فإن تلك الضغوط ،برأينا، لم يكن الهدف منها كسر حركة حماس بقدر ما كان هدفها دفع حماس لتقديم تنازلات تجعل منها جزءا من اللعبة الدائرة في المنطقة، سواء أكان ذلك في فلسطين أو ما حولها. ونحن حين ننظر إلى الوراء لا يمكننا إلا أن نتعجب من الصورة التي كانت في ذهن حركة حماس عشية تقدمها للانتخابات واستلامها الحكم، فكل من يعرف أبجديات السياسة أمكنه أن يدرك بأن أحد خيارين كان متاحاً أم حماس؛ أولهما: تقديم تنازلات والانخراط في العملية السلمية، معرضة نفسها للدوران في نفس الحلقة المفرغة التي دارت فيها منظمة التحرير من قبل. أما الخيار الآخر فلم يكن إلا تمسك حكومة حماس بنفس طروحات الحركة، بما يمكن أن ينتجه من حصار عالمي خانق دفع حماس للهروب إلى الأمام.. فإذا نحن وجهاً لوجه أمام انقلاب غير محسوب العواقب!.
إحساس الضحية.. ومرارة الواقع الجديد!
مع انتهائها مما دعته 'حسماً عسكرياً' بدأت حماس تدرك خطورة الموقف، لكنها تمسكت بإحساس الضحية، فأعلن بعض رموزها أنها 'تم استدراجها إلى فخ نصب لها' فيما أعلن آخرون أنها إنما قادت عملية الحسم تلك خروجا من تحالف قوى الشر العالمي المدعوم بقوى فلسطينية، وأنها إنما قامت بما قامت به من أجل إعادة صياغة الأوضاع في قطاع غزة لإنتاج واقع جديد يتسنى معه استمرار العملية الديموقراطية التي جاءت بها إلى الحكم!..
وبالفعل فقد قادت حماس ،بما قامت به في غزة، إلى إنتاج واقع جديد، لم يكن في حسبان حماس، فهو لم يقُد إلى استسلام الاتجاه الوطني وقبوله بإعادة خلط الأوراق وتوزيعها وفق حسبة جديدة! بل أدّى إلى مواجهة حرب حماس العسكرية بحرب من نوع آخر؛ حرب استنزاف القوى، ونزع الشرعية، وتجفيف منابع القوة، فأصدرت حكومة الدكتور سلام فياض قرارات للجمعيات الخيرية بضرورة إعادة تصويب أوضاعها القانونية، وهي العملية التي تهدد ،في المحصلة النهائية، الكثير من الجمعيات التي تقف حركة حماس وراءها. كذلك عمدت الحكومة الفلسطينية إلى إلغاء القرارات التي ترتبت على اتفاق الشراكة ما بين السلطة وحركة حماس، بما نتج عنه من إبطال عقود توظيف أعداد كبيرة من أبنائها الذين باتوا يحتلون مواقع قيادية في الوزارات المختلفة.
وما بين ليلة وضحاها؛ باتت أوضاع حماس غير مستقرة، إن على صعيد قدرتها على تمويل نشاطاتها والقيام بمسئولياتها الفعلية الميدانية ،التي ازدادت اتساعا، أو على صعيد مسئوليتها الأخلاقية؛ بحكم أنها باتت ،ولأول مرة، القوة المتفردة بإدارة قطاع غزة!.
حرب بدون ضوابط شرعية!
باستيلاء حماس على السلطة في قطاع غزة اكتمل انهيار مشروع المقاومة الفلسطينية؛ انهيارا ماديا ومعنويا أيضا، بفعل الانسحاب الإسرائيلي من القطاع أولا، وانهياره أخلاقيا بفعل الصراع الناشب بين حماس وفتح ثانيا، بما حمله من انعكاسات على مجمل شرائح المجتمع الفلسطيني، وفي ظل الأوضاع الجديدة (غزة بدون مقاومة للمحتل) لم يكن أمام حماس إلا إعادة تسخير طاقاتها النفسية والمادية باتجاه تثبيت الوضع الجديد والإبقاء عليه، وهنا تم تسخير ما كان يفترض به أن يكون 'جهدا مقاوما' إلى اتجاه غير الذي تم تجنيده من أجله، حيث خاضت حماس صراعا متعدد الوجوه باتجاه تثبيت ما اعتقدت أنه إنجازات عملية الحسم العسكري في غزة، فعمدت إلى إحلال رجالاتها في المؤسسات المختلفة بدلا عن مؤيدي فتح..الخ، بما نتج عنه من صدامات قامت المؤسسات الإعلامية بتغطيتها؛ مما نتج عنه اصطدام حماس مع المؤسسة الإعلامية وفي بعض الأحيان استخدام العنف ضدها. كذلك فقد قامت حماس بمواجهة فتح بطريقة أثارت الاستغراب؛ وانعكست سلبا على صورة حماس حين قامت باستخدام القوة غير المبررة لقمع مصلي الساحات العامة، وهي الحملة التي قادتها فتح لاستنزاف حماس شعبيا وأخلاقيا، وقد نجحت فتح جزئيا في هذا المسعى، حيث بدت حماس أمام الرأي العام عارية من كل مقولاتها التي طالما جاهرت بها من قبل؛ حول سعيها لإقامة دولة إسلامية تُصان فيها الحقوق ويحفظ فيها للناس كرامتهم!..
