تمرّ ذكرى سنوية أخرى على اغتيال واستشهاد القائد د.فتحي الشقاقي، تمرّ الذكرى في ظروف عصيبة على شعبنا الفلسطيني، ومخاض أليم يتحدد على أثره انتصار شعبنا وأمتنا وقوتها، وصعود زمنها في مقابل هزيمة المشروع الصهيوني ـ الأمريكي وانتهائه.
تمرّ الذكرى وشعبنا يكافح ويجاهد العدو الصهيوني، رغم حالة الانقسام الحاد، والظروف الاقتصادية والأمنية العصيبة التي يعيشها، إلا أن المقاومة وعلى رأسها حركة الجهاد الإسلامي تؤكد من جديد عبر رسائل ممهورة بالدم أن الوحدة والمقاومة هما طريق الانتصار... من جديد تبرز كلمات الشقاقي، ويسطع معها الأمل ليتواصل الشهداء عبر السيف وسطوع شمس النهار عبر كلماته: «ملعون من يساوم، ملعون من يتراجع، ملعون من يقول لكيانهم المسخ: نعم، فالصف الأول يستشهد، والصف الثاني يستشهد، والصف العاشر يستشهد، نحن شعب الشهادة، ولو على حجر ذبحنا لن ننكسر، ولن نستسلم، ولن نساوم».
وفي هذا يقول د.رمضان عبد الله شلّح، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين: «لقد جعلت حركة الجهاد الإسلامي من سورة الإسراء ـ في القرآن الكريم ـ والتي تُسمى سورة بني إسرائيل، وِرْداً يومياً في خطابها السياسي والتعبوي».
ويضيف د.شلّح: «إن فلسطين هي بوابة العرب والمسلمين التاريخية والجغرافية لأي دور حضاري عالمي راهن أو مستقبلي. لذا فإن أي محاولة للنهوض لا تبدأ بفلسطين ستضل الطريق لأنها ستُحاصر وستُضرب ولا تجد من يبكيها.. ولا أشك لحظة أنه لا حياة لمشروع عربي أو إسلامي نهضوي إلا بموت المشروع الصهيوني».
بعض من فكر الجهاد
من غير الموضوع المتابعة دون التوقف ولو قليلاً أمام فكر حركة الجهاد الإسلامي...
يقول د.الشقاقي «إنه كان يلحظ لدى المجموعات الفلسطينية في فلسطين هروباً من الإجابة على السؤال الفلسطيني.. وذلك في الوقت عينه الذي كان يلاحظ فيه تشوقاً كبيراً لدى الشباب وبين موقف القيادات الإسلامية بكافة مسمياتها، فيشعر بضرورة صدور قرار سياسي عن تلك القيادات سواء ارتبطت بالإخوان المسلمين أو حزب التحرير أو المجموعات الصوفية أو كافة المجموعات الأخرى ليتم تغيير وجه المعركة في فلسطين وإعطائه بعده الحقيقي والضروري وهذا ما حدث».
من هنا أحدث الفكر الإسلامي المعاصر تجاه فلسطين الذي قاده الشقاقي وإخوانه ـ تحولاً هاماً أصبح اليوم محسوساً وملموساً أكثر من أي وقت مضى، وخصوصاً تجاه مفاهيم كانت لوقت قريب غير مقبولة ومرفوضة بل وتعتبر من الأعمال غير الإسلامية (كموضوع الوطنية، والتحالفات مع القوى غير الإسلامية..) ويأتي هذا التحول من خلال إدراك جوهر المشكلة، وأبعاد القضية ووضعها في إطارها الصحيح، والاتجاه الحقيقي.
وهكذا فإن الفهم الأساسي لهذه المشكلة كان اتجاهاً ما بين الاتجاه «التراثي» الذي لم يدرك أبعاد وجوهر التحدي الغربي الحديث لعالمنا الإسلامي، والاتجاه الآخر «الحداثة» الذي حاول نقل تجربة الغرب لعالمنا الإسلامي دون إدراك الخصوصيات الذاتية والموضوعية لهذه التجربة عدا عن ذلك الالتفاف على الإسلام، بل ومحاربته في بعض الأحيان.
