في ذكري ثورة السكاكين...الأسير الجعيدي 21 عام من الصمود والتحدي
"أم خالد الجعيدي: "نفسي أحتضنه قبل أن أموت"
تتكئ أم خالد الجعيدي (60 عاما) من مدينة رفح على وسادتها تقلب محطات الإذاعة تتابع الأخبار بتفاصيلها ويزداد ألمها في شهر رمضان وقدوم العيد وتشتاق لخالد.
وسط غرفتها المكتظة بذكريات مراحل حياتها بدءا من تهجيرها مرورا بهدم منزلها واعتقال أبناءها الثلاثة، تعلق أم خالد صورة كبيرة لابنها خالد المعتقل والمحكوم مؤبدا بتهمة قتل الكثير من الصهاينة في الثمانينات وانتمائه لحركة الجهاد في ما كان يعرف بثورة السكاكين التي بدأها الجعيدي ورفقاؤه. إلى جوار خزانتها المتواضعة ثمة هدايا ثمينة بعث بها خالد من سجنه: مجسمات للأقصى وصور مع زملائه الأسرى ومجسمات وخارطة فلسطين مكتوب عليها 'إلى أمي الحبيبة كي لا ننسى".
الأمل.. ومرارة الفراق
أم خالد عاشت أكثر من عشرين عاما لا يفارقها الأمل في أن تجمع ابنها الأسير بين أحضانها. لديها ولدان آخران هما يحيى وعمر، إلا أن قلبها كما تقول دوما كان يخفق لخالد يتحسس ألمه ومعاناته ويتمنى أن يحتضنه كما كان طفلا صغيرا!.
المرأة التي بدت عليها علامات الإرهاق والتعب ومرارة الفراق بعدما منعت قوات الاحتلال زيارة أهالي المعتقلين لأولادهم تترقب أنباء صفقة التبادل يحذوها الأمل في أن يكون ابنها خالد بين صفوف من سيرون الحرية قريبا.
وتضيف والله يا ابني أنا ما بغلق الراديو ولا مرة وبظل أغير المحطات ابحث عن أي شيء جديد وأنا على أعصابي نفسي أشوف خالد قبل ما أموت. حتى زوجها مطاوع الجعيدي (67 عاما) وان بدا متماسكا بعض الشيء إلا انه لا يخفي هو الآخر مشاعره في أن يضم ابنه خالد بين ذراعيه.
ويقول الرجل بمسؤولية الأب التي لا تنتهي إلى الأبد 'أنا اشتريت قطعة ارض لابني خالد وسنبني له بيتا جديدا وسنزوجه أن شاء الله'
أم خالد تتلهّف لليوم الذي تحتضن فيه ولدها و شقيقها اللذين أمضيا 18 عاماً من حكمهما المؤبّد
في بيتها بتل السلطان غربي رفح جلست هند القيق (أم خالد) (60 عاماً) في أمسية أخرى من شهر رمضان المبارك بانتظار أن يرفع أذان العشاء في مسجد بلال بن رباح القريب من المنزل لتؤدّي صلاة التراويح و هو ما اعتادت عليه طوال سنوات عمرها الماضية .
حتى و إن أوحت لأهل بيتها و لزوجها بأنها تعيش حياتها الاعتيادية من خلال بعض الطقوس التي تقوم بها يومياً إلا أنها تعيش لحظات عصيبة شاردة الذهن بانتظار ما ستقدّمه الأيام القادمة بينما يدور في رأسها العديد من الأسئلة ! ..
هل سيطلق سراح ابنها خالد (38 عاماً) من السجون الصهيونية ألا يزال ثمة أمل جديد لاحتضان خالد بعد واحد وعشرون عام من الاعتقال بينما فشلت جهود التسوية بين الفلسطينيين و الصهاينة في أن يرى و زملاؤه النور ؟!! ..
أم خالد و بعيداً عن كلّ الأسئلة التي قد تبدو موضوعية في إطار الواقع السياسي المتردّي للأمة بأسرها يعنيها بأن ترى خالد محرّراً خارج القضبان و كذلك شقيقها عبد الرحمن الذي يمضي هو الآخر حكماً بالسجن المؤبد داخل المعتقلات الصهيونية .