الصدمة.. وتوابعها..!
شيئا فشيئا؛ بدأت تتكشف الممارسات التي ارتكبتها حماس خلال 'حسمها العسكري' في القطاع، فهناك العشرات ممن تمت تصفيتهم بدم بارد وبدون مبرر، ومئات تم إطلاق النار على سيقانهم (في موضع الركبة بشكل خاص) بدون رحمة، وآخرون كثيرون تم اعتقالهم والتحقيق معهم في ظروف تخويفية مرعبة، وفي حمى دفاع حماس المأساوي عن الوضع الجديد مارست الاعتقالات غير القانونية، والتحقيق العنيف مع المعتقلين، والقمع واسع النطاق، فاصطدمت مع الأطباء، وواجهت الصحفيين، وقد استمرت الملاسنات بينها وبين الجبهة الشعبية لوقت ما، ونتج عن صدامها مع الجهاد الإسلامي عدد من القتلى وكثير من الجرحى.. وهنا يجب ألا نغفل عن ذكر عدة حالات قتل لأشخاص أثناء احتجازهم في مراكز التوقيف التابعة لسلطة حماس.
باختصار؛ لقد نجحت حماس ،وبشكل كبير، في أن تخسر أكبر عدد من القطاعات والأشخاص في أقصر وقت! لكن أخطر ما حققته حماس خلال الأشهر القليلة الماضية هو اصطدامها مع الكثير من العائلات على امتداد قطاع غزة، واستخدامها القوة غير المسبوقة ضدها، حتى أن حماس لم تتورع عن استخدام القذائف ضد البيوت والأحياء والمدنيين الفلسطينيين..!
تحذير من المستقبل المجهول!..
إن ما حدث ويحدث في القطاع ،وعلى مدار الساعة، يطرح على أبناء الحركة الإسلامية أسئلة خطيرة حول منهج التربية الذي اتبعناه خلال الأعوام الثلاثين الماضية، ومن المشروع اليوم التساؤل عن مدى منافاة ما قامت به حركة حماس ،لغاية الآن، لروح ما يأمر به ديننا الحنيف، ومدى منافاة الواقع الناشئ في قطاع غزة لما كانت تعد به الحركات الإسلامية من 'إقامة المجتمع الفاضل الذي يتمتع فيه الأفراد بكرامتهم وحريتهم، ويأمنون فيه على ممتلكاتهم'..
برأينا؛ لقد فشل الإسلاميون في غزة (كل الإسلاميين وليس حماس وحدها، فمن سكتوا وامتنعوا عن إدانة ما حدث أيضا فشلوا!) فشلا ذريعا يوشك أن يرتد عليهم ندما، فقد بات أكيداً بعدما كان متوقعاً أن تفشل حماس في إدارة غزة التي تتمتع بكل هذا القدر من الأزمات المستعصية، فقد فشلت حماس حين استولت على القطاع، وفشلت مرة أخرى حين لجأت لتحميل المواطن الفلسطيني المزيد من العبء بفرض ضرائب ضاعفت من أثمان السلع الأساسية أضعافا مضاعفة، وفشلت مرة إضافية حين اعتقدت بأن إيجاد حلول لتلك المشاكل ليس من مسئوليتها! فحماس لا تعتبر نفسها مسئولة عن حالة الحصار المفروضة على غزة، ولا عن شح المواد الغذائية التي ارتفعت أسعارها ارتفاعا جنونيا، ولا عن بقية المواد التي انقطعت بحيث أن الكثير من محلات البيع بالتجزئة أغلقت أبوابها!.. والأخطر أن حماس لا تعتبر نفسها مسئولة عن تعقد علاقاتها مع العائلات في غزة، وقد باتت تحرق معهم كل الجسور، وتتعامل معهم من منطلق سوء الظن بهم، اعتقادا منها بأن العائلات والأسر الكبيرة هي كيانات تحتاج للتأديب بسبب سوء سلوك بعض أبنائها في الماضي!.. وفي الأحداث الأخيرة التي قامت فيها حماس بالهجوم على إحدى العائلات في حي الشجاعية وجدنا أن الأمور خرجت عن السيطرة حين سقط قتلى وجرحى من عدد آخر من العائلات..!