ومن الأمثلة الواقعية التي يشهد بها لحركة الجهاد الإسلامي جديتها في غرس مفاهيمها، ومنظومتها الفكرية لدى قطاعاتها، مما لا يدع مجالاً للشك حول أهمية هذه الفكرة التي حاول ـ الشقاقي وإخوانه ـ غرسها في عالم لا يرى إلا بمنظار صهيوني واحد مع ادعائه رعاية حقوق الإنسان والعدالة... والتدليل على ذلك من خلال نص واحد فقط، اعتقد أنه كافٍ لذلك، من خلال وصية الشهيد خالد شحادة منفذ عملية «حولون» والتي قال فيها:
«هذا هو قدرنا... قدرنا أن نقوم بواجبنا المقدّس، وهذا القدر الرباني الذي نحياه لا يعني إلا استمرار تواصلنا الحضاري الذي انقطع منذ عدة قرون، واستمرار جهادنا نحو وجه الله... وقدرنا أن نكون أهل وأبناء هذا الوطن المنكوب الذي تمكن فيه العدو الصهيوني وأعوانه من اغتصاب كل شيء، فإذا ما تأملنا حولنا ماذا نجد؟ إنسانيتنا مداسة، حريتنا مصادرة، إرادتنا مسلوبة، ولا نملك من أمرنا شيئاً بالله عليكم ما الذي يجبرنا على هذه الحياة، وما الذي بقي لنا حتى نحرص عليه».
ومن هنا فإن أكثر ما يميّز د. الشقاقي كشخص، الانفتاح على الآخر، والتعاون مع الذين يحالفونه في الآراء، فقط كان دوماً يردد «لنطرح خلافاتنا جانباً، ولتكن فلسطين هي الإيديولوجيا التي نعتنقها.. وبعد تحريرها لنختلف كما نشاء».
وهكذا لقد استطاع الشقاقي مع إخوانه إيجاد حل لمشكلة مزمنة ألا وهي إسلاميون بلا فلسطين، ووطنيون بلا إسلام، ولم يتم الوقوف عند ذلك فقط، بل أصبحت أيديولوجيا معجونة بدم الشهداء، وظاهرة حيوية على مدى الوطن.
وتميّزت حركة الجهاد الإسلامي عبر مسيرة جهادها بالجدية والتفاني المطلق، وهذا يتضح من خلال الإصرار اللاهب على الالتحام مع العدو الصهيوني عبر العمليات الاستشهادية البطولية «بيت ليد، كفار داروم، القدس، حيفا، مجدو..»، وعبر المواجهة المسلحة: «عملية زقاق الموت في الخليل، جنين..». أو عبر العمليات البحرية «عملية بحر غزة..»، أو عبر عمليات إطلاق الصواريخ والتي أصاب خلالها مجاهدو سرايا القدس بالاشتراك مع لجان المقاومة الشعبية (11/9/2007)، قاعدة عسكرية ما أدى لمقتل جندي وإصابة نحو 70 جندياً آخرين بجروح متفاوتة.
والمتتبع لسير الأحداث يلاحظ أن حركة الجهاد الإسلامي ـ مع أخواتها من حركات المقاومة ـ قد أعطت نموذجاً رائعاً في التضحية والوفاء، واستطاعت إلى حد كبير تحقيق توازن رعب عبر استخدام سلاح العمليات الاستشهادية ضد عدو مدجج بأحدث التقنيات، لكنه لا يستطيع منع إنسان يريد الاستشهاد دفاعاً عن دينه ووطنه. يقول د. رمضان شلّح: «العمليات بالنسبة لنا خيار استراتيجي، وحركة الجهاد الإسلامي حوّلته إلى قوة ردع في مواجهة قوة العدو...».
ولكي تستبين قوة تأثير العمليات الاستشهادية على المجتمع الإسرائيلي، ننقل ما عرضته مراسلة صحيفة «هآرتس» للشؤون الفلسطينية، عميرة هاس، حيث كتبت: «... مع انتهاء سيارات الإسعاف الإسرائيلية من نقل مصابي العمليات الاستشهادية في مكان ما، ومع راحة مشاهدي هذه الواقعة من قبل الإسرائيليين، تبدأ مرحلة جديدة من الخوف بانتظار الاستشهادي القادم، وفي أي مكان سيفجّر غضبه الذي قد يكون قاتلاً أكثر من المتفجرات التي يحملها على ظهره».
