الذكرى السنوية الرابعة لعملية زقاق الموت التي هزت أركان العدو ومرغت أنف جنوده في التراب
ستظل ليلة عملية الخليل في العاشر من رمضان لعام 2003، عنواناً لواحدة من أكثر العلامات سطوعاً في تاريخ كفاح الشعب الفلسطيني وجهاده، وأنموذجاً مبهراً قل نظيره، في البطولة والتضحية والشجاعة الفائقة والروح الاستشهادية العظيمة.
سوف تبقى العملية تستدعي للذاكرة والحضور اسم "سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، وصور مجاهديها الأبطال الثلاثة وهم يضربون قلب الاستيطان في الخليل ويخوضون وحدهم أربع ساعات من القتال الضاري ضد وحدات متنوعة من خيرة قوات الجيش الصهيوني وحرس الحدود فيوقعونها في برك من الدماء، ويوقعون معها المؤسستين العسكرية والسياسية، ويعيدون في ذات الوقت، العربة وراء الحصان بتأكيد استراتيجية الجهاد والكفاح المسلح في مواجهة الكيان الصهيوني وعدوانه.
الابتكار والمفاجأة
تستحق عملية ومعركة الخليل التي خاضها مجاهدو الجهاد الإسلامي في عمق منطقة الاستيطان في المدينة، وصفها بأنها من بين أقسى الضربات وأنجح العمليات التي خاضها الفلسطينيون ضد الكيان الصهيوني خلال مرحلة طويلة من عمر الصراع، وأنها الأقسى من حيث خسائر العدو والأبرع تخطيطاً وابتكاراً وتوقيتاً منذ اندلاع انتفاضة الأقصى قبل ما يزيد على عامين.
فبعد سلسلة العمليات الاستشهادية المتلاحقة لـ "سرايا القدس" في حيفا ومجدو والخضيرة "كركور" كانت الأوساط الأمنية الصهيونية وقيادة جيش العدو تتوقع أن تكون العملية القادمة في الشمال الفلسطيني، لكن مجاهدي "سرايا القدس" فاجأوا جنود الاحتلال ومستوطنيه في الجنوب، في قلب معقل الاستيطان الصهيوني في مدينة خليل الرحمن وعلى أرض منطقة تعتبر قلعة أمنية وعسكرية تتواجد قوات الاحتلال بكثافة فيها لحماية التجمع الاستيطاني الصهيوني في قلب المدنية والذي يتشكل من قرابة (400) مستوطن، ومستوطنة كريات أربع التي تبعد مسافة كيلو مترين عن مدينة الخليل .
وتؤكد مصادر "سرايا القدس" أن التحضيرات للعملية بدأت قبل أكثر من شهرين من تنفيذ العملية.. وكان الإعداد عملية شاقة ومحفوفة بالمخاطر، فقد توجب على المجاهدين الثلاثة الذين نفذوا العملية، القيام بعدة جولات استطلاع مباشر لمكان الهجوم وحجم الوحدات العسكرية المرافقة للمستوطنين على الطريق الممتد بين بوابة مستوطنة كريات أربع وبين الطريق الذي يطلق عليه الصهاينة اسم "شارع المصلين". وقد اضطروا أحياناً إلى التخفي والدخول بين جموع المستوطنين من أجل تحديد أدق لمواقع الحراسة وعددها وطبيعتها ومدى فاعليتها ونقاط ضعفها والأماكن المشرفة عليها، والطريقة التي يتم فيها تنفيذ أسلوب الحراسة المتسلسلة "التتابع" بحيث أن كل قوة حراسة على امتداد الطريق إلى الحرم الإبراهيمي في الخليل تتسلم حراسة المستوطنين في منطقة محددة وترافقهم فيها لتسلمهم إلى حرس المنطقة التالية، فضلاً عن الحراسة الجوالة المكونة من حرس الحدود بمساعدة وحدات من القوات النظامية، وهذه غالباً ما يرافقها عدد من سيارات الجيب العسكرية المحملة بالجنود.