بعد النتائج الخطيرة المحتملة والمتوقع حصولها مستقبلا فمتى تدرك حماس أنها أخطأت وأنها لازالت موغلة في الخطأ!
متى تدرك حماس..؟!
متى تدرك حماس أنها ستدفع مستقبلا ثمنا غاليا لطريقة تعاملها مع الأزمة التي أوجدتها نتيجة قلة حكمتها وقلة تبصرها؟
متى تدرك حماس أن القوة وحدها لا تكفي لحل المشاكل ولإدارة الأمور، وأن من عاش بالقوة عاش عمرا قصيرا!؟!
متى تدرك حماس أن ما قامت به في غزة أعطى الشرعية للفساد الذي مورس ضد الشعب الفلسطيني من قبل بعض الفاسدين في السلطة الفلسطينية على امتداد عمرها؟
متى تدرك حماس أن ما قامت به من عنف في غزة وصل إلى حد ضرب المدنيين والبيوت الآمنة بالقذائف إنما يصف ،في خاتمة المطاف، في صالح تجميل صورة الاحتلال؟!
متى تدرك حماس أنها بما قدمته من نموذج في غزة إنما نسف الأساس الأخلاقي للحكم الإسلامي لأنها أعطيت الفرصة فلم تنتج إلا قتلا وترويعا، وأن ما حدث في غزة ستنعكس تأثيراته على مجمل الحركات الإسلامية في المنطقة؟!
وأخيرا متى تدرك حماس أنه آن الأوان للنزول عن شجرة المكابرة التي تسلقتها، وذلك من خلال التراجع عما قامت به، وتطييب خواطر الأسر الفلسطينية التي فقدت أبناءها وأعزاءها وممتلكاتها في هذه المعمعة، ونحن على ثقة بأنه لو قررت التراجع عن خطواتها تلك فستجد إلى جانبها كل مخلص في هذا البلد ابتداء بحركة فتح وليس انتهاء بالإسلاميين الآخرين على اختلاف توجهاتهم، بحيث يسخرون كل جهودهم لإيجاد طريقة لتصحيح الأمور وتمكين حماس من التراجع بشكل مشرف، وإلا فإن البديل سيكون ضياع كل شيء عزيز في هذه الحياة ابتداء بالوطن وليس انتهاء بالإنسان!.
- متى تدرك حماس أنها ستدفع مستقبلا ثمنا غاليا لطريقة تعاملها مع الأزمة التي أوجدتها نتيجة قلة حكمتها وقلة تبصرها؟!
- متى تدرك حماس أن القوة وحدها لا تكفي لحل المشاكل، وأن من عاش بالقوة عاش عمرا قصيرا!؟!
- متى تدرك حماس أن ما قامت به أعطى الشرعية لفساد بعض الفاسدين على امتداد عمر السلطة الفلسطينية؟
- متى تدرك حماس أن ما قامت به في غزة من ضرب البيوت الآمنة بالقذائف إنما يصب في صالح تجميل صورة الاحتلال؟!
- متى تدرك حماس أن نموذج حكمها في غزة نسف الأساس الأخلاقي للحكم الإسلامي لأنها لم تنتج إلا قتلا وترويعا؟!
- متى تدرك حماس أن ما فعلته في غزة ستنعكس آثاره السلبية على مجمل الحركات الإسلامية في المنطقة؟!
- وأخيرا متى تدرك حماس أنه آن الأوان للنزول عن شجرة المكابرة التي تسلقتها، وذلك من خلال التراجع عما قامت به، وتطييب خواطر الأسر الفلسطينية التي فقدت أبناءها وأعزاءها وممتلكاتها؟!