ورغم أن حركة الجهاد الإسلامي قد استطاعت أن تكون رقماً أساسياً في الساحة الفلسطينية على المستوى العسكري والسياسي.. وبعد استشهاد الرئيس ياسر عرفات، ولتحقيق التوافق الداخلي الفلسطيني قد وافقت على تعليق عملياتها العسكرية مع بقية الفصائل الفلسطينية، بشرطين: وقف العدوان الصهيوني، وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين. ولكن العدو الصهيوني أعلن منذ اللحظة الأولى للإتفاق الفلسطيني الداخلي أن الجهاد الإسلامي غير ذي صلة، وأنه سيستمر باستهداف قيادات وكوادر الجهاد. وفعلاُ استمر العدوان الصهيوني ضد الفلسطينيين، وضد حركة الجهاد الإسلامي، مما جعل الجهاد ترد على العدوان، وعلى عدم التزام العدو بإعلان تعليق العمليات بسلسلة من العمليات داخل العمق الصهيوني.
كما أن الجهاد ورغم حرصها الشديد على التوافق داخل الساحة الفلسطينية، إلا أنها حافظت على موقفها الرافض للمشاركة بالانتخابات التشريعية والرئاسية للسلطة الفلسطينية. وكان موقفها متميزاً ومعتمداً على رصيد الرفض للمشاركة في أي مؤسسة تحت قبة أوسلو.
انقلاب الأوضاع
ومن المنصف القول إن الأوضاع الإقليمية والدولية قد أضافت على العرب والمسلمين، بشكل عام، وعلى الفلسطينيين بشكل خاص، أوضاعاً قاسية وحاصرتهم بمعاناة جديدة.. فبعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، انقلبت الأوضاع رأساً على عقب، وظهر التوحش الأمريكي بكل صلف وعنجهية بعد أن استطاع «المحافظون الجدد» تثبيت أنفسهم وإمساك زمام الأمور في البيت الأبيض لتنفيذ أفكارهم ورؤاهم المتشددة ضد العالم بأسره. واحتلت منطقة الشرق الأوسط، والعراق وأفغانستان تحديداً، الأولوية في أفكار هؤلاء منذ حقبة الرئيس بيل كلينتون، الذي دُفع إلى شنّ عملية «ثعلب الصحراء» عام 1998 ضد العراق. وإبقاء الحصار، والاحتواء المزدوج ضد إيران والعراق... ووصول أرييل شارون للحكم ساعد في تعزيز هذه الاستراتيجية ضد المنطقة.
وفي مقابل هذا «الهجوم الكاسح» ضد المنطقة، ظهرت وبانت عوامل الضعف والتردي العربي من خلال عدم القدرة على حل الخلافات أو الوصول إلى صيغ وحدوية قوية وقادرة على صهر الدول العربية في بوتقة واحدة، أو عبر تفعيل آلية عمل جامعة الدولة العربية، أو منظمة المؤتمر الإسلامي، بل شهدنا العكس من ذلك، إذ انفرط عقد دول إعلان دمشق، وظهر ضعف محور «القاهرة دمشق الرياض»، إضافة إلى حالة الافتراق الحاد بين الشعوب من جهة وحكامها من جهة أخرى. وتراجع اقتصاديات معظم الدول العربية وخصوصاً بعد حرب الخليج الثانية وانتشار ظاهرة «العنف والإرهاب»، كل ذلك شجّع الولايات المتحدة المتفردة بالقرار الدولي على التدخل السافر في شؤون البلدان الداخلية ـ وحتى بدون قرار من مجلس الأمن الدولي!! ـ معتمدة بذلك مبدأ «الحرب الوقائية»، وتدويل ما تسميه «الحرب على الإرهاب» والهدف الأساسي من ذلك كله: احتلال أفغانستان والسيطرة على نقط قزوين، واحتلال العراق ونهب ثرواته البترولية وتقسيمه، وهذا يقدم خدمة للمشروع الصهيوني بإقامة إسرائيل الكبرى أو العظمى من النيل إلى الفرات. فالإستراتيجية الإسرائيلية تقوم على تحقيق حلم «إمبراطورية يهوة» حسب ادعائهم التوراتي الممتد من نهر الفرات إلى النيل. ولكن مع بداية ثمانينيات القرن المنصرم دعا شيمون بيريز إلى تحقيق إمبراطورية اقتصادية تقوم على «أربعة أعمدة: المياه التركية (دجلة والفرات)، والعمالة المصرية، والمال العربي الخليجي، والعقل العبري».