نجوم في ليل الخليل
ليل الخليل في العاشر من رمضان الخامس عشر من تشرين الثاني، كان محاطاً ببنادق جنود الصهاينة، وكانت أزقة الخليل مدنسة بظلال الدبابات وفوهات مدافعها.. وفي بيت هنا وبيت هناك كانت رائحة آخر شهيد مازالت متعلقة بالجدران وصورته في الأعين.. الهواء محاصر بعربدة المستوطنين والشوارع مطفأة العيون بالرصاص الذي يأكل لحم الأطفال، والخليل تنزف جراحاً، ولكنها ترفع صوت الآذان فوق كل دنس الغزاة.
في تلك الليلة، السبت الأسود والمرعب كما وصفه الصهاينة أنفسهم، استعد مجاهدو "سرايا القدس" في الخليل لتنفيذ العملية الاستشهادية ضد قوات الجيش الصهيوني ومستوطنيه المسلحين على الطريق، ما بين "كريات أربع" والحرم الإبراهيمي، حيث اعتادت قطعان المستوطنين التحرك في مسيرة استفزازية مشياً على الأقدام من هذه المستوطنة باتجاه الحرم وعلى الشارع الذي يطلقون عليه اسم شارع المصلين للقيام بعربداتهم التي يسمونها "صلاة السبت" ويقتطعون لها جزءاً من حرم النبي إبراهيم الخليل عليه السلام.
في مكان الانطلاق نحو تنفيذ العملية التقى قبيل حلول المساء، المجاهدون الاستشهاديون الثلاثة: أكرم عبد المحسن الهنيني (20 عاماً) وولاء هاشم داود سرور (21 عاماً) ومحمد عبد المعطي المحتسب (22 عاماً) حاملين أمانة الجهاد في سبيل الله وفي سبيل الوطن التي كتبوها في وصاياهم وعهد الثأر لدماء الشهداء والجرحى الذين تحصدهم آلة الاحتلال يومياً نساءً وأطفالاً وشيوخاً على امتداد الثرى الفلسطيني، وفي قلوبهم وعد الانتقام لدم الشهيد إياد صوالحة قائد سرايا القدس في جنين الذي استشهد بعد أن خاض معركة بطولية مع قوات الاحتلال (لواء غولاني) في جنين في السادس من رمضان العاشر من تشرين الثاني الماضي واستمرت لعدة ساعات اتخذ فيها إياد قرار القتال حتى الشهادة ومرغ أنف قوات الاحتلال المهاجمة ولم يستشهد إلا بعد أن أوقع في صفوفها العديد من الإصابات وأسقط جنودها وجنرالاتها في ذهول لم يصدقوا بعده أنهم كانوا يقاتلون رجلاً واحداً.
نداء شهداء الحرم
وكان ليل الخليل سابحاً في ظلال الشهداء في تلك الليلة.. ففي شهر رمضان يبزغون كقبسات النور في الحارات الضيقة والبيوت الغافية في تسبيح القباب وعلى نوافذ أنات الجرحى وتنهدات الأمهات الثكالى، لكأنهم يستعيدون ذاكرة المجزرة ليستنهضوا الثأر لأرواح المصلين ودمائهم، أولئك الذين غدر بهم رصاص المستوطنين في مجزرة الحرم الإبراهيمي قبل ثمانية أعوام (عام 1994) عندما تسلل الإرهابي باروخ غولدشتاين إلى جامع إبراهيم الخليل عليه السلام وفاجأ المصلين الفلسطينيين الخاشعين في صلاة الفجر بسيل من الرصاص أسفر عن مذبحة رهيبة، قبل أن يتمكن الناجون من قتله، ثم يجعل المستوطنون من قبره مزاراً "مقدساً" لهم ويرمزون إليه بألقاب التعظيم والنبوة.