فالأسيران خالد الجعيدي و خاله عبد الرحمن القيق قادا أول مجموعات الجهاد الإسلامي في العام (1986) حيث نفّذا عدة عمليات فدائية بالأسلحة البيضاء (السكاكين) ضد الصهاينة وسط غزة ما أدّى لمقتل ثلاثة منهم في عمليات متفرّقة قبل أن يعتقلا من قبل قوات الاحتلال ليدخلا السجن بأحكام مؤبدة أمضيا منها (21) عاماً خلف القضبان .
رحلة (أم خالد) من وإلى السجن لزيارة ابنها و شقيقها لم تكن إلا صفحات دامية من المعاناة و الألم بكلّ أشكاله و ألوانه و تحاول أم خالد التي أعياها المرض كثيراً و أصيبت بأمراض عديدة أن تختصر مسافات هذه السنوات و تقول : "كنا نزورهم من خلال الصليب الأحمر ثم جاءت القرارات الصهيونية بمنعي من الزيارة لأسباب أمنية و لي ستة سنوات لم ألتقِ بهم و لو من وراء الأسلاك الشائكة" .
في منزل مطاوع الجعيدي (80 عاماً) المكوّن من طابقين صور للأسيرين خالد و خاله عبد الرحمن تلتف جدران بها صالون المنزل بالإضافة لعشرات الشهادات التقديرية التي منحتها إليهما الجمعيات و المراكز المتخصصة بشؤون الأسرى تقديراً و وفاءً لهند القيق والدة خالد على مشاركتها الدؤوبة في فعاليات الأسرى التي تنظّم باستمرار و تحاول من خلالها أن تجعل من هذه القضية تنبض بالحياة وسط ازدحام الأجندة السياسية للفلسطينيين .
و بلسان متلعثم يحجمه المرض تضيف أم خالد القيق : "خضت إضراباً عن الطعام لمدة (24) يوماً تضامناً مع الأسرى و رفضت نصائح الأطباء بتناول الطعام حتى أصبت بالجلطة و ها أنا لا زلت أعاني من آثارها" ، و بمرارة الأم التي فقدت ابنها البكر تاركاً وراءه أخوين و أختاً ثالثة تتذكر (أم خالد) كيف هدمت الجرافات الصهيونية منزلها الإسبستي في العام (1987) عقاباً للعمليات التي نفّذها ابنها و شقيقها ضد الاحتلال ، كما أنها لا تفتأ تتذكر كيف أمضى ولدها خالد أكثر من شهرين متنقلاً في الزنازين الانفرادية داخل المعتقلات الصهيونية و هو لا يزال يشكّل أسطورة من الصمود لا تمحى من الذاكرة .
في ألبوم الصور الذي تمتلكه عائلة الجعيدي في رفح مئات الصور لولدها خالد و لأصدقائه الأسرى تجسّد كلّ واحدة منها يوماً إضافياً من أيام الاعتقال الذي يحمل في تفاصيله ثمة تغيرات جذرية على صورة الشخص و جسده و ملامحه التي تتلوّن بألوان سواد غرف الاعتقال و الزنازين .
يقول يحيى الجعيدي شقيق الأسير خالد: "خلال هذه الفترة تزوّجت و أنجبت خمسة أولاد و بنتاً نتذكّر جميعاً بينما نتفحّص الألبوم يومياً خالد و نأمل بأن نحضنه بين ذراعينا في أي وقت" ... و يوضّح يحيى و المرارة تتجسّد في كلّ مفرداته أنه لم يرَ شقيقه أو يتمكّن من زيارته منذ أكثر من (14 عاماً) بسبب إجراءات الاحتلال التي تحصر الزيارة فقط في الأقرباء من الدرجة الأولى و هم الوالد و الوالدة ! .. مضيفاً : "حتى و إن كانت رحلة الزيارات التي كان ينظّمها الصليب الأحمر للأسرى و المعتقلين تمثّل رحلة من العذاب إلا أننا نفتقدها و هي الوسيلة الوحيدة التي كانت تتقابل فيها الوجوه .. و تلتقي خلالها العيون المشتاقة المملوءة بالحنين و شوق اللقاء الدافئ" .