قبل عام من اليوم أرسلنا للسيدين إسماعيل هنية وخالد مشعل رسالة جاء فيها بأن حماس باستمرارها على نهجها الذي سارت عليه آنذاك ستتحول إلى نظام قمعي يحافظ على نفسه بالعصا وقوة المساندة، واليوم نعترف بأننا أخطأنا، فحماس اليوم تحافظ على نظامها بالياسين والبي سيفن! وهذا ما لم نتخيل أن يحدث في غضون عام واحد من كتابتنا لتلك الرسالة!!.. لقد ذهبنا آنذاك إلى هذا الاستنتاج لدى رؤيتنا لأفراد القوة التنفيذية مع بداية تشكيلها وهم يحملون الهراوات الغليظة، فحتى بدون أن نراهم وهم يستخدمونها لم يكن لنا إلا أن نقلق، فبتجرؤ تلك القوة على حمل تلك الهراوات كانت قد كسرت الحاجز النفسي بينها وبين استخدام العنف ضد الجمهور الفلسطيني، وتبقى مسألة الاستخدام الفعلي للقوة مسألة وقت، وهو ما حصل فيما بعد.. واليوم فقد أصبح استخدام حماس للقذائف ضد بيوت فلسطينية مدنية أمرا يكاد يكون روتينيا!.
اليوم ونحن نعود بذاكرتنا إلى الوراء فلا يسعنا إلا أن نأسف للمسار الذي اتخذته الأحداث، والتي تطورت من سيء إلى أسوأ، وهنا لابد من الاعتراف بأن هذا المقال سبقته محاولات عديدة فاشلة للكتابة حول الأوضاع في قطاع غزة، لكن أسبابا عديدة حالت دون ذلك؛ أهمها أن الحالة السائدة اليوم شطرت الشعب والوعي الفلسطيني إلى شطرين، فلم يبق مسجد أو بيت أو مجموعة أصدقاء بعيدة عن التأثيرات الشريرة لما حدث، ولغاية اليوم فإن مزيدا من النقاش حول هذه الموضوعات يكاد لا يجر إلا مزيدا من سوء الحال!.
حين ننظر إلى الشهور القليلة التي تلت استيلاء حماس على قطاع غزة نفاجأ بحجم الممارسات العنيفة والقاسية التي وقعت.. فعلى هذه الأرض ، أرض قطاع غزة التي جلا عنها الاحتلال لكنها بقيت تعيش تأثيراته؛ تم تجاوز كل ما يمت للأخوة ،وأحيانا للإنسانية، بصلة.. فإذا نحن أمام تصرفات جعلتنا جلادين بعد أن كنّا ضحايا، لأعوام طويلة كنا ،كإسلاميين، ننتقد ونصرخ باستمرار منددين بالأنظمة الفاسدة التي تقهر شعوبها، وبالفاسدين في الاتجاه الوطني، فإذا نحن اليوم نمارس أفعالا أسوأ، ونقدم للعالم صوراً تماثل في أثرها الصادم ما كان يقوم به الاحتلال إذ يقمع أبناء فلسطين الباسلة..
..وكأننا لم نتعرض لصدمة من قبل، فما نراه أمام أعينا اليوم يتجاوز كل ما يمكن أن يستوعبه العقل! فكيف يمكن استيعاب حقيقة أن من يدير هذه الممارسات هم نحن الإسلاميون القرآنيون ذوو الأيدي المتوضئة؟! وهل هذا هو كل ما يمكن أن نقدمه للعالم المحيط بنا من نماذج الحكم الصالح؟!
أصل المشكلة!
لكي نستوعب ما يحدث اليوم على أرض قطاع غزة من أحداث فلا بد من البحث عن الأفكار التي أنتجت سلوكنا المستهجن، والثقافة التي احتضنته، ففي البدء كانت الفكرة.. لكن قبل أن نحاول تفسير ما حدث فلابد من الإشارة إلى أن الهزيمة التي تجتاح العالم الإسلامي اليوم إنما هي هزيمة عقل وفكر، أنتجت هزيمة نفسية ما عادت تنتج إلا سلوكا بائساً مهزوما. من هنا فلابد من الإشارة إلى أن الاتجاهات الوطنية والإسلامية على اختلاف توجهاتها ما عادت تختلف اختلافا جوهريا في استعداداتها السلوكية، فهي مرشحة لإنتاج نفس السلوك إذا ما وضعت تحت نفس الظروف، ذلك أن الطبيعة النفسية والثقافية والانفعالية لإنسان العالم العربي ،بشكل خاص، هي من طبيعة واحدة تنتج نفس ردة الفعل إذا ما تعرضت لنفس الظروف مع اختلافات طفيفة في التفاصيل.. وعليه فإن سلوك ابن حماس أو الجهاد الإسلامي وغيرهما من الاتجاهات الإسلامية ستكون ،تقريبا، من نفس نوعية سلوك أبناء الاتجاهات الوطنية الأخرى؛ مع قليل من الاختلافات المتعلقة بالتفاصيل، مما يجب أن يدفع الجميع لمحاولة إيجاد حلول مشتركة قائمة على التعاون.
في البدء كانت الثورة..!