هذا الدم الشهيد كان ينادي ليلة العاشر من رمضان بأسماء مجاهدي سرايا القدس، أكرم وولاء ومحمد.. وكانوا يسمعون، ويتقدمون نحو هدفهم خطوة إثر خطوة فيتعالى وجيب النداء في قلوبهم وتشتد أيديهم على البنادق وتهزم عيونهم وجه الليل.
لحظة التأهب
مهما قيل ومهما تعددت الاجتهادات الصهيونية والتحليلات والتوقعات حول سيناريو العملية وتفاصيلها، فإن الصهاينة لن يعرفوا أبداً كيف تحرك المجاهدون وكيف وصلوا إلى النقطة صفر للبدء في الهجوم، وكيف انفتحت عليهم بوابات الجحيم لأربع ساعات دون توقف.. وسيبقى الكثير من التفاصيل عقدة في تاريخ جنرالاتهم العسكري ترفع في صدورهم جبال الغضب العاجز وتثير في نفس الوقت إعجاباً وانبهاراً يحاولون إخفاءه.
الساعة السادسة والنصف مساءً.. يصل المجاهدون الاستشهاديون الثلاثة إلى المنطقة المسماة "بشارع المصلين" وهم يحملون بنادق من طراز "إم 16" وثمانية مخازن ذخيرة لكل منهم وعدداً من القنابل اليدوية. ولأنهم يرتدون ما تسمى بـ "ملابس السبت" وهي عبارة عن قميص أبيض وبنطال جينز ـ فقد بدوا على هيئة المستوطنين المسلحين من مستوطنة كريات أربع.. وقد توقعت مصادر صحفية صهيونية أن أحد المهاجمين اندس لفترة في قافلة المستوطنين القادمين من الحرم الإبراهيمي، قبل أن يعود ليتخذ موقعه حسب خطة الهجوم.
قرابة الساعة السابعة.. ينتشر المجاهدون الثلاثة في منطقة الهجوم المحددة مشرفين تماماً على "شارع المصلين" على بعد ثلاثمائة متر من بوابة مستوطنة كريات أربع، فيكمن أحدهم في نقطة تطل على موقع عسكري صهيوني يقوم على الجهة الأخرى من الطريق، فيما يتخذ المجاهدان الآخران موقعيهما على بعد عشرين متراً بموازاته، ولكن في منطقة أعلى وعلى بيت يبتعد قليلاً عن الطريق ويشرف عليه، ويفصله عنه زقاق ضيق مظلم يقع ما بين سلسلة البيوت المحاذية للطريق مباشرة وبين النسق الثاني من البيوت المحاذية للطريق.
مفاجأة اللهب
عاد آخر المستوطنين من منطقة الحرم الإبراهيمي، وأصبح معظمهم داخل المستوطنة.. وبينما مازالت حركة عسكرية نشطة في الشارع الأشد حراسة وتدابير أمن في الكيان الصهيوني، تبدو أمام المجاهدين الثلاثة من مكامنهم، سيارتا جيب إحداهما لجنود قوات الاحتياط والثانية لقوة من حرس الحدود.. أما قوة الحراسة الرئيسية فقد تواجدت على بعد ثلاثمائة متر من المجاهدين، أمام بوابات المستوطنة. وبذلك يصبح أمام استشهاديي "سرايا القدس" ثلاثة أهداف واضحة.
.. تمام الساعة السابعة وثلاث عشرة دقيقة، يفتح المجاهدون الثلاثة النار على الأهداف، فتصعق كثافة النيران وعنصر المباغتة جنود العدو في سيارتي الجيب والموقع العسكري أو الكمين الثابت الذي نصبه جنود الاحتلال في حقل زيتون أسفل الطريق. ويسقط على الفور عدد من القتلى والجرحى في صفوف الجنود في إحدى الدوريات الراجلة وفي الموقع ـ الكمين على الطريق. وتعترف المصادر الصهيونية أن جنود الكمين الثابت تلقوا الضربة الأشد، وتشير إلى احتمال سقوطهم في اللحظة التي نهضوا فيها من الكمين مع نهاية عملية الحراسة، حيث وقّت المجاهدون فتح النار في هذه اللحظات.