و كما أن لكلّ أسير فلسطيني حكاياته مع النضال فإن لخالد الجعيدي و خاله عبد الرحمن القيق حكاياتهم الخاصة كما توضح والدته هند ، و تقول : "بالنسبة لولدي خالد فلقد كرِه الاحتلال منذ نعومة أظافره فرغم قلة الإمكانيات لدى المقاومة في حينه إلا أنه هبّ مفتتحاً ثورة السكاكين التي كانت كلّ ضربة منها تقتل صهيونياً" .
أما شقيقي عبد الرحمن فإنه انخرط في المقاومة ثأراً لشعبه و لوالدنا الذي قتله الصهاينة أمام أعين أولاده الثلاثة في العام 1967 و ظلّ ينزف إلى أن فارق الحياة و دفن في وسط لمنزل بالمخيم الذي كنا نعيش فيه" .
الوالد مطاوع الجعيدي ابن الثمانين عاماً لا يفتأ يحمل مذياعه الصغير يقلّب محطاته باحثاً عن أنباء جديدة حول قضية الأسرى و الأخوين يحيى و عمر يحاولان الاستفسار من كلّ ما يعرفانه عن مستقبل هذه المفاوضات بما في ذلك ما يرِد من أخبار عبر المصادر الإعلامية الصهيونية .
أما والدة خالد التي بدا المرض و قد نال منها تلبس نظارتها الطبية و بجوارها كيس بلاستيكي ممتلئ بأصناف الدواء المتعدّدة فلقد قرّرت كما تقول : "أن لا نتابع نشرات الأخبار أو الصحف" ، معلّلة ذلك : "أن صحتها لا تسمح بأية مفاجآت" .. و تضيف الحاجة هند القيق : "سأترك ذلك للأيام لكن أملي في الله كبير بأن يكون ولدي خالد و شقيقي عبد الرحمن ممن شملتهم قائمة الأسرى الذين سيطلق سراحهم بموجب عملية التبادل بين حزب الله و الاحتلال" .
و في مؤشر منها على ازدياد خبرتها السياسية طوال سنوات اعتقال ابنها الماضية تبدي هند القيق لوماً شديداً اتجاه السلطة الفلسطينية على اعتبار أن الاتفاقيات السياسية التي وقّعتها مع الصهاينة لم تنجح بإطلاق سراح ابنها و شقيقها و آلاف الأسرى الذي اكتظت بهم السجون خلال الانتفاضة الحالية (انتفاضة الأقصى) . بينما يزداد تقدير الحاجة هند للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله الذي حاول جاهداً إطلاق سراح جميع المعتقلين دون تمييز .
و يقطع يحيى الجعيدي حديث والدته .. ليقول : "نحن حباً فينا لهذا الرجل سميت أحد أبنائي حسن نصر الله و الآخر رائد الريفي الذي استشهد على يد قوات الاحتلال" ، مضيفاً أن صفقة التبادل تمثّل الأمل الوحيد لعائلات هؤلاء الأسرى و المعتقلين بأن يروا شمس الحرية من جديد ..
و تقرّ أم خالد وعائلتها أنهم مصمّمون على الإفراج عن جميع الأسرى دون استثناء .. و في مقدّمتهم سمير القنطار عميد الأسرى اللبنانيين في المعتقلات الصهيونية .
و لأنها اعتادت على المشاركة في جميع الفعاليات التي نظّمتها الجمعيات و اللجان الكثيرة تضامناً مع الأسرى و للمطالبة بالإفراج عنهم ، تؤكّد هند القيق بإصرار العجوز الفلسطينية أنها لن تترك خيام الاعتصام .. أو تملّ من نداءات التضامن حتى و لو أفرج عن ولدها و شقيقها ، و تقول : "هذا عهدي مع الله عز وجل و مع كلّ الأسرى أن نظلّ معهم .. حتى يرى آخر واحد فيهم النور و الحرية"
وتقبض أسرة الجعيدي و معها أسر المعتقلين الفلسطينيين الآخرين أنفاسها .. بانتظار أن يحتضنوا أبناءهم المعتقلين الذين عاشوا سنوات طوال وراء القضبان وانحصرت خيارات الإفراج عنهم .. في طريق واحد .. بعدما فشلت التسوية السياسية في تحقيق ذلك ؟!! ..