مع نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي كانت الثورة الإيرانية تحل عهدا جديدا في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وعهدا جديداً مقابلا في المنطقة كلها، فبينما كانت الثورة الإيرانية بزعامة الإمام الخميني ،رحمه الله، تواجه قدرها المتمثل في الحرب العراقية الإيرانية كان العالم العربي ينشطر إلى نصفين في مواجهتها، نصفٌ مؤيدٌ والآخر معارض، وقد وقفت الأنظمة العربية بعمومها مع النظام العراقي، معتبرة أن انتصار الثورة الإيرانية يشكل تهديدا لعروشها، وقد شارك شطر كبير من الحركة الإسلامية الفلسطينية (الإخوان المسلمون تحديدا) في هذه الحرب من خلال إثارة نعرات شيعية إيران، بينما مارس شطرٌ آخر من الحركة الإسلامية الفلسطينية (الجهاد الإسلامي تحديدا) أحلاما من نوع آخر، تمثلت في آمال التغيير، وتغيير أنظمة الحكم، وتحقيق أحلام التحرير من خلال مقارعة إسرائيل؛ هم شرقي النهر ونحن غربيه!..
إن إشارتنا للثورة الإيرانية بشكل خاص يبررها ما نتج بعد ذلك من اندفاع الحركة الإسلامية الفلسطينية في مسار غير عادي، نمت من خلاله بسرعة غير عادية، فقد حلّقت الحركة الإسلامية بعمومها؛ مع أن تحليقها بقي قريبا من الأرض، وحتى أولئك الذين عارضوا الثورة الإيرانية وهاجموها استفادوا من زخم تلك المرحلة، فمن عارضها وهاجمها استفاد من دعم الأنظمة العربية التي كانت من قبل قد دعمت نظام صدام حسين ،رحمه الله، أما من أيدها فقد استفاد من شعبيتها ونَفَسِها الثوري..
من هنا؛ فإنه وابتداء من أوائل الثمانينات شهدت الحركة الإسلامية في فلسطين توسعا غير عادي لنشاطها، مما ساعد على توسع قاعدتها بشكل غير عادي أيضا. على سبيل المثال فإن الجهاد الإسلامي قاد عملية تحول الحركة الإسلامية الفلسطينية بعمومها باتجاه مقارعة إسرائيل بعد أن كانت الحركة الإسلامية (بعمومها) عرضة للصراع الداخلي بين الاتجاهين الوطني والإسلامي، فما إن وصلنا أعوام ال 86، و87 حتى كانت الأجواء الموضوعية في قطاع غزة تُنضج ظروفا ملائمة لاندلاع انتفاضة ال 87، مما أدّى إلى تحولات مقابلة في حركة الإخوان المسلمين الفلسطينية دفعت بها باتجاه العمل المقاوم ضد إسرائيل، وبالتالي؛ التحول باتجاه الخيار الذي طالما راود خيال الجماهير!..
زخم لا يعكس نضجا..!
لقد كانت انطلاقة حركة حماس انطلاقة ميمونة باتجاه استثمار الجهد الفلسطيني لأجل مقارعة الغزاة، بعد أن كان تم تجميد ذلك الجهد لسنين عديدة بحجّة عدم نضج الظروف الموضوعية للعمل ضد إسرائيل، لكن من سوء حظ الشعب الفلسطيني أن التوجه ضد إسرائيل ترافق مع ارتفاع حدّة التنافس غير المحمود بين الخطين الوطني والإسلامي على خلفية استثمار الانتفاضة، فحتى فعاليات الانتفاضة لم يكن هناك اتفاق عليها، بل كان كل اتجاه يمارس نشاطاته وفعالياته بما يخدم مصالحه الحزبية..!
إن السؤال الذي نود أن نطرحه هنا هو حول عملية استلهام النموذج الإيراني واستمداد الدعم النفسي والروحي ،بل والمادي، منه، فمع الإقرار بعظمة الثورة الإيرانية التي أنتجتها ظروف موضوعية خاصة بالشعب الإيراني، فلا يمكننا إلا التساؤل عن الأثر الذي أحدثته تلك الثورة لدى بعض التنظيمات الإسلامية التي وجدت نفسها تتمتع بقوى تتجاوز قوتها حقيقية! بما لا يعكس نضجا في التعامل مع الواقع المحلي.. وقد كانت هذه إحدى إشكاليات الحركة الإسلامية السنية في المنطقة العربية؛ التي استلهمت النموذج الإيراني أو استفادت من زخمه!