صورة الشارع في تلك البرهة كانت كما تصفها المصادر الصهيونية والجنود الناجون على الشكل التالي: جنود قتلى على أطراف الكمين بجانب الطريق.. آخرون جرحى يصرخون.. عدد آخر من الجنود انبطحوا أرضاً وراحوا يصرخون طالبين النجدة.. هرج وفوضى في نهاية الشارع، وإحدى السيارات الجيب انحرفت عن الطريق وقفز منها جنديان فجرح أحدهما وانبطح الآخر أرضاً
زقاق الجحيم
تحت وقع سيل النيران والرصاص والقنابل اليدوية، تعم الفوضى في صفوف دوريات العدو وجنوده.. وتنتقل المواجهة إلى الزقاق الخلفي المظلم على بعد أمتار من الشارع حيث يتحول الزقاق إلى كوة من اللهب تصرع كل من يقترب منها، ذلك أن مجاهدي سرايا القدس أعادوا تموضعهم في المكان ليسيطروا على امتداد الزقاق ومخارجه.
وإذ تحاول قوات الجيش الصهيوني أن تدرك حقيقة ما يدور، فإنها تبدأ بمحاولة اقتحام الزقاق.. يقترب جيب حرس الحدود من طرف الزقاق ثم ينعطف فجأة ليدخل فيه. وفي هذه اللحظة وطبقاً لأقوال شهود العيان الصهاينة من الجنود، يظهر أحد المجاهدين خارجاً من منزل في الزقاق ويندفع نحو الجيب فيفتح الباب الخلفي ويرشق الجنود فيه بوابل متواصل من الرصاص على بعد متر واحد أو من النقطة صفر كما تصف المصادر الصهيونية، فيقتل جنود الجيب جميعاً.
ثم تمضي ساعتان من المواجهة يتخللهما فترات قصيرة من الهدوء.. وتصل تعزيزات صهيونية إضافية.. لكن، في هذه الأثناء، لم يكن يبدو أن القيادة العسكرية الصهيونية تدرك جيداً طبيعة ما يجري، فيما كان الزقاق الذي يكمن فيه المجاهدون قد أصبح مصيدة من اللهب.
بعد ذلك، وفي محاولة أخرى لاقتحام الزقاق، وصلت سيارة جيب ثانية وفيها ضابط عمليات حرس الحدود في المنطقة الرائد سميح سويدان ومعه جندي آخر، وما أن أصبحا في ثغر الزقاق حتى صرعهما رصاص مجاهدي "سرايا القدس".
مصيدة الجنرالات
في تلك المرحلة، كانت المنطقة قد تحولت إلى ساحة حرب حقيقية في ظل تواصل قدوم التعزيزات العسكرية الصهيونية، لكن ضباط الصهاينة ظلوا غير قادرين على تقدير الموقف. وتضاربت تصوراتهم عن حقيقة ما يجري، فكان الاعتقاد أولاً أن المجاهدين دخلوا إلى مستوطنة كريات أربع وأطلقوا النار على المستوطنين القادمين من الصلاة ولاذوا بالفرار. وسرعان ما تبدد هذا الاحتمال تحت وقع الحدث وتواصله، ثم تحدث ناطق عسكري صهيوني عن قيام المجاهدين الفلسطينيين باحتلال موقع عسكري إسرائيلي، كما أخفقت التقارير الصهيونية التي اعتبرت خلال المعركة أن المجاهدين يدافعون في زقاق ضيق في مواجهة الجيش، فالمجاهدون كانوا يقومون بتحركات هجومية كثيفة خلال المعركة.