والهدف الإسرائيلي من مشروع الشرق أوسطية أن تصبح الدولة العبرية مركزاً للعمليات المصرفية، وأهم مركز للودائع الأجنبية، ومركز انطلاق للاستثمارات الدولية في المنطقة... وتطمح كذلك أن تكون مركزاً للخدمات السياحية عبر المنتجعات التي تخطط لها وتسمى «الرييفييرا الجديدة». وتطمح اقتصادياً أن تلعب دور الترانزيت لتوزيع النفط والغاز العربيين عبر المرافئ الفلسطينية المحتلة إلى الغرب وعبر إتمام مشروع خط النفط المتفق عليه مع قطر عبر إيلات وعسقلان إلى مدينة حيفا.
البحث عن الشرعية
وفي الواقع انحازت الدولة العبرية إلى شعار «الاقتصاد هو الحل»، كمدخل «طبيعي» للحصول على «شرعية الوجود» في المنطقة، ويتضح ذلك من خلال مسيرة عملية «السلام» وعبر المفاوضات المتعددة الأطراف للتعاون الاقتصادي الإقليمي، وعبر المؤتمرات الاقتصادية الأربعة «الدار البيضاء» 1994، عمان 1995، القاهرة 1996، الدوحة 1997..». والهدف من ذلك: إنهاء جميع أشكال المقاطعة الاقتصادية للدولة العبرية. وعولمة الاقتصاد الإسرائيلي ودمجه في الاقتصاد العالمي. يقول شيمون بيريز «الأولوية ستعطى لإخراج إسرائيل من عزلة استمرت نصف قرن عبر المشاركة في إنشاء اقتصاد إقليمي في الشرق الأوسط على غرار الاتحاد الأوروبي». ومن الواضح أن تفكير القادة الإسرائيليين ينصب تجاه «اجتياح» المنطقة العربية اقتصادياً، من خلال كونها تقع في قلب المنطقة العربية، وبالتالي لا تريد أن تبقى معزولة. أما الأمر الآخر فإن القدرات المالية الكبيرة للدولة العربية وأسواقها الواسعة تفتح شهية الإسرائيليين لملأ الأسواق بالمنتجات الإسرائيلية، مع ملاحظة وجود الضعف السياسي والاقتصادي والعسكري العربي مما يفسح المجال لتحقيق هذه الأهداف لولا وجود المقاومة في فلسطين والعراق وأفغانستان..
تمرّ الذكرى وشعبنا يكافح ويجاهد العدو الصهيوني، رغم حالة الانقسام الحاد، والظروف الاقتصادية والأمنية العصيبة التي يعيشها، إلا أن المقاومة وعلى رأسها حركة الجهاد الإسلامي تؤكد من جديد عبر رسائل ممهورة بالدم أن الوحدة والمقاومة هما طريق الانتصار... من جديد تبرز كلمات الشقاقي، ويسطع معها الأمل ليتواصل الشهداء عبر السيف وسطوع شمس النهار عبر كلماته: «ملعون من يساوم، ملعون من يتراجع، ملعون من يقول لكيانهم المسخ: نعم، فالصف الأول يستشهد، والصف الثاني يستشهد، والصف العاشر يستشهد، نحن شعب الشهادة، ولو على حجر ذبحنا لن ننكسر، ولن نستسلم، ولن نساوم».
وفي هذا يقول د.رمضان عبد الله شلّح، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين: «لقد جعلت حركة الجهاد الإسلامي من سورة الإسراء ـ في القرآن الكريم ـ والتي تُسمى سورة بني إسرائيل، وِرْداً يومياً في خطابها السياسي والتعبوي».
ويضيف د.شلّح: «إن فلسطين هي بوابة العرب والمسلمين التاريخية والجغرافية لأي دور حضاري عالمي راهن أو مستقبلي. لذا فإن أي محاولة للنهوض لا تبدأ بفلسطين ستضل الطريق لأنها ستُحاصر وستُضرب ولا تجد من يبكيها.. ولا أشك لحظة أنه لا حياة لمشروع عربي أو إسلامي نهضوي إلا بموت المشروع الصهيوني».
بعض من فكر الجهاد
من غير الموضوع المتابعة دون التوقف ولو قليلاً أمام فكر حركة الجهاد الإسلامي...