شيئا فشيئا استطاعت الحركة الإسلامية (حماس والجهاد الإسلامي بشكل خاص) أن تقود المرحلة، وأن تحوز مزيدا من التأييد في الساحة الفلسطينية، على خلفية الأعمال البطولية التي فاقت الخيال في كثير من الأحيان، من ذلك: عمليات الطعن في عام 86، وتفجير الانتفاضة الأولى التي أشعل شرارتها الجهاد الإسلامي، وعمليات التفجير وحفر الأنفاق واختطاف الجنود التي قادتها حركة حماس..
لابد هنا من الاعتراف أنه وحتى الانسحاب الإسرائيلي من القطاع وتنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية في فلسطين لم تكن الحركة الإسلامية قد اختُبرت أخلاقيا بالقدر الكافي! فطوال الوقت كانت تلك الحركة في حالة 'ردع متبادل' و'توازن قوة' مع الاتجاه الوطني المتمثل بشكل أساسي في حركة 'فتح' لكن حين تم تنظيم الانتخابات في عام 2006 وفوز حركة حماس بدأ الاختبار الحقيقي المتمثل في السؤال: إلى أي حدٍ يتمتع الاتجاه الإسلامي بالمصداقية الأخلاقية التي طالما ادعاها، وهل يمكن للاتجاه الإسلامي أن يتماهى فعلا مع الإسلام فيتمثل جمالَه وجلالَه ولطفَه في السلوك والعمل؟! أم أن انفصاما بين القول والعمل يمكن أن يكون هو الاحتمال الأقرب للواقع؟!
من الشرعية إلى الانقلاب..!
وحتى نكون عادلين هنا فلابد من الاعتراف مرة أخرى أن حركة 'حماس' حين تسلمت الحكم من خلال صناديق الاقتراع لم تأخذ فرصةً كافية، فوضعت العراقيل في طريقها، وقد قادت أمريكا وأوروبا وإسرائيل وفريق في الداخل الفلسطيني هذا التوجه، لكن بعكس ما تعتقده حركة حماس فإن تلك الضغوط ،برأينا، لم يكن الهدف منها كسر حركة حماس بقدر ما كان هدفها دفع حماس لتقديم تنازلات تجعل منها جزءا من اللعبة الدائرة في المنطقة، سواء أكان ذلك في فلسطين أو ما حولها. ونحن حين ننظر إلى الوراء لا يمكننا إلا أن نتعجب من الصورة التي كانت في ذهن حركة حماس عشية تقدمها للانتخابات واستلامها الحكم، فكل من يعرف أبجديات السياسة أمكنه أن يدرك بأن أحد خيارين كان متاحاً أم حماس؛ أولهما: تقديم تنازلات والانخراط في العملية السلمية، معرضة نفسها للدوران في نفس الحلقة المفرغة التي دارت فيها منظمة التحرير من قبل. أما الخيار الآخر فلم يكن إلا تمسك حكومة حماس بنفس طروحات الحركة، بما يمكن أن ينتجه من حصار عالمي خانق دفع حماس للهروب إلى الأمام.. فإذا نحن وجهاً لوجه أمام انقلاب غير محسوب العواقب!.
إحساس الضحية.. ومرارة الواقع الجديد!
مع انتهائها مما دعته 'حسماً عسكرياً' بدأت حماس تدرك خطورة الموقف، لكنها تمسكت بإحساس الضحية، فأعلن بعض رموزها أنها 'تم استدراجها إلى فخ نصب لها' فيما أعلن آخرون أنها إنما قادت عملية الحسم تلك خروجا من تحالف قوى الشر العالمي المدعوم بقوى فلسطينية، وأنها إنما قامت بما قامت به من أجل إعادة صياغة الأوضاع في قطاع غزة لإنتاج واقع جديد يتسنى معه استمرار العملية الديموقراطية التي جاءت بها إلى الحكم!..
وبالفعل فقد قادت حماس ،بما قامت به في غزة، إلى إنتاج واقع جديد، لم يكن في حسبان حماس، فهو لم يقُد إلى استسلام الاتجاه الوطني وقبوله بإعادة خلط الأوراق وتوزيعها وفق حسبة جديدة! بل أدّى إلى مواجهة حرب حماس العسكرية بحرب من نوع آخر؛ حرب استنزاف القوى، ونزع الشرعية، وتجفيف منابع القوة، فأصدرت حكومة الدكتور سلام فياض قرارات للجمعيات الخيرية بضرورة إعادة تصويب أوضاعها القانونية، وهي العملية التي تهدد ،في المحصلة النهائية، الكثير من الجمعيات التي تقف حركة حماس وراءها. كذلك عمدت الحكومة الفلسطينية إلى إلغاء القرارات التي ترتبت على اتفاق الشراكة ما بين السلطة وحركة حماس، بما نتج عنه من إبطال عقود توظيف أعداد كبيرة من أبنائها الذين باتوا يحتلون مواقع قيادية في الوزارات المختلفة.