ستظل ليلة عملية الخليل في العاشر من رمضان لعام 2003، عنواناً لواحدة من أكثر العلامات سطوعاً في تاريخ كفاح الشعب الفلسطيني وجهاده، وأنموذجاً مبهراً قل نظيره، في البطولة والتضحية والشجاعة الفائقة والروح الاستشهادية العظيمة.
سوف تبقى العملية تستدعي للذاكرة والحضور اسم "سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، وصور مجاهديها الأبطال الثلاثة وهم يضربون قلب الاستيطان في الخليل ويخوضون وحدهم أربع ساعات من القتال الضاري ضد وحدات متنوعة من خيرة قوات الجيش الصهيوني وحرس الحدود فيوقعونها في برك من الدماء، ويوقعون معها المؤسستين العسكرية والسياسية، ويعيدون في ذات الوقت، العربة وراء الحصان بتأكيد استراتيجية الجهاد والكفاح المسلح في مواجهة الكيان الصهيوني وعدوانه.
الابتكار والمفاجأة
تستحق عملية ومعركة الخليل التي خاضها مجاهدو الجهاد الإسلامي في عمق منطقة الاستيطان في المدينة، وصفها بأنها من بين أقسى الضربات وأنجح العمليات التي خاضها الفلسطينيون ضد الكيان الصهيوني خلال مرحلة طويلة من عمر الصراع، وأنها الأقسى من حيث خسائر العدو والأبرع تخطيطاً وابتكاراً وتوقيتاً منذ اندلاع انتفاضة الأقصى قبل ما يزيد على عامين.
فبعد سلسلة العمليات الاستشهادية المتلاحقة لـ "سرايا القدس" في حيفا ومجدو والخضيرة "كركور" كانت الأوساط الأمنية الصهيونية وقيادة جيش العدو تتوقع أن تكون العملية القادمة في الشمال الفلسطيني، لكن مجاهدي "سرايا القدس" فاجأوا جنود الاحتلال ومستوطنيه في الجنوب، في قلب معقل الاستيطان الصهيوني في مدينة خليل الرحمن وعلى أرض منطقة تعتبر قلعة أمنية وعسكرية تتواجد قوات الاحتلال بكثافة فيها لحماية التجمع الاستيطاني الصهيوني في قلب المدنية والذي يتشكل من قرابة (400) مستوطن، ومستوطنة كريات أربع التي تبعد مسافة كيلو مترين عن مدينة الخليل .
وتؤكد مصادر "سرايا القدس" أن التحضيرات للعملية بدأت قبل أكثر من شهرين من تنفيذ العملية.. وكان الإعداد عملية شاقة ومحفوفة بالمخاطر، فقد توجب على المجاهدين الثلاثة الذين نفذوا العملية، القيام بعدة جولات استطلاع مباشر لمكان الهجوم وحجم الوحدات العسكرية المرافقة للمستوطنين على الطريق الممتد بين بوابة مستوطنة كريات أربع وبين الطريق الذي يطلق عليه الصهاينة اسم "شارع المصلين". وقد اضطروا أحياناً إلى التخفي والدخول بين جموع المستوطنين من أجل تحديد أدق لمواقع الحراسة وعددها وطبيعتها ومدى فاعليتها ونقاط ضعفها والأماكن المشرفة عليها، والطريقة التي يتم فيها تنفيذ أسلوب الحراسة المتسلسلة "التتابع" بحيث أن كل قوة حراسة على امتداد الطريق إلى الحرم الإبراهيمي في الخليل تتسلم حراسة المستوطنين في منطقة محددة وترافقهم فيها لتسلمهم إلى حرس المنطقة التالية، فضلاً عن الحراسة الجوالة المكونة من حرس الحدود بمساعدة وحدات من القوات النظامية، وهذه غالباً ما يرافقها عدد من سيارات الجيب العسكرية المحملة بالجنود.