يقول د.الشقاقي «إنه كان يلحظ لدى المجموعات الفلسطينية في فلسطين هروباً من الإجابة على السؤال الفلسطيني.. وذلك في الوقت عينه الذي كان يلاحظ فيه تشوقاً كبيراً لدى الشباب وبين موقف القيادات الإسلامية بكافة مسمياتها، فيشعر بضرورة صدور قرار سياسي عن تلك القيادات سواء ارتبطت بالإخوان المسلمين أو حزب التحرير أو المجموعات الصوفية أو كافة المجموعات الأخرى ليتم تغيير وجه المعركة في فلسطين وإعطائه بعده الحقيقي والضروري وهذا ما حدث».
من هنا أحدث الفكر الإسلامي المعاصر تجاه فلسطين الذي قاده الشقاقي وإخوانه ـ تحولاً هاماً أصبح اليوم محسوساً وملموساً أكثر من أي وقت مضى، وخصوصاً تجاه مفاهيم كانت لوقت قريب غير مقبولة ومرفوضة بل وتعتبر من الأعمال غير الإسلامية (كموضوع الوطنية، والتحالفات مع القوى غير الإسلامية..) ويأتي هذا التحول من خلال إدراك جوهر المشكلة، وأبعاد القضية ووضعها في إطارها الصحيح، والاتجاه الحقيقي.
وهكذا فإن الفهم الأساسي لهذه المشكلة كان اتجاهاً ما بين الاتجاه «التراثي» الذي لم يدرك أبعاد وجوهر التحدي الغربي الحديث لعالمنا الإسلامي، والاتجاه الآخر «الحداثة» الذي حاول نقل تجربة الغرب لعالمنا الإسلامي دون إدراك الخصوصيات الذاتية والموضوعية لهذه التجربة عدا عن ذلك الالتفاف على الإسلام، بل ومحاربته في بعض الأحيان.
ومن الأمثلة الواقعية التي يشهد بها لحركة الجهاد الإسلامي جديتها في غرس مفاهيمها، ومنظومتها الفكرية لدى قطاعاتها، مما لا يدع مجالاً للشك حول أهمية هذه الفكرة التي حاول ـ الشقاقي وإخوانه ـ غرسها في عالم لا يرى إلا بمنظار صهيوني واحد مع ادعائه رعاية حقوق الإنسان والعدالة... والتدليل على ذلك من خلال نص واحد فقط، اعتقد أنه كافٍ لذلك، من خلال وصية الشهيد خالد شحادة منفذ عملية «حولون» والتي قال فيها:
«هذا هو قدرنا... قدرنا أن نقوم بواجبنا المقدّس، وهذا القدر الرباني الذي نحياه لا يعني إلا استمرار تواصلنا الحضاري الذي انقطع منذ عدة قرون، واستمرار جهادنا نحو وجه الله... وقدرنا أن نكون أهل وأبناء هذا الوطن المنكوب الذي تمكن فيه العدو الصهيوني وأعوانه من اغتصاب كل شيء، فإذا ما تأملنا حولنا ماذا نجد؟ إنسانيتنا مداسة، حريتنا مصادرة، إرادتنا مسلوبة، ولا نملك من أمرنا شيئاً بالله عليكم ما الذي يجبرنا على هذه الحياة، وما الذي بقي لنا حتى نحرص عليه».
ومن هنا فإن أكثر ما يميّز د. الشقاقي كشخص، الانفتاح على الآخر، والتعاون مع الذين يحالفونه في الآراء، فقط كان دوماً يردد «لنطرح خلافاتنا جانباً، ولتكن فلسطين هي الإيديولوجيا التي نعتنقها.. وبعد تحريرها لنختلف كما نشاء».
وهكذا لقد استطاع الشقاقي مع إخوانه إيجاد حل لمشكلة مزمنة ألا وهي إسلاميون بلا فلسطين، ووطنيون بلا إسلام، ولم يتم الوقوف عند ذلك فقط، بل أصبحت أيديولوجيا معجونة بدم الشهداء، وظاهرة حيوية على مدى الوطن.
وتميّزت حركة الجهاد الإسلامي عبر مسيرة جهادها بالجدية والتفاني المطلق، وهذا يتضح من خلال الإصرار اللاهب على الالتحام مع العدو الصهيوني عبر العمليات الاستشهادية البطولية «بيت ليد، كفار داروم، القدس، حيفا، مجدو..»، وعبر المواجهة المسلحة: «عملية زقاق الموت في الخليل، جنين..». أو عبر العمليات البحرية «عملية بحر غزة..»، أو عبر عمليات إطلاق الصواريخ والتي أصاب خلالها مجاهدو سرايا القدس بالاشتراك مع لجان المقاومة الشعبية (11/9/2007)، قاعدة عسكرية ما أدى لمقتل جندي وإصابة نحو 70 جندياً آخرين بجروح متفاوتة.