وما بين ليلة وضحاها؛ باتت أوضاع حماس غير مستقرة، إن على صعيد قدرتها على تمويل نشاطاتها والقيام بمسئولياتها الفعلية الميدانية ،التي ازدادت اتساعا، أو على صعيد مسئوليتها الأخلاقية؛ بحكم أنها باتت ،ولأول مرة، القوة المتفردة بإدارة قطاع غزة!.
حرب بدون ضوابط شرعية!
باستيلاء حماس على السلطة في قطاع غزة اكتمل انهيار مشروع المقاومة الفلسطينية؛ انهيارا ماديا ومعنويا أيضا، بفعل الانسحاب الإسرائيلي من القطاع أولا، وانهياره أخلاقيا بفعل الصراع الناشب بين حماس وفتح ثانيا، بما حمله من انعكاسات على مجمل شرائح المجتمع الفلسطيني، وفي ظل الأوضاع الجديدة (غزة بدون مقاومة للمحتل) لم يكن أمام حماس إلا إعادة تسخير طاقاتها النفسية والمادية باتجاه تثبيت الوضع الجديد والإبقاء عليه، وهنا تم تسخير ما كان يفترض به أن يكون 'جهدا مقاوما' إلى اتجاه غير الذي تم تجنيده من أجله، حيث خاضت حماس صراعا متعدد الوجوه باتجاه تثبيت ما اعتقدت أنه إنجازات عملية الحسم العسكري في غزة، فعمدت إلى إحلال رجالاتها في المؤسسات المختلفة بدلا عن مؤيدي فتح..الخ، بما نتج عنه من صدامات قامت المؤسسات الإعلامية بتغطيتها؛ مما نتج عنه اصطدام حماس مع المؤسسة الإعلامية وفي بعض الأحيان استخدام العنف ضدها. كذلك فقد قامت حماس بمواجهة فتح بطريقة أثارت الاستغراب؛ وانعكست سلبا على صورة حماس حين قامت باستخدام القوة غير المبررة لقمع مصلي الساحات العامة، وهي الحملة التي قادتها فتح لاستنزاف حماس شعبيا وأخلاقيا، وقد نجحت فتح جزئيا في هذا المسعى، حيث بدت حماس أمام الرأي العام عارية من كل مقولاتها التي طالما جاهرت بها من قبل؛ حول سعيها لإقامة دولة إسلامية تُصان فيها الحقوق ويحفظ فيها للناس كرامتهم!..
الصدمة.. وتوابعها..!
شيئا فشيئا؛ بدأت تتكشف الممارسات التي ارتكبتها حماس خلال 'حسمها العسكري' في القطاع، فهناك العشرات ممن تمت تصفيتهم بدم بارد وبدون مبرر، ومئات تم إطلاق النار على سيقانهم (في موضع الركبة بشكل خاص) بدون رحمة، وآخرون كثيرون تم اعتقالهم والتحقيق معهم في ظروف تخويفية مرعبة، وفي حمى دفاع حماس المأساوي عن الوضع الجديد مارست الاعتقالات غير القانونية، والتحقيق العنيف مع المعتقلين، والقمع واسع النطاق، فاصطدمت مع الأطباء، وواجهت الصحفيين، وقد استمرت الملاسنات بينها وبين الجبهة الشعبية لوقت ما، ونتج عن صدامها مع الجهاد الإسلامي عدد من القتلى وكثير من الجرحى.. وهنا يجب ألا نغفل عن ذكر عدة حالات قتل لأشخاص أثناء احتجازهم في مراكز التوقيف التابعة لسلطة حماس.
باختصار؛ لقد نجحت حماس ،وبشكل كبير، في أن تخسر أكبر عدد من القطاعات والأشخاص في أقصر وقت! لكن أخطر ما حققته حماس خلال الأشهر القليلة الماضية هو اصطدامها مع الكثير من العائلات على امتداد قطاع غزة، واستخدامها القوة غير المسبوقة ضدها، حتى أن حماس لم تتورع عن استخدام القذائف ضد البيوت والأحياء والمدنيين الفلسطينيين..!
تحذير من المستقبل المجهول!..