نجوم في ليل الخليل
ليل الخليل في العاشر من رمضان الخامس عشر من تشرين الثاني، كان محاطاً ببنادق جنود الصهاينة، وكانت أزقة الخليل مدنسة بظلال الدبابات وفوهات مدافعها.. وفي بيت هنا وبيت هناك كانت رائحة آخر شهيد مازالت متعلقة بالجدران وصورته في الأعين.. الهواء محاصر بعربدة المستوطنين والشوارع مطفأة العيون بالرصاص الذي يأكل لحم الأطفال، والخليل تنزف جراحاً، ولكنها ترفع صوت الآذان فوق كل دنس الغزاة.
في تلك الليلة، السبت الأسود والمرعب كما وصفه الصهاينة أنفسهم، استعد مجاهدو "سرايا القدس" في الخليل لتنفيذ العملية الاستشهادية ضد قوات الجيش الصهيوني ومستوطنيه المسلحين على الطريق، ما بين "كريات أربع" والحرم الإبراهيمي، حيث اعتادت قطعان المستوطنين التحرك في مسيرة استفزازية مشياً على الأقدام من هذه المستوطنة باتجاه الحرم وعلى الشارع الذي يطلقون عليه اسم شارع المصلين للقيام بعربداتهم التي يسمونها "صلاة السبت" ويقتطعون لها جزءاً من حرم النبي إبراهيم الخليل عليه السلام.
في مكان الانطلاق نحو تنفيذ العملية التقى قبيل حلول المساء، المجاهدون الاستشهاديون الثلاثة: أكرم عبد المحسن الهنيني (20 عاماً) وولاء هاشم داود سرور (21 عاماً) ومحمد عبد المعطي المحتسب (22 عاماً) حاملين أمانة الجهاد في سبيل الله وفي سبيل الوطن التي كتبوها في وصاياهم وعهد الثأر لدماء الشهداء والجرحى الذين تحصدهم آلة الاحتلال يومياً نساءً وأطفالاً وشيوخاً على امتداد الثرى الفلسطيني، وفي قلوبهم وعد الانتقام لدم الشهيد إياد صوالحة قائد سرايا القدس في جنين الذي استشهد بعد أن خاض معركة بطولية مع قوات الاحتلال (لواء غولاني) في جنين في السادس من رمضان العاشر من تشرين الثاني الماضي واستمرت لعدة ساعات اتخذ فيها إياد قرار القتال حتى الشهادة ومرغ أنف قوات الاحتلال المهاجمة ولم يستشهد إلا بعد أن أوقع في صفوفها العديد من الإصابات وأسقط جنودها وجنرالاتها في ذهول لم يصدقوا بعده أنهم كانوا يقاتلون رجلاً واحداً.
نداء شهداء الحرم
وكان ليل الخليل سابحاً في ظلال الشهداء في تلك الليلة.. ففي شهر رمضان يبزغون كقبسات النور في الحارات الضيقة والبيوت الغافية في تسبيح القباب وعلى نوافذ أنات الجرحى وتنهدات الأمهات الثكالى، لكأنهم يستعيدون ذاكرة المجزرة ليستنهضوا الثأر لأرواح المصلين ودمائهم، أولئك الذين غدر بهم رصاص المستوطنين في مجزرة الحرم الإبراهيمي قبل ثمانية أعوام (عام 1994) عندما تسلل الإرهابي باروخ غولدشتاين إلى جامع إبراهيم الخليل عليه السلام وفاجأ المصلين الفلسطينيين الخاشعين في صلاة الفجر بسيل من الرصاص أسفر عن مذبحة رهيبة، قبل أن يتمكن الناجون من قتله، ثم يجعل المستوطنون من قبره مزاراً "مقدساً" لهم ويرمزون إليه بألقاب التعظيم والنبوة.