والمتتبع لسير الأحداث يلاحظ أن حركة الجهاد الإسلامي ـ مع أخواتها من حركات المقاومة ـ قد أعطت نموذجاً رائعاً في التضحية والوفاء، واستطاعت إلى حد كبير تحقيق توازن رعب عبر استخدام سلاح العمليات الاستشهادية ضد عدو مدجج بأحدث التقنيات، لكنه لا يستطيع منع إنسان يريد الاستشهاد دفاعاً عن دينه ووطنه. يقول د. رمضان شلّح: «العمليات بالنسبة لنا خيار استراتيجي، وحركة الجهاد الإسلامي حوّلته إلى قوة ردع في مواجهة قوة العدو...».
ولكي تستبين قوة تأثير العمليات الاستشهادية على المجتمع الإسرائيلي، ننقل ما عرضته مراسلة صحيفة «هآرتس» للشؤون الفلسطينية، عميرة هاس، حيث كتبت: «... مع انتهاء سيارات الإسعاف الإسرائيلية من نقل مصابي العمليات الاستشهادية في مكان ما، ومع راحة مشاهدي هذه الواقعة من قبل الإسرائيليين، تبدأ مرحلة جديدة من الخوف بانتظار الاستشهادي القادم، وفي أي مكان سيفجّر غضبه الذي قد يكون قاتلاً أكثر من المتفجرات التي يحملها على ظهره».
ورغم أن حركة الجهاد الإسلامي قد استطاعت أن تكون رقماً أساسياً في الساحة الفلسطينية على المستوى العسكري والسياسي.. وبعد استشهاد الرئيس ياسر عرفات، ولتحقيق التوافق الداخلي الفلسطيني قد وافقت على تعليق عملياتها العسكرية مع بقية الفصائل الفلسطينية، بشرطين: وقف العدوان الصهيوني، وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين. ولكن العدو الصهيوني أعلن منذ اللحظة الأولى للإتفاق الفلسطيني الداخلي أن الجهاد الإسلامي غير ذي صلة، وأنه سيستمر باستهداف قيادات وكوادر الجهاد. وفعلاُ استمر العدوان الصهيوني ضد الفلسطينيين، وضد حركة الجهاد الإسلامي، مما جعل الجهاد ترد على العدوان، وعلى عدم التزام العدو بإعلان تعليق العمليات بسلسلة من العمليات داخل العمق الصهيوني.
كما أن الجهاد ورغم حرصها الشديد على التوافق داخل الساحة الفلسطينية، إلا أنها حافظت على موقفها الرافض للمشاركة بالانتخابات التشريعية والرئاسية للسلطة الفلسطينية. وكان موقفها متميزاً ومعتمداً على رصيد الرفض للمشاركة في أي مؤسسة تحت قبة أوسلو.
انقلاب الأوضاع
ومن المنصف القول إن الأوضاع الإقليمية والدولية قد أضافت على العرب والمسلمين، بشكل عام، وعلى الفلسطينيين بشكل خاص، أوضاعاً قاسية وحاصرتهم بمعاناة جديدة.. فبعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، انقلبت الأوضاع رأساً على عقب، وظهر التوحش الأمريكي بكل صلف وعنجهية بعد أن استطاع «المحافظون الجدد» تثبيت أنفسهم وإمساك زمام الأمور في البيت الأبيض لتنفيذ أفكارهم ورؤاهم المتشددة ضد العالم بأسره. واحتلت منطقة الشرق الأوسط، والعراق وأفغانستان تحديداً، الأولوية في أفكار هؤلاء منذ حقبة الرئيس بيل كلينتون، الذي دُفع إلى شنّ عملية «ثعلب الصحراء» عام 1998 ضد العراق. وإبقاء الحصار، والاحتواء المزدوج ضد إيران والعراق... ووصول أرييل شارون للحكم ساعد في تعزيز هذه الاستراتيجية ضد المنطقة.