إن ما حدث ويحدث في القطاع ،وعلى مدار الساعة، يطرح على أبناء الحركة الإسلامية أسئلة خطيرة حول منهج التربية الذي اتبعناه خلال الأعوام الثلاثين الماضية، ومن المشروع اليوم التساؤل عن مدى منافاة ما قامت به حركة حماس ،لغاية الآن، لروح ما يأمر به ديننا الحنيف، ومدى منافاة الواقع الناشئ في قطاع غزة لما كانت تعد به الحركات الإسلامية من 'إقامة المجتمع الفاضل الذي يتمتع فيه الأفراد بكرامتهم وحريتهم، ويأمنون فيه على ممتلكاتهم'..
برأينا؛ لقد فشل الإسلاميون في غزة (كل الإسلاميين وليس حماس وحدها، فمن سكتوا وامتنعوا عن إدانة ما حدث أيضا فشلوا!) فشلا ذريعا يوشك أن يرتد عليهم ندما، فقد بات أكيداً بعدما كان متوقعاً أن تفشل حماس في إدارة غزة التي تتمتع بكل هذا القدر من الأزمات المستعصية، فقد فشلت حماس حين استولت على القطاع، وفشلت مرة أخرى حين لجأت لتحميل المواطن الفلسطيني المزيد من العبء بفرض ضرائب ضاعفت من أثمان السلع الأساسية أضعافا مضاعفة، وفشلت مرة إضافية حين اعتقدت بأن إيجاد حلول لتلك المشاكل ليس من مسئوليتها! فحماس لا تعتبر نفسها مسئولة عن حالة الحصار المفروضة على غزة، ولا عن شح المواد الغذائية التي ارتفعت أسعارها ارتفاعا جنونيا، ولا عن بقية المواد التي انقطعت بحيث أن الكثير من محلات البيع بالتجزئة أغلقت أبوابها!.. والأخطر أن حماس لا تعتبر نفسها مسئولة عن تعقد علاقاتها مع العائلات في غزة، وقد باتت تحرق معهم كل الجسور، وتتعامل معهم من منطلق سوء الظن بهم، اعتقادا منها بأن العائلات والأسر الكبيرة هي كيانات تحتاج للتأديب بسبب سوء سلوك بعض أبنائها في الماضي!.. وفي الأحداث الأخيرة التي قامت فيها حماس بالهجوم على إحدى العائلات في حي الشجاعية وجدنا أن الأمور خرجت عن السيطرة حين سقط قتلى وجرحى من عدد آخر من العائلات..!
بعد النتائج الخطيرة المحتملة والمتوقع حصولها مستقبلا فمتى تدرك حماس أنها أخطأت وأنها لازالت موغلة في الخطأ!
متى تدرك حماس..؟!
متى تدرك حماس أنها ستدفع مستقبلا ثمنا غاليا لطريقة تعاملها مع الأزمة التي أوجدتها نتيجة قلة حكمتها وقلة تبصرها؟
متى تدرك حماس أن القوة وحدها لا تكفي لحل المشاكل ولإدارة الأمور، وأن من عاش بالقوة عاش عمرا قصيرا!؟!
متى تدرك حماس أن ما قامت به في غزة أعطى الشرعية للفساد الذي مورس ضد الشعب الفلسطيني من قبل بعض الفاسدين في السلطة الفلسطينية على امتداد عمرها؟
متى تدرك حماس أن ما قامت به من عنف في غزة وصل إلى حد ضرب المدنيين والبيوت الآمنة بالقذائف إنما يصف ،في خاتمة المطاف، في صالح تجميل صورة الاحتلال؟!
متى تدرك حماس أنها بما قدمته من نموذج في غزة إنما نسف الأساس الأخلاقي للحكم الإسلامي لأنها أعطيت الفرصة فلم تنتج إلا قتلا وترويعا، وأن ما حدث في غزة ستنعكس تأثيراته على مجمل الحركات الإسلامية في المنطقة؟!
وأخيرا متى تدرك حماس أنه آن الأوان للنزول عن شجرة المكابرة التي تسلقتها، وذلك من خلال التراجع عما قامت به، وتطييب خواطر الأسر الفلسطينية التي فقدت أبناءها وأعزاءها وممتلكاتها في هذه المعمعة، ونحن على ثقة بأنه لو قررت التراجع عن خطواتها تلك فستجد إلى جانبها كل مخلص في هذا البلد ابتداء بحركة فتح وليس انتهاء بالإسلاميين الآخرين على اختلاف توجهاتهم، بحيث يسخرون كل جهودهم لإيجاد طريقة لتصحيح الأمور وتمكين حماس من التراجع بشكل مشرف، وإلا فإن البديل سيكون ضياع كل شيء عزيز في هذه الحياة ابتداء بالوطن وليس انتهاء بالإنسان!.
تعليق