هذا الدم الشهيد كان ينادي ليلة العاشر من رمضان بأسماء مجاهدي سرايا القدس، أكرم وولاء ومحمد.. وكانوا يسمعون، ويتقدمون نحو هدفهم خطوة إثر خطوة فيتعالى وجيب النداء في قلوبهم وتشتد أيديهم على البنادق وتهزم عيونهم وجه الليل.
لحظة التأهب
مهما قيل ومهما تعددت الاجتهادات الصهيونية والتحليلات والتوقعات حول سيناريو العملية وتفاصيلها، فإن الصهاينة لن يعرفوا أبداً كيف تحرك المجاهدون وكيف وصلوا إلى النقطة صفر للبدء في الهجوم، وكيف انفتحت عليهم بوابات الجحيم لأربع ساعات دون توقف.. وسيبقى الكثير من التفاصيل عقدة في تاريخ جنرالاتهم العسكري ترفع في صدورهم جبال الغضب العاجز وتثير في نفس الوقت إعجاباً وانبهاراً يحاولون إخفاءه.
الساعة السادسة والنصف مساءً.. يصل المجاهدون الاستشهاديون الثلاثة إلى المنطقة المسماة "بشارع المصلين" وهم يحملون بنادق من طراز "إم 16" وثمانية مخازن ذخيرة لكل منهم وعدداً من القنابل اليدوية. ولأنهم يرتدون ما تسمى بـ "ملابس السبت" وهي عبارة عن قميص أبيض وبنطال جينز ـ فقد بدوا على هيئة المستوطنين المسلحين من مستوطنة كريات أربع.. وقد توقعت مصادر صحفية صهيونية أن أحد المهاجمين اندس لفترة في قافلة المستوطنين القادمين من الحرم الإبراهيمي، قبل أن يعود ليتخذ موقعه حسب خطة الهجوم.
قرابة الساعة السابعة.. ينتشر المجاهدون الثلاثة في منطقة الهجوم المحددة مشرفين تماماً على "شارع المصلين" على بعد ثلاثمائة متر من بوابة مستوطنة كريات أربع، فيكمن أحدهم في نقطة تطل على موقع عسكري صهيوني يقوم على الجهة الأخرى من الطريق، فيما يتخذ المجاهدان الآخران موقعيهما على بعد عشرين متراً بموازاته، ولكن في منطقة أعلى وعلى بيت يبتعد قليلاً عن الطريق ويشرف عليه، ويفصله عنه زقاق ضيق مظلم يقع ما بين سلسلة البيوت المحاذية للطريق مباشرة وبين النسق الثاني من البيوت المحاذية للطريق.
مفاجأة اللهب
عاد آخر المستوطنين من منطقة الحرم الإبراهيمي، وأصبح معظمهم داخل المستوطنة.. وبينما مازالت حركة عسكرية نشطة في الشارع الأشد حراسة وتدابير أمن في الكيان الصهيوني، تبدو أمام المجاهدين الثلاثة من مكامنهم، سيارتا جيب إحداهما لجنود قوات الاحتياط والثانية لقوة من حرس الحدود.. أما قوة الحراسة الرئيسية فقد تواجدت على بعد ثلاثمائة متر من المجاهدين، أمام بوابات المستوطنة. وبذلك يصبح أمام استشهاديي "سرايا القدس" ثلاثة أهداف واضحة.
.. تمام الساعة السابعة وثلاث عشرة دقيقة، يفتح المجاهدون الثلاثة النار على الأهداف، فتصعق كثافة النيران وعنصر المباغتة جنود العدو في سيارتي الجيب والموقع العسكري أو الكمين الثابت الذي نصبه جنود الاحتلال في حقل زيتون أسفل الطريق. ويسقط على الفور عدد من القتلى والجرحى في صفوف الجنود في إحدى الدوريات الراجلة وفي الموقع ـ الكمين على الطريق. وتعترف المصادر الصهيونية أن جنود الكمين الثابت تلقوا الضربة الأشد، وتشير إلى احتمال سقوطهم في اللحظة التي نهضوا فيها من الكمين مع نهاية عملية الحراسة، حيث وقّت المجاهدون فتح النار في هذه اللحظات.