وفي مقابل هذا «الهجوم الكاسح» ضد المنطقة، ظهرت وبانت عوامل الضعف والتردي العربي من خلال عدم القدرة على حل الخلافات أو الوصول إلى صيغ وحدوية قوية وقادرة على صهر الدول العربية في بوتقة واحدة، أو عبر تفعيل آلية عمل جامعة الدولة العربية، أو منظمة المؤتمر الإسلامي، بل شهدنا العكس من ذلك، إذ انفرط عقد دول إعلان دمشق، وظهر ضعف محور «القاهرة دمشق الرياض»، إضافة إلى حالة الافتراق الحاد بين الشعوب من جهة وحكامها من جهة أخرى. وتراجع اقتصاديات معظم الدول العربية وخصوصاً بعد حرب الخليج الثانية وانتشار ظاهرة «العنف والإرهاب»، كل ذلك شجّع الولايات المتحدة المتفردة بالقرار الدولي على التدخل السافر في شؤون البلدان الداخلية ـ وحتى بدون قرار من مجلس الأمن الدولي!! ـ معتمدة بذلك مبدأ «الحرب الوقائية»، وتدويل ما تسميه «الحرب على الإرهاب» والهدف الأساسي من ذلك كله: احتلال أفغانستان والسيطرة على نقط قزوين، واحتلال العراق ونهب ثرواته البترولية وتقسيمه، وهذا يقدم خدمة للمشروع الصهيوني بإقامة إسرائيل الكبرى أو العظمى من النيل إلى الفرات. فالإستراتيجية الإسرائيلية تقوم على تحقيق حلم «إمبراطورية يهوة» حسب ادعائهم التوراتي الممتد من نهر الفرات إلى النيل. ولكن مع بداية ثمانينيات القرن المنصرم دعا شيمون بيريز إلى تحقيق إمبراطورية اقتصادية تقوم على «أربعة أعمدة: المياه التركية (دجلة والفرات)، والعمالة المصرية، والمال العربي الخليجي، والعقل العبري».
والهدف الإسرائيلي من مشروع الشرق أوسطية أن تصبح الدولة العبرية مركزاً للعمليات المصرفية، وأهم مركز للودائع الأجنبية، ومركز انطلاق للاستثمارات الدولية في المنطقة... وتطمح كذلك أن تكون مركزاً للخدمات السياحية عبر المنتجعات التي تخطط لها وتسمى «الرييفييرا الجديدة». وتطمح اقتصادياً أن تلعب دور الترانزيت لتوزيع النفط والغاز العربيين عبر المرافئ الفلسطينية المحتلة إلى الغرب وعبر إتمام مشروع خط النفط المتفق عليه مع قطر عبر إيلات وعسقلان إلى مدينة حيفا.
البحث عن الشرعية
وفي الواقع انحازت الدولة العبرية إلى شعار «الاقتصاد هو الحل»، كمدخل «طبيعي» للحصول على «شرعية الوجود» في المنطقة، ويتضح ذلك من خلال مسيرة عملية «السلام» وعبر المفاوضات المتعددة الأطراف للتعاون الاقتصادي الإقليمي، وعبر المؤتمرات الاقتصادية الأربعة «الدار البيضاء» 1994، عمان 1995، القاهرة 1996، الدوحة 1997..». والهدف من ذلك: إنهاء جميع أشكال المقاطعة الاقتصادية للدولة العبرية. وعولمة الاقتصاد الإسرائيلي ودمجه في الاقتصاد العالمي. يقول شيمون بيريز «الأولوية ستعطى لإخراج إسرائيل من عزلة استمرت نصف قرن عبر المشاركة في إنشاء اقتصاد إقليمي في الشرق الأوسط على غرار الاتحاد الأوروبي». ومن الواضح أن تفكير القادة الإسرائيليين ينصب تجاه «اجتياح» المنطقة العربية اقتصادياً، من خلال كونها تقع في قلب المنطقة العربية، وبالتالي لا تريد أن تبقى معزولة. أما الأمر الآخر فإن القدرات المالية الكبيرة للدولة العربية وأسواقها الواسعة تفتح شهية الإسرائيليين لملأ الأسواق بالمنتجات الإسرائيلية، مع ملاحظة وجود الضعف السياسي والاقتصادي والعسكري العربي مما يفسح المجال لتحقيق هذه الأهداف لولا وجود المقاومة في فلسطين والعراق وأفغانستان..
تعليق