صورة الشارع في تلك البرهة كانت كما تصفها المصادر الصهيونية والجنود الناجون على الشكل التالي: جنود قتلى على أطراف الكمين بجانب الطريق.. آخرون جرحى يصرخون.. عدد آخر من الجنود انبطحوا أرضاً وراحوا يصرخون طالبين النجدة.. هرج وفوضى في نهاية الشارع، وإحدى السيارات الجيب انحرفت عن الطريق وقفز منها جنديان فجرح أحدهما وانبطح الآخر أرضاً
زقاق الجحيم
تحت وقع سيل النيران والرصاص والقنابل اليدوية، تعم الفوضى في صفوف دوريات العدو وجنوده.. وتنتقل المواجهة إلى الزقاق الخلفي المظلم على بعد أمتار من الشارع حيث يتحول الزقاق إلى كوة من اللهب تصرع كل من يقترب منها، ذلك أن مجاهدي سرايا القدس أعادوا تموضعهم في المكان ليسيطروا على امتداد الزقاق ومخارجه.
وإذ تحاول قوات الجيش الصهيوني أن تدرك حقيقة ما يدور، فإنها تبدأ بمحاولة اقتحام الزقاق.. يقترب جيب حرس الحدود من طرف الزقاق ثم ينعطف فجأة ليدخل فيه. وفي هذه اللحظة وطبقاً لأقوال شهود العيان الصهاينة من الجنود، يظهر أحد المجاهدين خارجاً من منزل في الزقاق ويندفع نحو الجيب فيفتح الباب الخلفي ويرشق الجنود فيه بوابل متواصل من الرصاص على بعد متر واحد أو من النقطة صفر كما تصف المصادر الصهيونية، فيقتل جنود الجيب جميعاً.
ثم تمضي ساعتان من المواجهة يتخللهما فترات قصيرة من الهدوء.. وتصل تعزيزات صهيونية إضافية.. لكن، في هذه الأثناء، لم يكن يبدو أن القيادة العسكرية الصهيونية تدرك جيداً طبيعة ما يجري، فيما كان الزقاق الذي يكمن فيه المجاهدون قد أصبح مصيدة من اللهب.
بعد ذلك، وفي محاولة أخرى لاقتحام الزقاق، وصلت سيارة جيب ثانية وفيها ضابط عمليات حرس الحدود في المنطقة الرائد سميح سويدان ومعه جندي آخر، وما أن أصبحا في ثغر الزقاق حتى صرعهما رصاص مجاهدي "سرايا القدس".
مصيدة الجنرالات
في تلك المرحلة، كانت المنطقة قد تحولت إلى ساحة حرب حقيقية في ظل تواصل قدوم التعزيزات العسكرية الصهيونية، لكن ضباط الصهاينة ظلوا غير قادرين على تقدير الموقف. وتضاربت تصوراتهم عن حقيقة ما يجري، فكان الاعتقاد أولاً أن المجاهدين دخلوا إلى مستوطنة كريات أربع وأطلقوا النار على المستوطنين القادمين من الصلاة ولاذوا بالفرار. وسرعان ما تبدد هذا الاحتمال تحت وقع الحدث وتواصله، ثم تحدث ناطق عسكري صهيوني عن قيام المجاهدين الفلسطينيين باحتلال موقع عسكري إسرائيلي، كما أخفقت التقارير الصهيونية التي اعتبرت خلال المعركة أن المجاهدين يدافعون في زقاق ضيق في مواجهة الجيش، فالمجاهدون كانوا يقومون بتحركات هجومية كثيفة خلال المعركة.
تعليق